• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    موقف أبي موسى الأشعري مع جندي من جنوده
    الشيخ عبدالعزيز السلمان
  •  
    النقد العلمي
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت ...
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

القضية الأخلاقية في العالم الإسلامي اليوم

القضية الأخلاقية في العالم الإسلامي اليوم
صلاح فتحي هَلَل

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 3/8/2015 ميلادي - 17/10/1436 هجري

الزيارات: 12710

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

القضية الأخلاقية في العالم الإسلامي اليوم


الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على المبعوث رحمة للعالمين، ورضي الله عن آله وصَحْبِه أجمعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.

 

أما بعد:

تعتبر المسألة الأخلاقية في العالم الإسلامي اليوم حلبة صراع صعب، بين فريقين: فريق يؤمن بالهوية الإسلامية، وآخر يؤمن بالهوية التغريبية الوافدة من خارج الحدود، ويسعى لفرضها بالقهر، عبر وسائل التغريب المختلفة، مستخدمًا في سبيل ذلك طوفانًا مِن النافذين في شتى مجالات الإعلام والتعليم وغيرها، ولا يتورع في سبيل هذا التغريب عن إنفاق ما يصل إليه عقله مِن أباطيل وأراجيف، وما تملكه يده مِن أموال وقدرات، وهو ما يُعرف في عصرنا بفرض الثقافات أو فرض الهُوية.

 

والانتصار في هذه المعركة هو ما سيحدد مصير العالم الإسلامي بأسره ربما لأزمنةٍ طويلة، نظرًا لخطورة هذه المعركة، وصلة هذا الميدان بأصل الهوية؛ فليست المسألة هنا معركةً سطحية، أو هامشية، وإنما هي معركة مفصلية، تقوم عليها بقية المسائل، وتُحسَم بعدها كل القضايا العالقة، التي تنتظر الفائز في هذه المصارعة.

 

ومِن ثَمَّ تتضح أسرار الهجمة الشرسة على الميراث الأخلاقي للمسلمين، والتي تستهدف القضاء على هذا الميراث، وفرض أخلاق الوافدين على الأمة، بعدما نبذها عقلاء الأمم، وارتاحت عقولهم لأخلاق المسلمين وأدبياتهم، وبدأ بعض هؤلاء يسيرون على هدي المسلمين في كثيرٍ مِن المسائل؛ كالاختلاط في مراحل التعليم الذي منعته بعض الدول، أو البنوك الإسلامية التي انتشرت في عدد آخر، أو الأطعمة الحلال التي تحرص عليها أسواق عديدة، في غير ديار المسلمين، وصارت أطعمة المسلمين بذلك بريدًا أو سفيرًا لدينهم وأخلاقهم وسلوكياتهم، مهما كان الدافع وراء انتشار هذه السلوكيات والأخلاقيات الإسلامية.

 

والأخلاق في حقيقتها هي صورة الإنسان، وما يكون عليه، وتعبير ظاهر عما يؤمن به باطنه، فهي تعبير عن العقيدة والإيمان الباطن للفرد، وكلُّ إنسان في حقيقته يُبرز شخصيته، ويميزها عن غيرها، مِن خلال أخلاقه وما يقوم به مِن سلوكيات.

 

ومِن ثَمَّ يُعلم العلاقة الوثيقة بين الأخلاق والهُوية؛ إذ الهوية في حقيقتها هي ما يميز إنساناً أو دولةً عن الآخرين، في المعتقد والأخلاق والسلوكيات، فالهُوية دين تؤمن به الدولة، يدفعها لسلوكيات تتشابه مع مثيلاتها في الإيمان، وتختلف عمن لا يوافقها الإيمان بدينها.

 

ويظل هذا الاختلاف في الهُويات وتبعًا في السلوكيات والآداب والأخلاق = في نطاق التعايش السلمي، ما لم تخرج به بعض الدول إلى فرض هويتها وآدابها على غيرها بشكل أو بآخر، ويشتد الأمر خطورة إذا لجأت بعض الدول إلى فرض هُويتها بالقهر، وهو ما يُعرف في عالمنا الآن بفرض الثقافة، أو فرض الهوية على الآخرين، فرضًا مباشرًا عن طريق القوة القهرية الغاشمة في الحروب التقليدية أو الاقتصادية، أو فرضًا غير مباشر عن طريق فرض الثقافات والآداب، مثل إنشاء الجامعات والمراكز البحثية، وتشجيع «الابتعاث العلمي» وتوفير «المنح الدراسية»، فضلًا عن استخدام الإعلام والسينما والأزياء وغير ذلك مِن الوسائل التي تصبغ دولة بعينها بثقافة وشكل دولة أخرى، وما يلبث أن يخضع التابع للمتبوع.

 

وهذا يفسر لك إنفاق بعض الدول ببذخ شديد على أشياء تخص دولة أخرى، ليعتاد التابع على تقليد المتبوع، ويصبح المتبوع هو الحاكم الفعلي للدولة التابعة، يفرض عليها ما يشاء، ولا تجد هي سوى الاستسلام التام، بعدما أصبح «حبلها السري» بيد غيرها.

 

وقد حاول أعداء أمتنا خداعنا بفرض نمط جديد مِن الإسلام، صنعوه في بلادهم، ولصالحهم، وأعادوا تسميته، ثم أرسلوه إلى بلادنا فتلقفته عقولٌ مهاجرة، وقلوب خاوية، خدعت به نفسها وغيرها، وسقطتْ فيما عملته أيدي الآخرين لها، بغية أن يصبح الإسلام علامة على عبادات وهيئات لا أثر لها في واقع الناس وحياتهم، ومحاولة منهم لفصل فروض الإسلام وأركانه، عن قضيته الأخلاقية التي جاء بها، وبعبارة أخرى جرى سلخ الإسلام عن ثمرته التي أرادها، وأُرِيد الإبقاء عليه جسدًا خاويًا بلا روح، فثمة صلاة وصيام وزكاة وحج، واجتهاد في التسبيح والتحميد والتكبير، لكن أراد أعداؤنا أن نخرج مِن صلاتنا إلى الخمر والميسر، ومِن صيامنا إلى أكل الحرام، ونرجع مِن زكاتنا وحجِّنا إلى صالات المنكر وساحات الباطل، وأن يكون هذا الإسلام الجديد هو الإسلام الوسطي المزعوم، أو هو النموذج المطور للإسلام الصحيح الذي يُراد فرضه على أ متنا.

 

ولا يمكن بحالٍ مِن الأحوال أن نُسَمِّي هذا المسخ الجديد إسلامًا ولا أن نعدَّه دينًا؛ إذ الإسلام عندنا لا يقبل الفصل بين ثوابته وثماره، ولا بين جذوره وغصونه وأوراقه، وإنما هو شجرة شاملة تؤتي ثمارها متى رُويت جذورها بماء الإيمان والتصديق.

 

لقد جاء الإسلام بأصول ثابتة، على رأسها أركانه الخمسة التي بُني عليها، والتي تمثلت في الشهادة والصلاة والصيام والزكاة والحج، فمَن قام بهذه الخمسة دون فصلٍ بينها وبين شروطها الواجبة لها، وثمارها المرجوة منها، فقد أدَّى ما عليه.

 

وهذا هو معنى حديث طلحة بن عبيد الله رضى الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات في اليوم والليلة»، فقال: هل عَلَيَّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وصيام رمضان»، قال: هل عَلَيَّ غيره؟ قال: «لا، إلا أن تطوع»، قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل عَلَيَّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع»، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق»[1]. وفي رواية: «قال: والذي أكرمك، لا أتطوع شيئًا، ولا أنقص مما فرض الله عَلَيَّ شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق»[2].

 

ولم يذكر الحج في هذا الحديث، لكن ذكره في حديث أنس بن مالك رضى الله عنه، قال: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، دخل رجلٌ على جمل، فأناخه في المسجد ثم عَقَلَه، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أجبتك». فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد عَلَيَّ في نفسك؟ فقال: «سل عما بدا لك» فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: «اللهم نعم». قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: «اللهم نعم». قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: «اللهم نعم». قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم نعم». فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر[3].

 

وفي رواية عن أنس بن مالك، قال: نُهِينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله، ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: «صدق»، قال: فمن خلق السماء؟ قال: «الله»، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: «الله»، قال: فمن نصب هذه الجبال، وجعل فيها ما جعل؟ قال: «الله»، قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال، آلله أرسلك؟ قال: «نعم»، قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا، وليلتنا، قال: «صدق»، قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم»، قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، قال: «صدق»، قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم»، قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال: «صدق»، قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم»، قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا، قال: «صدق»، قال: ثم ولى، قال: والذي بعثك بالحق، لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لئن صدق ليدخلن الجنة»[4].

 

وهذه الروايات تصب فيما ذكرناه عن ارتباط أركان الإسلام بأسبابها وشروطها وثمارها المرجوة منها، فمن أدَّاها ولم يف لها بأسبابها ولا قام بشروطها، لم ينل مِن ثمارها شيئًا، وكانت مجرد عبادات لم تؤت ثمارها.

 

ولا شك أن ثمار الشيء جزءٌ منه، وليست عملًا منفصلا بعيدًا عنه؛ بل هي الجزء الأهم فيما يظهر منه، حيثُ يراه الناظر فينسى تعبه وكده واجتهاده في سائر الأسباب والموجبات السابقة لهذه الثمار.

 

وهذا معنى كلامنا السابق الذي ندندن فيه حول ضرورة ربط العبادات بثمارها، التي تستهدف الوصول إليها، وهذه قضية مشهورة في الإسلام، لم تغفلها الشريعة، بل لهجت بها النصوص الشرعية؛ أعني ربط العبادات بالثمار المترتبة عليها، والغايات المستهدفة مِن ورائها، فالفصل بين هذه الثمار وبين العبادات هو في الحقيقة سلخٌ لهذه الثمار عن أسبابها مِن جهة، ومِن جهة أخرى هو تعطيل لحركة الأركان والعبادات وأدائها دورها في الوصول لغاياتها المرجوة مِن ورائها.

 

فشهادة «أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول صلى الله عليه وسلم الله»، هي في صورتها عند الناظر مجرد حروف وكلمات ينطقها الناطق فلا يترتب له شيئًا إذا نطقها كحروف، تحرَّك بها لسانه لغرضٍ أو لآخر، ونرى كثيرًا مِن غير المسلمين قد تكلموا بها ورددوها مرارًا وتكرارًا، فما خرج هؤلاء مما هم عليه، ولا دخلوا في الإسلام، ولا يقدر أحدٌ على الحكم لهم بإسلامٍ أو بجنة؛ حيثُ وقفت عملية النطق عند اللسان، لم تتجاوزه إلى داخلهم الذي هو مناط الحكم حقيقة.

 

فالحروف المجردة لا تُرتِّب شيئًا، ولا تنقل إنسانًا مِن مكانٍ إلى آخر، فلا تخرجه مِن نار إلى جنةٍ، ولا مِن كفرٍ إلى إسلام، إنما تبقى في مكانها الذي وقفت عنده لا تتجاوزه إلى ما عداه، فتظل الحروف حروفًا، لكن ما وراء الحروف وما بين السطور الذي يستقر في وجدان الإنسان، ويتملكه، ويلهج به فؤاده وعقله، وتتحرك به روحه وتطرب له = هو هذا الذي ينفع الإنسان مِن وراء هذه الحروف والكلمات، وهو الثمرة المرجوة مِن وراء هذه الشهادة، وهو الغاية المترتبة على هذا الركن الأول مِن أركان الإسلام.

 

ونلمح هذا المعنى فيما رواه معاذ بن جبل رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، صدقًا من قلبه، إلا حرمه الله على النار»[5].

 

فلابد مِن الشهادة الصادقة مِن القلب، لا مجرد النطق المجرد باللسان، وهذا الصدق في الشهادة يستلزم الإتيان بأمور الإيمان المذكورة في الشريعة، مثلما ورد في حديث أبي هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان»[6]. وفي رواية: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون - أو بضع وستون - شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»[7].

 

فلم يقف الأمر كما ترى عند حدِّ الكلمات والتعبيرات، وإنما انتقل إلى واقع حياة، ومنهج أخلاقي يسير عليه الإنسان، ونفع عام لجميع الناس، أعلاه شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق.

 

فهذا منهج وسلوك أخلاقي متكامل، مبني على إيمان داخلي صادق، وعقيدة راسخة تتجاوز حدّ الحروف والكلمات المجردة.

 

ويظهر هذا المعنى أيضًا في حديث حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي، سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها، وتصديق موعودها، إلا أدخله الله بها الجنة» قال حسان: فعددنا ما دون منيحة العنز، من رد السلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق، ونحوه فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة[8].

 

فالكلام عن خصال يقوم بها الإنسان رجاء ثوابها وتصديق موعودها، لا مجرد حركات مجردة لا يعتقد فيها الإنسان شيئًا، إنما هي هيئات وحركات نابعة مِن عقيدة داخلية مستقرة، تؤمن إيمانًا جازمًا، يتحرّك مع الإنسان ليظهر في هذه الهيئات وتلك الحركات التعبُّدية، التي قد لا يقف الإنسان على علة حُكمها؛ غير أنّ مجرد الإتيان بها هو علة في نفسه، حيث يقوم بها الإنسان قيامًا بحق العقيدة والإيمان الذي يؤمن به، رجاء ثواب الله عز وجل.

 

فالهيئات والحركات في حقيقتها ليست سوى مظهر الباطن، أو صورة العقيدة والإيمان الباطن في قلب الإنسان، فهي ثمرة الإيمان، وسيقان وأوراق شجرته المغروسة في قلب كل مسلم، فإذا لم تُؤْتِ ثمارها صارت جذعًا خاويًا، كما أنها لن تثمر بغير وجود الجذع.

 

فإذا انتقلنا إلى الصلاة، وجدنا الأمر نفسه، يتخطّى الحركات والهيئات إلى الثمار الأخلاقية الاجتماعية، التي تلامس حياة الناس وشئونهم الاجتماعية، ويظهر هذا بوضوح مِن قوله سبحانه وتعالى:﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت:45]. فالصلاة لا تقف عند الهيئات والأركان الخاصة بها، وإنما تتعدَّى ذلك إلى بناء السياج الأخلاقي العام في الأمة، الذي يحميها مِن الانزلاق في مهاوي كل ما هو فحشاء، وكل ما هو منكرٌ.

 

إنها حماية للأمة، وعلاج لانحرافاتها التي قد تطرأ عليها، وتطهير لها مِن كل منكرٍ.

 

ونجد الأمر نفسه بالنسبة للصوم، حيثُ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة:183]. فليست المسألة هنا مجرد امتناع عن الطعام والشراب، وإنما هي تربية إيمانية، لتحصيل الثمرة الإسلامية والأخلاقية الشاملة مِن وراء هذا الجوع والعطش، المتمثلة في تحقيق التقوى بمفهومها الشامل الواسع.

 

ونجد هذا المعنى أيضًا في حديث أبي هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»[9]. وفي رواية: عن أبي هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه»[10].

 

كذلك الحال بالنسبة للزكاة، حيثُ قال سبحانه وتعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة:103]. فالزكاة في حقيقتها تطهر النفوس مِن أدران الشح والبخل، كما تطهر المال بإخراج حقوق الغير فيه؛ كالفقير والمسكين. ثم هي وقاية للأمة تقيها مِن الإفلاس، وتعينها على الإنفاق على رعاياها، وقضاء حوائج البلاد والعباد.

 

فإذا ما أخرج العبدُ صدقته؛ فليحذر أن يُبطلها بعد إخراجها بشكل مِن أشكال الإبطال؛ كالمن والأذى؛ كما قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ ﴾ [البقرة:264]. وهذه كلها ثمرات إيمانية وأخلاقية ناتجة عن الزكاة، فليس الأمر فرضًا لدفع المال لمجرد دفعه للغير؛ وإنما إخراجه لتتحقق الطهارة والزكاة للنفوس والأموال، ويعم النفع والصالح العام في الأمة.

 

فإذا انتقلنا إلى الحج الذي هو الركن الخامس مِن أ ركان الإسلام؛ فسنرى قوله سبحانه وتعالى: ﴿ الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة:197]. فلا مجال هنا للرفث أو الفسوق أو الجدال؛ وإنما هي ساحة أخلاقية، وميدان أخلاق وتربية، يتربَّى فيه الحاج على الانضباط والالتزام بالأخلاق الإسلامية، وأن يضبط نفسه وروحه، ويدربها على تحاشي كل ما هو رفث وفسوق وجدال.

 

ومِن هذا السرد السابق يظهر الارتباط الوثيق بين الغاية الأخلاقية أو الثمرة الأخلاقية، وبين أركان الإسلام وأصوله، فالأخلاق هي غاية الإسلام وثمرة أركانه وأصوله.

 

وقد نبه العلماء على هذه الركيزة الأخلاقية في الشريعة الإسلامية.

 

فقال الشنقيطي:

« والمتأمل للقرآن في هديه يجد مبدأ الأخلاق في كل تشريع فيه حتى العبادات. ففي الصلاة خشوع وخضوع وسكينة ووقار، فأتوها وعليكم السكينة والوقار.

 

وفي الزكاة مروءة وكرم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى ﴾ [البقرة:264]. وقوله: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان:9].

 

وفي الصيام: (مَنْ لم يَدَع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). وقوله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جُنَّة).

 

وفي الحج: ﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197].

 

وفي الاجتماعيات: خوطب صلى الله عليه وسلم بأعلى درجات الأخلاق، حتى ولو لم يكن داخلا تحت الخطاب؛; لأنه ليس خارجًا عن نطاق الطلب: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء: 23] ثم يأتي بعدها: ﴿ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء:23 - 24]. مع أن والديه لم يكن أحدهما موجودًا عند نزولها.

 

إلى غير ذلك من التعاليم العامة والخاصة التي اشتمل عليها القرآن»[11].

 

بل قال الرافعي «لو أنني سُئِلت أنْ أُجْمِلَ فلسفة الدين الإسلامي كلها في لفظين، لقلتُ: إنها ثبات الأخلاق، ولو سُئِل أكبر فلاسفة الدنيا أنْ يُوجز علاج الإنسانية كله في حرفين، لما زاد على القول: إنه ثبات الأخلاق، ولو اجتمع كل علماء أوروبا ليدرسوا المدينة الأوربية ويحصروا ما يعوزها في كلمتين لقالوا: ثبات الأخلاق.

 

فليس ينتظر العالم أنبياء ولا فلاسفة ولا مصلحين ولا علماء يبدعون له بدعا جديدًا؛ وإنما هو يترقب من يستطيع أن يفسر له الإسلام هذا التفسير، ويثبت للدنيا أنَّ كل العبادات الإسلامية هي وسائل عملية تمنع الأخلاق الإنسانية أنْ تتبدل في الحي فيخلع منها ويلبس، إذا تبدّلت أحوال الحياة فصعدت بإنسانها أو نزلت؛ وإنَّ الإسلام يأبى على كل مسلم أن يكون إنسان حالته التي هو فيها مِن الثروة أو العلوم، ومِن الارتفاع أو الضعة، ومِن خمول المنزلة أو نباهتها؛ ويُوجب على كل مسلم أنْ يكون إنسان الدرجة التي انتهى إليها الكون في سموه وكماله، وفي تقلُّبه على منازله بعد أن صفي في شريعة بعد شريعة، وتجربة بعد تجربة، وعلم بعد علم....

 

ولكن الإسلام يقرر ثبات الخلق ويُوجبه وينشئ النفس عليه، ويجعله في حياطة المجتمع وحراسته....

 

الأخلاق في رأيي هي الطريقة لتنظيم الشخصية الفردة على مقتضى الواجبات العامة، فالإصلاح فيها إنما يكون من عمل هذه الواجبات، أي من ناحية المجتمع والقائمين على حكمه. وعندي أن للشعب ظاهرًا وباطنًا، فباطنه هو الدين الذي يحكم الفرد، وظاهره هو القانون الذي يحكم الجميع، ولن يصلح للباطن المتصل بالغيب إلا ذلك الحكم الديني المتصل بالغيب مثله؛ ومن هنا تتبين مواضع الاختلال في المدنية الأوربية الجديدة؛ فهي في ظاهر الشعب دون باطنه، والفرد فاسد بها في ذات نفسه إذا هو تحلل من الدين، ولكنه مع ذلك يبدو صالحا منتظمًا في ظاهره الاجتماعي بالقوانين وبالآداب العامة التي تفرضها القوانين، فلا يبرح هازئًا مِن الأخلاق ساخرًا بها؛ لأنها غير ثابتة فيه، ثم لا تكون عنده أخلاقًا يُعتد بها إلا إذا درَّت بها منافعه، وإلا فهي ضارة إذا كانت منها مضرة، وهي مؤلمة إذا حالت دون اللذات. ولا ينفك هذا الفرد يتحول لأنه مطلق في باطنه غير مقيد إلا بأهوائه ونزعاته، وكلمتا الفضيلة والرذيلة معدومتان في لغة الأهواء والنزعات؛ إذ الغاية المتاع واللذة والنجاح، وليكن السبب ما هو كائن.

 

وبهذا فلن تقوم القوانين في أوربا إذا فني المؤمنون بالأديان فيها أو كاثرهم الملحدون، وهم اليوم يبصرون بأعينهم ما فعلت عقلية الحرب العظمى في طوائف منهم قد خربت أنفسهم من إيمانهم فتحولوا ذلك التحول الذي أومأنا إليه، فإذا أعصابهم بعد الحرب ما تزال محاربة مقاتلة ترمي في كل شيء بروح الدم والأشلاء والقبور والتعفن والبلى، وانتهت الحرب بين أمم وأمم، ولكنها بدأت بين أخلاق وأخلاق.

 

وقديماً حارب المسلمون، وفتحوا العالم، ودوخوا الأمم؛ فأثبتوا في كل أرض هدي دينهم وقوة أخلاقهم الثابتة، وكان وراء أنفسهم في الحرب ما هو مِن ورائها في السلم، وذلك بثبات باطنهم الذي لا يتحوَّل، ولا تستخفّه الحياة بنزقها، ولا تتسفّه المدنيات فتحمله على الطيش.

 

في الكون أصل لا يتغير ولا يتبدل، هو قانون ضبط القوة وتصريفها وتوجيهها على مقتضى الحكمة. ويقابله في الإنسان قانون مثله لا بد منه لضبط معاني الإنسان وتصريفها وتوجيهها على مقتضى الكمال. وكل فروض الدين الإسلامي وواجباته وآدابه، إن هي إلا حركة هذا القانون في عمله؛ فما تلك إلا طرق ثابتة لخلق الحس الأدبي، وتثبيته بالتكرار، وإدخاله في ناموس طبيعي بإجرائه في الأنفس مجرى العادة، وجعله بكل ذلك قوة في باطنها، فتسمى الواجبات والآداب فروضا دينية؛ وما هي في الواقع إلا عناصر تكوين النفس العالية، وتكون أوامر وهي حقائق....

 

فالمحافظة على الضوابط الإنسانية القوية التي هي مظاهر الأديان فينا، ثم إدخال الواجبات الاجتماعية الحديثة في هذه الضوابط لربطها بالعصر وحضارته، ثم تنسيق مظهر الأمة على مقتضى هذه الواجبات والضوابط، ثم العمل على اتحاد المشاعر وتمازجها لتقويم هذا المظهر الشعبي في جملته بتقويم أجزائه، هذه هي الأركان الأربعة التي لا يقوم على غيرها بناء الشرق.

 

والإلحاد والنزعات السافلة وتخانيث المدنية الأوروبية التي لا عمل لها إلا أن تظهر الخطر في أجمل أشكاله، ثم الجهل بعلوم القوة الحديثة وبأصول التدبير وحياطة الاجتماع وما جرى هذا المجرى، ثم التدليس على الأمة بآراء المقلدين والزائفين والمستعمرين لمحق الأخلاق الشعبية القوية وما اتصل بذلك، ثم التخاذل والشقاق وتدابر الطوائف وما كان بسبيلها، تلك هي المعاول الأربعة التي لا يهدم غيرها بناء الشرق.

 

فليكن دائما شعارنا -نحن الشرقيين- هذه الكلمة: أخلاقنا قبل مدنيتهم»[12].

 

وقد أطلتُ في سرد صرخة الرافعي عن ثبات الأخلاق وضرورة ذلك وفائدته؛ ليعلم أبناء جيلي طبيعة المعركة التي تتعرض لها أمتنا، وأنها ليست وليدة اليوم، وليعلم الناس أن حديثنا عن القضية الأخلاقية ليس ترفًا، ولا رفاهية؛ وإنما هو حديثٌ عن أصلٍ في بناء الأمة المسلمة، وإحيائها مِن جديد، ثم هو حديثٌ عن حقيقة ديننا الذي يعالج قضايا الأمة معالجة شاملة، ويربِّيها تربية عامة، تعود بالخير على الفرد والجماعة في وقتٍ واحدٍ.

 

والإسلام يتسم بالشمول والإحاطة، في نظرته وحلوله وسائر أموره، فتجد الأحكام في الأخلاق والأخلاق في الأحكام، في انسياب بديعٍ، لا فصل فيه ولا تضاد.

 

وانظر إلى قول الإمام ابن فورك: «وأحكام الشريعة التي فيها مكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال»[13]. وقول ابن فورك: «وجه ذكر قصص النبيين التشويق إلى مثل ما كانوا عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، وصرف الناس عن مساوئ الأخلاق ومقابح الأفعال»[14].

 

ففي أحكام الإسلام مكارم أخلاق ومحاسن أفعال، وكذا في قصص الأنبياء؛ إذ الأخلاق كما قلنا هي ثمرة الأحكام والتشريعات الإسلامية التي أرادت تحقيقها وترسيخها في الأمة، فقد جاء الإسلام ليُصلح الفرد والأمة، ونهى عن الفساد في الأرض بعد إصلاحها، فالإصلاح منهج عام مضطرد في الإسلام، وهو يسير في هذا الطريق بأحكام ثابتة، ليصل إلى ترسيخ أخلاق سامية، فلا مجال للفصل بين أحكامه وأخلاقه، ولا بين أصوله وثماره.

 

فنحن أمام قضية جوهرية، وأصل ثابت في الإسلام، ولسنا أمام سلوكيات هامشية، أو واجبات غير عينية إذا فعلها البعض سقطت عن الباقين، وإنما هي سلوكيات واجبة على كل أحدٍ بعينه، فالكذب والفحشاء والمنكر وغيرها مِن المذمومات يجب اجتنابها على كل أحد، كما يجب عليه التلبُّس بالصدق والوفاء وغيرها مِن الأخلاق الأصيلة في الإسلام؛ لكن قيامه بهذا أو ذاك لا يُسْقط ذلك عن غيره مِن الناس، بل أدَّى هو ما عليه، ويجب على غيره أيضًا أنْ يؤدِّي ما عليه.

 

فالأخلاق في حقيقتها دين، يجب على كل أحدٍ، وليس لأحدٍ أن ينسلخ منه.

 

وقد فسَّر ابن عباس رضى الله عنه الخُلق بالدين في قوله تعالى: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ ﴾ [الشعراء:137] قال: «دين الأولين»[15]. وفسَّر ﴿ الميسر ﴾ [البقرة: 219] قال: «القمار، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة»[16]. وفسَّر قوله تعالى: ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ﴾ [الحج:77] قال: «يريد صلة الرحم ومكارم الأخلاق»[17]. وفسَّر قوله تعالى: ﴿ يأمرهم بالمعروف ﴾ [الأعراف: 157] قال: «يريد: مكارم الأخلاق وصلة الأرحام»[18].

 

وهذا يدل على تجذُّر القضية الأخلاقية في الإسلام مِن جهة، وعلى تجذرها مِن جهة أخرى في عقول علماء المسلمين وأفرادهم.

 

حتى قال الإمام سفيان بن عيينة: «نزل القرآن بمكارم الأخلاق، ألم تسمعه يقول: ﴿ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ﴾ [الأنبياء: 10]»[19].

 

وقال الإمام مكي بن أبي طالب (ت437) في قوله: ﴿ وَبِالحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالحَقِّ نَزَلَ ﴾ [الإسراء:105]: «أي: أُنزل هذا القرآن بالحق لأنّ فيه الأمر بالعدل والإنصاف والأخلاق الجميلة»[20]. وقال مكي في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ ﴾ [الإسراء:39]: «المعنى الذي بيّنا لك يا محمد مِن الأخلاق المرغب فيها، والتي نهيناك عن فعلها»[21].

 

وقال الزمخشري:«﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ [الأنبياء:10] ﴿ ذِكْرُكُمْ ﴾ [الأنبياء:10]: شرفكم وصيتكم، كما قال: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ [الزُّخرف:44]، أو موعظتكم، أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء أو حُسْن الذِّكر، كحُسن الجوار، والوفاء بالعهد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والسخاء، وما أشبه ذلك»[22].

 

ونبه الطبري على نكتة لطيفة في تفسير قوله تعالى: ﴿ مِنَ الشَّيْطَانِ ﴾ [آل عمران: 36]  قال: «وإنما سُمِّي المتمرد مِن كل شيء شيطانًا، لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاق سائر جنسه وأفعاله، وبُعْده عن الخير»[23].

 

فمَن ابتعد عن الخير وفارق جنسه في أخلاقهم وأفعالهم استحق اسم الشيطان.

 

كما أنَّ مَن اجتمعت فيه أخلاق الخير المفرَّقة في جماعة مِن الناس يستحق اسم «أُمَّة».

 

وفي هذا يقول الطبري في قوله تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [البقرة: 213]: «قال مجاهد: آدم أُمَّةٌ واحدة. وكأنَّ مَن قال هذا القول استجاز تسميةَ الواحد باسم الجماعة؛ لاجتماع خلال الخير التي تكون في الجماعة المتفرِّقة فيمَن سمَّاه بالأُمة، كما يقال: فلانٌ أُمَّةٌ وحده، بمعنى أنَّه يقومُ مقامَ الأُمَّة. وقد يجوزُ أنْ يكون سمَّاه بذلك لأنَّه سببٌ لاجتماع الأشتات مِن الناس على ما دعاهم إليه مِن خِلال الخير، فلما كان آدم صلى الله عليه وسلم سببًا لاجتماع مَن اجتمع على دينه مِن ولده إلى حالِ اختلافهم؛ سمَّاه بذلك أُمَّة»[24].


ومِن ثم نستطيع أن نقف على أسرار العناية الإسلامية بقضية الأخلاق بصورها المختلفة، ويمكننا أن نلحظ ذلك مِن خلال النظر في كتاب الله عز وجل، واستقراء بعض المواضع القرآنية في البناء الأخلاقي الإسلامي.

 

ففي مجال العلاقات الإنسانية: سنجد حديث القرآن الكريم عن بر الوالدين والوصية بهما، والإحسان إليهما، بل وإلى الناس كافة، والوصية باليتيم والفقير والمسكين، والجار بأنواعه المختلفة، إلخ.

 

وفي مجال الإصلاح الفردي والتربية الأخلاقية للفرد: سنجد حديث القرآن الكريم عن التقوى والصلاح والصدق والإخلاص والإخبات، إلخ.

 

وفي مجال الإصلاح العام والشامل: سنجد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وترسيخ مبدأ الأخوة الإيمانية، وتقديمها على الأخوة في النسب؛ إلخ.

 

وفي المجال الاقتصادي: سنجد الكلام على المال، وإصلاحه، ومنعه عن السفهاء، وأداء زكاته، وتطهيره، وتثميره وتنميته؛ إلخ.

 

وفي المجال الأسري سنجد الحديث عن الزوج والزوجة والأولاد، والبيت المسلم، وعلاج ما يطرأ عليه مِن مشكلات، وما ينبغي إذا طرأتْ لحظة فراق وطلاق؛ إلخ.

 

وكل هذه المجالات التي أشرنا إليها وغيرها لها أدلتها وبراهينها الساطعة في كتاب الله عز وجل، وهي معلومةٌ مشهورةٌ معروفةٌ، تغني شهرتها عن الإطالة بذِكْرها خاصة في هذا المقام المختصر.

 

والمقصود الإشارة إلى شيءٍ مِن المجالات الأخلاقية التي وردت في كتاب الله عز وجل، ليقع التصوُّر الصحيح لهذا البناء الأخلاقي الشامل في الإسلام، وعلاقة ذلك بأصول الإسلام وقواعده وثوابته الراسخة.

 

ومِن ثَمَّ يتضح لنا أنّ أي عبثٍ في أخلاق المسلمين هو في الحقيقة عبثٌ في ثوابتهم وأصولهم، فليست المسألة صراعًا على شيءٍ هامشيٍّ أو غير جوهريٍّ في الإسلام، كما ظنَّهُ بعضهم، وإنما هو صراعٌ في حلبة الأصول والثوابت.

 

ويتضح ذلك مِن خلال النظر في صورة الإسلام، التي تحتوي على أصول ثابتة راسخة، وأركان معلومة مفروضة للوصول لأهداف معينة في تربية الفرد والأمة، وترسيخ مبدأ الأخلاق في الجميع، فنحن أمام أصول لها وسائل للوصول إلى أهداف محددة، فمَن هدم الأصول فقد هدم الوسائل والأهداف، ومَن هدم الأهداف فقد سلخ الأصول عن أ هدافها وعطَّلها عن أداء دورها. فهي علاقة مركَّبة متشابكة لا يمكن الفصل بين أصلٍ وفرع، ولا بين جذرٍ وثمرة، فمَن سعى في الفصل بينهما فقد سعى في هدم جزءٍ مِن الإسلام بمقدار سعيه.

 

فهل يعي قومنا حقيقة ما يجري الآن فرضه على الأُمَّة؟ وطبيعة هذا الغزو الأخلاقي لشبابنا؟ ومدى تأثيره على أصول الإسلام وثوابته؟ وتأثير ذلك كله على نظرة أبنائنا وأمتنا لقضايا الإسلام وواقع المسلمين الآن؟. والله المستعان على كل حال.

 


[1] رواه البخاري (46)، ومسلم (11).

[2] رواه البخاري (1891، 6956).

[3] رواه البخاري (63).

[4] رواه مسلم (12).

[5] رواه البخاري (128)، ومسلم (32).

[6] رواه البخاري (9)، ومسلم (35).

[7] رواه مسلم (35).

[8] رواه البخاري (2631).

[9] رواه البخاري (1903).

[10] رواه البخاري (6057).

[11]«أضواء البيان» للشنقيطي (8/ 249 - 250).

[12] «وحي القلم» للرافعي (2/ 62 - 67) في كلامه على «ثبات الأخلاق»، باختصار.

[13] تفسير ابن فورك (1 /277) ط: جامعة أم القرى.

[14] السابق (2/ 249).

[15] «تفسير الطبري» (17/ 614).

[16] «تفسير ابن أبي حاتم» (4/ 1197).

[17] «التفسير البسيط» للواحدي (15/ 504).

[18] «التفسير الوسيط» للواحدي (2/ 417).

[19] «تفسير الطبري» (16/ 232)، «الهداية إلى بلوغ النهاية» لمكي بن أبي طالب (7/ 4733).

[20] «الهداية إلى بلوغ النهاية» لمكي بن أبي طالب (6/ 4306).

[21] الهداية إلى بلوغ النهاية، لمكي بن أبي طالب (6/ 4206) ط جامعة الشارقة.

[22] السابق (3/ 105).

[23] «تفسير الطبري» (1/ 109).

[24] السابق (3/ 623).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • - رابطة العالم الإسلامي تنظم مؤتمرًا يناقش دوافع الإساءة إلى الإسلام
  • من المسؤول عن مآسي العالم الإسلامي؟!
  • عولمة الفقر والتخلف في العالم الإسلامي!
  • مؤتمر "العالم الإسلامي.. المشكلات والحلول"
  • أطلس دول العالم الإسلامي
  • البوسنه: مؤتمر عن العالم الإسلامي في "سراييفو"
  • أهالي طرابلس الغرب وبرقة يستنجدون بالعالم الإسلامي
  • عوامل انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي
  • العالم الإسلامي: مفهوم واحد أم مفاهيم متعددة؟
  • العلم والحضارة في العالم الإسلامي من الرقي إلى التخلف

مختارات من الشبكة

  • قضية فلسطين قضية جميع المسلمين ( خطبة )(مقالة - المسلمون في العالم)
  • قضية الأقصى قضية كل المسلمين (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • فهم القضية في ضوء السنن الكونية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الإنسان هو القضية(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • سوء فهم القضية يجعلها القاضية (2 – 2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • سوء فهم القضية يجعلها القاضية (1 – 2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من مظاهر عدالة الإسلام في القضايا الاجتماعية: قضايا المرأة نموذجا(مقالة - ملفات خاصة)
  • القدرة الإلهية تحسم القضية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الملة الصادقة ( القضية الأرمنية والشأن الطائفي العربي )(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • قضايا وأحكام ( قضية زوجية )(مقالة - موقع الشيخ عبدالله بن محمد بن سعد آل خنين)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب