نبذة عن كتاب تهذيب البداية والنهاية

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك الدنيا ومالك يوم الدين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:
فإن عِلم رواية الأخبار والآثار المتعلِّقة بكتاب الله وسنة رسوله وسير الصالحين - من أجلِّ العلوم، وقد تبارى فيها جلة من العلماء الأفذاذ؛ وذلك حفاظًا على تراث الأمة الإسلامية، وإفادة اللاحقين من السابقين؛ ليكملوا مسيرة التقدم والبناء الحضاري لأمتهم في العالمين.

وكان من هؤلاء العلماء الإمامُ الجليل الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير، الذي كان من أشهر كتبه "تفسير القرآن العظيم"، وكذلك كتاب "البداية والنهاية"، وهذا الكتاب الأخير حاول أن يجمع فيه كثيرًا من الأخبار الماضية، وكان مرجعه في ذلك: القرآن الكريم، ثم السنة النبوية، ثم أخبار السابقين من العلماء، ثم شيئًا من كتب أهل الكتاب مما لم يخالف شرعَنا.

وقد وظف هذه الأخبارَ توظيفًا منقطع النظير، كما أوتي براعةً في مقابلة النصوص بأترابها، والموازنة فيما بينها، والتنبيه على صحيحها وسقيمها، والخروج للقارئ بأصح الروايات.

الداعي إلى التهذيب:

نظرتُ في كتاب "البداية والنهاية"، فوجدته سفرًا عظيمًا، يدل على غزارة علم مؤلفه، وسَعة اطلاعه، وحصافة رأيه، ورجاحة عقله، وصفاء دينه من الشوائب.

كما وجدت الكتاب قد زخر بعلوم تزيد وتعلو عن كونه تأريخًا؛ فقد حوى الكتاب: تاريخًا، وتفسيرًا، وحديثًا، وأشعارًا، وشيئًا من علم القراءات، واستطراداتٍ كثيرةً: لغوية وفقهية وعقديةً، ومنطقًا وفلسفةً، وشيئًا من لغات الأعاجم... إلخ؛ مما جعل الكتاب سفرًا ضخمًا في هذا العلم الجليل.

وعند اطلاعي على هذا الكتاب ومحاولة قراءتي فيه، تعثرت كثيرًا؛ لأسباب، منها:

• كثرة الأسانيد والعنعنات والتخريجات التي أوردها ابن كثير في آثاره التي نقلها عن العلماء السابقين؛ مما يطول بالقارئ عن تحصيل ما يريد.

• تكرار الروايات والآثار لحدث واحد، ومثال ذلك حديث حنين الجذع بطرقه المختلفة، قائلاً: وحديث آخر... وحديث آخر... وحديث آخر... وهكذا، مما قد يبلغ به ما ينيف على عشر روايات.

• كثيرًا ما يسوق عدة أخبار ويطيل ذكرهـا، ثم ينبـه على ذلك بقوله: هذا لا يصح سندًا، هذا منكر، هذا غريب جدًّا، هذا لا يصح عن فلان، وذلك يتضح جليًّا في حادثة حبس الشمس لعليٍّ - رضي الله عنه - فقد أورد هذه القصة فيما يزيد على عشر صفحات، ثم بعد ذلك نبَّه على أن فيها نكارة وغرابة شديدة.

• قد يورد - مثلاً - خبر وفاة فلان في أكثر من موضع؛ لاختلاف الروايات في ذلك.

• كما كان يكثر من استخراج الأحكام الشرعية من أقوال وأحوال بعض الصحابة والتابعين.

• ونظرًا لأنه لا يبارى في التحقيق والحكم على الأخبار؛ فقد كان من الممكن أن يأتي بعدة أسطر - قد تبلغ نصف الصفحة - في تحقيق خبرٍ ما، والحكم عليه صحة أو سقمًا.

• ومما كان يكثر منه إيراد كثير من الأشعار والقصائد والخطب المطولة، فضلاً عما فيها من ألفاظ غريبة، يحتاج في فك رموزها إلى أمهات المعاجم اللغوية.

وكثيرًا ما ترددتُ في سبر أغوار هذا السفر، وتنازعتْني أمواجُ الرغبة والرهبة، ولكن كان حاديّ في ذلك أنني قصدت التيسير على القراء، وألا أحرمهم من علم هذا الشيخ الجليل، وخاصةً أننا في عصر سريعٍ إيقاعُه، كثيرةٍ متطلباتُه؛ مما يرغِّب في الإيجاز والتيسير، ويزهد في الإطناب والتطويل.

ملاحظات على البداية والنهاية:

• إنه من العجب العجاب أنني لاحظت عدم ذكر تراجم لثلة من المشاهير والأفذاذ، ووجدته عندما يعرض لذكر بعضهم أنه يقول: "وقد أفردت له مجلدًا"، أو: "وقد أوردناه في التكميل"، أو يقول خطأ: "كما سيأتي ذكره" ثم لا يورده.

• وجدت في ثلاث نسخ مختلفة بعد ذكر مقتل الإمام علي ذكرَ ما دار من خلاف وقتال بين الحجاج وعبدالله بن الزبير، مع أن عليًّا قُتل سنة 40هـ، وابن الزبير قد قتل سنة 73هـ؛ مما يبين أن ذكر هذه الحادثة - وهي صفحة تقريبًا - قد وردت عن طريق الخطأ، ولعل هذا الخطأ يكون قد وقع من النساخين أو الطباعين، وتناقلتْه بعض المطابع عن بعضها.

• ترجم للشيخ خضر - شيخ الظاهر بيبرس - مرتين: مرة سنة (671هـ)، ومرة سنة (٦٧٦هـ)، فأثبتُّ الأولى وحذفت الثانية؛ لأنه نبَّه على أنه توفي في سنة (671هـ).

• كذلك عند وفاة الإمام ابن تيمية ذكر له ترجمة كاملة سنة (728هـ)، وبعد ذلك قال: وممن توفي فيها من الأعيان شيخ الإسلام ابن تيمية... وسنفرد له ترجمة على حدة - إن شاء الله تعالى.

• ومن يطَّلع على "البداية والنهاية" يجد أن مؤلفه كان جل اهتمامه وبحثه التاريخي من مصر غربًا، إلى العراق شرقًا، ومن أذربيجان وأرمينيا شمالاً، إلى اليمن جنوبًا، وكان قليلاً ما يتعرض لتاريخ المغرب والأندلس، وكذلك بلاد الهند، مع ما هي عليه من غزارة في الأحداث أثَّرت في التاريخ، ولكن تَتَبُّع مثل هذه الأحداث وتكميلها يعدُّ بحق جهدًا جهيدًا يلحق بهذا الكتاب - إن شاء الله - في طبعة قادمة.

خطة العمل في التهذيب:

استعنت الله - تعالى - في تحقيق ما يلي:

• حذفت الروايات المكررة، ولا سيما ما لم تضف جديدًا إلى غيرها، واكتفيت بأصح الروايات وأكملها.

• حذفت الأسانيد والعنعنات، واكتفيت بالإسناد إلى الراوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرةً، فكنت أقول مثلاً: روى البخاري عن أبي هريرة، روى الإمام أحمد عن أنس، وهكذا.

• استغنيت بذكر الأخبار الصحيحة عن الأخبار الضعيفة والإسرائيليات وما فيه نكارة وغرابة.

• اكتفيت بالأخبار التاريخية والسير، وتحاشيت الخوض في النوادر اللغوية، والاستنتاجات الفقهية، والمقابلات المنطقية، وكثرة الإيرادات الشعرية، والخطب المطولة، كما عزفت عن ذكر ما يعف اللسان عنه من أحداث تتعرض لذِكر العورات والسوءات (مثال ما دار بين مسيلمة وسَجَاحِ) من شعر مبتذل، كذلك ما دار بين يزيد بن معاوية وبعض آل البيت الشريف بعد استشهاد الحسين - رضي الله عنه.

• لم أثبت من تراجم الرجال - وخاصة بعد عصر الصحابة - إلا من كان له فضل علم، أو سياسة حكم، أو تقوى قلب، أو كان في قصصه عبرة لأولي الألباب.

• كنت لا أتعرض إلى كثرة الاختلاف في الرأي بخصوص حادثة أو شخص أو مكان؛ بل ذهبت إلى ما رجَّحه ابنُ كثير مباشرة دون التعرض للاختلافات؛ حيث إنني لاحظت أن ابن كثير كان دائمًا يرجح ما يورد ذكره أولاً، فاقتصرتُ عليه.

• كنت أضرب صفحًا عن ذكر ما يهيج القلوب من أحداث على بعض الصحابة الكرام، وخاصة في ذكر الفتنة الكبرى بين الخليفتين علي ومعاوية - رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين - ولاسيما أن معظمها أخبار غير موثوق منها، وكان رائدي في ذلك الإمام ابن كثير، فكان كثيرًا ما ينبِّه على بعض الأخبار بأنها لا تصح عن فلان.

• لم يقتصر عملي في التهذيب على الحذف والاختصار فحسب؛ ولكن كان أيضًا بإضافة سِير كثيرٍ من المشاهير والأعيان الذين أهمل ذكرَهم ابنُ كثير في كتابه "البداية والنهاية"، مثل أبي بكر الصديق، وأبي أمامة، وأبي مسلم الخولاني، وسفيان بن عيينة، وابن سعد صاحب "الطبقات"، والأصمعي، ويحيى بن معين، والأخطل، والأعمش، وابن أبي شيبة، والحارث المحاسبي، وابن عبدالبر، والذهبي، ورؤبة بن العجاج الشاعر، والإمام جعفر الصادق، ومحمد بن إسحاق صاحب السير، وعبدالرزاق الصنعاني، وحاتم الأصم، وإسحاق بن راهويه، وابن السِّكِّيت، والبزار، وأبي فراس الحمداني، وابن منظور، وأبي بكر بن العربي، وابن شداد مؤرخ صلاح الدين، وأبي الحجاج البياسي، والمعز بن باديس، وابن رشيق القيرواني، وياقوت الحموي... وغيرهم، ومما عجبت له أن ابن كثير قد أغفل قصة إسلام عمر بن الخطاب، فلم يذكر بنفسه ولم ينقل عن أحد ممن كان يعتمد عليهم أحداثَ تلك القصة.

وعلى كلٍّ، فقد جمعت شيئًا عن سيرة هؤلاء الأعلام الأفذاذ من كتب التراث المعتمدة.

• ومع أن ابن كثير قد أهمل الترجمة لكثير من علماء الطب والفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلسفة، إلا أنني رأيت أن يستدرك ذلك في الطبعة القادمة - إن شاء الله - حتى لا يتسع الخرق على الراتق، ولا أُحمِّل الكتاب ما لا يحتمله.

• اهتممت أن أضبط بعض الكلمات التي ربما يستغلق فهمُها على القارئ، فمنها ما شكَّلتُ حروفها، منها ما كتبت المعنى بين قوسين إن كانت نصًّا، أو استبدلت بها كلمة مرادفة إن كانت حكاية.

• قمت بعمل فهرس (كشاف) بأسماء الذين ترجم لهم ابن كثير في الوفيات، ولا سيما وأنني لم أذكرهم في فهرس الموضوعات، ولأن الأنبياء جميعهم بخاتمهم - صلى الله عليه وسلم - قد أوردتهم تفصيلاً في فهرس الموضوعات؛ لذا فإني استثنيتهم من ذلك الكشاف.

• قمت بإضافة أشكال وخرائطَ توضيحيةٍ في أماكنَ مختلفة من الكتاب، وهذا أمر لم يسبق في كتاب "البداية والنهاية".

• جعلت الأعداد مثل ألف ألف، ألفي ألف... إلخ: مليون، مليونين... إلخ.

• وضعت التاريخ الميلادي مقابلاً للتاريخ الهجري؛ ليتيسر على القارئ الحصول على المعلومة في أي من التاريخين، وكذلك تاريخ بداية ونهاية حكم كل خليفة من خلفاء المسلمين.

• ونظرًا لوجود كلمات تحتاج إلى توضيح المعنى، وكلمات أخرى تركيَّة كثيرة بين دفتي الكتاب، وخاصة في تاريخ الدولة العباسية (مثل: بطشة، خاصحكية، أتابك، الجامكية، الجوسق، الجنك، حوشكاش... إلخ)؛ فقد أبدلتها بما يقابلها باللغة العربية؛ تسهيلاً على القارئ.

• بالنسبة لما يخص الحروب الصليبية من أحداث، فأولاً بدلت اسم "الصليبين" باسم "الفرنجة"؛ لئلا تنغلق الأحداث على أحد، وثانيًا أوضحتُ أسماء قواد الصليبيين ممن أهملهم ابن كثير، كل ذلك مما حذف منه أو أضيف إليه، في إطار من السلاسة، ومتابعة الأحداث واتصالها، وأن ليس هناك خلل أو اضطراب.

نسأل الله الهداية والرشاد، وأن يتقبل منا هذا العمل، إنه نعم المجيب.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أضف تعليقك:	إعلام عبر البريد الإلكتروني عند نشر تعليق جديد
الاسم
البريد الإلكتروني	(لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق	رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي