بناء المكان الدنيوي في القرآن الكريم (دراسة موضوعية - فنية)

ملخص الرسالة

بناء المكان الدنيوي في القرآن الكريم

(دراسة موضوعية - فنية)

المقدمة:

الحمد لله ربِّ السماوات وربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فإن البحث في موضوعات القرآن الكريم العقيدية منها أو الأدبية أو اللغوية أمر ليس سهلًا، إنما هو مسؤولية علمية كبيرة تستدعي همةً عاليةً ووعيًا كافيًا وإجراءًا غير تقليدي في التحليل والاستنباط، لأننا أمام نص سماوي محكم الآيات من لدن حميد مجيد، ولكن الله تعالى قد يسر هذا القرآن لمن يريد أن يتدبر فيه ويدَّكِره. من أجل هذا كانت لي المحاولة الأولى في القرآن الكريم يوم اخترت (الصورة البيانية في آيات الغيب) موضوعًا لرسالة الماجستير، وتأتي هذه المحاولة رغبة مني في استكمال خدمة هذا التنزيل المبين فكان (بناء المكان الدنيوي) موضوعًا لأطروحتي هذه للدكتوراه بعد مخاض من التفكير في المجالات الممكنة التي أستطيع فيها مجاراة غيري ممن كتبوا في موضوعات اختصت بالقرآن الكريم أدبيًا، حتى كان من رأي أستاذي الدكتور حيدر لازم مطلك واختياره أن يكون هذا الموضوع مناسبًا لدراستي لقضايا وجدها فيه أكبر من أن تحصى ولأهمية هذا النوع من الدراسةِ وعمقها على صعيد الفكر والجمال والأسلوب، فضلًا عن كون المكان الدنيوي يشكل أكبر ظاهرة يحتفل بها الخطاب القرآني، وتشتمل عليها سوره كلها، ويقع في اتجاهات وميادين شاملة للعقيدة، إذ يصبح المكان محورًا للاستدلال اليقيني على وجود الله تعالى، فضلًا عن كونه مسرحًا للاحداث في السرد القصصي، وميدانًا واسعًا لبناء الصور والافكار، وتشكيل وفيض الدلالة والايحاء.

من أجل هذا عزمت على المضي في هذا الموضوع وتقريره رسميًا، وكانت مداخله تقوم على مقدمة وثلاثة فصول، هي في حقيقتها تشكل مجتمعة الأركان الاساسية التي يبنى عليها المكان الدنيوي وقضاياه المتداخلة والمتشابكة في الخطاب القرآني.

فقد تكفل الفصل الأول بـ(البناء الفكري للمكان الدنيوي ووظائفه) محللين فيه أن المكان يقع بنية احتجاجية في مواضع الاستدلال العقلي على وجود الله تعالى: شارحين فيه أيضًا المفاهيم المتعلقة بالاحتجاج واهم الاغراض التي يخرج إليها الاحتجاج في ضوء الرؤية القرآنية فضلًا عن أنواع المكان ويقع في مبحثين الأول ((المكان الدنيوي في بنى الاحتجاج)) (عوالم الدنيا وامكنة الانسان وغيره) والثاني ((قرائن دالة))، فكانت نوعين ((قرائن لغوية دالة على المكان الاحتجاجي)) و((قرائن أسلوبية دالة على الاحتجاج)).

أما الفصل الثاني، فقد تناول (الوصف القرآني للمكان الدنيوي) ويقوم الإجراء فيه على عرض قيمة الوصف وأهميته للمكان ووسائل الخطاب القرآني فيه ويُعد هذا الإجراء جزءً متممًا لمستويات بناء المكان الدنيوي جماليًا ذلك أن الوصف يثير قيم الجمال في أشكال المكان ويستدعي مؤثراته في المتلقي وتفرع عن هذا الفصل مبحثان هما: الأول ((وصف المكان غير المحدد المطلق)) إذ خصص لوصف فضاءات الدنيا من سماء وما فيها من عناصر وأرض وما استقر فيها من عوالم. أما الثاني فقد خصص لـ((وصف المكان المحدد)).

وتكتمل الدراسة بالفصل الثالث وعنوانه: (المكان الدنيوي في بنى الأسلوب القرآني ((الصورة والدلالة)) وهو المحصلة النهائية التي تشتمل على جوانب البناء الفكري والجمالي للمكان في عروض أسلوبية مرددة أو مكررة وما يقع فيه من إخبار وطلب وسرد وتمثيل في الإيقاع الصوتي وتتابع المعاني والصور. ومباحثه ثلاثة، خُصص المبحث الأول لدراسة (المكان في أساليب التركيب القرآني) إذ جرى في هذا المبحث دراسة أسلوب الخبر وما يخرج إليه هذا الأسلوب من معاني بلاغية مهمة في هذا المجال وأساليب الطلب من أمر ونهي واستفهام فضلًا عن أساليب أخرى.

أما المبحث الثاني فكان بعنوان (الأسلوب والدلالة في بناء صور المكان) واشتمل هذا المبحث على بعض الأساليب المهمة في هذا المجال منها التشبيه والتشخيص الاستعاري والتمثيل والمثل.

أما المبحث الثالث فقد كان بعنوان (تحولات الأسلوب في بنى المكان الدنيوي) وقد قام هذا المبحث على أساليب مهمة منها التردد وأسلوب القصص والتقابل والتوازي.

وكانت النتائج آخر مطاف الدراسة وفيها سجلنا خلاصة ما انتهينا إليه من قضايا استغرق الصبر على استنباطها هي وتلك الإجراءات الحافلة بالفصول مدة سنتين ونصف.

فإن كنت قد أخطأت فإني عملت بتواضع ولي أجر المحاولة وإن أصبت فهذا فضل الله تعالى عليّ ورحمته ولكل نصيبه من الاجتهاد والله ولي التوفيق.

نتائج البحث

استند البحث إلى الرؤية القرآنية في تحديد أنواع المكان الدنيوي، وبيان خصائص كل نوع فيه، وتحليل الأسس التي يبنى عليها. وفي ضوء ذلك أظهر الاستقراء:

• أن المكان الدنيوي عالم كبير في الخطاب القرآني، ويقع على أنواع ومظاهر كثيرة نجدها مرددة أو مكررة في أشكال وأساليب ودلالات حفلت بها السور المكية والمدنية على السواء، وقامت عليها مقاصد الأيات في مواضعها من تلك السور الكريمة.

• رصد البحث نوعين أساسين مما يحيط بعالمنا الدنيوي من أمكنة، وقد جرى ذكر هذين النوعين من المكان بكثافة في الخطاب القرآني وهما تحديدًا:

أولًا: الفضاءات، التي تشكل (العالم الدنيوي الأكبر) في مظاهر (السماء والارض) والتي خصها الخطاب القرآني بترداد هائل وما يشخص فيها من هالات سماوية ثابتة ومتحركة ومضيئة مما نراه في أشكال النجوم ومنازلها، وما يَمتِد على الارض الواسعة من رواسخ الجبال، وفراديس الحدائق والجنان والأودية والمرعى وما يجري عليها من بحار وأنهار. وهذا الكون الواسع هو (مطلق) لا حدود له، وقد احتل الصدارة في الذكر والتمثيل لكونه شاهدًا على عجائب صنع الله الخالق العظيم.

ثانيًا: أماكن محددة لها خصائص معلومة في طبيعة تكوينها، يتعايش معها الانسان، أو يعيش فيها وتدل على مظاهر حضارته في السكن والمدن والقرى والديار والبلاد والقصور والبيوت وهذه الامكنة تسم أهلها بها على ما ورد في الخطاب القرآني. ومنها ما كان مبنيًا بإرادة الله تعالى ووصية للأنبياء مثل مكة (البيت العتيق، الأمين، الحرام، والمسجد الاقصى) وأماكن أخر أشير إليها على أنها تمتلك قدسية خاصة.

وقد دل الرصد لهذين النوعين من المكان الدنيوي على أنهما وقعا مسرحًا مهمًا ومستفيضًا للاحتجاج القرآني في توكيد حقيقة الوجود الإلهي وقدرته على صنعها، أو تغييرها، أو إنزال العذاب ببعضها أحيانًا. ومن هذه الأمكنة أنها كانت ميدانًا للأحداث، ومعاودتها بقدر وآخر في السرد القصصي وفي تمثيل الافكار أو تشخيصها، وما يجري عليها من عرض وافٍ لبيان النعم، وما ينتج عنها من وظائف تخرج في النص القرآني إلى التذكير، ولفت الانتباه وتنشيط الهمم وإيقاظ العقول، بالتوكيد والوعيد والترغيب والاعتبار.

ويقع من بين هذه الأمكنة (المطلقة) و(المحددة) أماكن يدل عليها سياق الحال في مظاهر محسوسة، أو قرائن لغوية أو معنوية، أو مصورة في أمثال ووقائع تشير إلى المكان وتؤدي بالدلالة أو الوظيفة ما يؤديه المكان المعلوم من المعاني بوساطة الفهم.

أما على صعيد بناء المكان الدنيوي، فلقد كشف البحث عن ثلاثة مستويات تشكل الأركان الأساسية التي يبنى عليها المكان الدنيوي وهي: 1- الفكر، 2- الجمال، 3- الأسلوب.

وهذه الأركان هي في حقيقتها متلازمة ليس من السهل الفصل بينها إلا لضرورة المنهج الذي حدد إجراءات التحليل بثلاثة فصول تمثل مستويات البناء القرآني للمكان وأبعاده العقيدية والنفسية والفنية.

ففي الجانب الفكري من بناء المكان الدنيوي دلت إجراءات البحث أن المكان وقع في النص القرآني بنية احتجاجية يُستدل به على وجود الله تعالى في عجائب صنعه لهذا العالم الكوني بأرضه وسمائه وما يضم من أجرام وشواخص وما تشير إليه من فائض النعم للانسان وقد أخذ هذا الجانب من البناء مساحة واسعة من الخطاب في مخاطبة العقل الانساني ومن أجل ترغيبه أو استرهابه ودفعه إلى حقل القناعة بالايمان ونبذ ما سوى الله تعالى في العبادة وعدم الاشتراك به وتصديق النبوات وما أنزل على المرسلين من بلاغات الوحي جملة.

أما الجانب الجمالي فقد خص الخطاب القرآني بنية الاحتجاج أو (الاستدلال العقلي الحسي) بالمكان، بخصائص تثير الدهشة في المتلقي. ذلك أن عرض المكان الدنيوي كان على غاية من الوصف الذي أخذ من أمكنة الدنيا كل مأخذ حتى الاستقصاء الشامل لأصغر شيء فيها وأكبرها، وهو وصف لافت للجمال الذي يضرب في مدارك العقل وينتهي إلى قرارة النفس وهو أيضًا وصف يقلب صورة المكان على وجوه ويستغرق في روائع اللون والحركة والشكل والوظيفة النفعية, فالوصف القرآني أعطى أهمية وعمقًا للمكان بوصفه قدرة عظيمة للخالق المبدع وبيانًا شاخصًا على وجوده المقدس فضلًا عن كون الوصف قد جرى على مسارح الأحداث في السرد. وفي ضرب الأمثال، وغالبًا ما يكون الوصف القرآني جاريًا على التتابع والتناظر وتشكيل صور الموصوف على مثال يجعلها تعيشه وتحسه وتنغمر في موحياته.

أما الركن الثالث من مستويات بناء المكان الدنيوي فهو الأسلوب، وهو الجامع الشامل (للفكر) في كل أبعاده العقيدية، والمتضمن (للوصف) بكل وسائله ومؤثراته والأسلوب القرآني هو التكوين اللغوي التركيبي الذي وقع على عرض المكان الدنيوي بصيغ مختلفة في السور الكريمة إيثارًا (للصورة والدلالة).

ومن خصائصه:

1. ظاهرة التردد أو المعاودة على ذكر المكان أو التمثل به على سبييل التوكيد، وما يتطلبه التركيب ويفرضه سياق الحال في موضعه. ويشكل تردد المكان أو تكراره ظاهرة كبرى في الخطاب القرآني وهذا التردد من فضائله الإعجازية أنه يعبر في بنى الخطاب الدال على المكان، وما ينتج عن هذا التغيير أو التحّول دلالة مضافة أو صورة جديدة أو وظيفة مغايرة من نص لآخر.

2. اشتمل الخطاب القرآني على أكثر أساليب العرب البلاغية في عرض المكان الدنيوي وتشخيصه وتصويره والتمثيل به، لاسيما أساليب الخبر والطلب بأنواعها، وكل يأخذ مجراه في تكييف الخطاب على أقدار المستمعين، سواء أكان ذلك في مواضع الاحتجاج التي يهيمن عليها طابع الجدل والتعجيز أو في مواضع عرض النعم للتبصير بعظمة الخالق الجليل أو في سرد الوقائع القصصية في أماكن معينة ومن هذه الأساليب كانت تفيض الدلالات، والوظائف التي يعز عليها الحصر.

3. كثيرًا ما كان يرد المكان الدنيوي في الخطاب القرآني محذوفًا ويدل عليه سياق الحال، أو تشير إليه القرائن اللغوية والمعنوية في أساليب تجعل المكان قريبًا للعيان وإن كانت ملامحه غامضة.

لقد كانت رحلتي مع المكان الدنيوي في الخطاب القرآني رحلة تشبه من يعيش في حلم وهو يحلّق في أجواء عالم الدنيا الفسيح الذي كفاه الخطاب القرآني بهذه العناية المذهلة من حقائق الوجود التي تعبر عن عجائب صنع الله في هذا العالم.

وهذه الرحلة كانت أصعب من أن توصف بمقال، ولكنها على ما أرجو من الله العظيم أن تكون عدتي في حياتي العلمية وثوابًا في آخرتي وجزى الله الذين اعانوني خيرًا، وما الكمال إلا لله وحده ومنه التوفيق والرشاد.

فهرس المحتويات