خوف من المجهول

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،

وأهلاً وسهلاً بك في الألوكة.

عزيزتي، معاناتك واضحة بشدة بين سطورك، والهمُّ الذي تشعرين به ظهر بعضه في كلماتك، وما مررتِ به ليس سهلاً أبدًا، بدأتِ بتجربة زواج انتهت بفسخٍ، ثم تجربة زواج أخرى انتهت بفسخ آخر، وتبعها الآن خوف من المستقبل المجهول.

عزيزتي، قبل أن أخبركِ ماذا تفعلين، سأخبرك بأن الطلاق في هذا الزمن لم يَعد أمرًا معيبًا أو نادرًا كما في السابق، فالزمن تغيَّر والحياة تغيرت، والأولويَّات اختلفت، صارت نسبة حالات الطلاق كبيرة جدًّا في الخليج، والوطن العربي والإسلامي؛ لذا ما مررتِ به من تجربَتَيْ طلاقٍ مع صعوبتها الكبيرة على نفسك وقلبك، إلا أنها ليست أمرًا مهينًا أو ينتقص منك.

قلتِ: أنكِ صرتِ تخافين المجهول، وتتمنينَ الزواج، وأن يكون لديك أطفال، ولكن عبارتكِ كان واضح فيها شعورك بأن هذه أُمْنية لن تتحقق، لماذا؟!

لنحلل الأمر معًا إلى عوامل أساسيَّة؛ ليسهل علينا فَهمه، ما مررتِ به كان كالدائرة كلُّ واحدٍ أدى إلى الآخر، تجربة الطلاق الأولى كانت البداية التي نتج عنها ضغط الأهل عليك؛ لأنك صِرتِ مُطلقة، والذي أدى إلى زواج آخر تحت الضغط، ثم طلاق نتج عنه زيادة لضغط الأهل عليك لطلاقك مرة ثانية، والضغط والكلام؛ لأنك مُطلقة مرتين، والصدمة من الزوج الأول والزوج الثاني ولَّدت عندكِ يأْسًا من الزواج مرة أخرى من رجل طيب يسعدك، وبالتالي خوف من المستقبل المجهول الذي يوسوس لكِ بأنك إن تزوجتِ، فلن تسعدي، وإن لم تتزوجي فستعيشين وحيدة.

أرأيتِ كيف أن كلَّ أمرٍ نتج عنه الآخر؟ ما الحل إذًا؟ الحل بأن تكسري هذه الدائرة، وتخرجي من قيودها، تحرري منها، أعرف أنه ليس سهلاً أبدًا أن تعيش الأنثى تجربَتَي طلاقٍ، وخاصة إن كانت صغيرة في العُمر، وما مررتِ به كان شاقًّا جدًّا على نفسك وروحك، لكن إن استمرت الحياة بهذا الشكل المؤلِم، وإن أكملنا رؤيتنا لها بهذه الطريقة الكئيبة، فإن الدائرة ستتسع، وقد نصل إلى مرحلة متقدمة من الألم والمرض النفسي يصعب معها العلاج والشفاء؛ لذا انظري إلى فوائد التجربة وتذكَّريها كما تتذكرين السيئ فيها.

قبل أن تكملي القراءة أحضري قلمًا وورقة، اقْسِمي الورقة ثلاثة أقسام، واكتبي أعلى القسم الأول "جيِّد"، واكتبي "سيئ" أعلى القسم الثاني، واكتبي "في المرة القادمة" أعلى القسم الثالث، والآن أكملي القراءة.

قلتِ: إنكِ في المرة الأولى اكتشفت بعد العقد أنه غير عاقل، وذلك حين جلستِ معه، ولكن اسمحي لي بأن أسألك: ألم يجلس معه والدك وإخوتك وأعمامك؟! ألم يكتشف أحدهم، أو على الأقل يشعر بأنه ليس طبيعيًّا؟! ألم يسألوا عنه؟! طبعًا الحمد لله أنك اكتشفتِ هذا الأمر في فترة الملكة، وقبل أن تنجبي منه أطفالاً؛ لذا اكتبي هذه النقطة في بند "جيد"، واكتبي في بند "المرة القادمة": السؤال أكثر، والبحث بشكلٍ أكبر.

بالتأكيد بعد فسخ العقد لابد وأنك عانيتِ كثيرًا؛ لأن التجربة لم تكن سهلةً أبدًا، وواضح أن أهلك كانوا يضغطون عليك في هذه النقطة؛ لذا اكتبي في بند "سيئ" ما يلي: "مرارة الفسخ"، و"ضغط أهلي".

وحين كانت المرة الثانية، وكما ذكرتِ: أنكِ تعرضتِ لضغطٍ شديدٍ من أهلك لقبوله؛ بحُجَّة أنك مُطلَّقة؛ لذا اكتبي في خانة "سيئ": "الخضوع للضغط مؤلِم جدًّا"، وفي بند "المرة القادمة": "لن أستسلم للضغط بعد الآن"، وقد شعرتِ بعدها بضيق، وصارت حياتك جحيمًا، ولكنك لم تذكري لماذا بالضبط شعرتِ بهذا؟ ما الدافع الحقيقي الذي كان وراء شعورك بالضيق وأنك في جحيم؟ إذًا اكتبي في بند "المرة القادمة": "أفهم مشاعري بشكلٍ أعمق قبل أن أتصرف"، وحين قررتِ فسخ الزواج تمَّ لك ما أردته؛ لذا اكتبي في خانة "جيِّد": "كان عندي حرية الاختيار والقرار"، وطبعًا بما أن هناك الكثير من التفاصيل التي لا أعرفها، لكنها بالتأكيد علمتْكِ كيف تحكمين على زوج المستقبل بشكلٍ أفضل من إنسان لم تكن لها تجربة سابقة، فسنكتب في خانة "جيد": "خبرة أكبر، وفَهم أعمق للزواج والرجل"، والآن لنجمع الأمور التي تعلمتِها واستفدتها من تجربتكِ وهي الموجودة في خانَتَي "جيد"، و"في المرة القادمة" كم؟ ست نقاط، والموجودة في خانة "سيئ" كم؟ ثلاث فقط.

سأترك إكمال باقي الجدول لكِ بما أنك تعرفين الكثير الذي لا أعرفه أنا، ولنتجه إلى النقطة الثانية، والتي تمثِّل المشكلة الحقيقية بالنسبة لكِ الآن، وهي الخوف من المجهول، وحتى نعالج هذا الخوف علينا أن نعرف أسبابه؛ لنعالجها ونقضي عليه.

ووَفْقًا للدائرة التي كتبتها لكِ في بداية كلامي، فإن الخوف من المجهول نتج عن اليأس من الزواج والعيش بسعادة، والذي نتج عن ضغط الأهل والصدمة في المرة الأولى والطلاق مرتين، ولكي نعالج الخوف علينا أن نعالج أسبابه.

نحن لن نستطيع أن نغير حقيقة أنكِ مُطلقة، لكن نستطيع أن نتجاهل الضغط وكلام الناس، كيف؟ إن شعرتِ داخل نفسكِ بأن كونك مُطلقة لا يعيبك في شيء أبدًا، ولا ينتقص من أنوثتك أو خُلقكِ، أو أي شيء آخر، وأنكِ أفضل من كثيرات طُلِّقن، ولكن كان طلاقهن بحرمان من أطفالهن، أو عاهات جسديَّة، أو...إلخ، وإن شعر الناس أنكِ لا تخجلين من كونك مُطلقة فسيتوقفون هم عن الكلام على الأقل أمامك، وإن تكلموا من خلفك، فما المشكلة في ذلك؟ ستكسبين حسناتٍ من غير جُهد!!

وإذا ضغط أهلك عليكِ، فلتتخذي موقفًا حاسمًا وصارمًا، ولكن بكلِّ أدبٍ واحترام، وقولي لهم قرارك بقوة وجِدِّية وأدب، وإن ضغطوا عليكِ أكثر - وكنتِ متأكدة أن ما يريدونه منك لن يريحك أو يسعدكِ فعلاً - فأصرِّي على موقفك واثبتي عليه.

أما الخوف من المجهول، فهذا وراءه أربعة أسباب لمستُها في رسالتك، وهي:

1 - بلغتِ الثلاثين ولم تتزوجي.

2 - ضغط الأهل وكلام الناس.

3 - فقد الثقة في الآخرين، وخصوصًا بعد التجربة الأولى.

4 - فشل التجربة الثانية، والتي كنتِ تعولين عليها خيرًا بلا شك.

عزيزتي، سأخبرك بعدة حقائق سريعة، هي:

1 - وفقًا للإحصائيات الأخيرة في العالم العربي، فإن معدَّل سن الزواج ارتفع بشكلٍ كبير جدًّا؛ لذا (فالثلاثين) لا تعتبر كبيرة.

2 - أن يقول شخص ما: أنني قبيحة، هذا لا يعني أنه على حق، وأن يجبرني أحد على أن آكل الجبنة، فهذا لا يعني أنه عليَّ فِعْل ذلك!

3 - الناس ليسوا سواسية، وأصابع يدك ليست سواءً.

4 - ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].

عزيزتي، هناك مبدأ علاجي يسميه العلماء: "مبدأ هنا والآن"، هذا المبدأ يقول لكِ: أنتِ الآن هنا، في الزمن الحاضر، ولستِ في الماضي الذي صار ماضيًا مضى بكلِّ ما فيه مِن ألم وقسوة وحزن، وانتهى ولن يعود أبدًا أبدًا، وأنتِ الآن أسعد من قبل، وأكثر راحة من قبل، وكل تلك الآلام والأحزان التي مررتِ بها جعلتك أوعى من كثير ممن هم في مثل سنّك، وزادت قدرتكِ على الصبر، وزادتك حِكْمةً وحنكة، والله - سبحانه - قال في محكم آياته: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].

واليوم أنت إنسان مزودة بأدوات ووسائل تجعلك تقررين وتختارين ما تريدين بطريقة أكثر حكمة وأكثر تعقُّلاً، وهذا الأمر يجعلكِ أكثر راحة واطمئنانًا، توكَّلي على الله، وسلِّمي أمركِ إليه، وإن أردتِ أن تقرري أمرًا فاستخيري الله، ثم توكلي واعزمي على ما قررتِه، وتأكدي أن ما سيحدث بعد ذلك هو الخير لكِ أيًّا كان، وتذكري أننا لن نتحكم في الغد؛ لأنه لم يأتِ، لكننا نستطيع أن نتحكم بيومنا وحاضرنا الذي سيحدد كيف سيكون غدنا ومستقبلنا.

اشغلي نفسكِ دائمًا؛ حتى لا تقعي فريسة التفكير في المستقبل، وسجينة آلام الماضي، حدّدي لنفسك أهدافًا جديدة، بالإضافة إلى الزواج، واعملي لتحقيقها، جددي روحك واسجدي في الليل لربِّ الخَلق، واطلب منه بصدق ويقين أن يهبك الراحة والاطمئنان.

وأخيرًا: أكتب لكِ ما قاله الشاعر المهجري "جبران خليل جبران": المَصَائِبُ فَتَحَتْ بَصِيرَتِي، والدُّمُوعُ جَلَتْ بَصَرِي، وَالْحُزْنُ عَلَّمَنِي لُغَةَ الْقُلُوب.

المصائب دائمًا تحمل بين طيَّاتها حِكَمًا وفوائد عظيمة، تحتاج منا فقط أن نفتح جيوبها، ونفتِّش بين ثنايا غطائها.

رزقك الله السعادة والخير والاطمئنان، وجعلكِ كما تتمنين، ولا تنسي أن توافينا بأخبارِك.