• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    موقف أبي موسى الأشعري مع جندي من جنوده
    الشيخ عبدالعزيز السلمان
  •  
    النقد العلمي
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت ...
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / سير وتراجم
علامة باركود

يوم متميز في حياتي.. لقاء مع عالم جليل

جلال خشيب

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 27/1/2016 ميلادي - 16/4/1437 هجري

الزيارات: 6203

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

يوم متميز في حياتي.. لقاء مع عالم جليل

 

بعد مرور أربع سنوات ذكرني الفيس بوك بهذه الصورة العزيزة علي، يومُ شرفٍ كبير أكرمني الله به حينما كتب لي المولى تعالى لقاء العالم الجزائري الجليل الشيخ عبده إدريس، الذي غادرنا قبل عامين تقريبًا إلى جواره ربه، فرحمة الله على شيخنا الجليل، وجزاه الله عن الأمة خير الجزاء.. لم أكتفِ يومها بحفظ هذه الذكرى العزيزة في الذاكرة وحسب، فلم يطق قلمي إلا أن يكتب شيئًا يخلد به الذكرى حتى لا تفنى، فكانت هذه القصة القصيرة التي كتبتها قبل أربع سنوات تذكرني - كلما أطالعها - بعالمنا الجليل، وتبقي بسمته الجميلة مرتسمة بين عيني إلى الأبد..


استيقظت يومها مبكرًا على غير عادتي؛ إذ تعودت النوم إلى وقت متأخر من النهار وكأني صاحب شركات كبرى لا يخشى الفاقة أبدًا، لم أكن حينها أدرك أن يومي هذا سيكون متميزًا، ما جعلني أترك وسادتي الدافئة في ذلك اليوم البارد الذي تعرفه مدينتنا هذه الأيام هو رغبة أختي في أن يرافقها أخوها الأكبر إلى البلدية التي يقطن فيها زوجها المستقبلي لعقد قرانها المدني رفقة الأهل، فبالرغم من كرهي الشديد لهذه المناسبات وهذا النوع من الرسميات بما فيه زيارة أهل الزوج الذين سيعدون الولائم إكرامًا لهذا اليوم وأهله فإني وجدت نفسي مرغمًا على الذهاب، تحقيقًا لرغبة أختي الغالية، فذلك سيجعلها أكثر سعادة، رغم أن في الأمر تعاسة لي؛ للسبب الذي ذكرت، على كل حال تذكرت قول شاعرهم يوم قال: لو كان حبك صادقا لأطعتَهُ = إن المحبَّ لمن أحب مطيع" ... نهضت على مضض، أخذت الإجراءات اللازمة من "جال وحلاقة وعطر"، أنتم تعرفون لا يدري الواحد أين سيجد حظه! لذا عليه بأن يكون مستعدًّا في كل حين.. وبينما أنا كذلك إذ أخبروني أن هناك مفاجئة سارة، فللزوج صديق سيكون شاهدًا على زواجه، وأنه لا يقوم بذلك إلا للقلائل من الناس، كان صديقه هذا أحد العلماء الكبار في بلادنا، وإن لم أكن أبالغ قليلًا كان حجمه يقاس على مستوى عالمنا العربي والإسلامي عمومًا، حسب ما أخبروني به فيما بعد، مع ذلك لم أشعر لحظتها بحماسة كبيرة لملاقاة الرجل؛ فقط لكوني لم أسمع به من قبل... استأجرنا سيارة، ومضينا نسلك دربنا متأملين جمال الطبيعة في جوها البارد الذي تصحبه زخات قليلة من مطر الشتاء؛ لذا لم أشعر ببعد المسافة قليلًا؛ فرغبتي الجامحة في مواصلة النوم وحبي لتأمل جنبات الطريق حين السفر خلق التناقض في نفسي، فلم يكن مني إلا أن رضخت لحبي الثاني مطرقًا في نفس الوقت سمعي إلى ما يبثه مذياع السيارة الذي كان مضبوطًا على إذاعة سيرتا، بين نكت وغناء ومداخلات المستمعين عبر الإذاعة من جهة، وبين جمال الطبيعة وسخريتي من أختي تارة وأمي تارة أخرى طول الطريق من جهة أخرى، مرت الطريق كلمح البصر، بالطبع لم أكن لأصل معهم لو وجهت لساني السليط قبلة أبي؛ لذا تجنبت ذلك؛ مخافة أن أرجع إلى البيت مشيًا على الأقدام مع طول المسافة وبرد المسير...


وصلنا أخيرًا إلى بلدية عين المكان، عذرًا أصدقائي فلنسمها أي شيء إلا بلدية، "بيت صغير"، ووحل كثيف في محيطها القريب، وعلى عتباتها، مياه أمطار داخل مكتبها، والأكثر من ذلك موظف متواضع ومهذب، حسن السلوك، حضر إلى مكتبه بشق الأنفس ليقوم بعمله، وليقول لهم بلسان رطب ولطيف: "والله عيب، كان عليكم إخبارنا من قبل أن الناس قدموا من قسنطينة، على الأقل كنا سننظف المكان، ونمسح هذه المياه داخل المكتب"، كان الرجل يشعر بثقل المسؤولية بالفعل، وكان ذلك يشعرنا بالخزي، تبًّا لنا! لماذا لم نخبر الرجل من قبل؟! كنا سنحظى حينها باستقبال أفضل، كان سيفرش لنا الورود، كان موظفًا مثاليًّا، وأسوة يقتدى بها لكل موظفي بلدياتنا في جمهوريتنا العظيمة.. دخلنا المكتب، وأخذ الحاضرون أماكنهم، أخذت مجلسي المفضل على حافة الأريكة؛ لأتمكن من وضع مرفقي الأيمن على حافة الأريكة وبشكل جيد، مرجعًا جسدي إلى الخلف، بينما تلامس أصابع يدي اليمنى ذقني كالعادة، رافعًا قدمي اليسرى على اليمنى، تلك هي الجلسة التي أتخذها لحظة الاستمتاع بملاحظة ما يدور حولي.. جلس المعنيان قريبًا من المكتب، وجلس شيخنا الجليل رفقة البقية قريبًا بمحاذاتهما، كان المكتب عبارة عن غرفة صغيرة مبعثرة، بها أريكتان مخصصتان للزوار، كرسيان قريبان من مكتب الموظف، الذي يعلوه صورة لرئيسنا المبجل رحمه الله، لا أقصد رئيسنا الحالي، فلا تظنوا أني أستعجل رحيله؛ فالرجل لم يتسبب لي في شيء، وعازم إن شاء الله على أن أدعو له بالخير يوم رحيله بعد أن أنال في عهدته "الفيزا" بالطبع، لقد كانت الصورة للرئيس بومدين رحمه الله، ما أثار في نفسي تساؤلات عدة، ألم يتغير شيء في هذه البلدية اللعينة منذ عهد رئيسنا الراحل؟ بالإضافة إلى أسئلة أخرى لا أريد طرحها الآن؛ مخافة أن أكمل بقية حياتي "الجميلة" بين أربعة جدران.. هذا بالإضافة إلى حزمة أوراق ودفاتر عائلية مبعثرة على الجانب الأيمن لأريكتي، بالإضافة إلى باب يؤدي إلى مكتب مجاور يغلق على الطريقة الجزائرية، يتعامل معه الرجال دون النساء؛ لأنه يستلزم عضلات ليفهم منك ما تريده بالضبط.. على كل حال، فلنرجع إلى موظفنا اللطيف، كان من شده لطفه أو حيائه - لم أفهم بعد - يتجنب النظر إلينا، ظننت في البداية أن الرجل يغض بصره عن الحرمة، لكن تبين لي أنه يغض بصره عن الجميع، بما فيهم شيخنا الأسمر الجليل بلحيته البيضاء الوقورة، حينها تأكدت يقينًا أن الرجل يفعل ذلك من شدة تواضعه الجميل، يمضغ العلكة، ويتكلم بلغة الآمر مستعملًا في ذلك كفه، دون أن تحظى على الأقل بفرصة مواتية لرؤية عينيه الجميلتين، همست حينها للوالد لافتًا انتباهه لتواضع موظفنا الجليل، مقارنة بتكبُّر شيخنا المتعالي، فهمس في أذني اليسرى قائلًا: "من المؤكد أن شيخنا هذا لا يحمل شهادة تعليمية إلا شهادة ميلاده"؛ لذا أردت أن أذكر حينها شيخنا المتكبر ببيت من الشعر؛ علَّه يتواضع قليلًا في حضرة موظفنا العظيم:

مَلْأَى السنابلِ ينحنين تواضعًا ♦♦♦ والفارغاتُ رؤوسهن شوامخُ


فلتتعظ يا شيخ.

انتهت مراسيم التسجيل المدني، ووقفت أبارك للزوجين، وألتمس الدعاء من الشيخ، كما لم أفوت تلك اللحظة العظيمة في تقبيل رأس شيخنا المتكبر، وأخذ صور تذكارية معه، وتلهف الجميع لذلك أيضًا، وسط حيرة موظفنا اللطيف الذي أدرك حينها أن للشيخ المسن قيمة معينة، فقام فورًا إلى تقبيله، وبذلك حظي أحدنا على الأقل بشرف النظر إلى عيني موظف البلدية، بل وبتقبيله أيضًا.. ماذا تبقى إذًا؟ إنها الوليمة...


في طريقنا إلى هناك أردت أن أعرف المزيد عن شيخنا هذا؛ لذا فقد أطرقت سمعي للزوجين الجديدين وهما يقصان عليَّ شيئًا عن حياة شيخنا الجليل، إنه الشيخ إدريس حفظه الله، لم يكن الرجل جزائري الأصل، بل كان إثيوبي المولد، درس في الأزهر الشريف أيام شبابه رفقة الشيخ يوسف القرضاوي الذي كان زميلًا له، بل لقد تحصل على شهادته من هناك قبل الشيخ القرضاوي نفسه، تخصص في أصول الفقه حسب ما ذكر لي، وله العديد من المؤلفات القيمة، كما أن الرجل ورغم سنه الطاعنة لا يزال يَراعُه يكتب بلا كلل ولا ملل؛ إذ يقوم شيخنا في بعض الأحيان بإعداد بحوث واجتهادات تكلفه بها وزارة الشؤون الدينية، فإذا استعصت عليهم مسألة فقهية معينة رجعوا إلى علم الرجل، أجل لا يزال يسعى في طريق العلم دون يأس، أو حتى دون أدنى تذمر.. أكيد أنتم تستغربون لما أقول ذلك: "بلا يأس أو تذمر"؛ لذا سأخبركم كيف يعيش الرجل.. لقد أخبرني صديقه "زوجُ أختي" أن الشيخ يعيش مهمشًا جدًّا، لا أحد يسأل عن حاله، ولا أحد يأبه لأمره، يعيش في حي شعبي، يستقل حافلة الطلاب كل صباح متجهًا إلى الجامعة الإسلامية في قسنطينة كل تلك المسافة - وهو الشيخ الطاعن في السن - كغيره من الطلبة، يختنق كما يختنقون، قد يقوم له أحدهم فيتكرم بمجلسه للشيخ الكبير، وقد لا يفعل، يدرس هناك، ثم ينتقل إلى ملحقة الجامعة على قدميه والرجل يعاني - كما أخبرني فيما بعد - من آلام حادة في ركبته اليمنى تجعله يتحرك ببطء شديد!!! هكذا تعامل جمهوريتنا العظمى علماءنا الكبار، في حين لا تتوارى خجلًا وتستنجد بعلمهم عندما تقتضي الضرورة، لكن إخلاصه لله وسعيه للعلم في سبيل هذه الأمة البائسة جعله يطلِّق الدنيا، ويطمع إلى ما يخفيه له الله جل في علاه من خير بإذنه تعالى.. لقد قذف الله في قلوب الناس حب الشيخ إدريس، لا سيما طلبة العلم؛ إذ وبمجرد قدومه إلى الجامعة ستجد جمعًا من الطلبة ملتفًّا حوله، يطمئنون على حاله، ويعرضون مسائلهم عليه، وتجده يتفاعل معهم بكل تواضع دون أن تغادر الابتسامة محيَّاه..


وصلنا إلى البيت، ووصل معنا الشيخ في سيارة أخرى، دخلنا البيت وأخذنا مجلسنا، كنا حوالي ستة رجال، وكنت أنا أصغر الحاضرين سنًّا، أخذت مكانًا مواجهًا للشيخ، وأخذ صديق الزوج مكانه محاذيًا للشيخ، وبدون مقدمات أخذ يسأل الشيخ بغية التعلم، فتح معه موضوعًا في القراءات، بينما كنت أجلس أنا على الجمر، شعرت حينها بحماسة شديدة؛ كوني أجلس في مجلس عالم كبير، وفي غرفة واحدة جنبًا إلى جنب، كان الشيخ يطنب في شرحه، ويقلِّب بصره بين الحضور، وللأسف لم أكن من أولئك الذين حظُوا لحظتها بشرف ذلك، ربما لم يُعِرِ اهتمامه بي، ابتداءً كوني محاطًا "بأصحاب الشوارب"، كوني أصغر الحاضرين سنًّا، لم أستطع كبح حماستي، وأردت أن أفتح معه موضوعًا معينًا، استغللت سكوتًا جزئيًّا بينهما لأرفع يدي قائلًا: "يا شيخ، لدي مسألة بالغة الأهمية، أردت أن ألفت انتباهه "بمسألتي بالغة الأهمية"، إلا أن الشيخ استمر في حديثه عن القراءات مع صديقنا هذا، فأنزلت يدي على الفور وكأني أريد إخفاءها عن الأنظار، تمنيت حينها لو انشقت الأرض فجأة لتبتلعني كأني لم أكن موجودًا بينهم، لأتمكن من الهروب بشرفي من هذا الموقف المحرج، لاحظت ضحكات مكبوتة، وقد لاحظ ذلك الصديق موقفي الحرج ليخبرني حينها أن سمع الشيخ ضعيف جدًّا؛ لذا عليَّ الاقتراب منه أكثر فأكثر ليتمكن من سماعي جيدًا، أرجعَتْ كلماته تلك أنفاسي الضائعة، وأدركت أن الشيخ لم يتعمد تجاهلي، وأنه لم يسمعني من الأساس، اضطررت إلى سماع حديث القراءات، ثم حديث جانبي للشيخ مع حاضر آخر عن إضرابات الأساتذة والحكم الشرعي لذلك، حقيقة كدت أختنق لهكذا مواضيع، ورأيت أنها فرصة لا تعوض، استغللت حديثهم لأحسم الموضوع الذي أريد فتحه مع الشيخ، كنت سأحدثه عن موضوع له علاقة بالفلسفة الإسلامية، لكني قدرت أنه موضوع غير مناسب لذلك المقام؛ لذا قررت أن يكون حديثًا في السياسة؛ كونها تخصصي أولًا، ثم لأن كل أفراد شعبنا العظيم يفهمون جيدًا في السياسة - بالإضافة إلى الدين وكرة القدم - لذا لن يكون موضوعًا غريبًا عن الحضور غرابة موضوع الفلسفة، ما إن أنهوا حديثهم عن الإضراب حتى أخذت مكانًا ملاصقًا للشيخ، جلست إلى يساره، واقتربت كثيرًا حتى يتمكن من سماعي جيدًا، ونظرًا لكونه أجنبيًّا عن لهجتنا العامية - رغم تعميره زمنًا طويلًا بين ظهرانَيْ أهلها - فقد فضلت أن أحدثه بلسان عربي مبين، ابتدأت حديثي على الفور وبسرعة، وكأن سجينًا أطلق سراحه للتو، ولساعات معدودة وحسب، فيحاول القيام بكل شيء في زمن قصير: "بداية أعرف بنفسي يا شيخ، أنا طالب متخرج قسم العلوم السياسية و..." فقاطعتني ضحكات للشيخ ممزوجة بشيء من الاهتمام، وكأن لسان حاله يقول: أنت تريد لي المشاكل يا غلام، لاحظت انتباهًا للشيخ، وإنصاتًا بوقار، ساعدني كثيرًا على الانطلاق في طرح مسألتي، ابتدأت حديثي أنه ولكوني أدرس السياسة ومشتقاتها أجد نفسي في خضم نقاشات دائمة مع أناس ذوي اتجاهات فكرية مختلفة، منهم العلماني ومنهم الإسلامي، منهم الاشتراكي ومنهم الليبرالي، الوسطي والمتطرف.. لذا فالناس مختلفون حول ما يجري اليوم في عالمنا العربي، مما يسمى بالثورات العربية، باختلاف منطلقاتهم الفكرية، استغللت معرفته الكبيرة بالشيخ القرضاوي، ففجرت النقاش متحدثًا عن فتواه التي أثارت كثيرًا من الحبر، كان الشيخ يجيب بإطناب مستشهدًا بالكتاب والسنة، بأقوال العلماء ومواقفهم، بتاريخنا الإسلامي الواسع والمثير للجدل؛ لذا حاولت توجيهه بأسئلتي في كل مرة.. أدركت أني أمام موسوعة حقيقية، علم غزير مصقول بخبرة سنوات، إلا أن ذلك لم يجعلني أكتفي بسماع قصصه، بل حاولت استفزازه أكثر من مرة مبديًا وجهات أخرى مخالفة لما كان يقول، وكأنها وجهات نظري الخاصة، حتى أجعله يدلي بما لديه أكثر فأكثر، تحدثنا عن الأوضاع في ليبيا مصر والشام، عن الصعود الكبير للحركات الإسلامية في الساحة السياسية اليوم نتيجة لهذه الثورات، وكنت أحرص في كل مرة أن أستخلص اجتهاداته الشرعية تجاه المسألة، كنا نتحدث وكأننا نعرف بعضنا البعض منذ الأزل، احتكرت الحديث معه طيلة الجلسة، واكتفى أصحاب الشوارب بالمشاهدة بانبهار، كان الوالد يصور حديثنا عبر هاتفه النقال، وشعرتُ حينها وكأني في حصة على المباشر في إحدى الفضائيات العربية الشهيرة ..


جاءت الوليمة، وتجمَّع الكل حول المائدة اجتماع النسور الجارحة على الجثث ميتة، إلا أن ذلك لم يمنعني من مواصلة الحديث مع الشيخ الذي كان يفيض في كلامه دون ملل، بدا لي أنه يستمتع بمحادثتي، هذا ما جعلني أستغله أكثر فأكثر دون أن أشفق على سنه ولحيته البيضاء؛ لذا عاتبني الآخرون مبدين تعاطفهم مع الشيخ الذي يبدو أني جعلته يستنزف قواه بلا رحمة أو شفقة، لقد لاحظ أحدهم حيلتي، ففضحني أمام الجميع، كنت أطرح أسئلتي لأترك ملعقة الشيخ المسكين معلقةً في الهواء وهو يتحدث في حين أغتنم فرصة حديثه لأهجم بملعقتي على الموجود، لم يبدِ شيخنا أي علامة للاستياء؛ لأنه وجد التشويق في الحديث معي، تحدث عن بعض تجاربه أيضًا، ونقاشاته الفكرية مع الآخرين، كان مما قصه لي وبقي راسخًا في ذاكرتي حديثه مرة من المرات مع مفكر عقلاني - كما وصفه - غير مسلم، قال له: يا شيخ، نحن في أوروبا نستغرب المشاحنات الكبيرة التي تصل حد اللجوء إلى العنف لمجرد الاختلاف بينكم أنتم المسلمين، بالرغم من أن دينكم دين العقلانية بامتياز، في حين تغيب هذه العقلانية بالنسبة لأديان أوروبا بين كاثوليك وبروتستانت، ولا يلجأ أصحابها إلى هذا العنف، لقد أصابت كلمات شيخنا هذه صميم فؤادي، كما أبدت سماحة شيخنا إدريس وفهمه الجيد والوسطي لديننا الحنيف، كان يكرر كلماته باستمرار "يا بني، إن الاختلاف في ديننا رحمة؛ فلا ينبغي أن نجعله نقمة علينا.. بعد أن تهدأ هذه الفوضى وينقشع الضباب سوف يكتب التاريخ تاريخه، ولن يرحم حينها أيًّا ممن تسبب في مآسينا"، أو كما قال شيخنا الجليل.


أردت أن أستمر في النقاش معه، إلا أن موعد الظهر كان قد حل، استأذننا الشيخ في الانصراف؛ لأن له مريضًا ينبغي أن يعتني به، كما أنه منشغل بإعداد بحث تم تكليفه به، ساعدت شيخنا على النهوض بعناء على طريقته كما قال؛ لأنه يعاني من آلام حادة على مستوى الركبة كما أخبرني، وحينها سألني عن اسمي - يبدو أني أحدثت أثرًا حسنًا في نفسه - فكرت بألا أعطيه اسمي؛ لأنه من العيب أن الشيخ لم يكن يعرفني من قبل رغم صيتي الواسع وشهرتي الكبيرة بسبب مؤلفاتي الضخمة التي تملأ الآفاق، فكيف لي أن أمنح اسمي لشخص لم يكتب في حياته سوى مقال واحد وعلى الفيس بوك أيضًا ثم لا يحظى في النهاية باهتمام أحد، سوى من بعض الأصدقاء - ومن باب المجاملة أيضًا - وببعض من تعليقاتهم المقتضبة، وأخيرًا تواضعت قليلًا، اقتربت من سمعه وذكرت له اسمي، فابتهجت أسارير الرجل ورفع رأسه إلى السماء: "الجلال، الله أكبر، عظيم"، سُرِرْت لأنه أعجب باسمي، إلا أن سروري انقطع فورًا بعد سؤاله هذا: "هل اسمك جلال أم جلال الدين أو عبدالجلال أو عبدالجليل؛ لأنه في الغالب يرفق اسم الله بوصف لموصوف" .. لحظةَ إذنٍ التفتُّ إلى والدي وكأني أوجه نقمتي عليه: "ولدكَ ولد مشكلاتٍ؛ حتى اسمه يطرح تساؤلات، لماذا غيرت الاسم الذي أطلقته علي والدتي ابتداءً تبًّا ل.. " على باب الخروج تمنيت من الشيخ أن يكون لي حديث معه يومًا ما، فأخبرني أن لي ذلك، وما عليَّ سوى الاتصال بصديقه، شكرت شيخنا إدريس شكرًا جزيلًا، وتوجهنا صوب المسجد لأداء الصلاة.


انتهت مغامرتي تلك على مقعد السيارة إلى جانب والدي متجهين صوب بيتنا، مسترجعًا في ذهني طيلة الطريق نقاشاتي مع الشيخ إدريس حفظه الله، ونفعنا بعلمه إن شاء الله، كان الوالد يتحدث عن جمال السيارة الجديدة المستأجرة، متمنيًا أن يرزقه الله بسيارة مشابهة مستقبلًا "ولمَ لا؟! زوجة جديدة أيضًا"، هذا ما قرأته في عينيه، في حين كانت الوالدة تتحدث عن البنايات والعمارات الجديدة المشيدة على طول الطريق، متمنية أن تحظى ببيت جديد كما وعدت حكومتنا الموقرة سكان حينا البئيس، أما العروس الجديدة فأكاد أجزم أنها كانت تفكِّر في زوجها، وتعيش معه أحلامًا وردية في مخيلتها، في حين كنت مهمومًا في سري، أندب حظي، ماذا لو فتح الله عليَّ يومًا ما فتحًا مبينًا، ستكون لي حتمًا لقاءات أكثر حماسة من لقائي اليوم مع الشيخ إدريس، رجوت الله أن أحظى في حياتي العلمية بفرص مواتية كما حظيَ بها آخرون.. عم الصمت "سيارتنا" الجميلة، ضاع في ديجوره تفكيري إلى أن وصلنا إلى البيت بسلام.. كان الوقت عصرًا، توضأت واتجهت صوب أبي لأرى ما تم تصويره، وحينها كانت الصدمة .. أطمئنكم فلم تضع الصور والتسجيلات، ولكن كان هاتف أبي صيني الصنع، ذا جودة تصويرية جد رديئة، شاهدت نفسي جالسًا إلى جانب الشيخ بجلابيته البنية الوبرية وكأن الصورة مأخوذة من القرون الوسطى بسبب جودة هاتف والدي العظيم، لعنت جِهارًا حظيَ العاثر، كما لعنت فقر أبي؛ لأنه لم يقتنِ لنفسه هاتفًا لائقًا، بالطبع أديت اللعنة سرًّا - كما يؤدى العصر تمامًا - خوفًا من أن يرميني الوالد بهاتفه ليصيب رأسي الخشن فيشجه... نال التعب مني؛ لأني استيقظت "باكرًا" على غير عادتي؛ لذا اتجهت صوب وسادتي الطرية وسريري الدافئ لأكمل نومي مساءً بعدما حرموني منه صباحًا، متمنيًا لنفسي أحلامًا مسائيةً سعيدة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • ثلاثون يوما من أجل اللقاء
  • أخطاء الإلقاء
  • أثر جديد لعالم جليل

مختارات من الشبكة

  • أيام الله المعظمة: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق(مقالة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • حديث: طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثاني سنة، وطعام يوم الثالث سمعة(مقالة - موقع الشيخ عبد القادر شيبة الحمد)
  • يوم عرفة يوم من أيام الله (خطبة)(مقالة - ملفات خاصة)
  • يوم من أيام الله عزوجل (خصوصية يوم عرفة)(مادة مرئية - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • يوم من أيام الله عزوجل (تحقيق الدعوة يوم عرفة)(مادة مرئية - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • يوم من أيام الله عزوجل (أنه يوم الدعاء)(مادة مرئية - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • تفسير: (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • يوم الحمد ( يوم من أيامنا )(مقالة - آفاق الشريعة)
  • فضل من أحب لقاء الله ورقية المريض نفسه(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب