• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    موقف أبي موسى الأشعري مع جندي من جنوده
    الشيخ عبدالعزيز السلمان
  •  
    النقد العلمي
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت ...
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / تاريخ
علامة باركود

القدس وآفاق التحدي (3)

إبراهيم عبدالعزيز السمري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 25/4/2010 ميلادي - 11/5/1431 هجري

الزيارات: 8787

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تاريخ القدس

أجمع المؤرخون وعلماء الأنثروبولوجيا، وعلماء الآثار والحفريات - على اختلاف لغاتهم وأجناسهم - على أن مدينة القدس مدينة عربية المنشأ والمحتد، فقد أسسها اليبوسيون، وهم "بطن من بطون العرب الأوائل، وفرع من العشائر الكنعانية، نشؤوا في صميم الجزيرة العربية، وترعرعوا في أرجائها، ثم نزحوا عنها مع مَن نزَحَ من القبائل الكنعانية، فاستوطنوا هذه الديار، وأغلب الظن أن ذلك حدث حوالي عام 3000 قبل الميلاد"[1].

 

القدس قبل الوجود اليهودي والمسيحي:

سكن اليبوسيون هذه البقعةَ المقدَّسة من أرض فِلَسطين، وجعلوها عاصمة وحاضرة لهم بعد أن أصبح لهم حضارة مزدهرة في هذه البلاد، وطفقوا يُنشِئون المدن والحصون، فكانت "يبوس" (القدس) أول مدينة يختطونها في عام 3000 ق.م، وبنوا قلعة حصينة على الرابية الجنوبية الشرقية من "يبوس"، عرفت باسم (حصن يبوس)، الذي يعرف بأقدم بناء في القدس؛ وذلك للدفاع عن المدينة وحمايتها من هجمات وغارات المصريين (الفراعنة) والعبرانيين، واهتم اليبوسيون بتأمين حصنهم ومدينتهم بالمياه، فحفروا قناةً تحت الأرض؛ لينقلوا بواسطتها مياه نبع جيحون - المعروف بنبع العذراء - إلى داخل الحصن والمدينة، ثم أنشؤوا بعدها عدة مدن، من أهمها: "شكيم" (نابلس)، و"بيت شان" (بيسان)، و"مجدو" (تل المتسلم)، و"بيت إيل" (بيتين)، و"جيزر" (تل الجزر)، و"أشقلون" (عسقلان).

 

ومن أشهر ملوك اليبوسيين: "سالم اليبوسي" و"ملكي صادق"[2]، الذي اشتهر بزهده وورعه؛ حتى دعاه قومه باسم "كاهن الرب الأعظم".

 

ويروى أنه استقبل إبراهيم الخليل - عليه السلام - عند زيارته ليبوس في طريقه إلى مصر نحو عام 1850ق.م، وأكرم وفادته، وقد سمى (ملكي صادق) مدينته هذه باسم "أورو - سالم"؛ أي: (مدينة السلام)[3].

 

عاد إبراهيم - عليه السلام - وزوجُه سارَّةُ من مصر، ليقيما في رحاب مدينة "أورو - سالم" وفي كنف ملكها (ملكي صادق)، الذي كان يؤمن بعقيدة التوحيد، فاستقرَّ بها "إبراهيم" مع زوجه "سارة" كمهاجرين، وأنجبتْ له سارة "إسحاق" بعدما بلغ "إبراهيم" من العمر مائة عام، ومات "إبراهيم" دون أن يمتلك شبرًا من أرض فلسطين، حتى إن زوجه "سارة" لما ماتتْ طَلَبَ من الفلسطينيين لها قبرًا تُدفَن فيه، ومات بعدهما ابنهما "إسحاق" دون أن يمتلك شبرًا من أرضها، وارتحل "يعقوب بن إسحاق" مع بنيه وذريته - الذين بلغ تعدادهم سبعين نفسًا - إلى أرض مصر ومات بها.

 

ويلاحظ أن المدة التي عاشها إبراهيم وابنُه إسحاق وحفيدُه يعقوب في فلسطين لا تتجاوز 230 سنة، وقد كانوا فيها غرباء لا يملكون من أرضها ذراعًا ولا شبرًا[4].

 

ظل العبرانيون في أرض مصر يرسفون في قيود الذلِّ والاستعباد، حتى بعث الله فيهم نبيَّه ورسوله موسى - عليه السلام - الذي أخرجهم من ظلمات الاستعباد والمهانة والذلِّ، إلى نور الحرية والانطلاق، فهاجَرَ بهم من أرض مصر، وعبَر بهم البحر إلى أرض سيناء، وهكذا أنجاهم الله من بطش الفراعنة وجبروتهم.

 

وقد سجَّل القرآن هذه الأحداثَ، فقال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [البقرة: 49، 50].

 

هاجَرَ سيدُنا موسى - عليه السلام - مع بني قومه اليهود من مصر إلى سيناء في حدود عام 1260ق.م، وقدِّر عدد اليهود الذين هاجروا مع موسى إلى سيناء بحوالي 5500 نسمة، وقد أصابهم العطش والجوع في سيناء؛ لأنها أرض صحراوية، ولكنَّ الله - سبحانه وتعالى - أنزل عليهم المنَّ والسَّلوى فأكلوا منها، وضرب سيدنا موسى الصخرةَ فانفجرتْ منها مياهٌ عذبة صالحة للشرب، فشربوا منها، وساق لهم السحب لتقيهم حرارة الشمس؛ قال - تعالى -: ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 57].

 

كل هذه النِّعم ساقها الله إليهم، لا لأنهم شعب الله المختار كما يزعمون؛ بل لأنهم في تلك الفترة كانوا الوحيدين على وجْه الأرض الذين يحملون عقيدة التوحيد، وحينما يقول الله في حقهم: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 47]، فإن هذا التفضيل لم يكن تفضيلاً مطلقًا أو أبديًّا؛ وإنما هو مشروط بالتقوى والإيمان والعمل الصالح؛ بدليل أنهم عندما كانوا يحيدون عن هذا الشرط كانوا يبوءون بغضبٍ من الله، وتُضرَب عليهم الذِّلة والمسكنة.

 

وها هو القرآن يجسد تلك الحقيقة في قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61].

 

كان اليهود يشكلون عدة قبائلَ أو أسباطٍ وقتَ أنْ هبطوا في أرض سيناء، وقد تولى موسى - عليه السلام - قيادتهم، فطلب منهم تنفيذ أمر الله بالهجرة إلى الأرض المقدسة (فلسطين)؛ وذلك من أجل تخليص قومه مما هم فيه من الذل والهوان؛ قال - تعالى -:  ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 21].

 

أرسل موسى من كل قبيلة من القبائل اليهودية رجلاً إلى فلسطين؛ ليتعرفوا على أوضاعها وخيراتها وسكانها ومدى صلاحيتها لإقامة اليهود فيها، فعاد القوم إلى موسى - عليه السلام - وهم يحملون عن أرض فلسطين انطباعًا حسنًا؛ لأن أرضها تفيض لبنًا وعسلاً، لكنّ فيها قومًا أقوياء، لا حول لليهود عليهم، ولا قوة لهم على محاربتهم، فجبنوا، وتمرَّدوا على قائدهم، فغضب الله عليهم، فتاهوا في الصحراء مدة أربعين سنة؛ قال - تعالى -:  ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴾ [المائدة: 22].

 

ويتضح جليًّا من المعلومات التي نقلها المخبرون اليهود إلى سيدنا موسى - عليه السلام - عن أرض فلسطين وسكانها الكنعانيين - أن فلسطين كانت تتمتع بحكم عربي كنعاني قويٍّ، وهي بلاد خيرات كثيرة، وفيها حضارة عربية كنعانية زاهرة قبل أن يصل إليها اليهود، الذين استفادوا فيما بعد من حضارة الكنعانيين في الزراعة والتجارة والصناعة وفن البناء.

 

وقد وصف الله جبن اليهود وتخاذلهم في قوله – سبحانه -: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24].

 

فكان الحكم الإلهي عليهم أن يُحرَموا من دخولها مدة أربعين سنة؛ قال - تعالى -:  ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 26].

 

بعد مرور أربعين عامًا قضاها اليهود تائهين في صحراء سيناء، قرَّر موسى - عليه السلام - أن يدخل بهم فلسطين من جهتها الجنوبية؛ لكنه لم يتمكن من ذلك؛ نظرًا لمقاومة سكانها، فاضطر موسى إلى طلب الإذن من ملك آدوم - ملك شرقي الأردن - للسماح لليهود بالمرور من أرضه أثناء هجرتهم إلى فلسطين، ولكن موسى - عليه السلام - مات قبل أن يدخل اليهود أرض فلسطين.

 

الغزو اليهودي الأول للقدس:

تولَّى قيادة اليهود بعد وفاة موسى - عليه السلام - نبيُّ الله "يوشع بن نون" - عليه السلام - فقرَّر أن يدخل فلسطين، فعبَر مع جماعته نهر الأردن 1189ق.م، وحاصر مدينة أريحا الفلسطينية وفتَحها، ودخل اليهود فلسطين لأول مرة.

 

بعد وفاة يوشع وقع اليهود تحت حكم شيوخ قبائلهم، وسمِّي حكم شيوخ اليهود بحكم القضاة، وبلغ عددهم 14 قاضيًا، وامتدَّ حكمهم فترة قرن ونصف، وفي عهد القضاة سادت الفوضى في البلاد، وزادت انقسامات اليهود ومصائبهم، ولم يتذوق اليهود طعم الحرية، ولم يعرفوا الاستقلال الحقيقي في الحكم، ولم يستطيعوا فتح مدينة يبوس.

 

حاول بنو إسرائيل مرة بعد مرة احتلال "يبوس" (القدس)، وزحفوا إليها بقيادة "يهوذا"، الذي تزعمهم بعد ذلك، فاحتلوها، وأشعلوا النار فيها، وقتلوا عشرة آلاف رجل من سكانها، إلا أنهم عادوا فأخلوها تحت ضغط اليبوسيين، وظل هؤلاء يهزؤون بحملات العبرانيين عدة قرون.

 

ولما أصبح "داود" ملكًا على بني إسرائيل 1049ق.م، وكان يومئذٍ يقيم في (حبرون)، زحف نحو يبوس بجيش قوامه ثلاثون ألف مقاتل، وقاومه اليبوسيون في بادئ الأمر مقاومة عنيفة، وصدوه عنها، إلا أنه عندما أعاد الكرَّة، وتمكَّن من احتلال (تل أوفل)، الكائن في جنوبها والمطل على قرية (سلوان)، أصبحت (عين روجل) بيده، وكانت هذه هي النبع الوحيد الذي يستقي اليبوسيون منه الماء، عندئذٍ سقطت "يبوس" بطبيعة الحال عام 1049ق.م.

 

كانت "يبوس" قبل احتلاله لها ذات حضارة، وكان فيها منازل متقنة، حوت الكثير من أسباب الراحة والرفاهية، وكان فيها حكومة وصناعة وتجارة وديانة، فاقتبس العبرانيون هذه الحضارة من "يبوس" ومن المدن الكنعانية الأخرى التي احتلوها، فغادروا الخيام، وسكنوا في بيوتٍ بنوها كبيوت الكنعانيين، وخلعوا عنهم الجلود التي كانوا يلبسونها، ولبسوا بدلاً منهًا ثيابًا منسوجة من الصوف كثياب الكنعانيين[5].

 

غيَّر "داود" اسم المدينة، وسماها "مدينة داود"، وسمَّى الحصن الذي أعاد بناءه وتجديده بحصن "صهيون"، وبنى لنفسه قصرًا على تل مطل، وبنى لرجاله بيوتًا من حوله، وشرع في بناء الهيكل الخاص بالعبادة؛ لكنه توفي قبل أن يكمله، فأكمله ابنه سليمان - عليه السلام - من بعده.

 

ورث سليمانُ داودَ فكان نبيًّا صالحًا، وملكًا عظيمًا، يميل إلى حل مشاكل السياسة والاقتصاد حلولاً دبلوماسية لا يلجأ فيها إلى قوة السلاح، وحاول أن يجعل عاصمة ملكه (أورشليم) لا تقل عظمةً وعمرانًا عن العواصم الكبرى في الشرق في زمانه، فبدأ بتشييد سور فاخر حول المدينة، ثم شرع في بناء المعبد الكبير (الهيكل) الذي كان أبوه "داود" - عليه السلام - قد بدأه قبل موته.

 

انقسمت مملكة اليهود بعد موت سليمانَ إلى قسمين: مملكة إسرائيل وعاصمتها "السامرة" قرب نابلس، وسميت هذه المملكة بمملكة الشمال، تولى الملك فيها في البداية "يربعام بن نباط" باني هيكل سليمان، الملقب بحيرام، ثم تلاه البعض من نسله، وقادة جيشه، ومملكة يهوذا وعاصمتها "أورو - سالم"، وهي مملكة الجنوب، وامتد حكم الأولى من عام 927 - 721ق.م؛ حيث تمكَّن الملك الآشوري "سرجون الثاني" من محْو مملكة إسرائيل من الوجود، بعد أن دكَّ أسوارها، وسبى أعيان المملكة وأكابر القوم وأرسلهم إلى العراق، وقدر عدد من سُبُوا من اليهود في حدود 27.280 نسمة، وهكذا ألحق الآشوريون باليهود الذلة والمسكنة، ووقعت فلسطين تحت الحكم الآشوري مدة من الزمن.

 

أما المملكة الجنوبية، فقد توارث عرشَها نسلُ الملك داود، وامتد حكمها من عام 923 - 585 ق. م، وفي هذه السنة حلَّ بمملكة يهوذا ما كان قد حل بمملكة إسرائيل من قبل، وتم هذا التدمير على يد "بختنصر" الكلداني البابلي، بعد أن رفض اليهود الخضوع للدولة البابلية ودفع الجزية التي فرضها البابليون عليهم، مما اضطر "بختنصر" لأن يهاجم "أورسالم" (القدس)، وحاصرها مدة سنة ونصف، ثم ثغرت الأسوار، وأخذت المدينة عنوة عام 585ق.م، وأحرَقَ "بختنصر" الهيكل اليهودي وخرب المدينة، ونقل من أهلها في حدود 50.000 نسمة أسيرًا إلى بابل، وعُرف هذا الحادث في التاريخ بالسبي البابلي لليهود، وهكذا انتهى عهد المملكة اليهودية في الشمال والجنوب[6].

 

ساعد اليهودُ الذين كانوا يقيمون في بابل "كورش" الفارسي على احتلال مدينة بابل كعادتهم؛ إذ إن ولاءهم دائمًا للقويّ، وقد سخَّرهم "كورش" هذا لخدمته، وعليه فقد أمر قسمًا منهم بالعودة إلى فلسطين، كل من يرغب منهم ذلك، مقابل ما قدَّموه، وما سيقدمونه له ضد أعدائه المصريين وغيرهم.

 

لم ينتقل إلى أرض فلسطين من اليهود إلا الفقراءُ والضعفاء، أما الأغنياء فقد آثروا البقاء في أرض بابل إلى جوار ضياعهم وممتلكاتهم وثرواتهم؛ لكن أهل الشام من عرب وفينيقيين وآراميين يعرفون جيدًا أن اليهود جيران سوء، فأبَوْا أن يسمحوا لهم بالرجوع، فقاوموهم ومنعوهم من الدخول، حتى أرسل إليهم "كورش" جيشًا أجبرهم على الإذعان والاستسلام لأوامره، وقدِّر عدد اليهود الذين نزحوا إلى أرض فلسطين وقتئذٍ بحوالي 50.000 نسمة، وسمح "كورش" لليهود بإعادة بناء هيكلهم من جديد.

 

ظلت القدس وباقي المدن الفلسطينية خاضعةً للفرس طيلة قرنين من الزمان، حتى سقطت في أيدي الإسكندر الأكبر عام 332ق.م، ثم خلفه في هذه البلاد الرومان، بعد أن انهارت الإمبراطورية اليونانية إثر تنازع القواد على السلطة.

 

القدس في عهد الرومان:

توالتِ النكبات على اليهود العبرانيين في عهد الرومان؛ حيث أحرقوا هيكلهم في عهد الإمبراطور "تيطوس" عام 70م، ثم ضربهم الرومان ثانية في عهد الإمبراطور "أدريانوس" عام 135م، الذي أمر بمحْو مدينة "أورسالم" (القدس) محوًا تامًّا، وبنى على أنقاضها مدينة جديدة، وباسم جديد، هو "إيليا كابيتولينا" أو "إيليا العظمى"، ولما أصبح الرومان نصارى اشتدتْ نقمتهم على اليهود العبرانيين؛ لأن النصارى يعتقدون بأن اليهود العبرانيين هم قتلة السيد المسيح عيسى - عليه السلام.

 

وعلى هذا؛ فإن اليهود تعرضوا للإبادة والإذلال في التاريخ القديم مرتين: المرة الأولى كانت على يد البابليين بقيادة "نبوخذ نصر" أو "بختنصر" ملك بابل، والمرة الثانية على يد الرومان.

 

وقد تحدَّث القرآن الكريم عن هاتين النهايتين: تدمير سيادتهم بالأسر البابلي، وإنهاء وجودهم بالسحق الروماني، وذلك في الآيات الكريمة: ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 4 - 8].


وقد ذهب بعض علماء العصر؛ مثل: الشيخ "الشعراوي"، والشيخ "عبدالمعز عبدالستار" وغيرهما، إلى أن المرة الأولى في إفساد بني إسرائيل كانت في عصر النبوة بعد البعثة المحمدية، وهي ما قام به بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، وأهل خيبر، من كيدٍ وبغي على الرسول وأصحابه، وقد نصَرَهم الله عليهم، وكان العباد المسلَّطون عليهم هم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، بدليل مدح هؤلاء بإضافتهم إلى الله بقوله: ﴿ عِبَادًا لَنَا ﴾، أما إفسادتُهم الثانية، فهي ما يقومون به اليوم من علو كبير، وطغيان عظيم، وانتهاك للحرمات، وإهدار للحقوق، وسفك الدماء، وغيرها.


وسيتحقق وعْد الله - تعالى - بتأديبهم وعقوبتهم وتسليط المسلمين عليهم كما سلطوا من قبل؛ لكن الدكتور "القرضاوي" - حفظه الله - لم يوافق على هذا الرأي، فانبرى يفنّده، ويعطي الأدلة على رفضه لهذا التفسير، فيقول:

أولاً: إن قوله - تعالى -: ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ ﴾؛ أي: أنهينا إليهم، وأعلمناهم في الكتاب، والمراد به: التوراة، كما قال قبلها: ﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾، وما جاء في الكتاب - أي: أسفار التوراة - يدل على أن هاتين المرتين قد وقعتا، كما في سفر تثنية الاشتراع.


ثانيًا: إن قبائل بني قينقاع والنضير وقريظة لا تمثل بني إسرائيل في قوَّتهم وملكهم؛ إنما هم شرائح صغيرة من بني إسرائيل، بعد أن قطِّعوا في الأرض أممًا.


ثالثًا: إن الرسول والصحابة لم يجوسوا خلال ديار بني إسرائيل - كما أشارت الآية الكريمة - إذ لم تكن لهم ديار؛ وإنما هي ديار العرب في أرض العرب.


رابعًا: إن قوله - تعالى -: ﴿ عِبَادًا لَنَا ﴾ لا يعني أنهم من عباده الصالحين، فقد أضاف الله - تعالى - الكفارَ والعصاة إلى ذاته المقدسة؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ﴾ [الفرقان: 17]، وقوله - تعالى -: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 53].


خامسًا: إن قوله - تعالى -: ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴾ [الإسراء: 6] يتضمن امتنان الله - تعالى - عليهم بذلك، والله - تعالى - لا يمتنُّ على بني إسرائيل بإعطائهم الكَرَّةَ على المسلمين.


سادسًا: إن الله - تعالى - إنما ردَّ الكرة لبني إسرائيل على أعدائهم بعد أن عاتبهم في المرة الأولى؛ لأنهم أحسنوا وأصلحوا، كما قال - تعالى -: ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ﴾ [الإسراء: 7].


واليهود - كما عرفناهم وشاهدناهم - لم يحسنوا ولم يصلحوا قط؛ ولذا سلَّط الله عليهم هتلر وغيره، كما يبتلي ظالمًا بظالم.


وهم منذ نحو مائة سنة يمكرون بنا ويتآمرون علينا؛ ليسرقوا أرضنا، فمتى أحسنوا حتى يرد الله لهم الكرة علينا؟!


سابعًا: إن الله - تعالى - قال في المرة الآخرة: ﴿ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 7]، والمسلمون لم يدخلوا مسجدهم قبل ذلك بالسيف والقهر، ولم يتبِّروا ما علوا تتبيرًا؛ بل لم يكن شأن المسلمين أبدًا التتبير والتدمير في حروبهم وفتوحهم؛ إنما هو شأن البابليين والرومان الذين سلطوا على الإسرائيليين.


ثامنًا: إن ما أجمع عليه المفسرون القدامى أن مرّتي الإفساد قد وقعتا، وأن الله - تعالى - عاقبهم على كل واحدة منهما، وليس هناك عقوبة أشد وأنكى عليهم من الهزيمة والأسر والهوان والتدمير على أيدي البابليين، الذين محَوْا دولتهم من الوجود، وأحرقوا كتابهم المقدس، ودمَّروا هيكلهم تدميرًا، وكذلك ضربة الرومان القاصمة التي قضتْ على وجودهم في فلسطين قضاء مبرمًا، وشردوهم في الأرض شذر مذر؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا ﴾ [الأعراف: 168]، ولو مشينا على التفسير الجديد، لكان معناه أن القرآن لم يُشر إلى هذه الأحداث الكبيرة والهائلة في تاريخ بني إسرائيل، مع ما كان لها من آثار مادية ومعنوية في حياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية.


والواضح أنهم اليومَ يقعون تحت القانون الإلهي، المتمثل في قوله - تعالى -: ﴿ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ﴾، وها هم قد عادوا إلى الإفساد والعلو والطغيان، وسنة الله - تعالى - أن يعود عليهم بالعقوبة التي تردعهم وتؤدِّبهم، وتعرِّفهم قدر أنفسهم، كما قال الشاعر:

إِنْ عَادَتِ العَقْرَبُ عُدْنَا لَهَا
بِالنَّعْلِ وَالنَّعْلُ لَهَا حَاضِرَهْ

يؤكِّد ذلك قولُه - تعالى -: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾ [الأعراف: 167].


وهذا الدمار الأول، الذي تم على أيدي البابليين، وتحدَّث عنه القرآن الكريم على النحو الذي نراه، كان بالغَ التأثير على اليهود؛ فقد أزال معظم الوجود اليهودي من فلسطين، وظهر من السهولة التي أجلى بها البابليون سكان منطقة إسرائيل، على يد "سرجون"، ثم سكان منطقة يهوذا على يد "نبوخذ نصر" - أن جذور هؤلاء القوم لم تكن عميقة في أرض فلسطين، وإذا استثنينا المعبد وقصر سليمان، فلا تكاد تُذكَر لهم آثارٌ خلال تسعة قرون قبل هذا الإجلاء، وكل ما يمكن أن نقوله: إنهم أقاموا في جزء من أرض كنعان، بما فيها من قرى صغيرة، وحتى المدن كانت أشبه بالقرى، باستثناء أورشليم وشكيم (نابلس)[7].


انقسمت بعد ذلك الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين: الدولة الرومانية الشرقية وعاصمتها بيزنطة (القسطنطينية)، والدولة الرومانية الغربية وعاصمتها روما، وكانت فلسطين خاضعةً للدولة الرومانية البيزنطية.


ظلت القدس تُعرَف بإيليا في العصر البيزنطي 330م - 636م، ذلك العصر الذي اعتُرف فيه بالديانة المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية البيزنطية، عندما اعتنقها الإمبراطور "قسطنطين"، وفي عهده قامت أمُّه الملكة "هيلانة" ببناء كنيسة القيامة 335م.


وفي سنة 614م استولى الفرس للمرة الثانية على القدس، وقاموا بتدمير معظم كنائسها وأديرتها، وظلت تحت الحكم الفارسي إلى أن استردها "هرقل" منهم عام 620م، وهذا الحدث تنبَّأ به القرآن قبل حدوثه في قوله - تعالى -: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 1 - 6].


وقد فرح المسلمون بهذا النصر؛ لأمرين: أولهما: أن الروم كانوا أصحاب عقيدة ويؤمنون بالله، بخلاف الفرس، فقد كانوا وثنيين مجوسًا يعبدون النار، ورابطةُ الدين أقوى من أية رابطة، وثانيهما: أن البشرى التي بشَّر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تحقَّقتْ، وهذا دليل على صدق نبوَّته، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.


الفتح الإسلامي للقدس:

ظلَّت القدس تحت الحكم البيزنطي حتى الفتح الإسلامي في عهد الخليفة الراشد "عمر بن الخطاب"، وسببُ فتحِها أن الإسلام لما كان دينًا عالميًّا لا يقتصر على العرب، فقد وقع على كاهل العرب والمسلمين مهمةُ نشْره في كافة البلدان، فكانت الفتوحات الإسلامية، وكانت فلسطين من أول البلدان التي سارت الجيوش الإسلامية إليها، وقد تمكَّن القائد عمرو بن العاص من الانتصار على الروم البيزنطيين في فلسطين في معركة "أجنادين" قرب مدينة الرملة الفلسطينية عام 13هـ/ 634م، وتابع المسلمون بعد أجنادين فتْح المدن الفلسطينية واحدة تلو الأخرى، وحاصروا مدينة "إيليا كابيتولينا" (القدس فيما بعد)، وظل حصارهم لها طيلة فصل الشتاء، إلى أن قرر أهلها الاستسلام، فانتدبوا البطريرك "صفرونيوس" ليقوم بالاتصال بالقائد أبي عبيدة بن الجراح، فعرض "أبو عبيدة" على "صفرونيوس" أحد الأمور الثلاثة: الإسلام، أو الجزية، أو القتال، فقبل أهالي المدينة طوعًا الاستسلام، وفتْح المدينة للمسلمين، والعيش في ظل الحكم الإسلامي العادل.


وفي سنة 15هـ/ 636م دخل الخليفة "عمر بن الخطاب" القدس صلحًا، وأعطى لأهلها الأمان من خلال وثيقته التي عُرفت بالعهدة العمرية، والتي أعطت الأمان لأهل إيليا على أموالهم وأنفسهم، وكنائسهم وصلبانهم، ولا يضام أحدٌ منهم، واشترطت العهدة ألاَّ يسكن "إيليا" أحدٌ من اليهود، وأن يدفع أهل المدينة المقدسة الجزيةَ للمسلمين مقابل حمايتهم والمحافظة عليهم، وتجسد هذه الوثيقة التاريخية عظمةَ التسامح الديني عند المسلمين، وتدلُّ دلالة صريحة بما لا يدع مجالاً للشك على صدق معاملاتهم وحبِّهم للسلام، وهذا نصها:

"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمرُ أمير المؤمنين أهلَ إيليا من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها، أن لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحدٌ من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرِجوا منها الروم واللصوت (اللصوص)، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحبَّ من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصُلُبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أَعطَوُا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبدالرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشرة"[8].


وقد اهتم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأمر فلسطين بعامة، والقدس بخاصة، فأمَرَ ببناء جامع كبير في القدس سمِّي باسمه، ومكانه يقابل كنيسة القيامة، وهو جامع بسيط؛ لكنه واسع وكبير؛ إذ يتسع لحوالي ثلاثة آلاف من المصلين[9]، كما أمر - رضي الله عنه - بتنظيف الصخرة المشرفة وإظهارها؛ لأنها بقعة مقدسة، وقد ظلتْ هذه الصخرة مهجورةً وغير نظيفة طيلة العهد الروماني في القدس، وقد تتابع مجيء الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى بيت المقدس؛ إما لزيارة مقدساتها، والتعرف على معالمها، وتفقُّد شؤونها، وإما للإقامة فيها؛ لما لها من منزلة دينية[10].


والحقيقة التي ينبغي الالتفات إليها أن العرب إبان الفتح الإسلامي، لم يكونوا هم الوافدين الجدد إلى القدس، ولكن الإسلام كان هو الوافدَ الجديد؛ لأن القدس في تاريخها الطويل لم تخلُ أبدًا من العرب، الذين هم أهل البلاد وأصحابها الأصليون.


"وتؤكد النصوص اليونانية المكتشَفة في الأردن أن معظم سكان فلسطين أيام الرومان كانوا من العرب، وهناك مهاجرون آخرون قدموا مثل سائر الموجات السابقة منذ ثلاثة آلاف عام من جزيرة العرب، فأقاموا في القرن الرابع قبل الميلاد مملكة الأنباط جنوبي فلسطين، إذًا كان الإسلام هو القادم مع موجة المهاجرين الجدد من جزيرة العرب عام 638م"[11].


وبقدوم المسلمين إلى القدس تبدأ حقبة جديدة في تاريخها، حيث انتشر العدل والأمن والأمان والطمأنينة في ربوع البلاد، وعمَّ التسامح الديني أرجاءَ المدينة، كان المسيحيون يؤدون شعائرهم في هدوء وسكينة دون أن يتعرض واحد منهم إلى أي أذى من قبل المسلمين؛ بل إن اليهود مارسوا طقوسهم الدينية دون أن يتعرض أحدهم إلى أي لون من ألوان الظلم أو التعسف أو الاضطهاد، فضلاً عن تقلُّد بعض النصارى واليهود لمناصب عليا في الدولة الإسلامية.


وقد تجلى هذا التسامح من قِبَل المسلمين الفاتحين تجاه أهل الكتاب في كل الأقطار والأمصار الخاضعة لهم بعامة، ومدينة القدس بخاصة، وكان من مظاهر هذا التسامح الإسلامي أن الخليفة عمر بن الخطاب لم يَقبل الدعوة التي وجَّهها إليه بطريرك القدس إلى إقامة الصلاة في إحدى كنائس القدس؛ خوفًا من أن يتَّخذ بعض المسلمين المتحمسين ذلك ذريعةً لتحويل الكنيسة إلى مسجد؛ تخليدًا لذكرى مروره بها، كما دعا الخليفة إلى وحدة تضم أهل الكتاب جميعًا من يهود ومسيحيين ومسلمين تضمن لهم سلامة الأرواح والأملاك، ويلح الخليفة على احترام الرهبان المسيحيين، فدعا إلى عدم إزعاج أولئك الذين اعتزلوا العالم كي يحققوا ما نذروا أنفسهم له.


يقول "رابوبور" المتعاطف مع اليهود في كتابه "تاريخ فلسطين": "يجب أن نقرَّ بأن إعلانًا كهذا يصدر في بداية القرون الوسطى، وتلتزم به جيوش المسلمين، يشهد على تسامح كبير مشوب بروح العدالة، فلم يسبق لأباطرة بيزنطة، ولا لأساقفة الكنيسة أن عبَّروا عن مثل هذه المشاعر باسم المسيح الذي بشَّر بدين المحبة.


ثم جاء عهد الخلفاء الأمويين، الذين اتَّسموا - كسابقيهم من الخلفاء الراشدين - بالتسامح والانفتاح؛ حتى إن بعض المسيحيين - كمنصور بن سرجون، وابنه وحفيده المعروف بيوحنا الدمشقي - تقلدوا مناصبَ هامةً في خزينة الدولة وماليتها، فكانوا شخصيات مرموقة في نظام الحكم، وهكذا إلى أن جاء الخليفة عمر بن عبدالعزيز عام 720م، فقرر ألاَّ يتسلم مسيحي منصبًا رفيعًا في الدولة إلا بعد أن يسلم، حينذاك استقال يوحنا الدمشقي واعتزل في دير القديس "سابا" قرب القدس، وعاش حتى موته دون أن يعاني أي ضغط من جانب المسلمين"[12].


ثم توالتْ سلالات الخلافة الإسلامية على حكم القدس تباعًا، فحَكَمها بعد الخلفاء الأمويين: العباسيون، والطولونيون، والإخشيديون، والفاطميون، والسلاجقة.


وظلت القدس تعرف باسم إيليا وبيت المقدس، منذ الفتح العمري وحتى سنة 217هـ، عندما بدأت تعرف باسم "القدس" لأول مرة في تاريخها، وذلك بعدما زارها الخليفة العباسي المأمون 216هـ، وأمر بعمل الترميمات اللازمة في قبة الصخرة المشرفة، وفي سنة 217هـ قام المأمون بسك نقود حملت اسم "القدس" بدلاً من إيليا، ومن المحتمل أنه قام بذلك؛ تأكيدًا لذكرى ترميماته التي أنجزها في قبة الصخرة[13].


وعليه تكون القدس قد سميتْ بهذا الاسم منذ بداية القرن الثالث الهجري، وليس كما يعتقد البعض بأن ذلك يعود إلى نهاية الفترة المملوكية (القرن التاسع الهجري)، وتبلور فيما بعد حتى صار يعرف في العهد العثماني باسم "القدس الشريف".


الاحتلال الصليبي للقدس:

في أواخر عهد الفاطميين وبدايات عهد الدولة الأيوبية، انتابت المجتمعاتِ الإسلاميةَ حالةٌ من الفساد والضعف في ميادين الحياة المختلفة، تُشبه إلى حد كبير ما تعانيه المجتمعات الإسلامية في عصرنا الراهن، وكان رؤساء العالم الإسلامي على حالهم من التفكك والصراع وانشغالهم بمصالحهم الشخصية، في هذه الظروف "دخل الصليبيون فأطاحوا بملك سلاجقة آسيا الصغرى، واستولوا على عاصمتهم "نيقية"، ثم انحدروا إلى بلاد الشام وهدَّدوا الأخوين - رضوانًا في حلب، ودقماقًا بدمشق - تهديدًا بالغًا، حتى اضطرا الدخول في طاعة الصليبيين، وأداء الجزية، وقد رضيا بهذا الهوان لإنقاذ الرعية، ولرعاية حرمة الوطن الإسلامي"[14].


وفي سنة 492هـ/ 1099م احتل الصليبيون القدس، وعاثوا فيها فسادًا وخرابًا دونما اكتراث لقدسيتها ومكانتها الدينية، فارتكبوا المجازر البشعة في ساحات الحرم الشريف، وقاموا بأعمال السلب والنهب، وحوَّلوا المسجد الأقصى إلى كنيسة، ومكان لسكن فرسانهم، ودنَّسوا الحرم الشريف بدوابهم وخيولهم، حينما استخدموا الأروقة الموجودة تحت المسجد الأقصى، والتي عُرفت بعدهم بإسطبل سليمان، الأمر الذي يتناقض تناقضًا تامًّا مع سماحة الإسلام، الذي أكده وترجمه الخليفة عمر بن الخطاب عندما دخل مدينة القدس[15].

 

ولا شك في أن "السبب الأكبر لنجاح الصليبيين لم يرجع فحسب إلى كثرة عددهم، وإلى ما تلقَّوه من مساعدات من الدولة البيزنطية؛ بل يرجع أساسًا إلى تفرُّق المسلمين وتفكُّكهم من الناحيتين الدينية والسياسية، ففي الوقت الذي كانت فيه القوات الصليبية تشق طريقها نحو الشرق العربي الإسلامي، اشتد النزاع بين الخلافتين (العباسية والفاطمية)، ذلك النزاع الذي يعود إلى الخلاف المذهبي – أي: سني وشيعي - ولقد كان هذا الحال معروفًا جيدًا من قِبل الصليبيين؛ ولذلك كان توقيت الحملة الصليبية الأولى في ظروف سادها التفكُّكُ الإسلامي السياسي والديني"[16].

 

لقد أدَّتْ هذه الخلافات بين المسلمين إلى ضعف مواجهة التحديات الصليبية، فكان هناك أميرٌ يحارب وأمير يسالم، وأمير يهادن وآخر يسلّم، وأخير يستغل الأوضاع التي يعاني منها أخوه ليهاجم أرضه ويتوسع على حسابه"[17].

 

والمدقق في الأحداث التاريخية يرى تشابهًا كبيرًا بين الغزو الصليبي للقدس في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، والاحتلال الصهيوني لها في أوائل القرن العشرين، من حيث الظروف التي أدتْ إلى وقوعهما، ومن حيث طبيعة كلا الاحتلالين، فكما اغتنم الصليبيون حالة الضعف والفساد والتفكك التي سادت المجتمعاتِ الإسلاميةَ بسبب البُعد عن جوهر الدين الإسلامي، اغتنم الصهاينة أيضًا حالة الضعف وحالة الوهن التي عمَّتْ بلاد المسلمين في العصر الحديث، وكما انطلقتْ جيوش الصليبيين زاحفة نحو القدس برغبة استعمارية انتهازية من أجل الحصول على كنوز الشرق، كذلك انطلق اليهود إلى نفس المدينة بنفس الدوافع؛ بل كان هناك دافع آخر عند اليهود، وهو السيطرة على العالم من خلال القدس، هذا الدافع الذي نبع من شعورهم بالنقص، وبأنهم منبوذون من الأمم الأخرى؛ بل نابع من إحساسهم بأنهم أحطُّ أمَّة على وجه الأرض؛ لأنهم عندما كانوا مشتتين في الأرض كانوا يعيشون منعزلين عن الناس في الحارات المتهدمة والأماكن الخربة، وكانوا يمثلون في كل بلد يعيشون فيه (جيتو) يستعصي على الانخراط في المجتمعات الأخرى، وعندما امتلكوا أسباب القوة، قالوا بكل صلف: إننا شعب الله المختار، ولما شعروا بأن العالم الغربي يستجيب لهم، وينخدع ببريق وعودهم الكاذبة، فكَّروا في السيطرة على العالم أجمع.

 

لقد استغل الصليبيون في زحفهم إلى بيت المقدس البسطاءَ والسذج منهم، وأقنعوهم بأنها حرب من أجل الصليب أو من أجل المسيح، كذلك اتخذ اليهود الدِّينَ ستارًا يُلهبون به حماسةَ العوام منهم والبسطاء والسذج، وأوهموا العالم أجمع بأنهم جاؤوا ليعيدوا بناء هيكل سليمان وليعيدوا مجْد الآباء.

 

وكما نشَرَ الصليبيون الهلع والفزع، وسفك الدماء، وانتهاك الحرمات والأعراض والمقدسات إبان احتلالهم للقدس، فكذلك فعل اليهود؛ بل كانوا أشدَّ وأنكى؛ لأن قلوبهم قاسية كالحجارة أو أشد قسوة، فمنذ دخولهم أرض فلسطين وهم يقتلون، ويسرقون، ويجرفون، ويهدمون، ويدمرون، ويزيفون، ويدنسون المقدسات.

 

ألا ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة! إن القرائن لتدلُّ على أن نهاية اليهود في فلسطين قريبة، وإنهم يرون سقوطهم بعيدًا، وأراه قريبًا.

 

تحرير القدس من أيدي الصليبيين:

ظلت القدس ترزح تحت نير الاحتلال الصليبي مدة ثمانية وثمانين عامًا، تصرخ وتجأر إلى ربِّها أن يخلِّصها من دنس هؤلاء السفاحين الغزاة، وزعماءُ المسلمين وحكامهم مشغولون بأمورهم الدنيوية، ومتاعهم الزائل، إلى أن قيَّض الله لهذه الأمَّة رجلاً مخلصًا، حمل على عاتقه مهمة التحرير والإعداد له، منطلقًا من فكرة التجديد والإصلاح، والبحث عن مواطن الضعف والخلل في أمتنا الإسلامية، والسعي لمعالجتها، كان هذا الرجل المخلص هو "عماد الدين زنكي" صاحب (حلب)، الذي استنجد به الخليفة في بغداد عام 521هـ؛ ليقوم بدور رئيس شرطة بغداد، وليوطد الأمن والعدل بعد الفتنة التي حدثت بين الخليفة المسترشد والسلطان محمود، وتولى "عماد الدين زنكي" على أعقاب هذه الأحداث (الموصل).

 

بعد هذه الأحداث، أدار عماد الدين ظهره لمشكلات الخلافة والسلطنة في بغداد، ثم مضى في بناء دولته الجديدة، ومجابهة التحديات التي تحيط بها، ومن أهمها خطر الإمارات الصليبية.

 

"ومن الطبيعي أن ينتهي القائمون على الإصلاح والتجديد إلى التفكير في بناء أمة إسلامية جديدة، بدل الاستمرار في ترميم أمة لفظتْ أنفاسها، وأخذتْ تتحلل أعضاؤها، فكانت الأمة الجديدة هي الدولة التي بدأ عماد الدين في توطيد أركانها، وتوسيع رقعتها بعد عودته من بغداد على أثر فتنة عام 521هـ؛ ولذلك استحقَّ أن تحمل الدولة الجديدة اسمه، فلما قضي شهيدًا على أيدي بعض المتآمرين خلفه ابنُه "نور الدين محمود"، الذي أعطى الدولة الجديدة طابعها الإسلامي المميز، وهيَّأها لحمل رسالتها كاملة.

 

يقول أبو شامة: "وعلى الحقيقة، فهو الذي جدَّد للملوك اتِّباع سُنة العدل والإنصاف، وترْك المحرَّمات من المأكل والمشرب والملبس، وغير ذلك؛ فإنهم كانوا قبله كالجاهلية همُّ أحدهم بطنُه وفرجه، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، حتى جاء الله بدولته، فوقف مع أوامر الشرع ونواهيه، وألزم بذلك أتباعه وذويه، فاقتدى به غيره منهم، واستحيوا أن يظهر عنهم ما كانوا يفعلونه"[18].

 

ومنذ أيام "نور الدين" أصبحتْ دولة آل زنكي هذه كيانًا التفَّ حوله أصحاب الاتجاهات التجديدية، وتلامذة المدارس الإصلاحية، وجعلوا منها دارَ هجرة تداعوا إليها من جميع الأقطار، وفتحوا أبوابها لكل مخلص راغب في العمل في سبيل الله مهما تباينت مذاهبُهم وانتماءاتهم، ثم وزعوا الأدوار على الأشخاص والجماعات الذين قاموا بمهمة التنفيذ في حدود المفاهيم الإدارية التي كانت سائدة في ذلك العصر.

 

ولقد تميَّزتْ سياسة الدولة الجديدة خلال فترة نور الدين بأمور ستة، هي:

الأول: إعداد الشعب إعدادًا إسلاميًّا، وتطهير الحياة الدينية والثقافية من التيارات الفكرية المنحرفة كالباطنية، وآثار الفلسفة اليونانية، والممارسات الفاطمية للعبادات والشعائر.

الثاني: صبغ الإدارة بالصبغة الإسلامية، وشيوع العدل والتكافل الاجتماعي.

الثالث: نبْذ الخصومة المذهبية، وتعبئة القُوى الإسلامية وتنسيق جهودها ضمن منهاج عمل موحَّد، وقيادة متكاملة متعاونة.

الرابع: ازدهار الحياة الاقتصادية، وإقامة المنشآت والمرافق العامة.

الخامس: بناء القوة العسكرية، والعناية بالصناعات الحربية.

السادس: القضاء على الدويلات المتناثرة في بلاد الشام، وتحقيق الوحدة الإسلامية بين الشام ومصر والجزيرة العربية[19].

 

نجح نور الدين في توحيد الدولة الإسلامية، ومضى ينازل الصليبيين، ويسترجع مقدسات المسلمين، حتى استطاع استرجاع نيف وخمسين مدينة من الصليبيين، ثم عزم نور الدين على فتح بيت المقدس، وأعدَّ منبرًا جديدًا للمسجد الأقصى، ولكن المنية وافتْه وهو في غمرة الاستعدادات عام 569هـ/ 1169م، فآل الأمر من بعده إلى كبير رجاله وواليه على مصر صلاح الدين الأيوبي، الذي سار على الطريق نفسه لتحقيق نفس الأهداف[20].

 

حقَّق الناصر صلاح الدين نصرًا عزيزًا مؤزرًا على الصليبيين في معركة حطين 583هـ/ 1187م، وحرر فلسطين، وطهَّر القدس وخلصها من الصليبيين، وردَّها إلى دار الإسلام والمسلمين.

 

وظلت القدس بأيدي المسلمين تُحكَم وتُدار من قِبل السلالات الإسلامية التي جاءت بعد الأيوبيين، فكان المماليك والعثمانيون، حتى سقطت بأيدي البريطانيين سنة 1917م.

 

الاحتلال البريطاني ثم الصهيوني للقدس:

ظهرت الحركة الصِّهْيَوْنية مواكبةً لحركة الاستعمار العالمي الأوربي لدول العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر الميلادي، وقد حفل هذا القرن بالعديد من الكتابات والدعوات والمشروعات، التي تدور حول خلْق وجود سياسي يهودي في فلسطين، يكون مرتبطًا بالمصالح الاستعمارية في المنطقة، ويكون عاملاً على تقسيم المنطقة العربية وتجزئتها، وفي هذا الإطار السياسي حقَّقت الفكرة الصهيونية نقلةً أساسية مهمة تمثلت في نشوء الصهيونية السياسية على يد الزعيم الصهيوني "تيودور هرتزل" وقيام المنظمة الصهيونية العالمية.

 

سعى "هرتزل" إلى عقد مؤتمر صهيوني عالمي، وعقد بالفعل المؤتمر الصهيوني الأول في (بازل) بسويسرا عام 1897م، وقد حضره مائتان وأربعة من مفكري اليهود في العالم، واستطاع المؤتمر أن يخرج بقرارات هامة، من أهمها: إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين يضمنه القانون العام، وحدَّد المؤتمر الوسائل الكفيلة بتحقيق هذا الغرض، وهي:

1 - تشجيع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين على أسس مناسبة من قِبل العمال الزراعيين، وإنشاء مستعمرات زراعية وعمرانية في فلسطين.

2 - إنشاء منظمة تربط يهود العالم، وذلك عن طريق منظمات محلية تابعة لها في كل بلد يوجد فيه اليهود.

3 - تقوية الشعور القومي وتعزيزه لدى اليهود.

4 - اتخاذ خطوات تمهيدية من أجل الحصول على موافقة حكومة دولية لتحقيق أهداف الصهيونية.

 

وتكونت المنظمة الصهيونية العالمية عقب هذا المؤتمر وترأسها "هرتزل"، الذي أجرى اتصالاً مع الدولة العثمانية يطلب السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، غيرَ أن السلطان العثماني عبدالحميد الثاني رفض ذلك، فاتَّجه إلى فرنسا، وروسيا القيصرية، وألمانيا؛ لكنه فشل في محادثاته معهم، ثم اتجه إلى بريطانيا التي عرضتْ عليه أوغندا كمكان لاستيطان اليهود، ومع أن "هرتزل" قد وافق على هذا العرض، إلا أن كثيرًا من زعماء الصهيونية رفضوا.

 

مات "هرتزل" عام 1904م وخلفه من بعده في زعامة المنظمة الصهيونية "حاييم وايزمان"، وكان ذا نفوذ واسع في إنجلترا، وتربطه بساساتها صداقات حميمة، استطاع "وايزمان" أن يحصل على وعْد من الحكومة البريطانية بإنشاء وطن لليهود في فلسطين يكون خاضعًا للحكومة البريطانية، وهذا الوعد هو ما عُرف بتصريح بلفور سنة 1917م، والذي حظي بموافقة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية، ونصه:

"إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطنٍ قوميٍّ للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهودها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليًّا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يضرَّ بالحقوق المدنيَّة والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلاد الأخرى"[21].

 

وفي عام 1920م سارعتْ بريطانيا إلى إقامة إدارة مدنيَّة؛ لتحكم بواسطتها فلسطين، وعيَّنت أول مندوب سامٍ لها هناك أحد كبار الصهاينة البريطانيين، هو السير "هربرت صموئيل"، والذي كان له اليد الطولى في استصدار وعد بلفور، وهكذا تشكلت الإدارة المدنية الجديدة، التي أخذت على عاتقها تنفيذ السياسة البريطانية بجعل فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، وذلك أثناء فترة الانتداب البريطاني على فلسطين.

 

وفي عام 1921م عُقد في القدس مؤتمر كبير، قرَّر المؤتمرون فيه رفْضَ الانتداب وإلغاء وعد بلفور، وطالبوا باستقلال فلسطين، وإقامة حكم نيابي ديمقراطي فيها، على أن تتَّحد مع البلاد العربية الأخرى، وسافر وفدٌ منهم إلى الغرب حاملاً معه هذه القرارات، ولم يترك الوفد في إنجلترا وفي سائر أنحاء أوربا بابًا إلا طرَقه، ولكنه وجد الأبواب كلَّها موصدة.

 

ولكي يلهي المندوب البريطاني الشعبَ العربي عن فلسطين هدفه الأصلي؛ راح يضرب الأحزاب الفلسطينية بعضها بالبعض الآخر، ولا سيما في القدس، فقد أقال "موسى كاظم الحسيني" من رئاسة البلدية ووضع مكانه "راغب النشاشيبي"، ووضع الحاج "أمين الحسيني" على رأس المجلس الإسلامي الأعلى، وراحتْ هاتان الأسرتان - وهما من الأسَر المعروفة بفلسطين - تتنافسان من أجل الزعامة والنفوذ، وسرَى الانقسام إلى سائر الأسر والأحزاب، فانقسم الفلسطينيون بوجه عام - والمقدسيون بوجه خاص - إلى شطرين: شطر يؤيد هذا، وآخر يعضد ذاك.

 

واهتبل الإنجليز الفرصة، فراحوا يقوُّون وسائل استعمارهم، كما اهتبلها اليهود، وراحوا يوطدون دعائم وطنهم القومي، الذي كانوا يهدفون من ورائه إلى امتلاك البلاد كلها، لا القدس وحدها[22].

 

وفي عام 1948م تم إعلان إلغاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وفي نفس اللحظة تم إعلان قيام الدولة الصهيونية، بعد أن سقطت القدس الغربية في أيدي اليهود، وواصَلَ الاحتلال الإسرائيلي زحْفَه إلى القدس الشرقية (القدس القديمة)، لكن سرعان ما اتَّحدتْ فصائل المقاومة، وأعانتْهم فرق المتطوعين من العرب، وبعض من وحدات الجيش الأردني، واستعادوا القدس الشرقية من أيدي الاحتلال الصهيوني.

 

ووقعت وثيقة استسلام اليهود بين كلٍّ من: وكيل القائد "عبدالله التل" قائد الكتيبة السادسة في الفيلق العربي عن الجانب العربي، و"موشه روزنك" قائد الهاغاناه عن الجانب اليهودي، وذلك في 28/ 5/ 1948م، وقد حشد اليهود في ساحة من ساحات الحي، حيث أُفرز المقاتلون منهم وأُخذوا أسرى إلى عمان، أما باقي الأهالي فقد نُقلوا إلى الأحياء اليهودية في القدس الجديدة (القدس الغربية).

 

وتنص الوثيقة على التالي[23]:

الفريق الأول: وكيل القائد عبدالله التل.

الفريق الثاني: قائد الهاغاناه في القدس القديمة.

بناء على الطلب المقدم من يهود القدس القديمة للاستسلام، قدم الفريق الأول الشروط، فقبِلها الفريق الثاني، وهي:

1 - إلقاء السلاح وتسليمه للفريق الأول.

2 - أخذ جميع المحاربين من الرجال أسرى حرب.

3 - السماح للشيوخ من الرجال والأطفال والنساء ومن كانت جراحهم خطيرة بالخروج إلى الأحياء اليهودية في القدس الجديدة عن طريق الصليب الأحمر.

4 - يتعهد الفريق الأول بحماية أرواح جميع اليهود المستسلمين.

5 - يحتل الجيش العربي الأحياء اليهودية في القدس القديمة.

 

وكانت هذه الوثيقة الوحيدة التي أحرزها العرب خلال صراعهم المرير مع الدولة العبرية اليهودية منذ دخول اليهود أرض فلسطين حتى حرب أكتوبر 1973م.

 

ظلت القدس الشرقية في أيدي العرب منذ عام 1948م لا يسكنها يهوديٌّ واحد، حتى سقطت في أيدي اليهود عام النكبة والنكسة 1967م، ومنذ هذا التاريخ واليهود يحاولون تهويدها، وإزالة كل الملامح العربية والإسلامية من شواهدَ ومعالمَ وآثارٍ وأماكن للعبادة، وتهويد التعليم والثقافة والاقتصاد، وهذا ما سوف نوضِّحه بالتفصيل في الفصل السادس من هذا البحث.

♦       ♦        ♦


وبعد هذه الإطلالة الموجزة على الأحداث التاريخية، يمكننا القول: إنه على الرغم من هذه الأحداث الجسام، والحروب والغزوات والمعارك الطاحنة التي تعرضت لها مدينة القدس على مر التاريخ، فإن هذه المدينة الباسلة ظلتْ صامدة راسخة شامخة تتحدَّى كل أسباب الفناء. ظلت شاهدةً على وحشية اليهود المُغِيرين، وسماحة العرب والمسلمين، ظلت تتحدى كل الغزاة الطامعين، الذين أصْلتْهم من سعيرها، وابتلعتْهم في بطونها عبر تاريخها المجيد، وعلَّمت الأمم البائدة والحاضرة معنى الشموخ والكبرياء، معنى الكرامة والإباء، معنى الرسوخ والتضحية والفداء.

 

ظلت القدس تدافع وتنافح عن عروبتها العريقة، التي لا يفتأ الحاقدون عليها - على اختلاف شعوبهم وأجناسهم، وألوانهم وألسنتهم - يعملون على محقها بكل ما أوتوا من أسباب القوة، ولئن استطاع الصهاينة وأعوانهم فرْضَ هيمنتهم عليها، وسحْق معالمها، ودكَّ آثارِها، وطمْس هويتها، فلن يستطيعوا بأي حال من الأحوال أن يطمسوا تاريخها المجيد، المسطور بحروف من نور رغم الآلام والمحن التي تعرضت لها.

 

سيبقى للعرب في القدس حقٌّ تاريخي يطالبون به إذا ما أرادوا أن يسلكوا سبيل السياسة - وهو طريق من طرق استردادها - يقرعون به كلَّ الأبواب في المؤسسات والهيئات والمنظمات العالمية والدولية؛ حتى يعود الحق المغتصَب إلى أهله، ويعود السلام إلى ربوع القدس يرفرف في آفاقها كما كان يرفرف طيلة العهد العربي قديمًا، والعهد الإسلامي طيلة ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، باستثناء فترة الاحتلال الصليبي، والتي استغرقت نحو ثمانية وثمانين عامًا.

 

الدروس المستفادة من الأحداث التاريخية:

بعد استعراض هذه الأحداث واستقرائها، يمكن أن نستنبط بعض النتائج، أو الملحوظات، أو بعض الدروس المستفادة، والتي منها:

1 - أن الوجود العربي في القدس يسبق الوجودَ اليهودي فيها بألفي عام تقريبًا، وفي هذا دلالة قاطعة على عروبة القدس، وأن الوجود اليهودي بها لم يكن إلا أمرًا طارئًا.

 

2 - إذا قِيستْ فترة الاحتلال اليهودي للقدس في التاريخ بفترة الوجود العربي (أصحاب البلاد)، فلن نجد ثَم مجالاً للمقارنة، ولن نجد لليهود حقًّا تاريخيًّا يطالبون به، يقول الشيخ "عبدالمعز عبدالستار" في كتابه: "اقترب الوعد الحق يا إسرائيل": "فلو جمعت كل السنوات التي عاشوها في فلسطين غزاةً مخربين، ما بلغت المدة التي قضاها الإنجليز في الهند، أو الهولنديون في إندونيسيا، فلو كان لمثل هذه المدة حق ٌّتاريخي، لكان للإنجليز والهولنديين أن يطالبوا به مثلهم، ولو كانت الأرض تملك بطول الإقامة في زمن الغربة، لكان الأولى بهم أن يطالبوا بملكية مصر التي عاشوا فيها 430 سنة، بدل فلسطين التي عاش فيها إبراهيم وأولاده 200 سنة أو تزيد قليلاً، ودخلوها شخصين، وخرجوا منها 70 شخصًا، ولكن هؤلاء اليهود لا يدَّعون الحق في امتلاك أرض فلسطين وحدها؛ وإنما يدعون الحق في امتلاك الكرة الأرضية كلها"[24].

 

3 - إذا كان اليهود يزعمون أن أرض فلسطين قد ملَّكها الله لإبراهيم وأحفاده من بعده، ويدَّعون - كذبًا وبهتانا - أنهم أحفاده، فالمسلمون أيضًا أحفاد إبراهيم - عليه السلام - بل هم أولى الناس به؛ لأن المسلمين تربطهم بإبراهيمَ روابطُ قويةٌ أقوى بكثير من الروابط التي يدعيها اليهود، فرسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ينحدر من سلالة إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - هذا من جهة النسب، أما من جهة الدين والعقيدة - وهي أقوى من أية رابطة أخرى - فدين المسلمين وعقيدتهم هو نفس الدين الذي جاء به إبراهيم وموسى وعيسى وجميع الأنبياء والرسل، وهو دين الإسلام؛ قال - تعالى -: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 67، 68].

 

وعليه يكون المسلمون هم أصحابَ هذه الأرض بنفس منطق اليهود.

 

4 - أن اليهود عندما كانوا يتمسكون بتعاليم التوراة الحقيقية غير المزيفة أو المحرَّفة، أنعم الله عليهم بنِعَم كثيرة؛ لأنهم حينئذٍ كانوا مسلمين حقًّا، ومن هذه النعم دخول الأرض المقدسة؛ لتكون مأوى وملجأً يحميهم من ألوان العذاب والذل والهوان الذي كانوا يلاقونه من الفراعنة، وهذا لا يقتضي بأي حال من الأحوال أن يصبحوا أصحابَ هذه البلاد، وحينما تخلوا عن هذه التعاليم، وحرَّفوا التوراة، وقتلوا أنبياء الله، استحقوا العقاب والعذاب، فتعرَّضوا للإبادة والتدمير والسحق والتشتت والتفرق في كل بقاع الأرض.

 

5 - أن المسلمين اتَّسمتْ فتوحاتهم وحروبهم بأخلاق النبلاء، ومبادئ الإسلام السمحة، فكانوا يعرضون على أهل البلد الذي يريدون فتحه أمرًا من أمور ثلاثة: أولاً الدخول في الإسلام تشريفًا له، فإن أبى عرضوا عليه أن يدفع جزية في مقابل حمايته وحماية ممتلكاته، فإن أبى فالحرب، ولها ضوابط وآداب لا يسعنا المقام لذكرها[25]، وهذا ما حدث عند دخول المسلمين القدس فاتحين في عهد الخليفة "عمر بن الخطاب" - رضي الله عنه - لم يريقوا في هذه المدينة قطرة دم واحدة، ولم يهدموا كنيسة أو معبدًا، لقد دخلها المسلمون بالصلح ومواثيق الأمان.

 

6 - أن اليهود في كل عهودهم يركنون دائمًا إلى القويِّ يستميلونه ويستعطفونه بحيلهم الماكرة، وأكاذيبهم المفتراة؛ كي يصلوا إلى أهدافهم، وغالبًا ما كانوا يتخلَّوْن عن كرامتهم، ويصيرون عيونًا وجواسيسَ لهذا القوي، كما كانوا لملك الفرس "كورش" جواسيسَ ضد أعدائه من المصريين الفراعنة وغيرهم.

 

7 - أن الهيكل الذي بناه سليمان - عليه السلام - لم يكن بالضخامة ولا بالمهابة التي يزعمها اليهود، وقد تعرَّض للحرق والتدمير والإبادة أكثر من مرة، فليس له أثرٌ يُذكَر، وهم يعلمون ذلك، ومع هذا فهم يعكفون على الحفر تحت المسجد الأقصى ليل نهار؛ بهدف تدميره ومحْو هذا الأثر الإسلامي، والشاهد على الحضارة العربية والإسلامية في القدس، وهو خطوة من جملة خطوات لتهويد القدس، وجعلها مدينة يهودية المعالم والملامح والآثار والثقافة والاقتصاد والإدارة.

 

8 - أن اليهود لا يؤمنون إلا بمنطق القوة، ولا يحترمون خصمهم إلا إذا كان قويًّا، ففي عام 1948م اضطروا إلى عقد وثيقة استسلام مع العرب، بعد محاولتهم ضم القدس الشرقية إليهم، وانتصار العرب عليهم، ثم أذعنوا لمبادرة السلام التي تمت بينهم وبين مصر بعد حرب 1973م، ثم خضعوا لشروط المقاومة اللبنانية مرتين، وانسحبوا من لبنان في عام 2000م، وعام 2006م، ورضخوا لاتفاق الهدنة بينهم وبين حماس في 2008م، وحقيقة لم يكن للصهاينة أن يخضعوا لأحد إلا إذا أحسوا بأنه أقوى منهم، إنهم كيان هش، وجيشهم ليس أسطوريًّا كما كانوا يزعمون؛ بل من السهل اليسير الانتصار عليهم إذا اتَّحد العرب والمسلمون وكوَّنوا جبهة واحدة، واستعادوا ثقتهم بأنفسهم ومقدراتهم، وجدَّدوا إيمانهم بربهم.

 

وبعد، فإننا العرب "أمام منعطف مصيري وحاسم في تاريخنا، فالمرحلة التي ندخلها اليوم هي التي ستقرِّر مصير فلسطين والقدس لأجيال عديدة، كما ستقرر مصيرنا وتحسم الجدل القائم حاليًّا حول ما إذا كنا سنستعيد فعلاً مكانتنا تحت الشمس كأمَّةٍ جديرة بالحياة، وأننا نستطيع فعلاً أن نحقق سيادتنا، واستقلال إرادتنا، ونمسك زمام أمورنا بأنفسنا، فنحقق بذلك تحرُّرنا، وهو ما يتيح لنا تحقيق وحدتنا، وتحرير ما اغتصب من أرضنا على مدى وطننا العربي الكبير.

 

إن المرحلة التي ندخلها اليوم تفرض علينا أن نستقرئ الأمور بمنتهى الجدية والرصانة وأمانة المسؤولية، ولكي نستطيع أن نتبين ملامحها، ونستكشف آفاقها؛ علينا أن نحسن قراءة أماراتها وعلاماتها؛ لكي نجابه ما ستواجهنا به من صعاب، فنتدارك السقوط في هاوية لا قرار لها، وهو ما يخططه الأعداء لنا من مصير.

 

إن العالم بأسْره يكتب اليومَ بدايةً جديدة لتاريخه، فعلينا أن نكتب تاريخنا بأنفسنا، وألاَّ ندَع الآخرين يملونه علينا، وإلا فإننا نكون قد أسهمنا في وضع نهاية مأساوية لأمَّتنا.

 

إنها مسؤولية جيلنا أمام الأجيال العربية المقبلة، فعلينا إذًا ألاَّ نفرط بالأمانة، وأن نتحمل المسؤولية التاريخية المصيرية بجدارة وتفانٍ وإيمان لا يتزعزع بمستقبل هذه الأمة وخلودها[26].

 

ولا يزال للحديث بقية، فإلى حلقة أخرى قادمة - إن شاء الله تعالى.

ـــــــــــــــــــــ
[1] عارف العارف: "تاريخ القدس"، ط/2 دار المعارف - القاهرة، ص11.

[2] اسم (ملكي صادق) من الأسماء الكنعانية التي كانت شائعة خلال تلك الفترة، ومعناه: القادر المستقيم، وقيل معناه: ملك البر، وسيد العدل، مصطفى مراد دباغ: "بلادنا فلسطين"، ج8، ق2، ط/2 بيروت 1974م، ص59.

[3] د. ياسين سويد: "حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي"، ط/1 دار الملتقى، بيروت، لبنان 1997م، ص11.

[4] د. يوسف القرضاوي: "القدس قضية كل مسلم"، ص 61، مكتبة وهبة، القاهرة.

[5] عارف العارف: "تاريخ القدس"، ص 15.

[6] رفيق النتشة وزميلاه: "تاريخ فلسطين وجغرافيتها" ص 26 ط/1 المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1991م.

[7] د. يوسف القرضاوي: "القدس قضية كل مسلم"، من رسائل ترشيد الصحوة، مكتبة وهبة ص58 - 62، و"فقه الجهاد" لنفس المؤلف (2/ 1102 - 1104) مكتبة وهبة 2009م.

[8] محمد بن جرير الطبري: "تاريخ الملوك والرسل" (2/449 ) ط: دار الكتب العلمية - بيروت.

[9] انظر: "الموسوعة الفلسطينية"، مجلد 2، ص 90.

[10] رفيق النتشة وزميلاه: "تاريخ فلسطين وجغرافيتها" ص 31 ط/1 المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1991م.

[11] روجيه جارودي: "فلسطين أرض الرسالات السماوية"، ترجمة: قصي أناسي، وميشيل واكيم، دمشق، دار طلاس 1988م، ص 119.

[12] روجيه جارودي: "فلسطين أرض الرسالات السماوية"، ص 122.

[13] سمير شما: "النقود الإسلامية التي ضربت في فلسطين"، دمشق 1980م، ص 38 - 39.

[14] د. حسين مؤنس: "نور الدين محمود"، القاهرة: 1959 ص82 - 83.

[15] انظر: "دليل المسجد الأقصى المبارك"، ص 5.

[16] آرنست باركر: "الحروب الصليبية" ص 32 - 33.

[17] كمال الأسطل: "مستقبل إسرائيل بين الاستئصال والتذويب" - دار الموقف العربي - القاهرة، ص 131.

[18] أبو شامة شهاب الدين المقدسي الدمشقي: "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية"، مؤسسة الرسالة - بيروت - 1418هـ/ 1997م، الطبعة: الأولى، تحقيق: إبراهيم الزيبق، (1/37).

[19] د. ماجد عرسان الكيلاني: "هكذا ظهر جيل صلاح الدين، وهكذا عادت القدس"، ط/3، دار القلم، دبي - الإمارات العربية المتحدة 2002م، ص 254 - 256.

[20] المرجع السابق، ص 305.

[21] عارف العارف: "تاريخ القدس" ص، دار المعارف، القاهرة 140.

[22] عارف العارف: "تاريخ القدس" ص، دار المعارف، القاهرة، ص 144.

[23] د. ياسين سويد: "حروب القدس في التاريخ الإسلامي والعربي"، ط/1 دار الملتقى بيروت - لبنان 1997م، ص 186 - 187.

[24] نقلاً عن: د. القرضاوي: "القدس قضية كل مسلم"، ص 22.

[25] انظر: إبراهيم السمري: "الجهاد في الإسلام (مفهومه - أنواعه - ضوابطه - وأهدافه)".

[26] د. ياسين سويد:حروب القدس، مرجع سابق، ص 216.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • القدس وآفاق التحدي (1)
  • القدس وآفاق التحدي (2)
  • الأقصى وملك اليهود
  • هل لليهود حق في فلسطين؟
  • القدس وآفاق التحدي (4)
  • القدس وآفاق التحدي (5)

مختارات من الشبكة

  • مخططات السيطرة على أرض الأقصى قديما وحديثا(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • لماذا تبكون القدس؟ هكذا ضاعت، وهكذا تعود(مقالة - المسلمون في العالم)
  • عرض كتاب : معاناة القدس والمقدسات تحت الاحتلال الإسرائيلي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • لن تضيع القدس(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • القدس: المكان والمكانة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مخطوطة باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس (النسخة 5)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • نكبات أصابت الأمة الإسلامية وبشائر العودة: نكبة القدس سنة 626 هـ(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • نشيد القدس (قصيدة للأطفال)(مقالة - موقع أ. محمود مفلح)
  • مولاتي مدينة القدس الشريف(مقالة - حضارة الكلمة)
  • مخطوطة باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس (النسخة 3)(مخطوط - مكتبة الألوكة)

 


تعليقات الزوار
1- بوركتم
محمود - السعودية 29-04-2010 03:57 PM

بارك الله فيكم مقال نافع وتحليل سليم

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب