• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    موقف أبي موسى الأشعري مع جندي من جنوده
    الشيخ عبدالعزيز السلمان
  •  
    النقد العلمي
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت ...
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / عالم الكتب
علامة باركود

عرض كتاب: موجز تاريخ الجنون لروي بورتر

عرض كتاب: موجز تاريخ الجنون لروي بورتر
محمود ثروت أبو الفضل

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 12/2/2015 ميلادي - 22/4/1436 هجري

الزيارات: 15989

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

عرض كتاب

موجز تاريخ الجنون لروي بورتر

 

♦ اسم الكتاب: موجز تاريخ الجنون.

♦ العنوان بالإنجليزية: Madness: abrief history.

♦ المؤلف: روي بورتر.

♦ ترجمة: ناصر مصطفى أبو الهيجاء.

♦ مراجعة: د. أحمد خريس.

♦ سنة النشر: 1433هـ/2012م.

♦ دار النشر: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث.

♦ الطبعة: الأولى.

♦ صفحات الكتاب: 258.

 

ما هو الجنون؟! وما هو تعريفه؟ هل للجنون عوارِض مميِّزة يستحِقُّ بها أن نطلِق لقبَ "مجنون" على إنسانٍ ما؟ وما علاقة الطب العقلي الحديث بالجنون وعلاجاته؟ وهل الطب العقلي حقيقة أم عُرْف أم وَهْم؟ هل صحيح قول "بولونيوس" في إحدى مسرحيات شكسبير: "أليس تعريف الجنون الجنون بذاته"؟! ولماذا صار الجُنون هو مرضُ العصر في الوقت الحاضر؛ إذ يُعاني قِطاعٌ عريض من البشر - حتى في المجتمعات المرفَّهة نسبيًّا - من أعراض العصاب والرهاب والتوتر والتخيُّلات الهوسيَّة العقلية والقلق، أليس هذا يستدعي سؤالاً أكثر مباشرة عن علاقة الجنون بالحضارة كما تناوَل ذلك بشكل موسَّع الباحث الفرنسي "ميشيل فوكو" في العديد من مؤلَّفاته عن الجنون ومشتقاته؟!

 

يُبحِر بنا الباحث "روي بورتر"؛ في كتابه "موجز تاريخ الجنون"، في جولة مشوِّقة حية تتناوَل تاريخ الجنون في الثقافة الغربيَّة، والمعالجات التي تمَّت لها عبر العصور المختلفة، حيث كان الجنون منذ بدايات البشرية يُنظَر إليه على كونه تلبُّسًا شيطانيًّا أو إلهامًا سماويًّا، واستمرَّت تلك الأفكار في التطور حتى صار الجنون في العصر الحديث - مع تطوُّر علمَي الطب العقلي والتحليل النفسي - مرضًا له دوافعُ وعوارِضُ يمكن علاج مسبباتها؛ لإعادة المريض إلى ممارسة حياته الطبيعية، دون عزْله عن باقي العالم كما هو الحال قديمًا.

 

والكتاب يمثِّل في قالَبه العام إعادة صياغة للمفاهيم المتعلِّقة بالجنون ومدى تداخُله في الحياة البشرية على امتداد عصورها، فمجنون الماضي الذي كان يُعزَل في مصحات خاصة أشبه بالسجون، ليس مختلفًا عن مجنون الوقت الحاضر الذي تُمارَس له عمليات تأهيليَّة؛ للتمتُّع بحياة طبيعية مِثَل باقي أقرانه من البشر الطبيعيين، لكن ما تغيَّر هو تفكير المجتمعات الإنسانية ونظرتها للجنون كحالة خاصة تستدعي الرعاية والرحمة، وكل هذا تحت رعاية العِلم الجديد الذي حَلَّ محل التفكيرات الإغريقية القديمة مُستحدِثًا أنماط فَهْم جديدة حول الجسد والدماغ والمرض، لقد سُمي القرن العشرين قرن "الطب العقلي"، واهتمَّت مدارس طبيَّة عديدة برعاية الحالات الخاصة وحاجاتها على المستوى الاجتماعي، ورغم أن كثيرًا من العلماء ما زال يُشكِّك في مفهوم "الطب العقلي" وابتكاراته العلاجية، ويرى أنه ليس بالقيمة التي يُصدِّرها الأطباء للرأي العام، لكن الطب العقلي أحدث ثورةً ملموسة في مجال الأمراض النفسية وتحليل أسبابها، ومحاولة إيجاد حلول عمليَّة لها في مجاله الخاص.

 

ومؤلِّف الكتاب "روي بورتر" مؤرِّخ بريطاني مرموق، عُرِف بإنتاجه الغزير في تاريخ الطب، عمِل محاضرًا في جامعة "كامبريدج" حيث درَّسَ التاريخ الأوروبي، كما حاضَرَ في معهد "ولكم" لتاريخ الطب، وأصبح أستاذ التاريخ الاجتماعي، فضلاً عن تقلُّده إدارة المعهد حينًا من الزمن، وقد أَنتج "بورتر" زهاء المائة كتاب في تاريخ الطب والموضوعات المتعلِّقة به تأليفًا وتحريرًا، وتخصَّص في الكتابة عن مبحث الجنون وأسبابه بشكل خاص، ومن أبرز مؤلَّفاته: "تاريخ الطب"، "التاريخ الاجتماعي للجنون"، "تشريح الجنون"، "الجنون: لمحة تاريخية"، "الجسد في عصر العقل"، "تاريخ "كامبريدج" للطب"، "المرض والطب والمجتمع في إنجلترا"، "أكبر فائدة للبشرية: التاريخ الطبي للبشرية"، "الصحة للبيع: الدجل في إنجلترا"، وغيرها.

 

أما المُترجِم، فهو "ناصر مصطفى أبو الهيجاء"، مُترجِم أردني له العديد من المقالات والدراسات المترجَمة في الصحف والمجلات التي تُعنَى بالعلوم الإنسانية.

 

وقام بمراجعة الترجمة وتحريرها د. "أحمد خريس"، باحث وأكاديمي من الأردن.

 

وصف الكتاب:

قام الكاتبُ بوضع كتابه في مقدمة وسبعة فصول وخاتمة، تناولت المقدِّمة نبذة عامة عن تطوُّر تاريخ الطب العقلي، وتحوُّله إلى هويَّة سيكولوجية مرضية حقيقية ذات أساس عضوي، بحيث لم يَعُد مجرد واجهة نظريَّة تعتمِد على الأفكار المجرَّدة التي تُقابَل بانتقادات من جانب الطب العام، بل صار وثيق الارتباط ببحث العلاقة بين الجسد والعقل والأعصاب، ونوَّه الكاتب إلى أن بحثه بمثابة "مسْح تاريخي موجَز لا يُضيف جديدًا إلى التعريف الحقيقي للجنون، ولا يتعمَّق في "طبيعة" المرض العقلي؛ وإنما يكتفي بعرض صورة موجَزة وجسورة، وغير مُنحازة لتاريخ الجنون"؛ صـ10.

 

ثم عرج الكاتب في بقيَّة فصول الكتاب على بيان عرْضه التاريخي للجنون وتطوُّره عبر العصور المختلفة، حيث جاءت عناوين فصول الكتاب على النحو التالي:

1- الآلهة والشياطين.

2- عقلنة الجنون.

3- الحمقى والحمق.

4- حجز المجانين في أماكن مغلَقة.

5- ظهور الطب العقلي.

6- المجنون.

7- قرن التحليل النفسي.

 

يتناول الفصل الأول "الآلهة والشياطين" الجنون الذي نظر إليه بوصفه إلهامًا سماويًّا أو تلبُّسًا شيطانيًّا في العصور القديمة، في كتب الطب المصري القديم وبلاد ما وراء النهرين وأساطير الأغريق من خلال المعتقدات الخرافية القديمة، أما الفصل الثاني بعنوان "عقلنة الجنون"، فيدور حول مولد العلوم الطبية ممتحنًا التفكير العقلي والطبيعي حول الجنون مثلما طوَّره فلاسفة الأغريق وأطباؤهم، وكما أُدرجَ لاحقًا في التراث الطبي الغربي، أما الفصل الثالث، فتناول الحُمْق والجنون من الناحية الثقافية؛ حيث صار الجنون بمثابة مادة ثرية يُستمَد منها ذخيرة مثيرة للجدل من الفنون والآداب، حيث تم الربط بين الإلهام عند الشعراء والأدباء وعنصر الجنون، وتولَّى الكاتب بالدراسة معاني الجنون وموتيفاته الثقافية.

 

أما الفصل الرابع بعنوان "حجْز المجانين في أماكن مغلَقة"، فيدرس الدافع وراء (مأسسة) الجنون وإيجاد العديد من المؤسسات الحكومية التي تتولَّى رعاية أصحاب العاهات الخاصة والمجانين، والتي بلغت ذِروتها في أواسط القرن العشرين، حيث احتجز نصف مليون مريض عقلي في الولايات المتحدة الأمريكية ونحو مائة وخمسين ألفًا في المملكة المتحدة، أما الفصل الخامس بعنوان "ظهور الطب العقلي"، فيتناول أبعاد تطوُّر الطب في القرن السابع عشر، وبداية الإرهاصات النظرية الأولى للطب العقلي وما بُني عليها من ممارسات، وحلوله محل التفكير الإغريقي القديم، مُستحدِثًا أنماط فَهْم جديدة حول الجسد والدماغ والمرض.

 

أما الفصل السادس بعنوان "المجنون"، فيتناول الذاوات التي تُعَد موضوع الطب العقلي "المرضى العقليين"، فيتساءل الكاتب مع قرائه حول: ما الذي فكَّر فيه المجانين أنفسهم وشعروا به؟ وكيف نظروا إلى العلاج الذي يتعاطونه رغمًا عنه؟ وذلك من خلال رصْد مذكرات بعض المجانين ممن تعرَّضوا لبعض العلاجات القاسية في بعض المصحَّات، ووصْفهم تلك التجارِب بعد خروجهم سلبًا أو إيجابًا.

 

وخصَّ الكاتب الفصل الثامن بعنوان "قرن التحليل النفسي"، بوصف مُفصَّل لتطور "الطب العقلي" وعِلم "التحليل النفسي" وتتبُّع ابتكاراته الكبرى، وإن كان يرى أن الطب العقلي قد تعرَّض لسقطة مُزرية من باب تناقُض بعض أفكاره، وعدم وجود آلية ثابتة لوصف العلاجات المختلفة للحالات المستعصية من الأمراض النفسية، التي صارت الهاجس الأكثر إلحاحًا على نوعيات عديدة من البشر، الذين يُعانون من القلق والرهاب وتوتر الأعصاب.

 

ويتساءل الكاتب في الخاتمة عما إذا كان التاريخ المنوَّع للطب العقلي يُخبرنا عن أي قيمة حقيقية لهذا المشروع؟!

 

وقد وضع الكاتب بنهاية كتابه سجلاً بأهم المراجع التي يُمكِن مراجعتُها ممن يحب الاستزادة في القراءة حول مبحث الجنون وتطوُّر "الطب العقلي".

 

وقد ضمَّن الكاتب كتابه العديد من الرسوم التوضيحية والملونة (28 رسمًا) لتوضيح معلومات الكتاب، والتعريف بأهم أعلام الكتاب للقارئ.

 

الآلهة والشياطين:

يقول الكاتب: إنه "ربما كان الجنون قديمًا قِدَم الجنس البشري"؛ فقد استخرج العلماء بعض الجماجم المثقوبة من عصور ما قبل الميلاد، حيث ساد الاعتقاد القديم أن هذه الثقوب تُتيح للشياطين الخروج من جسد المرء الذي تلبَّستْه!

 

ورغم أن فكرة ثقب رؤوس المجانين بالمثاقيب الصخرية يُعَد أمرًا راعبًا تخيُّلُه، فقد استمر هذا الاعتقاد بصورة أقل وحشية حول الجنون في العصور التالية، حيث صوِّر الجنون في الأساطير الدينية المُبكِّرة والحكايات الخُرافية على أنه عقابٌ من الرب؛ ففي إلياذة "هوميروس" نرى "أجاكس" وقد جُنَّ؛ يقوم بنحرِ الخِراف؛ لاعتقاده بأنها من جنْد الأعداء، أما العهد القديم، فيُخبرنا كيف أنزل الله عقابَه بنبوخذ نصر حينما مسَخه إلى حالة من الجنون البهيمي جزاء أعماله.

 

بل نجد "هيرودوت" في تاريخه يرمي "كامبسيس" مَلِك فارس الذي كان يسخر من الدين بالجنون ويصفه بالمجنون متسائلاً: ومَن يستطيع الحطَّ من قدْر الآلهة غير المجنون؟!

 

وقد اعتقد كلٌّ من البابليين وسكان بلاد ما وراء النهرين والهنود أن الجنون عبارة عن اضطرابات منشؤها الرُّوح الشريرة والسَّحرة والمكر الشيطاني، أو العين، أو الانغماس في الملَذَّات واقتراف المحرَّمات، وبذلك شاع الاعتقاد بأن التلبُّس عبارة عن قَدَرٍ أو عقاب إلهي، أما عند اليونان، فنجد البشر عبارة عن دُمى بيد آلهة الإغريق، يتعرَّضون للعديد من التجارب القاسية والمحن العصيبة؛ مما يدفع البطل في النهاية إلى الجنون؛ مثلما نرى في مسرحيات "إسخيلوس" و"سوفوكليس" و"يربيدوس".

 

ولكن جاءت الثورة على ذلك الاعتقاد من جانب تلاميذ "أبقراط" أبي الطب اليوناني، حيث كتب أحدُ أتباعه رسالة بعنوان "المرض المقدَّس"، يرى فيها "أنه لا وجود لما هو طبيعي في هذا المرض، فالصَّرَع مرضٌ دِماغي لا شيء آخر" ويقول: "ليس المرض المقدس - كما يبدو لي - أكثر ألوهية أو قدسيَّة من الأمراض الأخرى، بل هو ذو منشأ طبيعي مِثل غيره من الأمراض، واعتقاد الناس بألوهيته نابعٌ من جهْلهم وحَيرتهم؛ إذ إنه لا يُشبِه - عَرَضيًّا - الأمراضَ الأخرى".

 

وبذلك غدا الجنون مع الطب "الأبقراطي" مبحثًا طبيعيًّا بعد أن أُنزل من محتده الإلهي، وتولَّى هذه الحملةَ التنويرية أطباءُ أوروبا بعد انتهاء العصور الوسطى، محاولين إيجاد تفسيراتٍ طبيعية لحالات الجنون وأنواعه، مقاومين المعتقدات الشعبية المتعلِّقة بأفعال الشيطان ومؤثراته.

 

عقلنة الجنون:

تناوَل فلاسفة اليونان التَّفرِقة بين العقلاني وغير العقلاني، مُقدِّمين أرجحية العقل على المادة، ورأوا في اللاعقلاني عارًا وخطرًا يتوجَّب على العقل والرُّوح مكافحتُه ومغالَبته، ورُغم أسبقيَّة تلك النظرة فإن مفكِّري اليونان لم يستطيعوا إيجاد حلٍّ لمشكلة اللاعقلاني، وإن كانوا قد عمَدوا إلى "طبننة" الجنون، وإخضاعه لتجارِبهم العمليَّة والتنظيريَّة؛ من باب الأمل في المساعدة على خلْق عقل سليم في جسد سليم، وقام اليونان بتفسير مشكلة اللاعقلاني من خلال نظرية الأخلاط التي تحكم جسد الإنسان وتصرُّفاته، حيث رأوا أن الصحة والمرض يَنتُجان من التغيُّر الذي يطرأ على توازُن العناصر الأربعة للأخلاط في جسد الإنسان، وهي: الدم، والصفراء، والبلغم، والسوداء، وأن تلك الأخلاط مسؤولة أيضًا عن المزاج العام للشخصية والنزعات السيكولوجية، ويَنتُج نزق الشخصية أو الجنون العرضي حينما يتزايد واحدٌ من هذه السوائل أو يَنقص، ورأوا أنه من الممكن تعديل هذه الاختلالات التوازنية والوقاية منها باعتماد نمط حياة معقول وعبر الوسائل الجراحية أو الطبية، مثال وصْفهم لمن أَنتَج كبدُه دمًا زائدًا، أو لوَّثتْ دمَه السمومُ وأصيب بحالة الجنون الهوسي - أن يخضع لعملية الفصاد الطويل، أما المجانين الهائجون فيخضعون لحمية مخفَّفة مُبردة، قِوامها سلطة الخضار والماء والحليب، مع الابتعاد عن اللحوم الحمراء والخمور.

 

ووصَف الطب الأبقراطي العديد من الحالات الجنونية موصِّفًا إياها على أساس نظرية الأخلاط؛ حيث استطاع التمثيل لكل من حالات الجنون الهوسي، والسوداوية، والهلوسة العقلية والبصرية، والاكتئاب، والذِّهان، والوسواس المرضي.

 

وقد استمر ذلك التفكير عند العلماء النصارى في عصر النهضة، حيث استمروا في الأخذ بنظرية الأخلاط لتفسير الحالات المختلفة من الجنون؛ مِثل: المُصابين بالهوس أو العنف الجنسي، وبرَز منهم كل من: بارثولوميوس، ودنيس فونتانون، وفليكس بلاتر، وتيموثي برايت وبيرتون، والذي كان هو نفسه مصابًا بالسوداوية، وكان يقول: "إنني أكتُب عن السوداوية؛ لكوني مُنهمِكًا في تجنُّب السوداوية"، وكان يقول أيضًا: "إن عدد النظريات حول الجنون يساوي عدد المجانين، كما أن أغلبية هذه النظريات تُناقِض بعضها بعضًا، ويكون "بولونيوس" - ساعتها - قد أُبرئ مرة ثانية"!

 

ولكن ما لبِث أن دشَّن تطوُّر عِلم التشريح وعلوم الفسيولوجيا ومراجعات الفلاسفة لمكانة العقل في القرن السابع عشر تقديم نظريات عضوية حول الجنون، حلَّت تدريجيًّا محلَّ نظرية الأخلاط، وبذلك صار الجنون مثله مثل أي مرض آخر قد يَصدُر عن خللٍ جسدي، أو تتسبَّب به توصيلات خطرة في الدماغ، ونجد أن "لوك" قد ميَّز في مُقارَباته حول الجنون بين فكرة الخطأ في الإدراك عند المجنون، والذي يربط بين الأفكار الخاطئة، ويُقدِّم - تَبَعًا لذلك - افتراضات ومسائل خاطئة، ولكنه يبني تفكيرًا سليمًا انطلاقًا منها، عكس البُلْه الذين لا يُقدِّمون إلا القليل من الافتراضات والأطروحات؛ وبذلك فهم لا يُمارِسون التفكيرَ ألبتة، ومن ثم أحيت تلك المقارَباتُ التي ربَطت بين الوهم والتعليم الخاطئِ الأملَ في إمكانية ردِّ المجنون إلى التفكير السليم عن طريق التعليم والتهذيب.

 

الحمقى والحمق:

ساد احتقار المجنون اجتماعيًّا، ونبذه وحرمانه من القَبُول الاجتماعي، بل إن رمي فرْد بالجنون يعني تمييزًا لهُويَّة فاسدة يراها المجتمع انحرافًا ويعمل على رفضها، وكان قديمًا يُميَّز المجنون في الحكايات الشعبية بتصويره مشوهًا بحجر يُبرِز من جمجمته، وعُرِف ذلك بحجر الحُمْق، بل كان المجانين يُستغَلون في التسول حيث سُمِح لهم بذلك قانونيًّا، وكان نزلاء مستشفى "بدلام" يَذرعون الطرق العامة بزيهم الخاص يُنشِدون أناشيدَهم الخاصة؛ لقاء حصولهم على عشاء، وكانت تُجرى طباعة أغانيهم تحت عنوان "أهازيج بدلام" شعبيًّا!

 

أما ارتباط الجنون بالأدب، فنجد بوادره في عصور مبكِّرة منذ عصر اليونان؛ حيث طرحوا فكرة "الجنون الإلهي" لدى الفنان الملَهم الذي مسَّته النار الإلهية، فانطلَق يَقرِض الشعر، بل في عصر النهضة إذا ما نُعِت شاعر بالجنون كان ذلك إطراء له، ومن ذلك المديح الذي كالَه الشاعر "ميشيل درايتون" للكاتب المسرحي "كيت مارلو" قائلاً:

ما زال يحتفظ بذلك الجنون اللطيف، ذلك الجنون الذي ينبغي أن يَمتلِك دماغ الشاعر.

 

أما "شكسبير"، فيرى في مسرحية "حُلم ليلة صيف" أن المجنون والعاشق والشاعر خُلِقوا جميعًا من الخيال.

 

وقد تَمَّ الربط بين الجنون والعبقرية، وتَندَّر الكاتب "ج.ف. نيسبت" في كتابه "جنون العبقرية" على العديد من رجال الأدب الذين يقتربون من درجة الجنون، ويَعُد جنونهم مصدرًا رئيسًا من مصادر إبداعهم؛ من أمثال: سويفت وجونسون وكاوبر وساوشي وشيلي وبايرون وكامبل وجولد سميث وتشارلز لامب ولاندور وروسو وباسكال وشاتوربريان وجورج صاند وتاسو وألفيري وإدجار آلان بو.. وغيرهم الكثير.

 

ويرى "روبرت بيرتون" في كتابه "تشريح السوداء" أنه "كلنا مجنون.. بصورة ما"، بل ذهبت واحدة من المجلات سنة 1753م إلى أن أفضل مكان نستقي منه الدروس هو مدرسة البؤس هذه.. "بدلام" للمجانين، فربما كان بمقدورنا أن ترى هناك كبار العقلاء!

 

أما المعمداني "توماس تريون"، فيرى "أن العالم عبارة عن مستشفى مجانين كبير، حيث يَحتجز فيه الناس الأكثر جنونًا من هم أقل جنونًا".

 

ونجد أن الجنون قد أصاب جميعَ الطبقات حتى الملوك؛ فقد تَنازَل المَلِك "جورج الثالث" ملك بريطانيا عن العرش عام 1788م؛ لإصابته بالهذيان، وكان السياسي "إدموند بورك" موسوسًا لدرجة اعتقد معها الكثير أنه مجنون.

 

وقد اشتَهر عن الكاتب المسرحي "نتانيل لي" الذي أُودِع مستشفى "بدلام" في إحدى فترات حياته - قوله في وصْف تلك الحادثة:

"وصفوني بالجنون، وقلت: إنهم مجانين، ولكن.. لقد تغلَّبوا عليَّ بكثرة الأصوات"!

 

حجز المجانين في أماكن مغلقة:

بدأ حجز المجانين في مصحات خاصة في عصر متأخر نسبيًّا، حيث كانت المجتمعات القديمة تترك مهمة رعاية المجانين والمعاتيه لأسرهم، وكتَب "أفلاطون" في القوانين يقول: "إذا كان المرء مجنونًا، فلا ينبغي أن يترك له الحبل على الغارب، فيتجوَّل في المدينة كيف يشاء، بل يتوجَّب على عائلته أن تتعهَّده، وتتحفَّظ عليه بشتى السبل".

 

وفي أواخر العصور الوسطى تولَّت الأديرة حجْز المجانين في أبراج أو أقبية جعلت تحت الرعاية الرسمية، وتولَّى دير "سانت ماري" عام 1247 - والذي عُرِف بعد ذلك باسم "بيدلام" - رعاية المجانين في لندن، وكانت القرية الفلمنكية "غيل" - والتي احتضنتْ مقام القديسة "ديفنا" - قد اكتسبتْ شهرة؛ لكونها كانت مركزًا لعلاج المجانين، ونرى أن أُولى المدن التي احتضنت مستشفيات لرعاية المجانين كانت مدن "بلنسية وسرقسطة وإشبيلية وبلد الوليد وطليطلة وبرشلونة"؛ وذلك اقتداء بالمستشفيات الإسلامية في العهد الأندلسي قديمًا.

 

وتمت في عهد "لويس الرابع عشر" حركة مطاردة قانونية للمجاذيب في فرنسا؛ حيث تم احتجاز ما يقرُب من 6000 نسمة من الفقراء والمتشردين وصِغار المجرمين والبُلْه والمجانين في مستشفى باريس العام!

 

ويرى "فوكو" أنه قامت في نفس الوقت حركات مشابِهة في كل من إنجلترا وألمانيا؛ حيث تم إيداع المجانين في السجون والإصلاحيات والملاجئ، كإجراء بوليسي وصائي من جانب الدولة.

 

وفي روسيا مثَّلت الأديرة مكان احتجاز للمجانين، ولم تُعرَف أمكنة إيواء المجانين التي تُشرِف عليها الدولة قبل عام 1850م، ومع نهاية القرن التاسع عشر لم يكن في البرتغال سوى مصحتين اثنتين تقومان بإيواء المجانين، ولم يتجاوز عدد نزلائهما 600 نزيل.

 

ونجد أن عزْل المجانين كان يتم حتى عام 1800م في مصحات خاصة تقوم على أساس ربحي ضمن اقتصاد السوق، وكانت هذه المصحات تلتزِم بالسريَّة التامة لتاريخ مرضاها، وتَدَّعي حُسْن الرعاية والعلاج الدوري، وكانت هذه المصحات الخاصة تخدُم مبدأ "المتاجرة بالجنون".

 

وحاولت بعض تلك المصحات تأييد العلاج الأخلاقي لمَرضاها، الذي يعتمد على عدم التقييد وعدم الإيذاء الجسدي للمجانين، ومحاولة إحاطتهم بجو اجتماعي يتجاوَر فيه المريض والممرض معًا في جو أسري محبَّب، وكان أحد رواد العلاج الأخلاقي في فرنسا الثورية هو الطبيب "فيليب باينل" والذي تزعَّم هذه الحركة.

 

ورغم الانتقاد الشديد الموجه لتلك المصحَّات العقلية وأسلوب إدارتها، بل وثبوت بعض التلاعبات اللاأخلاقية لمديريها في بعض الدول الأوروبية، فإن النقد لم يؤدِّ إلى زوالها، بل عمِل إلى إعادة إحيائها وإصلاح قوانينها الأخلاقية، وتوالتِ الإصلاحات القانونية تدريجيًّا، حيث وضعت مجموعة من التشريعات بداية من عام 1774 للعمل على تدعيم المؤسسات الحكومية لرعاية المجانين، وملاحقة الممارسات غير القانونية بها.

 

وخلال القرن التاسع عشر قفز أعداد المرضى في تلك المصحَّات الحكومية بصورة كبيرة للغاية، فقد قفزت أعداد المرضى في إنجلترا، من زهاء 10000 مريض عام 1800، إلى عشرة أضعاف ذلك الرقم فقط عام 1900، ولم يَزد عدد المحتجزين في إيطاليا على 8000 مريض حتى فترة متأخرة إلى عام 1881م، وما أن حَلَّ عام 1709م حتى تَصاعَد ذلك العدد إلى نحو 40 ألفًا.

 

ونجد الدكتور "روبرت جادينر هيل" يَعرِض تجرِبته في العلاج الأخلاقي في مؤسسة "لينكولن" الحكومية ونتائجها على النحو التالي:

 

 

ولكن وجود المصحّات طرَح أسئلة حول جدوى تلك المؤسسات الحكومية وانحرافها عن أهدافها الأصلية السابقة من كونها مستشفيات لعلاج الجنون، وتحوُّلها إلى أماكن إيواء للمجانين الذين لا يُرجى شفاؤهم لفترات طويلة قد تَصِل حتى ساعة وفاتهم، إلى جانب تحوُّل نزعة "المأسسة" المتعلِّقة بالمصحات إلى أسلوب تِجارِي بحْت، فقد جمعت بين مستلزمات الدولة العقلانية والوسائل النفعيَّة لاقتصاد السوق، دون أملٍ حقيقي للمريض في الشفاء.

 

ظهور الطب العقلي:

أعاد العِلْم الحديث النظر في نظرية الأخلاط المسبِّببة للاضطرابات العقلية، وأعاد تصوير الجسم تَبَعًا للمصطلحات الميكانيكية، والتي تركِّز على "الأجساد الصلبة والأعضاء والأعصاب والألياف" أكثر مما تركِّز على السوائل، وبذلك أرجع الأطباء الجنون إلى أضرار تصيب الجسد.

 

وكان من أوائل مَن تبنَّى تلك المدرسة، والتي اعتمدت على مجال التشريح في الطب - كل من: الطبيب "توماس ويليس"، والأسكتلندي "أراكيبالد بيتكارين"، وتلميذه "ريتشارد ميد"، وتَزامَنت هذه الثورة الطبيَّة مع ثورة أخرى في الأفكار الفلسفية حول علاقة أمراض العقل بالجسد، واقترَح الفيلسوف الوضعي "جون لوك" في كتابه "مقالة في الفَهْم الإنساني" (1690) أن الجنون صادر عن تَرابُطات خاطئة في العمليات التي تتحوَّل عبرها معطيات الحواس إلى "أفكار"، واحتلَّت الترابطات الخاطئة للأفكار - كما صوَّرها جون لوك - موقعًا مركزيًّا في التفكير الجديد حول تفسير الجنون في كل من بريطانيا وفرنسا.

 

وقد تمت العديد من المراجعات لهذه النظرية في كل من المدرستين العقليتين للطب في كل من فرنسا على يد "باينل" الفرنسي ورِفاقه، وألمانيا على يد "هينروث" و"كارل إيدلر" الألمانيين ومَن تَبِعهما؛ ليصلا في النهاية إلى حضور مبحث "فراسة الدماغ"، في سياق الجدل الدائر حول طبيعة الجنون ومسبباته، ويؤكِّد عِلم الفراسة، بصورة مثيرة للجدل، أن الدماغ هو مقرُّ العقل، الذي تحدِّد أشكاله الشخصية وتُظهِرها، فالدماغ ذاته هو مجموع ما يَزيد على ثلاثين عضوًا منفصلاًً، ويشغَل كل واحد منها منطقة قشرية بعينها، ويُعين حجمُ العضو قوة عملياته؛ إذ إن محيط الجمجمة هو ما يُحدِّد قَسَمات الدماغ، بينما تُحدِّد تضاريسها "التلال والوديان" الشخصية.

 

ويرى "ميرنيت" - الذي كان نِتاج هذه المدرسة الطبية - أن كل مثير يَصِل إلى الجهاز العصبي المركزي، يثير منطقة الاستجابة في قشرة الدماغ، وقد نجح "ميرنيت" في إظهار مسارات بعينها تتَّصِل عبرها الخلايا القشرية مع بعضها مثلما تتصل في الخلايا الأعمق في المخ، مُقدِّمًا تصنيفًا منهجيًّا للمرض النفسي وعوارِضه.

 

ووضعت تلك المدرسة العصبية في تفسير الجنون قانونًا آخر لوصف حالات الجنون المستعصية على العلاج، وهو ما يُعرَف بمبدأ "التنكسية"؛ إذ إن تَنامي الحالات المتعسرة التي مكثت طويلاً في المصحات، مع نهاية القرن وضح أن تفحص تاريخ العائلة لها يُشير إلى رواسب سيكوباتية موروثة تؤدي إلى ترسُّب مبدأ التنكسيَّة العقلية والفيزيقية، ومن ثم فإن الأمل في علاج التنكس الوراثي يكاد يكون معدومًا.

 

وتولَّى هذه النظرية في إيطاليا الطبيبُ العقلي والباحث في عِلم الجريمة "سيزار لومبروسو"، الذي وصَّفَ المجرمين والمرضى العقليين، بوصفهم حالات تأسلية تنكسية تُميِّزها علامات خلقية مِثل: الحاجبين المنخفضين، والفكين الظاهرين، وما إلى ذلك.

 

وبذلك تطوَّر الطب العقلي، ودخل عصره المِهني منذ منتصف القرن التاسع عشر، وتم تعزيز هُويَّة الطب العقلي بإنشاء أول جمعية للأطباء العقليين الموظفين في المصحات والمستشفيات الخاصة بالمجانين عام 1841م، وتحوَّلت هذه الجمعية في آخر الأمر إلى الكلية المَلَكيَّة للأطباء العقليين.

 

المجنون.. كاتبًا وفنانًا:

تولَّى عددٌ من المجانين وصْف رحلتهم للشفاء في المصحات الخاصة والحكومية، وبيان نظرة المريض لطبيبه في عدد من مذكراتهم، وكان على رأسهم "جون برسيفال" في كتابه "قصة علاج تلقاه رجل نبيل عانى التشوشَ العقلى" (1838)، حيث كان هذا الكتاب الروايةَ الأكثر حدة وتأثيرًا من كل ما كتبه المرضى السابقون حول حياة المصحات.

 

وقد كشف "برسيفال" في كتابه هذا عن كُنْه تَجرِبته مع الطاقَم الطبي للمصحة الذي لم يصْغ أبدًا إلى مطالبه، وأنه قلما دعوه بالكائن البشري، وأنه عومِل كما لو كان قطعة أثاث أو تِمثال خشبي مسلوب الرغبة والإرادة، عاجز عن اتخاذ أي قرار.

 

ولكن بعض المذكرات الخاصة بالمجانين كانت تحتوي نوعًا ما من التأكيد على جُنُوح هؤلاء المرضى لحالات مُستعصية من الجنون الفعلي؛ إذ يؤكِّد لنا "جودوين وارتين"، وهو نبيل من حزب الأحرار، في سيرته الذاتية التي بلغت نحو نصف مليون كلمة، أنه أقام علاقة مع عشيقته ماري باريش، وأشار إلى أنه ارتبط بعلاقة غرامية مع ثلاث من ملكات إنجلترا، وإلى أن الله أمره بأن يَستبدِل شعب المملكة بقوم آخربن.

 

وفي كتابه "الشؤون الداخلية لمستشفى بيدلام" (1818)، ادَّعى النزيل السابق "يوربان ميتكالف" أنه وريث العرش الدنماركي، وصوَّر "بيدلام" مكانًا فاسدًا ومتوحِّشًا.

 

وتعرَّض "جيمس تيلي ماثيوس" في مذكراته، والتي نُشِرت تحت عنوان "إيضاحات حول الجنون، استعراض لحالة فريدة من الجنون، وهي كذلك محط اختلاف الآراء الطبية" - للوقوع تحت وهمِ وجود مؤامرة مُزدوَجة من جانب فرنسا الثورية على إنجلترا المَلَكية، وأن "يَعاقبة" فرنسا يَستخدمون التنويم المغناطيسي لجلْب الأسرار التي تُتيح لهم القيام بانقلاب على الحكم الملكي في كل من إنجلترا وأيرلندا.

 

أما "صاموئيل بروكشو"، فقد قام بالدفاع عن نفسه، ووصَف المعاملة السيئة التي تعرَّض لها في إحدى المصحات في كراستين الأولى بعنوان: "حالة صاموئيل بروكشو والتماسه وكلمته، بروكشو، الذي عانى أقسى أشكال الحبس طوال عام تقريبًا" (1774)، والثانية بعنوان "دليل آخر على المعاملة الجائرة في المصحات الخاصة"، والتي نُشِرت أيضًا في نفس العام.

 

ولم يُعبِّر المضطربون عن أنفسهم لفظيًّا، عبر عدد لا يُحصى من السير الذاتية فحسب؛ وإنما عبَّروا بصريًّا عبر الرسم واللوحات الذاتية والأعمال اليدوية، ومن الطريف أن الأطباء النفسيين عند مقارنة الأعمال الفنية للفنانين الانطباعيين والسرياليين ومقارنتها بتلك الحالات النادرة من تعبير المجانين الأشهر في التاريخ عن تَجرِبتهم بالرسم - خلَصوا إلى نتيجة أن هؤلاء الانطباعيين قد يُعانون بالمِثل من حالات مُشابِهة من الجنون، فتَبَعًا لرأي "تيدور هيسلوب"؛ مؤلف كتاب "الشاذون العظماء"، فإن "سيزان" والتكعيبيين يعانون من مرض "العين العصبية" الذي يُعاني منه قطاع عريض من المجانين!

 

قرن التحليل النفسي:

شهِد الطب العقلي في العصر الحديث ارتباطًا بالتفسيرات الحديثة لعلم النفس، وشاعت أساليب جديدة من الطب العقلي الديناميكي، والتي اعتمدت في بعض حالاتها على استخدام التنويم المغناطيسي لإخراج النوازع الدفينة من الذات، وارتبط هذا بتفسيرات "سيجموند فرويد" النفسيَّة لمفهوم "اللاوعي" المرتبِط بالمرض العقلي، وربط نوازع الطفولة وتَجارِبها والعلاقات الجنسية بتنامي المرض العقلي.

 

ولكن ما لبِث أن لفَظَ الطب النفسي مقارباتِ فرويد التي اتسمت بالإغراق الفج في الرغبات الجنسية، وإلصاقها بأي مرض عقلي؛ لتنطلِق إلى تفسير أوسع للأنماط السيكولوجية النفسية، ومحاولة تقديم مفهوم خَدَمي للطب العقلي؛ من أجل تدعيم الرؤية المتعلِّقة بالتكامل والاستقرار الاجتماعيين المبنيين على تعديل الفرد وتكييفه تَبَعًا للأشكال الاجتماعية الصحية.

 

وبصورةٍ ما تحوَّل الطب العقلي في الجامعات والمستشفيات التعليمية، في أواسط القرن العشرين، إلى التحليل النفسي بصورة كبيرة.

 

وقد شهِد العلاج الطبي للجنون ابتكارات عديدة، بعضها كان فعالاً، والآخر مثيرًا للشك، حيث نَقَل التدخلُ الجراحي النفسي الطبَّ العقلي إلى درجة جديدة من التطبيق الحيوي، وذلك عن طريق العمليات الجراحية لطبيب الأعصاب "إيغاس مونيز" - من جامعة لشبونة - في الفَصِّ الجبهي، إذ زعَم مونيز بأن حالات الهوس والاكتئاب يمكن أن تتحسَّن بإجراء جراحة في الفص الجبهي، وهي عملية يجري فيها إحداث قطْع جراحي للأربطة التي تَصِل الفصوص الأمامية للدماغ بأجزائه الأخرى.

 

غير أن تلك العمليات توقَّفت تمامًا مع ثورة الأدوية الكيمائية، وبَدء استعمال العقاقير نفسية التأثير في منتصف هذا القرن واستعمالها كمضادات للاكتئاب والذهان، ومن أمثلتها الليثيوم وعقار إميبرانين لعلاج الاكتئاب، وقد مكَّنتْ هذه العقاقير الكثير من المرضى من مغادرة الجو التخديري للمستشفيات العقلية، أو تجنُّبه، كما مكَّنتهم من ممارسة حياتهم مُلتزمين بالعلاج المستمر في العالم الخارجي.

 

لكنَّ كثيرًا من المشاكل المتعلِّقة بالآثار الجانبية لهذه العقاقير، وإدمان هذه العقاقير من جانب متعاطيها، ودوام مفعولها الطويل، إلى جانب مشاكلها الأخلاقية التي ثارت حولها - جعل الأمر أشبه بعملية تِجارية من جديد، وهو ما يُمثِّل سقوطًا مدويًا للطب النفسي من جديد.

 

ويرى الكاتب في نهاية بحثه الممتع أن التوصيفات المختلفة للجنون وأنواعه ضمَّتْ مزيدًا من الناس الذين جرى تشخيصهم على أنهم يُعانون من الاضطرابات العقلية أكثر من أي وقت مضى، "فهل يعد هذا تقدمًا؟!".

 

إلى جانب أن ثقة الناس بمهنة الطب العقلي تؤول إلى مستويات دونية، كما يتضح في الصور المرتابة والحاضرة دائمًا في الفنون وتقارير الصحافة الرائجة... وينشأ عندها السؤال المقلق دومًا: "هل يدق الجنون أجراسه بقوة مرة أخرى ونحن في القرن الحادي والعشرين؟".





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • عرض كتاب: الجمل ( التاريخ الطبيعي والثقافي )
  • عرض كتاب: الغراب ( التاريخ الطبيعي والثقافي )
  • عرض كتاب: الرائحة أبجدية الإغواء الغامضة
  • عرض كتاب: الجرذ التاريخ الطبيعي والثقافي
  • عرض كتاب: الثعلب ( التاريخ الطبيعي والثقافي )
  • عرض كتاب: العولمة .. مقاومة واستثمار
  • عرض كتاب: عبدالله بن المعتز العباسي للدكتور محمد الكفراوي
  • عرض كتاب: التصحر .. تدهور الأراضي في المناطق الجافة
  • عرض كتاب: الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام
  • معجم مشاهير النساء لمحمد ذهني التركي
  • أحكام الوطء لمحمد بن يحيى بن سراقة العامري

مختارات من الشبكة

  • تسهيل المسالك بشرح كتاب المناسك: شرح كتاب المناسك من كتاب زاد المستقنع (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • كتاب: النظرية الجمالية في العروض عند المعري ـــ دراسة حجاجية في كتاب "الصاهل والشاحج" للناقدة نعيمة الواجيدي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • عرض كتاب (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) للعلامة المصطفوي (كتاب فريد)(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
  • عرض كتاب: صناعة الكتاب المدرسي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • قراءة في كتاب الموجز في تاريخ البلاغة لمازن المبارك: ملخص لأهم معطيات الكتاب(مقالة - حضارة الكلمة)
  • عرض كتاب "رعاية الأسرة المسلمة للأبناء: شواهد تطبيقية من تاريخ الأمة للدكتور عبدالحكيم الأنيس"(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • عرض كتاب (النمل: التاريخ الطبيعي والثقافي) لشارلوت سلي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • عرض كتاب: تاريخ ضائع - التراث الخالد لعلماء الإسلام ومفكريه وفنانيه(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • عرض كتاب: تاريخ المسلمين في البحر المتوسط(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • عرض كتاب (تاريخ القراءات في المشرق والمغرب) للدكتور محمد المختار ولد أبَّاه(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب