هكذا فليكن العمل الصحافي (3)

هكذا فليكن العمل الصحافي (3)

دروس لصحافتنا النائمة

من الفائزين بجوائز مركز بارليت وستيلي للتميز في العمل الصحفي الاستقصائي

في الولايات المتحدة الأمريكية لعام 2014

هذا الموضوع مُتمِّم لموضوعين أعددتُهما سابقًا، ونُشِرا في السنتَين الماضيتين (2012، 2013)، ويَحملان العُنوان ذاته، والجديد الذي أعرضه هنا الأعمال الصحفية الفائزة بالمستويات الثلاثة لجائزة مركز بارليت وستيلي لعام 2014، وهذه الجائزة - كما ذكرنا سابقًا - مخصَّصة للتشجيع على التميز في البحث والتقصي الصحافي في الولايات المتحدة الأمريكية، ولقد أُزيح الستار عنها بتاريخ 3 أكتوبر 2014، ويلمع في ثنايا الحديث في هذا المقال وسابقيه أمثلة رائعة للأعمال الصحفية الاستقصائية الفائزة بهذه الجائزة لثلاث سنوات متتاليات:

(Barlett & Steele Awards for Investigative Business Journalism)

لا أدري ما الذي ينبغي أن أَعرِضه أولاً؛ لأنه أكثرُ إثارة وتشويقًا وتبيينًا لنُضْج وأثر العمل الصحافي لدى أولئك القوم.

هل أَعرض أسماءَ الصحف الفائزة والصحفيين المبدعين؟ أم هل أَعرض مواضيع البحوث الاستقصائية المتميِّزة وآثارها التي تم على أساسها اختيارُ الفائزين؟ سوف أذكر ذلك كله، ولكنني دعوني أمهد بذكر المنتفعين بهذه الأعمال الصحفية الاستقصائية: إنهم بشر مثلُنا، ليسوا أفرادًا أو حالات استثنائية، ولكنهم مئات الملايين من العمال، والآلاف من الأطفال، ومئات الآلاف من المسنِّين والعاجزين.

الجائزة الذهبية للتميُّز في البحث والتقصي الصحفي في الولايات المتحدة الأمريكية لعام 2014:

فاز بالجائزة الذهبية البحثُ والتقصي الصحفي الذي أعده الصحفي مايكل جرابيل وفريق العمل والبحث في صحيفة بروبابليكا: (Michael Grabell of ProPublica).

لقد كشف البحث النقاب وعرض الأدلة الدامغة والمستندات، التي تُثبت وتشير إلى مظلمة إنسانية بَشِعة، وتتلخَّص في اكتشاف هذا العمل الصحفي لظاهرة مخيفة، لم تك معروفةً من قبل، وهي أن نسبة معدَّل الإصابات العمالية للعمالة المؤقتة في الولايات المتحدة الأمريكية تتجاوز ستة أضعاف الإصابات للعمالة الدائمة.

ليست هذه النسبة المريعة وليدة الصدفة، إنما ترجع - كما أظهر البحث بجلاء - إلى اعتماد كثير من الشركات على العمالة المؤقتة في المصانع والمخازن، وإسناد أسوأ وأخطر المهام إليهم في غياب التجهيز وطرُق السلامة والتدريب التقني، ولا يخفى ما في هذا التوجه من ظلم وأذى عظيم يلحَق العمال المؤقتين، وفيه استخفاف بأرواح بريئة، وتحايُل على النظام، وتهرُّب غير مسؤول من تبعات وتكاليف العمالة الدائمة، كما يكشف هذا البحث الصحفي بعضَ الجوانب القبيحة واللاإنسانية التي يؤسَّس عليها النمو الزائف لبعض جوانب الاقتصاد الأمريكي، ومِن القصص المُحزِنة التي يكشفها هذا البحث وفاةُ كثير من العمال في أول أيام عملهم نتيجة حوادث عمالية مرجعها الإهمال المذكور أعلاه.

عنوان هذا البحث الفائز: Temp Land الذي استغرق وقتًا طويلاً من العمل الدؤوب، والسفر لجهات عدة، وفحص مستفيض لملايين عدة من سجلات الحوادث العُمالية، ومراجعة لأعداد هائلة من تقارير الإصابات وقضايا التعويضات العمالية، والترجمة العربية لهذا العنوان: بلد العمالة المؤقَّتة!

أجبر هذا التقصي الصحفيُّ كثيرًا من الجهات الإدارية والقانونية في الولايات المتحدة على إعادة النظر في القوانين العمالية الخاصة بالعمالة المؤقتة، وتَحسين بعض قوانين ولوائح السلامة العمالية، وإعادة صياغة بعضها بطريقة تُوفِّر حمايةً مُستقبليَّة أكثر لأرواح العمال، وتحميهم من جشع الشركات، وهذه فائدة ضخمة يكاد يشمل أثرها كامل الولايات المتحدة.

الجائزة الفضية للتميز في البحث والتقصي الصحفي في الولايات المتحدة الأمريكية لعام 2014:

فاز بالجائزة الفضية بحثٌ وتقصٍّ صحافي ذو بعد إنساني كسابقه، وأنجزته الصحافية: ميقان تاوهي وفريق العمل في وكالة رويترز للأنباء (Megan Twohey, Reuters)

لقد وثق هذا البحث الفائز حدوثَ الآلاف من المخالفات والتجاوزات غير القانونية، التي يتمُّ فيها التنصل والتخلُّص من مسؤولية رعاية أطفال أبرياء، ونقل وصايتهم مِن قِبَل آبائهم بالتبني الذين جلبوهم من خارج الولايات المتحدة الى أناس غرباء ومَجهولي السيرة، كما يُستخدم في هذه الجريمة مواقع ومنتديات مشبوهة تم مراقبتها على الشبكة المعلوماتية العالمية.

إن الجانب الإجرامي واللاإنساني لنقل الوصاية في هذه الحالات هو: الإهمال المقصود، وتجاوز القوانين الحكومية والضوابط التشريعية المرعية لنقل وصاية الأطفال المتبنَّين، التي تُحافظ على حقوق الأطفال بالتثبت من أهلية وجاهزية وسُمعة العوائل التي ترغب في نقل حضانتهم إليها من عوائلهم السابقة، وبمتابعة كافة أحوالهم بعد انتقالهم؛ للتأكد من تحقيق مصالحهم، وسلامتهم من الإهمال والمعاملة القاسية أو السُّخرة أو الاعتداءات الجنسية، وكما يعرِّض نقل وصاية الأطفال بهذه الطريقة اللامسؤولة إلى أضرار عدة؛ مثل: وقوعهم فريسة لقساة القلوب المُتاجِرين بالبشر، أو المجرمين المصابين بهوَسِ الاعتِداء الجنسي على الأطفال.

عنوان البحث الفائز بهذه الجائزة الفضية: سوق بيع أو "بورصة" الأطفال (Child Exchange)، وقد أدى هذا البحث إلى إصدار قوانين وتشريعات وقائية في عدة ولايات أمريكية، تمنَع الإعلانات المتعلِّقة بنقْل الوصاية، وتُراقب مثل هذه التجاوزات، ولقد تمَّ استدعاء الفريق الصحفي المُعدِّ للبحث رسميًّا مِن قِبَل أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي لسماع نتائج بحثهم وتوثيق شهاداتهم.

الجائزة البرونزية للتميز في البحث والتقصي الصحفي في الولايات المتحدة الأمريكية لعام 2014:

فاز بالجائزة البرونزية بحث صحفي استقصائي رائع ذو جانب إنساني، أعده الصحفيان: بين هالمان وشاين شيفليت من صحيفة هافينقتون بوست (Ben Hallman and Shane Shifflett, The Huffington Post)، وعنوان هذا البحث الأصلي: Hospic Inc.، وترجمته للعربية طويلة لمزيد الإيضاح: طغيان الجانب التجاري لمنشآت رعاية المسنين.

كشفت وثائق هذا البحث الصحفي إهمالاً كبيرًا مِن قِبَل الجهات الأمريكية الرسمية التي تُراقب عمل دُور ومُنشآت رعاية المسنين والعاجزين والمرضى في مراحلهم المتأخِّرة؛ فأغلب هذه المُنشآت قد أُهمل متابعتها وفحصها والتأكد من مطابقتها للقوانين لسنين عديدة ومتتالية، ففقدت إنسانيتها ورحمتها، وتملَّكها الجشع حتى أهملتِ المرضى، وكما يَحتال الكثير منها على أهالي المرضى الذين يُقيمون فيها، فلا يقدِّمون لمرضاهم ما وَعدوا به من خدمة ورعاية، ليس هذا فحسب، بل إن أكثرهم يبالغ جدًّا في تقدير التكاليف المالية للرعاية بلا ضابط أو رقيب، كما نقل هذا البحث قصصًا مُحزِنة يَذكُرُها بعض أهالي المرضى، تُبيِّن مدى الإهمال الذي تمارسه بعض هذه المنشآت، منها ما رواه بعض الأهالي الذين فوجئوا حين زيارة مرضاهم بتردِّي حالتهم أو غيابهم عن الوعي لزمنٍ، وعدم علم القائمين على هذه المُنشآت بهذه التغيُّرات، ولقد أسرع بعض هؤلاء الأهالي إلى إخراج مرضاهم الذين تم إهمالهم من هذه المنشآت، وتحويلهم لمستشفيات متخصِّصة أثبتَت ما جرى لهم وأسعفتهم.

نصائح عمليَّة للصحافيين مستوحاة من خبرة الأعمال الصحفية الفائزة:

1- ينصح الصحافي مايكل جرابيل - الفائز بالمستوى الذهبي لهذه الجائزة - الصحافيين المُبتدئين في مجال البحث الاستقصائي بعدم اليأس وتحدِّي العوائق، ويُخبرهم بأنه قد طُرد كثيرًا من عدَّة مواقع خلال بحثه الصحفي، ولكن هذا زادَه إصرارًا، فبحَث عن طرُق أخرى مُتاحة للحصول على المعلومات التي يُريد، حتى تجلت له نتائج باهرة، لم يكن يتوقَّعها.

2- ينصح الفائز الآخر الصحافي: بين هالمان الصحافيين المبتدئين والقدامى، ويركِّز على أهمية مهارة التعامل مع المعلومات الرقمية للصحافي في كل مكان (Data Oriented Skills)، ويقول: "إن أي صحافي جديد لديه خبرة ببرامج ترتيب المعلومات مثل EXCEL وACCESS لديه مهارة خاصة، إذا استعملها تجعله يتميز في صحيفته ولدى قرائه، بالرغم من الثورة المعلوماتية يفتقر كثير من الصحافيين لمهارة التعامل مع المعلومات الرقمية بالرغم من أهميتها لنجاحهم".

3- ويضيف ستيلي (أحد مؤسسي مركز بارليت وستيلي الذي ما زال حيًّا) قائلاً: "إن أهمية المعلومات الرقمية للعمل الصحفي ليست في ذاتها، بل عن طريق وضعها في سياقها الصحيح، إن أهمية الأرقام للقارئ ليس لذاتها، بل لإقناعنا له بالدليل بأن هذه الأرقام التي كانت مُهمَلةً قبل سنوات، تحوي معلومات واستنتاجات مهمة نتعلمها الآن؛ لأننا نظرنا إليها من منظور مغاير، وفي سياق مختلف قليلاً".

نحو المزيد من الإعجاب والإثارة:

يا لها من أعمال صحافية جبارة، تجعل الصحافة والإعلام الحرَّ - عند أولئك القوم - جديرًا وأهلاً لتلك التسمية العجيبة المَهيبة: السُّلطة الرابعة!

دعونا نَزِد القارئ إثارةً وإعجابًا ودهشة وإجلالاً بذكر نُبذة مختصرة عن الهيئة المنسقة والمانحة لهذه الجوائز التقديرية الرفيعة، إنها ليست جهةً رسمية، أو وزارة من الوزارات، بل هو مركز غيرُ حكومي، اسمه: مركز دونالد رينولدز الأهلي لصحافة الأعمال: Donald W. Reynolds National Center for Business Journalism.

ولنصعِّدْ مستوى الإثارة والإعجاب لدى القارئ بذكر حقيقة جميلة حول هذا المركز؛ فهو جزء من منظومة خيرية وقفية وغير ربحية، أنشأها منذ زمن الإعلامي والمستثمر دونالد رينولدز في عام 1954 (Reynolds Foundation)، وأوقف لها مبلغًا ضخمًا من المال، مقدارُه في ذلك الزمن الفائت: 115 مليون دولار أمريكي (كم تساوي الآن؟!).

لن أعلق في الخاتمة على جودة الأعمال الصحفية الفائزة بهذه الجوائز، ولن أعيدَ ذكر الآثار الكبيرة والمنافع الجليلة التي يَجنيها المواطنُ والإنسان في تلك الدول، فهذه ظاهرة وواضحة، ولا أظنُّ أن هناك مَن ينكرها، أو ينقص من قدرها.

لكنني سأختم بلفت رجال الأعمال المحبِّين للخير في بلادنا إلى هذا المثال المُشرق للأوقاف، والذي يتفرد بتطوير الصحافة والإعلام، فالوقف في مجتمعاتنا - في نظر البعض - لا يزال يحتاج إلى مزيد تطوير وتوسيع لمفهومه وتطبيقاته، ولا ضير نقلاً ولا عقلاً من إفادة المسلم من الحكمة؛ فهي ضالته أنَّى وجدها فهو أَولى الناس بها، وإياك أعني فاسمعي يا جارة!

وأعطِّر حديثنا ابتداءً وانتهاءً بالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وآله وصحبه ومن اتبع سنتهم إلى يوم الدين، آمين.