• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    موقف أبي موسى الأشعري مع جندي من جنوده
    الشيخ عبدالعزيز السلمان
  •  
    النقد العلمي
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت ...
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / تاريخ
علامة باركود

اكتشاف مركز المدينة المدورة

أ. د. عماد عبدالسلام رؤوف

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 11/12/2017 ميلادي - 22/3/1439 هجري

الزيارات: 13004

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

اكتشاف مركز المدينة المدورة

 

دعوت غير مرة فيما حاضرتُ وكتبتُ إلى أن تقوم الجهات الآثارية بجهد خاصٍّ لاكتشاف موقع مدينة المنصور أو "المدينة المدوَّرة"، كما صارت تسمَّى من بعد، من ذلك مثلًا أني كتبت في جريدة الاتحاد التي يُصدرها اتحاد الصناعات العراقي سنة 1998م - مقالًا عن هذا الموضوع بعنوان: "أين مدينة المنصور؟"، أكدتُ فيه هذه الدعوة، وقلت: "لقد شاءت العناية الإلهية أن تُبقي على مساحة كبيرة من الأرض التي كانت تقوم عليها مدينة المنصور خالية من البناء حتى اليوم، ومِن ثَم ليس مستحيلًا في عراقٍ لم يعرف المستحيل قطُّ أن توظَّف الجهود العلميَّة، وتوفر الإمكانات الفنية، للقيام بحملة مكثفة وطويلة النفس، للبحث عن أسس المدينة المدورة، أو عن أيٍّ من مرافقها التليدة، وإننا على يقين بأن الأجيال المُقبلة ستذكر لأبناء هذا الجيل بكلِّ فخر أنه هو الذي نفض التراب عن مدينة الأجداد عبر القرون، وأنقذ رمز بغداد الخالدة من مطاوي النسيان، وأكد مرة أخرى نُبلَ إحساسه بالماضي، ووفائه لبُناة حضارته روَّاد العالم في تلك العصور"، وكان مما قلته أيضًا: "إذا ما علِمنا أن المدينة بأسوارها الدائرية ومركزها المتوسط، تتخذ شكلًا هندسيًّا منتظمًا، فإنه يصبح ممكنًا - إذا تَم العثور على أي جزء منها - رسمُ سائر حدودها، ومعرفة شكلها على نحو يطابق ما كانت عليه، أو قريب منه في الأقل، وأعتقد أن اكتشافًا كهذا سيكون له شأن - وأي شأن! - في العالم كله".

 

ولم تكن "الجهات المعنية" معنيةً بالأمر، فلم تحرِّكْ ساكنًا، ولكن الصدفة - والصدفة وحدها - كانت وراء اكتشاف ما أخفتْه القرون تحت أديم هذه الأرض من أسرار، وما اختبأ بين عروق نخيلها وشاطئها وصخورها، من عجائب الماضي وغرائبه التي طواها النسيان.

 

بدأت أمانة بغداد بمشروعها بتكسية شواطئ بغداد بالحجر، سنة 1999 - 2000م، وكانت ثمة بعثة آثارية مكلَّفة بإجراء مسوحات آثارية سريعة عند ضفاف دجلة قبل كِسوته بتلك المادة، علَّها تجد قبل أن تَجثِمُ الصخور على صدر تلك الضفاف، ما يُعنى به الباحثون عادةً من آثار قديمة أيًّا كان عصرها ونوعها، وفجأة تصايح أعضاء البعثة متعجبين حينما لاحظوا أن الجرافات العملاقة التي كانت تعمل في هذا المكان، قد اصطدمت بشيء صلب قد استقرَّت أُسسه في أسفل الشاطئ، إنها أُسس بناء إذًا، وهو بناء بالغ القِدم؛ لأنه يقبع في أعماق الأرض، ولأن هذا البناء كان يختفي وراء أكوام من الأتربة والطمي والأنقاض التي تخلَّفت عن العصور المتعاقبة التالية، فقد جرى رفع ذلك الركام بالجرافات ذاتها، وأخذت ملامح الأعماق تتجلَّى رويدًا رويدًا، وإذا بالأنظار تَشخَص إلى جدار أثري مغمور بالماء دلَّ على وجود استيطان أثري قديم، فما كان من رئيسة البعثة الآثارية إلا أن اتصلت على الهيئة العامة للآثار مخبرةً إياها بالمعلومات المهمة التي تكشَّفت لها، وقد وافقت الهيئة على العمل فورًا في هذه النقطة من أعمال الكَسْو، فباشرت البعثة في أعمالها، بعد أن أوقفت الشركة التي كانت تقوم بأعمال الكَسْو عن العمل، وتَم تخصيص مبلغ من المال؛ لكي تُجري البعثة التنقيب في المنطقة.

 

وما إن باشرت البعثة بالعمل حتى أخذت الأرض تُحدِّث أسرارها، وتكشف عن خفايا ما استقر في رحمها، فقد عُثر - وقد وصل الحفر إلى عمق نحو ستة أمتار - على لَقًى أثرية مُتحفية جميلة جدًّا من القوارير المصنوعة على وَفق تقنية عالية راقية، وهي من الزجاج الرقيق المُموَّه بالمينا، وبعضها صغير جدًّا كانت تُحفظ فيها العطور النفيسة لتوضع في طيَّات عمائم الطبقات المترفة، وهو ما عُرف عن الخلفاء العباسيين خاصة.

 

وعُثِر أيضًا على أوانٍ مطلية بطلاء أصفر اللون، تبيَّن للمعنيين أنه الزعفران، كما عُثِر على نماذج كثيرة من الكِسَر الفخارية المزخرفة بالزخارف المُحزَّزة، وجِرار متنوعة لكنها ذات طينة جيدة جدًّا، ورقيقة جدًّا، وبعضها مُزخرف بزخارف نباتية وهندسية تَنُمُّ عن الذوق الرفيع لصانعيها، ولمن قُدِّمت إليه من أهل الدولة والسلطان عهد ذاك.

 

وربما كان أجمل ما تَم العثور عليه قنينة عطر من الزجاج الرقيق جدًّا، ارتفاعها سنتيمتران، ملونة بألوان زاهية، وعلى بَدَنها زخارف هندسية جميلة، وبعض هذه الزخارف يصعب رؤيته بالعين المجردة.

 

ودلَّت الكميات الكبيرة والمتنوعة الأشكال من المقابض الفخارية التي رُسِمت عليها زخارفُ نباتية بالغة الجمال - على المستوى المترف لسَكَنَةِ هذا الموقع، فهذه المقابض كان ولا شك لجِرارٍ وأوانٍ كثيرة حوت فيما حوت أنواعًا من النفائس والنوادر التي تليق برقي مستوى ساكنيه.

 

ومع مُضي أعمال التنقيب تكشَّفت أسرار أخرى، ففي بعض زوايا المكان تم العثور على مجموعة من المسكوكات، منها العُملة التي كانت تعرف بالدوانيق التي اشتَهر بها الخليفة المنصور مؤسس بغداد، حتى عُرِف بالدوانيقي، وقيل: إنه كان يتخذها وسيلة لدفع أجور العُمَّال الذين عمِلوا في بناء مدينته، كما وُجِدت نقود معدنية أخرى ترقى إلى عهود سابقة على تأسيس المدينة؛ أي: إلى الحِقبة المبكرة من التاريخ الإسلامي، من بينها مسكوكة تعود إلى زمن الخليفة هشام بن عبدالملك، وهي واحدة من العملات التي كانت تُستخدم في الدولة الإسلامية قبل تأسيس الدولة العباسية وقيامها بضرب النقود باسمها.

 

وكانت مفاجأة سارة فعلًا حينما عثَر المنقبون على مسكوكة نادرة مؤرخة في سنة 157هـ، وعليها كتابة تشير إلى أنها ضُربت في مدينة السلام، وتحمل اسم الخليفة التي ضُربِت في عهده، واسمه (عبدالله بن محمد)، وهما الاسمان الأولان للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، كما جرى العثور على قطعة من الفخار دائرية الشكل حُفِرت عليها مجموعة من الأشكال الهندسية عددها (15) شكلًا بيضويًّا ومربعًا ومستطيلًا ودائريًّا، وفي داخل كلِّ شكل هندسيٍّ عبارة مكتوبة بخط دقيق جدًّا لا يُرى بالعين المجردة، وبالخط الكوفي البسيط الذي كان شائع الاستعمال في القرنين الأَوَّلين للإسلام، يتضمن اسم (عبدالله بن محمد)، وهو اسم الخليفة المنصور كما ذكرنا، ويوجد داخل كلِّ شكل هندسي عبارة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، و(بسم الله الرحمن الرحيم)، و(الله أكبر)، وهذا القرص الدائري جُمعت فيه أختامُ الخليفة المنصور كلُّها، وربما رسائله الخاصة، ومن الراجح أنها جُمِعت؛ لكي يَصعُبَ تزويرُ أختام الخليفة.

 

إذًا، نحن أمام أقدم بناء يُعثر عليه في بغداد يحمل في طيَّاته أثرَ الخلافة العباسية، فمن المعروف أن الخليفة المنصور تولى الخلافة سنة 136، وتوفِّي سنة 158 هجرية، واتَّخذ في السنين الأولى من حكمه مدينة الهاشمية الواقعة في جوار الكوفة عاصمةً له، إلا أن ثورة الراوندية عليه في سنة 140هجرية، وأسبابًا أخرى جعلته يَنفِر من الهاشمية، فاختار موضعًا كان قريبًا من سوق محلية صغيرة عند جانب دجلة الغربي، كان يُعرف بسوق بغداد، ليُؤسِّس في مكان غير بعيد عنه مدينة جديدة ستكون عاصمة الدنيا الإسلامية خلال وقت قصير، ولتَلبث قُبةً للإسلام، ومنارةً مُشعة للحضارة، يعمُّ خيرُها العالمَ كلَّه لعدة قرون، وكان واضحًا أن المكان ظلَّ مأهولًا حتى ما بعد عصر هذا الخليفة، فقد وُجِدت فيه مسكوكات أخرى في الموضع نفسه، تعود إلى فترة تالية، قريبة من عصر المنصور، منها مسكوكة مؤرخة في سنة 166 للهجرة، ضُربت في خلافة الخليفة المهدي بن المنصور.

 

وحينما مضت أعمال الحفر ورفع الأنقاض عن أسس البناء القريبة من النهر، تكشفت للبعثة الأسس الضخمة لجزء من البناء، فإذا به بقايا قاعة كبيرة، مُزيَّنة بلون ذهبي، وتشبه أن تكون قاعة عرش في قصر بالغ الروعة والضخامة.

 

نحن إذًا هنا أمام قصر فخم شُيِّد في عهد المنصور؛ أي: في عهد تأسيس بغداد نفسها، ولكن يبقى السؤال المحيِّر الذي أثار نقاشًا علميًّا في حينه: أي قصرٍ هو من بين قصور المنصور التي أنشأها في داخل مدينته المدورة وفي ضواحيها؟ والسؤال يكتسب أهميته من الناحية الخُططية؛ من حيث إن تعيين حقيقة القصر سيؤدي إلى تعيين كثيرٍ من المواقع المندثرة التي وردت أوصافُها في كتب التاريخ، ونجهل اليوم معالمها؛ بسبب عدم وجود إحداثيات خططية تعين الباحث على تعيين مواقعها في أرض تبدَّلت وظائفها وطبيعتها مرات عدة.

 

وجاءت الحفريات على العُجالة التي جرت بها، لتقدم الدليل الواضح الذي لا يقبل الشكَّ على أن هذا القصر ليس إلا قصر المنصور الرئيس، ومقر حكمه الرسمي الذي كان يتوسَّط المدينة المدورة، مدينة السلام تمامًا، وهو القصر الذي عُرف في التاريخ العباسي بقصر "باب الذهب"؛ ذلك أنه عُثر تحت القصر على قناة تحت الأرض معقودة من الداخل بالطابوق الأحمر، وكذلك الجدران، أما الأرضية فكانت مبلطة بالطابوق الفرشي ذي القياس 25× 25×4سم، وبطابوق ذي القياس 33×33×7سم، والجص والرماد والنورة، تتجه نحو جهة الشمال الغربي؛ أي: باتجاه ضواحي الكاظمية الغربية لمسافة ما لم تُعرَف بسبب توقُّف الحفريات نفسها.

 

وكانت هذه القناةُ تتصل من مسافة لأخرى بآبار لها فتحات خارجية، فهذه القناة العجيبة هي التي أنشأها الخليفة المنصور تحت قصره - في خبر أورده المؤرخون - لتصل بين قصره وبين مجرى نهر كرخايا الآخذ من نهر الفرات في الشمال الغربي من المدينة المدورة التي قَدَّر المنصور نفسُه طولَها بنحو فرسخين[1]، وكانت هذه القناة المعقودة قد اتخذها المنصور لغرضين، أحدهما: دفاعي، وهو إيجاد مخرج للمحاصرين في المدينة المدورة إذا ما حاصرها عدو، وأحاطوا بأسوارها العالية، فلم يُمكِّنوا أحدًا من مغادرتها لأي سبب، وثانيهما: إروائي، وهو اتخاذ القناة سبيلًا لتزويد المدينة بالماء المتدفق من نهر كرخايا الآخذ من الفرات كما ذكرنا[2].

 

إذًا فقد طابقت المعطيات الآثارية النصوص التاريخية الخاصة بقصر باب الذهب تطابقًا تامًّا لم يعد فيه مجال لاجتهاد أو رأي، وهكذا أنهى هذا الاكتشاف جدلًا طويلًا بين المعنيين بخطط بغداد منذ نحو قرن كامل حول مكان المدينة المدورة.

 

ولا تنحصر أهمية هذا الاكتشاف في معرفة واقع القصر، كونه المقرَّ الرسمي الوحيد للخلافة العباسية في عهودها الأولى، وإنما لأن بواسطته يمكن تحديد مواقع المؤسسات الرئيسة لمدينة السلام في تلك العهود والعهود التالية أيضًا؛ ذلك لأننا نعلم أن هذه المدينة كانت تتخذ شكلًا دائريًّا كامل الاستدارة، ويقع قصر باب الذهب في نقطة مركزية على قُطرَيها المتعامِدَين، فمعرفة هذه النقطة من شأنها معرفة مكان حدود المدينة نفسها، ويمكن تحديد موقع سورها وأبوابها الأربعة: باب خراسان، وباب الشام، وباب الكوفة، وباب البصرة، كما يمكن تحديد عقودها وطيقانها وأسواقها ومؤسساتها الأخرى، وهي التي يفصلها عن القصر أرض خالية من البناء كانت تسمى "الرحبة".

 

وإذ صرَّح المؤرخون بأن البناء الوحيد الذي كان يجاور القصر هو جامع المدينة عهد ذاك، وهو المسمَّى "جامع القبة الخضراء"، فإن معرفة حدود القصر تفيد أيضًا في معرفة موقع هذا المسجد الجامع الذي كان أول مسجد شُيِّد ببغداد، وكان رمزًا لعزِّها ومجدها لعدة قرون.

 

لقد أفاض المؤرخون في وصف قصر المنصور هذا، وقالوا: إن في وسطه القبة الخضراء التي كانت ترى من أطراف بغداد، وكان على رأس القبة تمثال على صورة فارس في يده رمح، وكان تحت القبة مجلس بمستوى الأرض مساحته عشرون ذراعًا في مثلها، ويرتفع عقده من الأرض بنحو عشرين ذراعًا، وعليه مجلس أُقيمت عليه القبة الخضراء التي يبلغ ارتفاعها ثمانين ذراعًا فوق سطح الأرض، وكان في صدر المجلس إيوان عظيم عرضه عشرون ذراعًا وارتفاع قوس الإيوان عن الأرض ثلاثون ذراعًا، فهذا المجلس إذًا هو ذاته ما جرى العثور على أُسسه الضخمة عند أسفل شاطئ دجلة على عمق أكثر من ستة أمتار من مستوى سطح الأرض، وهو ما سمَّته البعثة الآثارية عن حق "قاعة العرش"، فهذه هي نفسها وظيفة القاعة كما نص عليها المؤرخون السابقون[3].

 

والعجيب الذي سكتتْ عنه كتبُ التاريخ كلُّها، وكشفت عنه الحفريات - أن القصر كان يقع فوق آثار مقبرة تعود إلى ما يسمَّى بالعصر الفرثي؛ أي: إلى المدة الممتدة منذ ثلاثة قرون قبل الميلاد إلى ثلاثة قرون بعده، فقد عُثر بعمق يناهز الاثني عشر مترًا على بعض القبور المنشأة على وَفق النوع السائد في تلك القرون، ويمكن وصفه بأنه يُشبه آنية طولية من الفخار، تُغطَّى فُوَّهتُها - حيث رأس الميت - بغطاء من الفخار أيضًا.

 

لقد شهد هذا القصر المدهش فصولًا حافلة من تاريخ بغداد، فإنه كان المقر الرسمي للمنصور وللخلفاء الأوائل الذين تولوا الحكم بعده، ومع أن الرشيد لم يبقَ فيه، فقد عاد ابنه الأمين فاتخذه بلاطًا له، وأضاف إليه قسمًا جديدًا، وكان الأمين قد احتمى بهذا القصر في أثناء محاصرة جيوش أخيه المأمون له في سنة 198 هجرية (814 ميلادية)، وتحصَّن رجاله بأسوار المدينة المدورة، وكان من جرَّاء ذلك أن أصاب القصرَ كثيرٌ من التدمير بالمجانيق التي نصَبها طاهر بن الحسين قائد جيوش المأمون في أرباض المدينة، أما القبة الخضراء التي كانت تعلو قاعة عرشه فقد ظلت قائمة حتى سقط رأسها في سنة 329هجرية (941م)، وكان في أثناء سقوطها مطرٌ عظيمٌ ورعد هائل وبرق شديد، ومع ذلك فقد بقيت جدران القبة قائمة إلى أواخر أيام الدولة العباسية، وسقطت نهائيًّا في سنة 653هجرية (1255م)؛ أي: قبل ثلاث سنوات فقط من احتلال المغول بغداد، وزوال الخلافة نفسها.

 

إن العثورَ على قصر المنصور هذا من شأنه أن يُصحِّح تصوُّرات سابقة حول موقع المدينة المدورة، فهي بموجب هذا الاكتشاف كانت أعلى من الموقع الذي سبق أن حدَّده باحثون من قبلُ معتمدين على المعطيات الأدبية والتاريخية وحدَها، وأن موقعها الجديد يأتي منسجمًا مع موقع الرصافة، وهي الأعظمية حصرًا في ذلك العهد التي أنشأها الخليفة العباسي المهدي في وقت قريب من عهد إنشاءِ المنصور مدينتَه، حيث كان الجسرُ يربط بين الجانبين في خطٍّ مستقيم يصل باب خراسان - أحد أبواب المدينة - بباب خراسان الكائن في سور الرصافة من الجانب الشرقي.

 

إن قصر المنصور بموقعه الذي جرى كشفه عند شاطئ دجلة في منطقة العطيفية الحالية، يكشف بجلاء ووضوح مقدارَ إزوِرار نهر دجلة الذي استمر في القرون التالية حتى جرف نصف المدينة تقريبًا، فنصف هذه المدينة يقبع الآن في قاع دجلة، في المنطقة التي تفصل بين العطيفية والأعظمية، ومن الراجح أن جزءًا من الأعظمية - حيث كورنيش الأعظمية الحالي - كان يؤلف جزءًا من الجانب الغربي، يوم كانت المدينة المدورة تترامى على أرض واسعة لم تكن مياه دجلة قد جرفت شيئًا منها بعدُ.

 

إن وجود القصر على نهر دجلة - وقصر المنصور كان يقع في وسط المدينة المدورة بالضبط - فهذا لأن دجلة جرف نصف المدينة المدورة تدريجيًّا، فلم يبق إلا نصفها الغربي، أما النصف الشرقي فما زال يقبع في قعر دجلة، وقد استعنت لإثبات هذا التغيير في مجرى دجلة بدلائل عدة، أهمها صور (التحسس النائي) التي التقطتها الأقمار الصناعية لمجرى النهر، وحصلتُ على دلالاتها من خلال عونٍ مشكورٍ قدمه في حينه الدكتور جعفر ضياء جعفر.

 

لقد كان يمكن لهذا الاكتشاف أن يكون اكتشافَ القرن، ليس على مستوى العراق فحسب، وإنما على مستوى الإنسانية كلِّها، فليس قليلًا على الإطلاق أن يجري اكتشاف اللبنة الأولى في مدينة اقترن اسمها بالحضارة والثقافة والنظم والإدارة لخمسة قرون عاشتها يوم كانت بغداد عاصمة الخلافة العباسية، ولقرون ثمانية تالية، تقلَّبت فيها بغداد بين مختلف الظروف، وتحدَّت فيها كل أنواع الكوارث البشرية والطبيعية، لتُثبت للعالم وبجدارة أنها الأقدر على مواجهة أقسى التحديات وأعتاها.

 

وكان مؤملًا في تقدير الباحثين والخططيين أن تستمر دائرة الآثار بالعمل من أجل إتمام ما بدأت بعثتها التنقيبية من كشوف مذهلة، إلا أن مفاجأة غريبة خيبَّت الظنون وأحبطت الآمال، فقد أوقف المعنيون في هذه الدائرة أعمال البعثة على نحو مفاجئ مثير للريبة، وجرى لَوم بعض أعضائها ممن صرَّح للصحافة بما جرى الكشف عنه، وحينما أخذ خبر الاكتشاف بالذيوع في الأوساط العلمية، وارتفع معه صوتها بالتساؤل المشروع عن الأسباب الكامنة وراء إيقاف العمل، ومسوغات إحاطة الاكتشاف بكل هذا الصمت، اضطر المعنيون في دائرة الآثار يومها إلى تحريك "شَفلاتهم" ليس من أجل المضي في الحفر هذه المرة، ولكن من أجل إهالة أطنان الأتربة على ما جرى اكتشافه، وهكذا تم دفن ما قدَّر الله ظهوره، وتوقف المعنيون عن الإدلاء بأي تصريح عن سبب ذلك التصرف العجيب الذي يخالف قانون الآثار الذي يدعو إلى التنقيب عن الآثار وإبرازها والعناية بها، والمحافظة عليها بمختلف الوسائل العلمية والفنية.

 

وحينما نشرت إحدى المجلات الأسبوعية[4] مقالًا تساءل فيه صاحبه عن أسباب دفن القصر ذي الأهمية التاريخية والإنسانية الفريدة، كان ردُّ الدائرة المعنية - ويا للغرابة - بأن ذلك التصرف هو من حقِّها، وأن دفن الحُفر الناجمة عن التنقيب، يحمي المنطقة من خطر تكاثر البعوض والذباب، فما أعجبه من سبب لدفن ما سماه الباحثون باكتشاف القرن الواحد والعشرين!

 

وبالطبع فإن السبب المعلن لم يقنع أحدًا على الإطلاق، بل دفع آخرين بالتهامس عن حقائق أكثر إقناعًا مما قيل[5].

 

جانب من قاعة العرش مبلطة بالآجر الكبير

 

من بقايا القصر

 

كِسَر من فخار يعود إلى عهود إسلامية مبكرة


جِرار من الفخار عليها زخارف


مشهد عام لموقع القصر قبل البدء بعملية التنقيب

 

كِسَر لأوان من الفخار عُثِر عليها في الموقع


[1] ابن الساعي: مناقب بغداد، تحقيق: د. محمد عبدالله القدحات، عمان، دار الفاروق، 2008م، ص43.

[2] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، ج1، ص79.

[3] لا بد أن أذكر هنا السيدة رئيسة فريق التنقيب التي تعاطفت مع دعوتي إلى إتمام عمليات التنقيب، وقدمت لي – مشكورةً - الصورَ المرفقة بهذا البحث.

[4] الصحفي سلام الشماع في مجلة ألف باء.

[5] حينما راجع سلام الشماع دائرة الآثار لم يرَ إلا وجوهًا عوابس، وتهديدات مبطنة بإغلاق الموضوع وعدم طرحه في الصحافة، وحينما أبلغتُ الأمر إلى وزير الثقافة والإعلام لم يكن ردُّ فعله بأفضل من رد فعل دائرة الآثار، وأشيع في حينه أن موقع القصر كان قريبًا من أرض كانت تستحوذ عليها امرأة ذات نفوذ وحظوة، ولم يكن مرغوبًا أن تجري أعمال تنقيب قريبة من أرضها... والله أعلم.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • رحلة عالي بك إلى بغداد
  • آل الرواف في بغداد
  • منافع الأحجار
  • مشروع رحلة الأمير فخر الدين السرية إلى مكة

مختارات من الشبكة

  • افتتاح مركز دراسات القرآن الكريم بالمسجد المركزي بمدينة أرسك(مقالة - المسلمون في العالم)
  • أوكرانيا: افتتاح المركز الإسلامي لتتار القرم بمدينة ليفوف(مقالة - المسلمون في العالم)
  • المركز الإسلامي في غنغندي شمال غانا(مقالة - المسلمون في العالم)
  • ألبانيا: اكتشاف آثار جامع قديم في مدينة شكودرا(مقالة - المسلمون في العالم)
  • قراءات اقتصادية (51) المعرفة وثروة الأمم قصة اكتشاف اقتصادي(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • تجربتي مع تصحيح البحوث واكتشاف السرقات(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الآثار النفسية بعد اكتشاف الخيانة الزوجية(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • كيف أستعيد ثقة زوجتي بعد اكتشافها خيانتي؟(استشارة - الاستشارات)
  • دور الأمهات في اكتشاف مواهب الأبناء(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • الموهوبون: صفاتهم وطرق اكتشاف الموهبة وفن التعامل معهم (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب