منارة جامع إشبيلية: الخيرالدا (3/4)

3- الأحداث الجارية للصومعة منذ افتتاحها إلى نهاية القرن 16م:
منذ هذا التَّأريخ وصومعة جامع إشبيلية تعلو في السماء، لا صومعة تعدلُها في جميع مساجد الأندلس، "تظهر للعين على مرحلة من إشبيلية مع كوكب الجوزاء"[1]، تثير إعجاب المسلمين والنَّصارى فيما بعد على السواء.

ولما حُوصرت إشبيليَّة[2] عام 1246 م، واستسلمتْ بعد عام ونصف من الحصار المرير إلى فرناندو الثالث، ملك قشتالة، والذي أُطلق عليه "سان"؛ أي: "القديس" لهذا السبب، سرعان ما تحوَّل مسجد إشبيلية إلى كنيسة سانتا ماريا[3] Santa María، ولم يبقَ منه بعد سنة 1402 م، سوى عقود تطلُّ على صحنِه من جهة الشَّمال والشَّرق.


 

الخيرالدا

ولم يستطع الفونسو العاشر (ابنُ فرناندو الثالث) إخْفاء إعجابه، عند وصفه الدَّقيق لهذه الصومعة في (المدوَّنة الأولى لتأريخ إسبانيا العام)، والتي تعدُّ أقدم المدوَّنات التاريخيَّة الإسبانية، حيث يقول فيها عن تفافيح هذه المنارة: "الكبيرة الجِرم، البديعة العمل، العظيمة الصنعة، لا مثيلَ لها في العظمة في العالم"[4]، وهي في الحقيقة نفس الأوصاف التي ذكرناها سابقًا لابن صاحب الصلاة لها.

الخيرالدا

ونجد تشابهًا بين بعض أخبار "المدوَّنة الأولى لتأريخ إسبانيا العام" وأخبار ابن أبي زرع، علمًا أنَّ هذه المدوَّنة قد دوِّنت قبل وفاة ابن أبي زرع بأكثر من نصف قرن[5]، فالفونسو العاشر بعد وصْفِه لهيئة وحجم التفافيح، يقول في هذه المدوَّنة عن الكبيرة منها: "وعندما أرادوا إدخالها من الباب لم تدخل لكبرها، ممَّا اضطرُّوا إلى قلع الأبواب وتعريض المدخل"، وأمَّا ابن أبي زرع فيقول عن هذه التفافيح: "لا أعرف لها قدرًا إلاَّ أنَّ الوسطى منها لم تدخل على باب المؤذن حتَّى قلع الرخام من أسفله"[6].


 

الخيرالدا
 

فهل ابن أبي زرع ينقل أخبارَه عن مدوَّنة الفونسو العاشر؟ أم يستقي من نفس مصادرها؟ ظنِّي أنَّه ينقل من مصدر له اطِّلاع باللغة القشتالية (الإسبانية)، كما أشرت مرارًا في هوامش هذا البحث.

الخيرالدا

وقولهما هذا لا يتَّفق مع ما ذكره شاهد العيان ابن صاحب الصَّلاة في قوله: "إنَّ التَّفافيح رفعت بالهندسة حتَّى إلى أعلى صومعة الصومعة المذكورة ووضعت في العمود"[7]، وهذا يعني أنَّها رفعت في الهواء بآلة، ثمَّ إنَّ كلامَهما يتعارض مع المنطق، فكيف يعقل أنَّ عملاً بديعَ الصَّنعة كهذا، اشترك فيه أشهر المعماريين، لم يأخذوا بالحسبان كيفيَّة نصب هذه التفافيح! ولعلَّ ذلك ممَّا تتناقله العامَّة على سبيل المفاخرة بها.


 

الخيرالدا

ولم يبق من ذلك المسجد العظيم - كما قلنا سابقًا - سوى عقود تندب حال بانيه، وأمَّا الصومعة فقد سلمت على جلدها فظلَّت ماثلة على حالها، رغْم تحوُّلها إلى برج للنواقيس ملحق بالكنيسة، إلى أن كسر العمود الذي يحمل هذه التفافيح على أثر زلزال عام 1355 م[8]، وعلى حد رأي المؤرِّخ Alonso de Morgado في زلزال سنة 1394 م[9]، فسقطت إلى الأرض، مودعة برجها العالي وفاقدة شعاع رونقها إلى الأبد.

وكم تساءلتُ أمام روايتين وتاريخين مختلفين، إن أسقطها الزلزال حقًّا، أليس بالإمكان إعادتها إلى مكانها؟!


 

داخل الخيرالدا

وكم توقَّفت مليًّا أمام كلام ابن صاحب الصلاة: "من كل صنف صناع مهرة في كل فن من الأعمال أفراد"[10]، فلا أجد سوى أنَّ هؤلاء الخبراء عند صنع هذه التفافيح قد أخذوا بالحسبان كلَّ الاعتبارات، من تقلُّبات جويَّة ورياح وأمطار وزلزال وشمس وغيرها، ويؤكِّد ذلك كلام ابن صاحب الصلاة عن عمود التفافيح: "يكابِد من زعازع الرِّياح وصدمات الأمطار ما يطول التعجُّب منه من مقاومته وثباته"[11].

 

الخيرالدا

وفي سنة 1400 م رُكِّب فيها ساعة وبرج بسيط للأجراس، وفي عام 1494 م تعرَّض الجزء الأعلى لأضرار جسيمة على أثر صاعقة، وسقط جزء منه في زلزال سنة 1504 م.


 

منارة الكتبية في مراكش
 


 

منارة حَسّان في الرباط

وفي سنة 1568 قام المهندس القرطبي هَرْنان رُويث Hernán Ruiz بإنجاز أضخمِ التَّرميمات في هذه الصَّومعة، حيث بنى على الجزء السفلي المتبقي منها طابق النواقيس، ونصب في أعلى البناء تمثالاً من البرونز يرمز للمسيحيَّة[12]، يدور مع الهواء، يبلغ ارتفاعه أربعة أمتار، وقد عُرِفَ بين الناس بالخِيرَالْدا La Giralda؛ أي: الدَّوَّارة، وهذا مشتقّ من الفعل girar؛ أي: دارَ - يدور، ومن ذلك الوقت وإلى يومِنا هذا أصبح هذا الاسم يطلق على البرج بأكمله[13]

 

Giralda, Kansas City

ولا يخفى على الزَّائر أنَّ الخيرالدا اليوم هي إحدى معالم إشبيلية الخالدة، لدرجة أنَّها جرت في وجدان وتراث الإشبيليين، حتَّى كادت تضاهي سمعة نهرها، الوادي الكبير الذي يحمل نفس اللفظ العربي Guadalquivir.



 

"Giraldilla "de Lebrija

Wrigley Building Tower, Chicago

Freedom tower, Miami