• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    سيناء الأرض المباركة
    د. حسام العيسوي سنيد
  •  
    استراتيجيات المغرب في الماء والطاقة والفلاحة ...
    بدر شاشا
  •  
    طب الأمراض التنفسية في السنة النبوية
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    الاستشراق والمعتزلة
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    زبدة البيان بتلخيص وتشجير أركان الإيمان لأحمد ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    مفهوم الصداقة في العصر الرقمي بين القرب الافتراضي ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / سير وتراجم / سير وتراجم وأعلام
علامة باركود

محمود شاكر عميد الأدب العربي

أحمد الجوهري عبد الجواد

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 12/3/2015 ميلادي - 21/5/1436 هجري

الزيارات: 20977

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

صفعات قادت إلى الخيرات (9)

محمود شاكر عميد الأدب العربي

 

في بستان العلم والأدب، وبين زهوره ورياحينه نشأ أبو فهر، كان واحدًا من أربعة إخوة، أبناء لعالم جليل، شغل ثاني أخطر منصب ديني في المنطقة العربية وما حولها؛ فقد شغل والده العلامة محمد شاكر منصبَ وكيل الأزهر الشريف، كان ذلك في أواخر عهد الملكيَّة بمصر.

 

وإذا نظرنا إلى أبناء الشيخ محمَّد الأربعة، وجدنا أنه قد برز منهم اثنان؛ الأكبر والأصغر، أمَّا الآخران فأحدهما "محمد" ولا يَرد عنه شيء، لم يعرف له اشتغال بالعلم، بل إنه لم يُكمِل تعليمه، والثاني "علي" وكان قاضيًا شرعيًّا، توجَّه إلى الاهتمام بالعلم، وساعد أخاه الشيخ "أحمد" في تحقيق بعض كتب التراث[1].

 

• أما "أحمد محمد شاكر" الابن الأكبر، فقد اشتغل بالعلم حتى صار محدِّثًا كبيرًا يُشار إليه بالبنان، وانتهت إليه رئاسة الحديث في مصر، وكان أحد المَعدودين في هذا العلم في زمانه، وعليه المعوَّل فيه قرابة (50 سنة)، ويكفي أن يذكر اسمُ "أحمد شاكر" حتى تتداعَى إلى الذِّهن مؤلفات ومقالات وأعمال وتحقيقات، خدمت العلم خدمة جليلة، ولا تزال ينهل منها الأساتذة، ويتتلمذ عليها الطُّلاب إلى يومنا هذا، وإلى ما شاء الله[2].

 

• وأما "محمود محمد شاكر" الابن الأصغر، محور حديثنا في هذه الكلمات:

 

صورة عامَّة:

• فـ "محمود شاكر" هو القارئ الذي جرَد كتب التراث الإسلامي كلها قراءة وفحصًا، لا سيما كتب الأدب والشعر واللغة، "كما لم يقرأهُ أحد في عصره، حتى شعَّت على يديه من أنواره وانبلجت من أسراره ما جعله قِبلةً لكل من أراد أن ينهل من هذا التراث ويَستكشِف مكنوناته"[3].

 

• و"محمود شاكر" هو الجنديُّ الذي خاض المعارك مدافعًا ومنافحًا عن العربية في مواجهة التغريب، وقرر أصالة الثقافة العربية في قلوب أبنائها من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق غير قليل منهم، ونقَّب عن مصادر الشعر الجاهلي، مثبتًا أصالته، "بل كان من أوائل من اكتشف الخطر الرهيب الذي كان يَحيق بالعرب والمسلمين حين كانت سموم التبشير تتغلغل في العقول، وحمَّى التفرنُج تَنتشر، في الوقت الذي كان الكبار يحرصون فيه على إرضاء نزعات المستشرقين، وتعلم اللغات الأجنبية، وتفسير التاريخ الإسلامي بما ينسجم مع العقل الغربي المادي، فكشف عن هذا الخطر المحدق وعرَّاه".

 

• و"محمود شاكر" هو الرائد الذي استقرأ الكلام العربيَّ - وبخاصَّة الشِّعر - وهو لم يبلغ العشرين من عمره، فما بلغ السادسة والعشرين حتى هزَّ الأوساط الأدبية معلنًا عن منهجه الجديد، وهو منهج "التذوق"، الذي لم يأتِ أحد من أدباء العصر الحديث بمثله، بل حاول مَن حاول منهم احتذاء منهجِه فأعجزهم ذلك.

 

• و"محمود شاكر" هو مفكِّرٌ عميق الفِكر، بعيد الغور، واسع الأفق، فسيح الإدراك، الذي سبق جيله بمراحل، وكتب على نسق الأولين، فمن طالع ما كتبه مِن ذوي الدُّربة ظن أنه يقرأ لروَّاد العلوم الأوائل ومنظِّريه.

 

• و"محمود شاكر" هو الأديب الذي تسنَّم ذرى المجد الأدبي، وطارت شهرته في الآفاق.

 

• و"محمود شاكر" هو العالم الأبيُّ، الذي سُجن في عهد عبدالناصر لأجل صدعه بكلمة الحق، فسُجِنَ تسعة أشهر؛ لوقوفه ضد ممارسات العسكريِّين الذين استلموا الحكم بعد انقلاب 1952 م، وسجن مرَّة أخرى متَّهَمًا بالدعوة إلى فتنةٍ طائفية، وبقيَ في السجن سنتين وشيئًا حتى كانت نكسة يونيه.

 

وفي كليهما طُلِبَ منه أن يَعتذر عما كتب ليُفرَج عنه، فرفض أشد الرفض.

 

وقد شهد له إخوانه أنه كان في السجن مثالاً للصبر، على كِبر سنِّه ومرضه، وكان كذلك سمح الروح، واسع الصدر.

 

وأخيرًا، "محمود شاكر" هو المعنيُّ في قول الرافعي: "إنَّ مِن الناس من يختارهم الله فيكونون قمح هذه الإنسانية، ينبتون ويحصدون ويعجنون ويخبزون ليكونوا غذاء الإنسانية في بعض فضائلها!"، وحسبُكَ بالرافعيِّ شاهدًا.

 

هذه هي الصورة العامة التي ترتسم بخيال من قرأ عن محمود شاكر - رحمه الله تعالى - فهو قارئ وجندي لدى هذا الدين، وهو رائد وهو قائد لمُريدي التفوق فيه، وهو مفكِّر وأديب سبق زمانه بمراحل، وهو عالم أبيٌّ يبذل روحه فداءَ ما يعتنق من حق ولا يعتذر عنه..

 

ولو شئنا أن نقول: إن ذلك التألُّق والمجد كان نتاج تلك الصفعة التي أصابت الشاب الطالب في السنة الأولى مِن دراسته الجامعية، لم نعْدُ الحقيقة قِيدَ شبرٍ!

 

فمَن هو "محمود" هذا؟! وما نبأ تلك الصفعة؟!


مفارقات وعجائب:

نشأ الأستاذ محمود شاكر في بيئة متديِّنة - كما عرفنا - لكن في الوقت الذي التحَقَ فيه إخوته بالتعليم الأزهري انصرف هو إلى التعليم المدني!

 

فكانت تلك أولى المفارقات العجيبة في حياته؛ فقد عرفنا أن والده كان كبير علماء الإسكندرية، ثم وكيلاً للجامع الأزهر.

 

وقد تنقَّل "محمود" عبر مراحل التعليم المختلفة، حتى كانت المرحلة الثانوية فالتحَقَ بالقسم العلمي، وتعلَّق بدراسة الرياضيات والإنجليزي، فلمَّا اجتاز الثانويَّة فضَّل أن يلتحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية!

 

وهذه أيضًا مفارقة جديدة في حياة "الطالب محمود شاكر".

 

وقد تعذَّر دخوله كلية الآداب في البداية؛ لأنه من خرِّيجي القسم العلمي في الثانوية، إلا أنه بوساطة من "طه حسين" لدى "أحمد لطفي السيد" رئيس الجامعة المصرية آنذاك استطاع أن يلتحق بكلية الآداب، وبدأ العام الدراسي بالكلية و"الطالب محمود شاكر" بين صفوف طلابها.

 

وهناك في مقاعد السنة الأولى من كلية الآداب بالجامعة المصرية حدثت المفارقة الثالثة والكبيرة في حياة الطالب والعالم محمود شاكر، حين صدم في دكتور الجامعة "طه حسين" وهو يَسمعه يُردِّد مقالةَ كفرٍ في القرآن، تلك المقالة هي أن "الشعر الجاهلي منتحَل، وأنه كذب ملفَّق، لم يقله أمثال امرئ القيس وزهير، وإنَّما ابتدعه الرواة في العصر الإسلامي ليُثبِتوا تفوُّق القرآن على كلام العرب"!

 

وضاعف من شدة هذه الصدمة أنَّ ما سمعه من المحاضر الكبير كان قد سبق له أن اطَّلع عليه بحذافيره في مجلة استشراقية في مقال بها للمستشرق الإنجليزي مرجليوث![4] ولأن محمود شاكر اطَّلع على المقالة فقد كان سماعه لمُحاضرات الدكتور طه مختلفًا عن بقيَّة الطلاب تمام الاختلاف، ومن ثمَّ جاءت المفارقة أو المحنة أو الصفعة، كما نُسميها في هذه المقالات، ولندعِ الأستاذ يروي لنا بنفسه أحداث هذه المرحلة التي ولد فيها محمود شاكر ولادة جديدة عبر محنة عظيمة قادته إلى المجد، فصار رجلاً "متعدِّد الملكات، تتصالح كلها في كيانه دون تنافُر؛ فهو الشاعر - والشعر أكبر ملكاته عندنا - وهو المحقِّق، والمؤرِّخ والناقد، والمُفكِّر، وكاتب المقال، وربما بَدا للناس أنه محقِّق كل شيء؛ حيث استغرق في التحقيق من عمره السنوات ذوات العدد، لكنه - عندنا - شيخ المحقِّقين؛ لأنه شاعر مبدع، فبان إبداعه في كل ما خطته يراعه، وما هو بالقليل!"[5].

 

يقول محمود محمد شاكر عن هذه الفترة:

"كان ما كان، ودخلنا الجامعة، بدأ الدكتور "طه" يلقي محاضراته التي عُرفت بكتاب: "في الشعر الجاهلي"، ومحاضرة بعد محاضرة، ومع كل واحدة يرتدُّ إليَّ رجع من هذا الكلام الأعجمي الذي غاص في يمِّ النِّسيان! وثارت نفسي، وعندي الذي عندي من المعرفة بخبيئة هذا الذي يقوله الدكتور "طه" = عندي الذي عندي من هذا الإحساس المتوهِّج بمذاق الشعر الجاهلي، كما وصفته آنفًا، والذي استخرجته بالتذوق، والمقارنة بينه وبين الشعر الأموي والعباسي.

 

وأخذني ما أخذني من الغيظ، وما هو أكبر وأشنع من الغيظ، ولكني بقيت زمنًا لا أستطيع أن أتكلم، تتابعت المحاضرات، والغيظ يفور بي والأدب - الذي أدَّبَنا به آباؤنا وأساتذتنا - يُمسكني، فكان أحدنا يهاب أن يكلم الأستاذ، والهيبة مُعجزة، وضاقت عليَّ المذاهب، ولكن لم تخْلُ أيامي يومئذ في الجامعة من إثارة بعض ما أجد في نفسي، في خفوت وتردُّد، وعرفتُ فيمَن عرفتُ من زملائنا شابًّا قليل الكلام، هادئ الطِّباع، جمَّ التواضع، وعلى أنه من أترابنا، فقد جاء من الثانوية عارفًا بلغات كثيرة، وكان واسع الاطِّلاع، كثير القراءة، حَسَن الاستماع، جيد الفهم، ولكنه كان طالبًا في قسم الفلسفة، لا في قسم اللغة العربية.

 

كان يَحضر معنا محاضرات الدكتور، وكان صفْوُه وميلُه وهواه مع الدكتور "طه"، ذلك هو الأستاذ الجليل "محمود محمد الخضيري".

 

نشأتْ بيني وبينه مودة، فصرتُ أُحدِّثه بما عندي، فكان يدافع بلين ورفْق وفَهم، ولكن حدَّتي وتوهُّجي وقسوتي كانت تجعله أحيانًا يَستمِع ويَصمُت فلا يتكلم.

 

كنَّا نقرأ معًا، وفي خلال ذلك كنت أقرأ له مِن دَواوين شعراء الجاهلية، وأكشف له عما أجد فيها، وعن الفروق التي تميِّز هذا الشعر الجاهلي من الشعر الأموي والعباسي، وجاء يوم ففاجأني "الخضيري" بأنه يحبُّ أن يصارحني بشيء، وعلى عادته من الهدوء والأناة في الحديث، ومن توضيح رأيه مقسمًا مفصلاً، قال لي: إنه أصبح يوافقني على أربعة أشياء:

الأول: أن اتِّكاء الدكتور على "ديكارت" في محاضراته اتكاءٌ فيه كثير من المغالَطة، بل فيه إرادة التهويل بذكر "ديكارت الفيلسوف"، وبما كتبه في كتابه "مقال عن المنهج"، وأن تطبيق الدكتور لهذا المنهج في محاضراته ليس من منهج "ديكارت" في شيء.

 

الثاني: أن كل ما قاله الدكتور في محاضراته، كما كنتُ أقول له يومئذ، ليس إلا سطوًا مجردًا على مقالة "مرجليوث"، بعد حذف الحجج السخيفة، والأمثلة الدالة على الجهل بالعربية، التي كانت تتخلَّل كلام ذاك الأعجمي، وأن ما يقوله الدكتور لا يزيد على أن يكون "حاشية" وتعليقًا على هذه المقالة.

 

الثالث: أنه على حداثة عهده بالشِّعر وقلة معرفته به، قد كان يتبيَّن أن رأيي في الفروق الظاهرة بين شعر الجاهلية وشعر الإسلام، أصبح واضحًا له بعض الوضوح، وأنه يكاد يحسُّ بما أُحسُّ به وأنا أقرأ له الشعر وأفاوضه فيه.

 

الرابع: أنه أصبح مقتنعًا معي أن الحديث عن صحة الشعر الجاهلي قبل قراءة نصوصه قراءة متنوعة مستوعبة - لغوٌ باطل، وأن دراسته كما تدرس نقوش الأمم البائدة واللغات الميتة، إنما هو عبث محض.

 

واتفق أن جاء حديثُه هذا في يوم من أيامي العصبية؛ فالدكتور "طه" أستاذي، وله علي حق الهيبة، هذا أدبنا، وللدكتور "طه" عليَّ يدٌ لا أنساها، كان مدير الجامعة يومئذ "أحمد لطفي السيد" يرى أن لا حقَّ لحامل "بكالوريا" القسم العلمي في الالتحاق بالكليات الأدبية، مُلتزمًا في ذلك بظاهر الألفاظ! فاستطاع الدكتور "طه" أن يُحطِّم هذا العائق بشهادته لي، وبإصراره أيضًا.

 

فدخلتُ يومئذ بفضله كلية الآداب، قسم اللغة العربية، وحفظ الجميل أدب لا يَنبغي التهاون فيه، وأيضًا فقد كنتُ في السابعة عشرة من عمري، والدكتور طه في السابعة والثلاثين؛ فهو بمَنزلة أخي الكبير، وتوقير السن أدب ارتضعناهُ مع لبان الطفولة، كانت هذه الآداب تفعل بي فعل هوى المتنبي بالمُتنبي حيث يقول:

رَمَى، واتَّقى رَمْيي، وَمِنْ دونِ ما اتَّقَى
هوًى كاسِرٌ كَفِّي، وقَوسي، وأسْهُمي

 

فلذلك ظللتُ أتجرَّع الغيظ بحتًا، وأنا أُصغي إلى الدكتور "طه" في مُحاضراته، ولكني لا أستطيع أن أتكلَّم، لا أستطيع أن أناظره كِفاحًا، وجهًا لوجه، وكل ما أقوله فإنما أقوله في غيبتِه لا في مشهدِه.

 

تتابعت المُحاضَرات، وكل يوم يزداد وضوح هذا السطو العريان على مقالة "مرجليوث"، ويزداد في نفسي وضح الفرق بين طريقتي في الإحساس بالشعر الجاهلي، وبين هذه الطريقة التي يَسلُكها الدكتور "طه" في تزييف هذا الشعر.

 

وكان هذا "السطو" خاصة ممَّا يهزُّ قواعد الآداب التي نشأت عليها هزًّا عنيفًا، بدأت الهيبة مع الأيام تسقط شيئًا فشيئًا، وكدتُ ألقي حفظ الجميل ورائي غير مُبال، ولم يبقَ لتوقير السن عندي معنًى، فجاء حديث الخُضري، من حيث لا يريد أو يتوقَّع، ليَنسف في نفسي كل ما التزمت به من هذه الآداب.

 

وعجبَ الخضري يومئذ؛ لأني استمعتُ لحديثه، ولم ألقَه لا بالبشاشة ولا بالحفاوة التي يتوقعها، وبقيتُ ساكتًا، وانصرفتُ معه إلى حديث غيره.

 

وفي اليوم التالي جاءت اللحظة الفاصلة في حياتي، فبعد المحاضرة، طلبت من الدكتور" طه" أن يأذنَ لي في الحديث، فأَذِن لي مبتهجًا، أو هكذا ظننتُ.

 

وبدأت حديثي عن هذا الأسلوب الذي سماه "منهجًا"، وعن تطبيقه لهذا "المنهج" في مُحاضراته، وعن هذا "الشك" الذي اصطنعه، ما هو، وكيف هو؟ وبدأتُ أدلِّل على أن الذي يقوله عن "المنهج" وعن "الشك" غامض، وأنه مُخالف لما يقوله "ديكارت"، وأن تطبيق منهجه هذا قائم على التسليم تسليمًا لم يُداخله الشك، بروايات في الكتب هي في ذاتها محفوفة بالشك! وفوجئ طلبة قسم اللغة العربية، وفوجئ الخضيري خاصة، ولما كدتُ أفرغ من كلامي، انتهرَني الدكتور "طه"، وأسكتني، وقام وقمنا لنخرج، وانصرف عني كل زملائي الذين استنكروا غِضابًا ما واجهتُ به الدكتور " طه"، ولم يبقَ معي إلا محمود محمد الخضيريُّ - من قسم الفلسفة كما قلت.

 

وبعد قليل أرسل الدكتور "طه" يُناديني، فدخلتُ عليه وجعل يُعاتبني، يقسو حينًا ويرفق أحيانًا، وأنا صامت لا أستطيع أن أرد، لم أستطع أن أكاشفه بأن محاضراته التي نسمعها كلَّها مسلوخة من مقالة "مرجليوث"؛ لأنها مكاشفة جارحة من صغير إلى كبير، ولكني على يقين من أنه يعلم أني أعلم، من خلال ما أسمع حديثه، ومن صوته، ومِن كلماته، ومن حركاته أيضًا! وكتمان هذه الحقيقة في نفسي كان يزيدني عجزًا عن الرد، وعن الاعتذار إليه أيضًا، وهو ما كان يرمي إليه، ولم أزل صامتًا مُطرقًا حتى وجدت في نفسي كأني أبكي من ذلِّ العجز، فقمتُ فجأة وخرجت غير مودِّع ولا مبالٍ بشيء.

 

وقُضي الأمر! ويبس الثرى بيني وبين الدكتور "طه" إلى غير رجعة!

 

ومن يومئذ لم أكفَّ عن مُناقَشة الدكتور في المحاضرات أحيانًا بغير هيبة، ولم يكفَّ هو عن استدعائي بعد المحاضرات، فيأخذني يَمينًا وشمالاً في المحاورة، وأنا ملتزم في كل ذلك بالإعراض عن ذكْر سَطوه على مقالة مرجليوث، صارفًا همِّي كله إلى موضوع "المنهج" و"الشك"، وإلى ضرورة قراءة الشعر الجاهلي والأموي والعباسي قراءة متذوِّقة مستوعبة، ليستبين الفرق بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي قبل الحديث عن صحة نسبةِ هذا الشعر إلى الجاهلية، أو التماسِ الشُّبه لتقرير أنه باطل النِّسبة، وأنه موضوع في الإسلام، من خلال رواياتٍ في الكتب هي في حد ذاتها محتاجة إلى النظر والتفسير.

 

ولكني من يومئذ أيضًا لم أكفَّ عن إذاعة هذه الحقيقة التي أكتمُها في حديثي مع الدكتور "طه"، وهي أنه سَطا سطْوًا كريهًا على مقالة المستشرق الأعجمي، فكان، بلا شك، يبلغه ما أذيعه بين زملائي.

 

وكثر كلامي عن الدكتور "طه" نفسه، وعن القدر الذي يَعرفه مِن الشعر الجاهلي، وعن أسلوبه الدالِّ على ما أقول.

 

واشتدَّ الأمر، حتى تدخل في ذلك، وفي مناقشتي، بعض الأساتذة؛ كالأستاذ "نلِّينو" والأستاذ "جويدي" من المستشرقين، وكنتُ أصارحهما بالسطو، وكانا يعرفان، ولكنهما يداوران، وطال الصراع غير المتكافئ بيني وبين الدكتور "طه" زمانًا، إلى أن جاء اليوم الذي عزمتُ فيه على أن أفارق مصر كلها، لا الجامعة وحدها، غيرَ مبالٍ بإتمام دراستي الجامعية طالبًا للعزلة، حتى أستبين لنفسي وجه الحق في "قضية الشعر الجاهلي" بعد أن صارت عندي قضية متشعبةً كل التشعُّب[6].

 

لقد قرَّر "محمود شاكر" إذًا أن يترك الجامعة بعد أن سقطت هيبتُها من نفسه، وبعد أن عجز - لطبيعة فيه - أن يَحتمل هذا الفساد الذي رآه في أساتذته ومعلِّميه، فترك الجامعة غير آسِفٍ عليها وهو في السنة الثانية؛ لأنه لم يعُدْ يثق بها، ولم تفلح المحاولات التي بذلها أساتذته وأهله في إقناعه بالرجوع، وهاجر إلى جدة، وأقام بها مدَّة، حتى استدعاه والده الشيخ فعاد إلى القاهرة، وقد فُتح له من أبواب العلم فتوح، فشرع الشيخ شاكر في قراءة التراث وشرحه، وحرَّر مقالات المجلات الأدبية المتنوعة، وألَّف الشعر، ونقَدَ، وخاض معارك، وكشَف زيوفًا.

 

ومن هنا - من هذه الصفعة - كانت بداية محمود شاكر العلَم الأشمِّ في تاريخ الأدب المعاصر.

 

ومن معركة إلى معركة انتقل محمود شاكر يذبُّ العادين عن الإسلام وكتابه ولغته، ومن كنز إلى كنز راح محمود يكشف عن التراث الإسلامي، ومن نجم إلى نجم ظل يَقفز حتى تسنَّم ذُرا المجد الأدبي عن جدارة واقتدار، وفي مساء يوم الخميس 3 ربيع الآخر 1418 هـ - 7 أغسطس 1997م، فاضت روح العملاق العلامة إلى بارئها، تاركةً مكانه فراغًا كبيرًا لم يُسدَّ وقد مضى على ذلك التاريخ قرابة عشرين سنة[7].

 

رحمك الله أبا فهر، وأبقى في العالمين مسْكَ أنفاسك، وجزاك ربي عن دينه خير ما جزى عاملاً أحسن وأخلص.

يَا بَرَّدَ اللهُ مَضْجَعًا سَخِنَتْ
بِهِ عُيُونٌ تَبِيتُ تَحْتَسِبُهْ
مَا صَوَّحَتْ مِنْ نَادِيكَ زَهْرَتُهُ
يَا راحِلاً لَيْسَ تَنْطَوِي كُتُبُهْ[8]


[1] جمهرة مقالات العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر (13، 14)، عبدالرحمن بن عبدالعزيز بن حماد العقل.

[2] المصدر السابق.

[3] ترجمة للأستاذ العلامة بقلم: أشهب المالكي، موقع تاريخ الفلسفة الإسلامية.

[4] المصدر السابق.

[5] مقال بقلم ‏أبي همَّام عبداللطيف عبدالحليم، جمهرة مقالات محمود محمد شاكر.

[6] المتنبي (13 - 17)، محمود محمد شاكر.

[7] ترجم لمحمود محمد شاكر كتبٌ ليس عددها بالذي يفي بحق عملاق مثله، ومن هذه الكتب التي عنيت بترجمته:

"قصة قلم" للكاتبة الأديبة عايدة الشريف، و"محمود محمد شاكر الرجل والمنهج" عمر حسن القيام، و"محمود محمد شاكر وقضية الشعر الجاهلي" عمر حسن ذياب عمر، و"محمود محمد شاكر الأديب الناقد" إبراهيم محمد كوفحي، و"محمود محمد شاكر شاعرًا"، و"شيخ العروبة وحامل لوائها أبو فهر بين الدرس الأدبي والتحقيق"؛ لمحمود إبراهيم الرضواني، و"هدم الدساكر على مَن بغى على الرافعي وشاكر" وائل حافظ خلف.

[8] من "مرثيَّة إلى أبي فهر"، بقلم أبي همَّام.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • هذا رأي العلامة محمود شاكر في رفاعة الطهطاوي
  • محمود شاكر.. منجم الأصالة العربية
  • الشيخ محمود شاكر وتاريخ ضخم
  • تطوير دراسة الأدب العربي في المراحل التعليمية
  • العوامل المؤثرة في الأدب العربي (1)
  • محمود شاكر (شيخ العربية) (1)

مختارات من الشبكة

  • فضل الشكر وجزاء الشاكرين (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الأديب العربي الكبير د.مصطفى محمود لـ((الأدب الإسلامي))(مقالة - حضارة الكلمة)
  • العلامة في النحو العربي لمحمود سليمان ياقوت(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • عرض كتاب: البيئة والأوبئة في التراث الطبي العربي الإسلامي تأليف محمود الحاج قاسم(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الشعر العربي في تشاد جسر للتواصل العربي الإفريقي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • محمود شاكر (شيخ العربية) (5)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • محمود شاكر (شيخ العربية) (4)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • محمود شاكر (شيخ العربية) (3)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • محمود شاكر (شيخ العربية) (2)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • فوائد من كتاب المتنبي لشيخ العربية محمود شاكر (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 


تعليقات الزوار
1- شخصية عظيمة وعرض بليغ
د. علاء الدين حسين السيسي - مصر 14-05-2015 08:33 AM

ما أجمل هذ العرض لشخصية عظيمة لم أسمع عنها من قبل.
جزى الله كاتب هذا المقال كل خير عنا وعن الأدب العربي والتاريخ الثقافي لهذه الأمة المغبونة وقد ظلمه وظلمها إعلاميون إذا عرفوا سوءا أذاعوه وإذا عرفوا خيرا كتموه.

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 16/11/1446هـ - الساعة: 14:43
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب