غريزة الانتماء

بوح القلم

(تأمُّلات في النفس والكون والواقع والحياة)
جذور الانحراف: غريزة الانتماء

• خلَق المولى جل وعلا الإنسانَ مدنيًّا بطبعِه، يتعرَّف، ويألَف، ويخالط، ويعاشر، ويدافع، ويناصر؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13].

• صنَّف الربُّ سبحانه وتعالى الخَلْق إلى طائفتين وحزبين: (حزب الرحمن، وحزب الشيطان)؛ ليتجلَّى للعبد ضرورةُ الانتماء، وفطرية الولاء.

• يتنقَّل الفردُ طوال حياته في أنواعٍ متعددة ومتنوعة مِن الانتماءات: (الوالدين، الأسرة، القبيلة، الحي، المدرسة، المدينة، الوطن، المذهب، الملة...).

• حقيقةُ الانتماء أنه غريزةٌ بشرية، وطبيعة فطرية، لا يستطيع الإنسانُ التجرُّدَ منها، ولا التنازل عنها، ولا التفريط فيها.

• اعترى مفهومَ الانتماء جملةٌ مِن التشوُّهات والانحرافات، صرفَتْه عن كونه صفةً طبيعية إيجابية إلى موضع إشكال للنفس والفكر، ومنها:

١- الضبابيَّة والغموض في مفهوم الانتماء.

٢- الميل والتوجُّه للانتماءات الضالَّة والمنحرفة، أو الهامشيَّة والساقطة.

٣- التضارب والتناقض في الجمع بين الانتماء الحقِّ والباطل، والضارِّ والنافع.

٤- تضخيم جوانبَ مِن الانتماء على حساب جوانبَ أخرى؛ مما سبَّب اضطرابًا وقلقًا لدى الفرد، وبخاصة الشباب.

٥- الفرضُ والإلزام بأنواعٍ مِن الانتماءات قد لا تتوافَقُ مع حرية الفرد، أو ثقافة المجتمع، أو ثوابت الدِّين.

• حفَلَتْ حياة النبي صلى الله عليه وسلم بمشاهدَ ووقائعَ دلَّتْ على تمثُّلِه لهذه الحقيقة، وتعاطيه مع تلك الغريزة، برزت في المواقف التالية:

١- الحب والولاء لبلد الولادة والنشأة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لمكَّةَ: ((ما أطيبَك مِن بلد، وأحبَّك إليَّ! ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرك))؛ أخرجه الترمذي.

٢- الانتماء للطائفة والجماعة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الأنصارَ سلكوا واديًا، أو شِعبًا، لسلكتُ في وادي الأنصار، ولولا الهجرةُ لكنتُ امرأً مِن الأنصار))؛ رواه البخاريُّ.

٣- التعزِّي والافتخار بالقبيلة والعائلة: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((أنا النبيُّ لا كذِب، أنا ابنُ عبدالمطَّلِب))؛ رواه البخاريُّ.

٤- تصويبُ الآراء، وتصحيح الأفكار: عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأنصارَ فقال: ((هل فيكم أحدٌ مِن غيركم؟!))، قالوا: لا، إلا ابنَ أختٍ لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ابنُ أختِ القومِ منهم))؛ رواه البخاري.

٥- التحذير مِن الإفراط أو التفريط في الانتماء والانتساب: عن أبي مالكٍ الأشعريِّ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((أربعٌ في أمتي مِن أمر الجاهلية، لا يتركونهنَّ: الفخرُ في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة))؛ رواه مسلم.

• قسَّم عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو (١٩٠٨ - ١٩٧٠م) الاحتياجاتِ الإنسانيةَ لخمسة أقسام:

١- الاحتياجات العضوية (الماء، الهواء، الطعام ...).

٢- الحاجة للأمن والسلامة في البيئة المحيطة به.

٣- الحاجة للعاطفة والانتماء: بالبَدْء في تكوين وتنمية العلاقات، وإقامة الصداقات خارج المحيط الأسري؛ (كالمدرسة، المسجد، الأنشطة التفاعلية، الفِرَق التطوعية، النقابات المجتمعية).

٤- الحاجة للتقدير والاحترام: بمعرفتِه واحترامه لذَاتِه واحترام الآخرين له.

٥- الحاجة لتحقيق الذات: بشعوره ويقينِه أنه يملِكُ المهارة والقدرة والرغبة على مزاولة دوافعِه، وتحقيق رغباتِه.

• نشَر الكاتب الإنجليزي كولن هنري ولسون (١٩٣١ - ٢٠١٣م ) كتابه (اللامنتمي) في عام (١٩٥٦م)، تناوَل فيه عزلةَ المبدِعين، فغار داخل أعماق المفكِّرين والمثقفين والفلاسفة والشعراء والفنانين؛ كـ: (نيتشه، وسارتر، وكامي، وباربوس، وتي إي لورنس، وإتش جي ويلز، وفان كوخ، وإرنست همنغواي، وراقص الباليه الروسي الشهير فاسلاف نجنسكي)؛ فحلَّل حياتهم، وشخَّص معيشتهم، وأعاد قراءةَ أعمالهم، في ضوء ما سماه: (ظاهرة الانتماء)؛ فكشف للقارئ شخصياتٍ إنسانيةً شقية، بائسة، حائرة، قلقة، في صراعهم الفكري، وتِيهِهم النفسي مع ذواتهم ووجودهم، ومع الآخرين مِن حولهم.

• في الفكر العربيِّ تزامنت وتلازمت ظاهرةُ الانتماء مع مشكلة الهُويَّة، وتعدَّدت بتنوُّعها، وتشكَّلت بأقسامها، وتمحورت في مركزها؛ فظهرَتِ الانتماءات الفكرية: (الاشتراكية، اللِّيبرالية، العَلمانية، السُّنَّة، الشيعة، الصوفية)، والانتماءات القومية، والتحزُّبات الشُّعوبية، والتكتُّلات الطائفية، بل قامت الحروب، وسادتِ الفوضى في العالم الإسلامي بسبب الانتماءات القَبَلية، والولاءات الأهلية.

• التربية على كيفيةِ الموازنة والمواءمة بين الانتماء للأسرة والقبيلة والوطن والديانة - تُسهِم في تنمية العديد مِن الجوانب الإيجابية للفرد والمجتمع، ومنها:

١- الوقاية مِن العُزلة والانطواء والفردية والتوحُّد.

٢- الشُّعور بالوَحدة والاجتماع، والعمل على التعاون والتكافل.

٣- السلامة مِن الاستغلال والتأثير مِن أصحاب الانتماءات المنحرفة والتوجُّهات الضالَّة.

٤- العيش وَفْق هُويَّة واضحة، ورُؤًى منضبطة، وتوجُّهات متكاملة.

٥- الحماية مِن الاضطراب النفسي، والصراع القِيمي، والقلق الفِكري، والاغتراب المجتمعي.

٦- المحافَظة على الثوابت الدِّينية، والروابط الأسرية، واللُّحْمة المجتمعية، والمكتسَبات الوطنية.

• وَمْضة: "صادفَتْ دعوةُ التغريبيِّين رواجًا عند الناس، وبخاصة الشباب، الذي أصبح يشارك في الحفلات المختلطة، وتعلَّم فنون الرقص الغربي، وغَدَتِ الكماليَّات مِن ألزم الضروريات؛ تقليدًا ومسايرة للفرد الغربي، وبرَز للسطح الصراعُ بين جيل الآباء المحافظ وعصر الأبناء المفتون بالحضارة والمدنية والتقاليد الغربية، صراعٌ مع الذات، ومع المعتقدات، ومع الآباء، ومع المجتمع، صراعٌ أصاب البعض بالحيرة والقلق والاضطراب؛ فمثلًا محمد حسين هيكل  يحتفل  بالتيار الإيماني  الجديد عند برجسون في مقالاته الفكرية في جريدة السياسة الأسبوعية، في الوقت الذي يواصل فيه شروحَه لوضعية أوجست كونت، ويصوِّر نجيب محفوظ في ثلاثيته "الحائرون" في صورة البطل الذي يُعَدُّ رمزًا لمثقفي الحيرة والتمزق، والذي يهتف في النهاية: (أنا الحائر إلى الأبد)، كما يصور لنا أحمد أمين صور المعاناة النفسية لقضية التجاذب بين تراث الإسلام وتأثير الغرب بأن رأسَه كأنه دكان مبعثر، يتلاقى فيه مذهبُ أهل السُّنَّة بنظرية النشوء"؛ د. محمد جابر الأنصاري.