نزهة المقلتين

نزهة المقلتين

منذ أيام خلتْ طالعنا المحققُ الثَّبْت الأستاذ إبراهيم الزيبق - حفظه الله - بآخر تحقيقاته النَّفيسة؛ ألا وهو كتاب " نُزهةُ المُقلتَين في سيرة الدَّولتين العلائيَّة والجلاليَّة وما كان فيهما من الوقائع التَّاتارية "[1] للمؤرِّخ الكبير عبد الرَّحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الدِّمشقي، المعروف بأبي شامة[2] (599 - 665هـ)، وهو كتاب أرخ فيه للسَّنوات الأخيرة من حياة الدولة الخوارزميَّة والتي حكم فيها السلطانان علاء الدِّين محمد بن تُكُش وابنه جلال الدين مَنْكَبُرتي، وما خاضته من صراع مع التَّاتار حتى انتهى بزوالها، وذلك فيما بين سنة 614هـ وحتى سنة 628هـ.

وقد استل أبو شامة مادته التاريخية من كتاب " سيرة السلطان جلال الدين منكبرتي" لشهاب الدين النَّسوي، المتوفى سنة 647هـ - وهو المعاصر لتلك الدولة، وكاتب إنشائها - على سبيل الاختصار، مقتصراً فيه على ما كان لتلك الدولة من وقائع مع التاتار، معيداً بناءه وفق ما تغياه منه.

وبذلك يكون الأستاذ المحقق قد استكمل - بعون الله وتوفيقه - تحقيق أهم آثار أبي شامة التاريخيَّة، وكان قد أغنى المكتبة الإسلامية بتحقيق "كتاب الرَّوضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية"[3]، ثم أردفه بتحقيق كتاب "المذيل على الروضتين"[4].

ولعل من أهم ما يطالعنا عند قراءة هذا الكتاب تصدير الأستاذ المحقق له بمقدمة ضافية، جمعت فأوعت، حيث دارت على أربعة محاور. تحدَّث في الأوَّل منها عن طبعتي كتاب " سيرة السلطان جلال الدين " للنسوي، ما لها وما عليها، والنُّسخ الخطيَّة التي اعتُمد عليها في تحقيق تينك الطبعتين، وذلك لأنه استفاد من ذكر فروقها في تحقيقه لكتاب أبي شامة.

ثم إنَّه عرَّج بنا في المحور الثاني على المقارنة بين عملي النسوي وأبي شامة، واختلاف منهجيهما في تناول المادة التاريخية، وأبرز براعة أبي شامة في اختصاره، سواء أكان من ناحية المرامي والغايات أم من ناحية اللُّغة وأسلوب العرض والتَّرتيب الزَّمني للوقائع.

وبرفق يأخذ الأستاذ المحقق بيد القارئ ليقفا معاً على ترجمة موسَّعة للنسوي في المحور الثالث، وهو المؤرخ الذي لا نقع له على ترجمة ضافية فيما بين أيدينا من مصادر. ويلوح لي - فيما أحسب - بأنَّ هذه الترجمة هي المحطةُ الأبرز في مقدمة التحقيق، فأحداث الكتاب كثيرة متلاحقة، وربما تبدو للقارئ غير المختص متداخلة فيما بينها. فمن خلال ترجمته للنَّسوي استطاع المحقق أن يسلطَ الضوء جليًّا على هذه الأحداث بصورة واضحة. والقارئ له يخاله وكأنه لابس تلك الأحداث وعايشها، فصورها بقلمه ببراعته المعهودة، عارضاً لها بأسلوبه السلس المشوق، لايكاد يفوته منها شيء. وبذلك فقد غدا الطريق لاحباً ممهداً أمام القارئ لمسايرة أحداث تلك الحقبة واستيعابها.

وفي المحور الرابع يحدِّثُنا المحقق عن النسخة الأصل التي اعتمد عليها في تحقيقه للكتاب، وعن المنهج الذي سلكه فيه.

ومن نافلة القول الإشارة هنا إلى البراعة التي يتميز بها الأستاذ المحقق في تحقيقاته. فله نَفَسُه الخاصُّ في هذا الميدان، يشهد له بذلك سائر ما حقق من مصنَّفات، فمنهج التحقيق عنده قائمٌ على الفهم السَّليم للنص، وإعمال العقل في تدبُّر معانيه ومحاكمته، وتحريره من شوائب التَّصحيف والتحريف، لا مجرَّد توثيق للأخبار وعزوها لمصادرها. فعلى سبيل المثال لا الحصر محاكمته العقليَّة وتحليله المنطقي في تعليقه على تحديد الجهة التي أوفدتْ رسولَ المغرب، حيث يقول: "اكتفى النسوي بذكر الرسول، ولم يسمِّ لنا من أرسله، ولعله أحد سلاطين الموحِّدين؛ عبد الله بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، الملقب بالعادل، وقد ولي ما بين سنتي 621هـ - 624هـ ، وكانت دولتهم في مرحلة ضعفها وقتئذٍ، والمعروف أن سلطانهم يُخاطب بأمير المؤمنين. وأستبعدُ أن يكون رسولاً من قبل الخليفة العباسي، كما ذهب إلى ذلك محقق (ق) في تعليقه، لقول النسوي من بعد: إن هذا الرسول قطع البحر إلى الروم. ولا حاجة لرسول بغداد أن يركب البحر للوصول إلى سلاجقة الروم ثم إلى جلال الدين. ثم ذكر النسوي في أصل هذا الكتاب [ص 221] أن بلاده بالجهة القاصية، ولا تُوصف بغداد بذلك. ورسول بغداد يُعبر عنه غالباً برسول الديوان العزيز، كما سلف مراراً في هذا الكتاب. ثم إنه سلك في عودته طريق الموصل لا طريق بغداد، والله أعلم"[5].

لا بل نجدُه يتعرَّض لما وقع فيه المؤلِّفُ من أوهام، وهي قليلة، منها تصويبه لاسم البحر الذي مات في إحدى جزره السلطان علاء الدين محمد بن تكش، إذ توافقت جميع النسخ على أنَّه بحر القُلْزُم، وأُثبت ذلك في طبعتي كتاب النسوي، وهو أصل كتاب " نزهة المقلتين " كما أسلفت، ولم يتنبه له محققاه. غير أنَّ الأستاذ المحقق وقف على هذا الخطأ القديم، قائلاً: " كذا في الأصل، وتظاهرتْ عليه النسخ كلها. ويبدو أنه وهم قديم من أحد النُّساخ، أو لعله سبق قلم من النسوي، وقد غلبه ذهولٌ حزين، فطغا قلمه، وهو الأرجح. وتابعه عليه أبو شامة، ولم يتنبه له محققا (ن) و (ق). وصوابه: بحر قزوين. فبحر القلزم، هو البحر الأحمر كما كان يُسمى قديماً، وليس هو المراد هنا. وسماه ابن الأثير: بحر طبرستان. وطبرستان - كما قال ياقوت - في البلاد المعروفة بمازَنْدَران. قلت: وإليها انتهى السلطان في هروبه من التاتار، كما سيأتي. ويُسمى بحر قزوين، ويُقال له كذلك بحر الخزر"[6].

وهكذا لا يكتفي الأستاذ بتصحيح الخطأ، وإنما يحاول أن يعلل لنا سبب وقوعه. ومن تمام التَّوفيق أنْ يعضد ذلك كله دراية الأستاذ المحقق بمصطلحات ذلك العصر، وتمكّنه منها على نحوٍ يتيح له فهم النَّص على وجهه الأمثل. والأمثلة على ذلك طافية في تعليقاته وحواشيه.

ثم فتح لنا أبواب الكتاب بفهارس شاملة: فهرس الأعلام، وفهرس الأماكن، وفهرس المصطلحات، وفهرس الموضوعات.

وفي الختام لا يسعني أن أغفل الحس الأدبيَّ الرَّفيع والعبارة الوجدانيَّة الرائعة التي يمتاز بها أسلوب الأستاذ المحقق عن غيره من المحققين. وهذا يدلُّ على الحِسِّ المُرهف والإنسانيَّة الأخَّاذة التي يتحلى بها، فالأستاذ يحقق بقلم العالم وخيال المؤرخ الروائي. وما أصعب التوفيق بينهما في فن عسير كفن تحقيق النصوص.