• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    استراتيجيات المغرب في الماء والطاقة والفلاحة ...
    بدر شاشا
  •  
    طب الأمراض التنفسية في السنة النبوية
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    الاستشراق والمعتزلة
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    زبدة البيان بتلخيص وتشجير أركان الإيمان لأحمد ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    مفهوم الصداقة في العصر الرقمي بين القرب الافتراضي ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

{فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}

د. فارس العزاوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 10/9/2009 ميلادي - 20/9/1430 هجري

الزيارات: 14472

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

لازال الحديث عن مفهوم الجهاد هو السائد في أوساط المسلمين اليوم بشتى اتجاهاتهم ومشاربهم، وباختلاف مستوياتهم العلمية؛ لكون دواعيه قائمة مستمرة في واقع هذه الأمة، وهو أمر في الواقع ليس غريبًا كون مفهوم الجهاد من المفاهيم التي وضعها الشرع وفصل أحكامها، ولو بقي الخوض فيه في إطار البحث والدراسة ومذاكرة العلم لكان أمرًا مستساغًا بل مطلوبًا، ولكن الإشكال يكمن في كون هذا المفهوم أصبح كتابًا مفتوحًا يسطر فيه من شاء ما شاء بالقول أو بالفعل، في الوقت الذي يعتبر فيه هذا المفهوم من المفاهيم الدقيقة التي تحتاج إلى نظر وتعميق وتحقيق.

 

والذي جعل هذا المفهوم الدقيق عرضة للعامة قبل الخاصة ما تمر به الأمة من أحوال ضيق وضعف وغزو واحتلال وقل غير ذلك، كل هذا قد استدعى الكثيرين الخوض فيه ممن لم يتأهل للعلم والنظر في أحكامه ولم يمتلك ناصية العلم وآليته، فنتج عن ذلك إصدار فتاوى ورسائل وأحكام لا تمت إلى العلم بصلة، ولم يكن للعلماء دور في تهذيبها أو تمحيصها أو تزكيتها فضلاً عن تبنيها، وإنما كانت الحماسة غير المنضبطة هي رائدها، وإذا كانت مدعومة بالأدلة، فإنما هي أدلة أريد بها الاستظهار لحكم مسبوق على الدليل، فكان الدليل داعمًا للحكم المراد لا مرجعًا له والفرق واضح ولا شك، ولا تكفي في هذا المقام النية الصالحة وإخلاص العمل فهذا أمره إلى الله، والحكم في الظاهر مبني على موافقة العمل للشرع فحسن القصد لا يغني عن سداد المنهج.

 

وهذه الظاهرة الخطيرة أفضت إلى قراءة النص قراءة منقوصة مبتورة عن أصلها وعن سياقها الذي ينبغي مراعاته عند استنباط الأحكام ومن المعلوم أن العلماء ذكروا مراحل متعددة لاعتبار الحكم الشرعي عند استخراجه تتمثل في الاستنباط والتحقيق والتدقيق والتنزيل، وهي مراحل تنطلق من تصور المسائل قبل طلب الدليل لها، وطلب الدليل يتضمن مرحلة التحقيق والتدقيق وهما مرحلتان الغرض منهما معرفة مقاصد النص وحكمه، ثم تأتي مرحلة التنزيل في الواقع لبيان موائمة الحكم للواقع من عدمها وهو ما يسمى عند أهل العلم بتحقيق المناط، إننا بحاجة ماسة اليوم إلى إدراك المفاهيم وتجليتها، مما يؤكد دور العلماء في واقع أضحت المفاهيم فيه ملتبسة، وفي زمن تصدر فيه أنصاف المتعلمين، وفي ظرف أضحى إسقاط العلماء وانتقاصهم ميزة لأولئك المتعالمين، إنه زمن يصح أن نطلق عليه زمن الفوضى الفكرية في أمر الجهاد، وسوف ننجر - إن لم نتدارك أمورنا وأوضاعنا - إلى معارك فكرية وصراعات مفاهيمية نخشى أن تفضي إلى إشغال الأمة وإضعافها أكثر مما هي عليه الآن، ولذلك نحذر علمائنا وعقلائنا وأهل الأمر فينا - إن بقي الحال على ما هو عليه الآن في هذه الفوضى الفكرية من جر الأمة إلى مزيد من إراقة الدماء وإزهاق الأرواح وانتهاك الحرمات بحجة الجهاد في سبيل الله وليس ذلك ببعيد على أهل الغلو والتشدد.

 

ومن المهم أن ننبه في هذا المقام على أن انتقادنا لبعض الممارسات الخاطئة في قراءة الجهاد ليس معناه عدم مشروعية الجهاد، فمشروعيته قائمة ومحكمة ليست منسوخة ولكن إذا تحققت أركانه ووجدت دواعيه لا أن نجر الأمة إلى ساحات جهادية مزعومة - إن صح هذا التعبير - تفضي بها إلى مفاسد كبيرة لا تحمد عقباها كما هو مشاهد ومحسوس، فلا يلزم من انتقادنا الممارسات الخاطئة لمفهوم الجهاد القول بعدم مشروعيته.

 

وفي هذه الأسطر بيان لبعض المخالفات المنهجية التي تم رصدها لدى بعض الإخوة ممن يرون العمل الجهادي والتحريض عليه ودفع الناس إليه، والتصدي للخوض فيه:

- ينطلق الإخوة من فرضية أن الجهاد اليوم فرض عين على جميع الأمة، لكون جزء منها محتلاً، ويستندون في ذلك على نصوص عامة مطلقة غير مقيدة، وفتاوى سابقة صدرت عن بعض العلماء والمشايخ، ولذلك لا يشترطون الاستئذان، ولا ينتظرون فتوى عالم أو مجتهد من أجل النظر في مثل هذه المسائل الدقيقة.

 

والقول بفرضية العين في هذه المسألة الدقيقة فيه نظر من عدة أوجه، ومنها:

الأول: إن فرضية الجهاد العينية إنما تخص أهل البلاد التي احتلها الكفار أو داهمها إلا إذا لم تتحقق الكفاية بهم وهذا مرده أهل العلم والخبرة وليس لكل أحد أن يحدد كون الجهاد فرض عين أو فرض كفاية، قال النووي: " وأما غير أهل تلك الناحية - أي من الذين داهمهم العدو أو احتل ديارهم - فمن كان منهم على دون مسافة القصر، فهو كبعضهم، حتى إذا لم يكن في أهل البلد كفاية، وجب على هؤلاء أن يطيروا إليهم، وإن كان فيهم كفاية، ففي وجوب المساعدة عليهم الوجهان، ومن كان على مسافة القصر، إن لم يكن في أهل البلدة والذين يلونهم كفاية، وجب عليهم أن يطيروا إليهم، فإن طار إليهم من تحصل به الكفاية، سقط الحرج عن الباقين، وهذا معنى قول البغوي: إذا دخل الكفار دار الإسلام، فالجهاد فرض عين على من قرب، وفرض كفاية في حق من بعد، وعلى هذا فحكم أهل الأعذار على ما ذكرناه في الضرب الأول وفيه وجه، أنه يجب على جميعهم المساعدة والمسارعة وليكن هذا في الأقربين ممن هو على مسافة القصر، وإن كان في أهل البلدة والذين يلونهم كفاية، فالأصح أنه لا يجب على الذين فوق مسافة القصر المساعدة؛ لأنه يؤدي إلى إيجاب على جميع الأمة، وفي ذلك حرج من غير حاجة .."[1].

 

وقال ابن قدامة إذا داهم الكفار دار الإسلام: " إذا جاءهم العدو صار الجهاد عليهم فرض عين، فوجب على الجميع، فلم يجز لأحد التخلف عنه، فإذا ثبت هذا، فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير؛ لأن أمر الحرب موكول عليه، وهو أعلم بكثرة العدو وقلتهم، ومكامن العدو وكيدهم، فينبغي أن يرجع إلى رأيه، لأنه أحوط للمسلمين"[2].

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اختياراته المطبوعة مع الفتاوى: "والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا"[3]. وبهذا يثبت لنا عظم الفتنة والمفسدة التي تترتب على ذهاب الشباب إلى أرض العراق وغيرها دون أن تكون لهم خبرة بتلك الأرض ولا علم بها، وكان في خروجهم المخالفة بحكم جهلهم بالوضع، وعدم الرجوع إلى أهل العلم.

 

الثاني: إن الحكم بالوجوب العيني - لو سلمنا به - في هذه المسألة إنما هو حكم متعلق بنازلة معينة، فيكون مستنده ومرده النازلة التي صدرت فيها هذه الفتوى، والنوازل كما هو معلوم يتعامل معها كلاً بحسبها، ولذلك لا يمكن تعميمها على كل نازلة، هذا من جهة ومن جهة أخرى لم يقل أحد من العلماء المعتبرين اليوم - حسب علمي - : إن الجهاد في العراق أو في غيره فرض عين على جميع الأمة.

 

الثالث: إذا سلمنا جدلاً أن الجهاد فرض على جميع الأمة، فإن الحكم هنا وتعميمه على المكلفين مبني على جانب واحد فقط هو الحكم التكليفي مع إغفال الحكم الوضعي الذي اعتبرته النصوص الشرعية واعتبره العلماء وجعلوه قاعدة أصولية ينبغي اعتبارها في كل حكم تكليفي، ولا يكتفى بكون الأمر واجبًا عينيًا أو واجبًا كفائيًا، والحكم الوضعي في مسألتنا متعلق بتحقق شروط وانتفاء موانع، ومن أعظم شروط هذه المسألة هو القدرة، والقدرة أمر نسبي يوكل أمره إلى العلماء وليس إلى غيرهم؛ وميزانها - كما أخبر بذلك العلماء - إنما هو المصلحة المترتبة على الفعل والترك، وأن شرط المصلحة أن تكون منضبطة بضوابط الحق والعدل، وتتطلب معرفة بمقاصد الشريعة والفقه بقواعدها وأحكامها، وتتطلب عقلاً راشدًا قادرًا على النظر والتمييز والتقدير لتحديد الضروري من الحاجي وهذا من التحسيني، وتحديد الراجح والمرجوح، والمصلحة الكبرى من الصغرى، والحقيقية من الظنية، والشاملة من الجزئية، والعامة من الخاصة، وتحديد المفسدة الكبرى من الصغرى، والتمييز بين ما هو من قبيل جلب المصلحة وما هو من قبيل درء المفسدة، وبين ما هو من مصالح الدين وما هو من مصالح الدنيا .. الخ، وهذه الأمور لا يمكن أن يخوض فيها إلا خواص العلماء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: "الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما"[4].

 

فمن الذي يقوم بذلك وبيانه وتوضيحه للناس عند التباس الأمور، وظهور المشكلات التي لا تجعل الناس في حيرة وريبة وتردد واختلاط الحق بالباطل دون تمييز لولا وجود العلماء، وصدق رسولنا عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء، إنما يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فأفتوا الناس فضلوا وأضلوا"[5].

 

الرابع: ولو سلمنا بفرضية الجهاد العينية، فإن هذا القول إذا صح إنما يسع أهل البلاد التي داهمهم فيها الاحتلال وغزا فيها ديارهم ولا إشكال في ذلك، وأما أهل البلاد الأخرى من المسلمين فكيف نلزمهم بالجهاد العيني مع انتفاء القدرة على ذلك، ومن المعلوم أن معالم الأمة سابقًا تختلف عن معالمها اليوم كما يقول الفقهاء المعاصرون، فهي في السابق تميزت بوحدة الخلافة، ووحدة المرجعية، ووحدة الدار، والمسلمون في ظل هذه المميزات يمكنهم مساعدة إخوانهم من أهل البلاد المنكوبة والمحتلة، ولكن مع تغير هذه المعالم في أمتنا اليوم، حيث البلاد مقسمة إلى دول تحكمها حكومات متعددة مختلفة المشارب، والمرجعيات مختلفة ففي كل بلاد علماؤها ومفتوها، ومع هذه المعطيات المستجدة فكيف نلزم الناس بأمر لا يطاق، والواقع أثبت أن الناس عاجزون عن ذلك، وقبل هذا وهذا فإن الأمر موكول إلى علماء كل بلاد ومرجعيتها - مع اعتقادنا أن بلاد الإسلام واحدة، ورفضنا لحالة التجزؤ والتفرق التي عليها اليوم - فلهم النظر في المصالح الشرعية ومدى تحقيقها في واقع الأمة اليوم، مراعين قواعد الشرع وضوابطه، وإشاعة مثل هذه الفتوى في الواقع لا يؤدي إلا إلى مزيد من الفتن كما هو ظاهر، وإشغال الأمة بما يضعفها عما يقويها والله المستعان، ولا يشكل هذا مع ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في اختياراته العلمية: "إذا دخل العدو بلاد الإسلام، فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة"[6].

 

فإن هذه الفتوى كما أسلفنا إنما تنطبق على الحال السابق أما اليوم فلا يتأتى الأخذ بها لتغير الحال، ولاختلاف معالم الأمة، واختلاف مدارك الأحكام فلا تعمم، وهذا لا يمنع من القول إن قادة الأمة مطالبون بحمايتها والدفاع عنها والحفاظ على بيضتها، لكن علينا أن نراعي الواقع الذي يعيشه المسلمون، ومن المعلوم أن الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال.

 

وينبني على القول بفرضية الجهاد العينية، مخالفة منهجية أخرى وهي:

- تعطيل مصالح الأمة بحجة أن الجهاد فرض عين، فتتوقف كل النشاطات التي تصب في خدمة هذا الدين والدعوة إليه، من طلب للعلم، ونشر له، ودعوة إلى الله، واهتمام بحقوق الناس ورعاية حاجاتهم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر وغير ذلك، والواقع أن هؤلاء الأخوة جهلوا الواقع الذي يدعون فهمه وفقهه، وأغفلوا عن جهل أو تجاهل فقه الأولويات ومراتب الأعمال، وهذا من أوجه عدة، منها:

 

أولاً: من المعلوم أن الجهاد في الشريعة من الوسائل وليس من المقاصد، وتقديمه على المقاصد المطلوبة لذاتها، تقديم لأمر مطلوب تأخيره بحكم كونه وسيلة ويترتب عليه تأخير أمر مطلوب تقديمه، قال الخطيب الشربيني: "وجوب الجهاد وجوب الوسائل لا المقاصد، إذ المقصود بالقتال، إنما هو الهداية وما سواها من الشهادة وأما قتل الكفار فليس بمقصود حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد، كان أولى من الجهاد"[7].

 

ثانيًا: إن من مقاصد الشريعة تعبيد الناس لرب العالمين، ونشر التوحيد ونبذ الشرك، وتهذيب عقائد الناس، خاصة مع انتشار البدع والمحدثات والانحرافات العقدية من تعظيم للقبور وتوجه لها واستغاثة بها وغير ذلك، وهذا يقتضي تخصيص جهود كبيرة لتحقيق هذا المقصد، والدعوة إلى الجهاد بالطريقة التي يقوم بها هؤلاء الأخوة تعتبر تعطيلاً لهذا المقصد الذي جعله الشارع أصلاً وأساسًا لهذا الدين.

 

ثالثًا: يلزم من التركيز على جانب واحد من جوانب الشريعة، تفويت جوانب أخرى منها، وهذا يترتب عليه بالضرورة الجور على حقوق أخرى يجب مراعاتها، وواجبات أخرى يجب تأديتها.

 

- الاعتماد على الشحن العاطفي؛ نتيجة ما تمر به الأمة من ويلات وشدائد، وما يمر به المسلمون في بعض أجزاءها من قتل وتشريد وتهجير وغيرها، وهذا ليس دليلاً للخوض في هذه المسائل العظيمة بلا ضوابط شرعية، ولا تأصيل شرعي صحيح، ومن المعلوم أن أهل السنة والجماعة رائدهم الدليل وقائدهم الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما أصاب الأمة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث دب الخلاف بين الصحابة حول الحكم وكاد القتال أن ينشب بينهم لولا أن الله قد هيأ كبار الصحابة وعلمائهم للتصدي لهذا الخلاف ودفعه، ووضع الأمر في نصابه، ولم تكن العاطفة في يوم ما مرجعًا شرعيًا أو أصلاً ضابطًا لمثل هذه المسائل، بل في الغالب تكون مفسدة يعم فسادها العباد والبلاد والواقع خير شاهد.

 

ويكفينا في التدليل على ذلك ما قاله الشاطبي مدللاً على الانضباط بضوابط العلماء والسير في ركابهم والأخذ بمنهجهم: "وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق مع ما تقدم، وإن خالفتها في النظر. وهي ثلاث: إحداها: العمل بما علم حتى يكون مطابقًا لفعله .. والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم، لأخذه عنهم، ملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا شأن السلف الصالح: فأول ذلك ملازمة الصحابة - رضي الله عنهم - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنًا ما كان، وعلى أي وجه صدر، فهم - فهموا مغزى ما أراد به أو لا، حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذي لا يعارض، والحكمة التي لا ينكسر قانونها، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها، وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدة المثابرة، وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية ..."، ثم قال: "فهذا من فوائد الملازمة، والانقياد للعلماء، والصبر عليهم في مواطن الإشكال، حتى لاح البرهان للعيان. وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين: أيها الناس: اتهموا رأيكم؛ والله لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته. وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال، وإنما نزلت سورة الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر، ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن، فزال الإشكال والالتباس . وصار مثل ذلك أصلاً لمن بعدهم، فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فقهوا، ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالمًا اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقة زائغة، ولا أحد مخالف للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف"[8].

 

- التوسع في بناء الأحكام على فتوى تترس الكفار بالمسلمين، فأفضى ذلك إلى إباحة دماء المسلمين عند اختلاطهم بالكفار دون تمييز، والأصل المستند عليه في هذه الأحكام مسألة مشهورة عند العلماء تكلم فيها الغزالي في المستصفى، وتكلم بها غيره من العلماء، والواقع أنه لا حجة لهم في بناء الأحكام عليها إلا إذا تحققت الشروط التي اعتبرها العلماء فيها، قال الغزالي مبينًا المصالح الواقعة في مرتبة الضروريات: "أما الواقع في رتبة الضرورات، فلا بعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له أصل معين.

 

ومثاله: أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلوا كففنا عنهم، لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام، وقتلوا كافة المسلمين. ولو رمينا الترس، لقتلنا مسلمًا معصومًا لم يذنب ذنبًا، وهذا لا عهد به في الشرع. ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين، فيقتلونهم، ثم يقتلون الأسرى - أيضًا - . فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حال، فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع، لأنا نعلم قطعًا: أن مقصود الشرع تقليل القتل، كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم، قدرنا على التقليل. وكان هذا التفاتًا إلى مصلحة، علم بالضرورة كونها مقصود الشرع، لا بدليل واحد، وأصل معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر. لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق - وهو قتل من لم يذنب - غريب، لم يشهد له أصل معين. فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين. وانقدح اعتبارها ثلاثة أوصاف: أنها ضرورة، قطعية، كلية"[9].

 

وكلام الغزالي ظاهر في أن هذه المسائل يخوض فيها العلماء المعتبرون المتأهلون للعلم والفتيا والنظر الشرعي وتأصيله، بالإضافة إلى أن شروط مسألتنا التي توسع فيها هؤلاء محاطة بقيود ثلاثة لا يستطيع اعتبارها إلا من تأهل للعلم وتحصن به وكان فقيهًا مجتهدًا.

 

- الخوض في المسائل الدقيقة، وهي مسائل لا يخوض فيها إلا كبار العلماء وخواص أهل العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالبحث في هذه الدقائق من وظيفة خواص أهل العلم"[10]. لأن هذه المسائل قد يلتبس فيها الحق والباطل، وتختلط فيها المصلحة بالمفسدة، وقد يفضي إلى تزاحم المصالح بعضها مع بعض، والمفاسد بعضها مع بعض، فتحتاج إلى دقة نظر وإعمال فكر واستقراء للأدلة، وهذا لا يسع إلا العلماء الكبار، وليس لطلبة العلم فضلاً عن غيرهم، قال شيخ الإسلام مبينًا الضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "فتارة يصلح الأمر وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين"[11].

 

هذا في ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو أحد أوجه الجهاد التي دلت عليها الشريعة، فما بالك إذا كان الأمر متعلقًا بالدماء وتفويت النفوس فلا شك يحتاج إلى نظر ثاقب وإعمال للفكر أعمق مما تحتاجه قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الأمور تلتبس فيه بصورة أكبر، قال ابن عاشور: "وإذا كانت بعض معاني الشريعة ظاهرة بينة، والمصلحة فيها قطعية لا خلاف فيها بين العلماء مهما اختلفت الظروف والأحوال والأزمنة والأمكنة كسائر القطعيات في الشريعة - فإن هناك من المعاني ما يتردد بين كونه صلاحًا تارة وفسادًا تارة أخرى، وهذا معناه اختلال صفة الاطراد فيها، فهذه لا تصلح لاعتبارها مقاصد شرعية على الإطلاق، ولا لعدم اعتبارها كذلك، بل المقصد الشرعي فيها أن توكل إلى نظر علماء الأمة وولاة الأمور الأمناء على مصالحها من أهل الحل والعقد، لتعيين الوصف الجدير بالاعتبار في أحد الأحوال دون غيره صلاحًا أو فسادًا"[12]، وهذا بلا شك أصل مقرر في النصوص الشرعية متفق عليه بين العلماء المعتبرين، ومن ذلك قوله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}[13].

 

- تكفير الناس دون مراعاة تحقق الشروط وانتفاء الموانع، وقد يعترض البعض على هذه المخالفة المنهجية بحكم دعواهم أنهم على منهج أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، والواقع أنه قد شاع لدى البعض كما قد سمعناه أن للمسلم - أيا كان اسمه أو رسمه - وبغض النظر عن كونه متأهلاً للنظر في هذه المسألة أو لم يكن كذلك فإن له الحكم على المعين بحكم أن شروط التكفير قد تحققت فيه، وزالت عنه موانعه، والأمر جد خطير، فإن مسألة التكفير من المسائل التي تترتب عليها أحكام كثيرة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع متعددة من الفتاوى أن هذه المسألة ينبغي اعتبار ضوابطها، وهذه الضوابط لا يمكن معرفة تحققها في المعين - بعد التأكد من كونها كفرًا - إلا عن طريق أهل العلم القائمين بالحجة والبيان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدنيا فإن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين وحرم الجنة على الكافرين وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان"[14].

 

وإذا كان هذه المسائل كلية فكيف يخوض فيها من ليس من أهلها أو تأهل للعلم بها، وإنزالها على واقع المعينين، ولذلك نجد أن العلماء حذروا من الخوض فيها دون اعتبار ضوابطها، قال الشوكاني: "اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما"[15].

 

ولذلك نجد أن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية تصدر فتوى في التحذير من التكفير وبيان خطره على الأمة في مجلسها المنعقد بتاريخ 2/4/1419ه- بالطائف، وهذا نصها:

"فقد درس مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والأربعين المنعقدة بالطائف ابتداء من تاريخ 2/4/1419ه- ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية وغيرها من التكفير والتفجير، وما ينشأ عنه من سفك الدماء، وتخريب المنشآت، ونظرًا إلى خطورة هذا الأمر، وما يترتب عليه من إزهاق أرواح بريئة، وإتلاف أموال معصومة، وإخافة للناس وزعزعة لأمنهم واستقرارهم، فقد رأى المجلس إصدار بيان يوضح فيه حكم ذلك نصحًا لله ولعباده وإبراء للذمة وإزالة للبس في المفاهيم لدى من اشتبه عليهم الأمر في ذلك فنقول وبالله التوفيق:

 

أولاً: التكفير حكم شرعي، مرده إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فكذلك التكفير وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل، يكون كفرًا أكبر مخرجًا عن الملة. ولما كان مرد حكم التكفير إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يجز أن نكفر إلا من دل الكتاب والسنة على كفره دلالة واضحة فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن، لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة، وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات ولذلك حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، فقال: (أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه)[16].

 

وقد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر، ولا يكفر من اتصف به لوجود مانع يمنع من كفر، وهذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها كما في الإرث، سببه القرابة - مثلاً - وقد لا يرث بها لوجود مانع كاختلاف الدين، وهكذا الكفر يكره عليه المؤمن فلا يكفر به، وقد ينطق المسلم بكلمة بالكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما فلا يكفر بها لعدم   القصد كما في قصة الذي قال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)[17]، أخطأ من شدة الفرح.

 

والتسرع في التكفير يترتب عليه أمور خطيرة من استحلال الدم والمال، ومنع   التوارث، وفسخ النكاح وغيرها مما يترتب على الردة، فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم   عليه لأدنى شبهة. وإذا كان هذا في ولاة الأمور كان أشد؛ لما يترتب عليه من التمرد عليهم وحمل السلاح عليهم وإشاعة الفوضى وسفك الدماء، وفساد العباد والبلاد، ولهذا منع - صلى الله عليه وسلم - من منابذتهم فقال: (إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان)[18]، فأفاد قوله: (إلا أن تروا) أنه لا يكفي مجرد الظن والإشاعة، وأفاد قوله: (كفر) أنه لا يكفي الفسوق ولو كبُرَ، كالظلم وشرب الخمر ولعب القمار وأفاد قوله: (بواحًا) أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح أي صريح، وأفاد قوله (عندكم فيه من الله برهان) أنه لابد من دليل صريح بحيث يكون صحيح الثبوت صريح الدلالة فلا يكفي الدليل ضعيف السند ولا غامض الدلالة، وأفاد قوله: (من الله) أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت منزلته في العلم والأمانة إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -وهذه القيود تدل على خطورة الأمر وجملة القول: أن التسرع في التكفير له خطره العظيم؛ لقول الله عز وجل: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}[19].

 

ثانيًا: ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء وانتهاك الأعراض وسلب الأموال الخاصة والعامة وتفجير المساكن   والمركبات، وتخريب المنشآت، فهذه الأعمال وأمثالها محرمة شرعا بإجماع المسلمين؛ لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة وهتك لحرمة الأموال وهتك لحرمات الأمن والاستقرار وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم وغدوهم ورواحهم وهتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم وأعراضهم وأبدانهم وحرم انتهاكها، وشدد في ذلك، وكان من آخر ما بلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته فقال في خطبة حجة الوداع: (إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)[20].

 

ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (ألا هل بلغت اللهم فاشهد)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)[21] وقد توعد   الله سبحانه من قتل نفسًا معصومة بقوله سبحانه في حق المؤمن: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزآؤه جهنم خَالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا}[22]. وقال في حق الكافر الذي له ذمة في حكم قتل الخطأ: {فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة}[23]. فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه الدية والكفارة، فكيف إذا قتل عمدًا، فإن الجريمة تكون أعظم والإثم يكون أكبر وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة)[24].

 

ثالثًا: إن المجلس إذ يبين حكم تكفير الناس بغير برهان من كتاب الله وسنة - صلى الله عليه وسلم - وخطورة إطلاق ذلك، لما يترتب عليه من شرور وآثام، فإنه يعلن للعالم أن الإسلام بريء من هذا المعتقد الخاطئ وأن ما يجري في بعض البلدان من سفك للدماء البريئة، وتفجير للمساكن والمركبات والمرافق العامة والخاصة، وتخريب للمنشآت هو عمل إجرامي والإسلام بريء منه وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف وعقيدة ضالة فهو يحمل إثمه وجرمه فلا يحتسب عمله على الإسلام ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام والمعتصمين بالكتاب والسنة المستمسكين بحبل الله المتين، وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة ولهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعة بتحريمه محذرة من   مصاحبة أهله. قال الله تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام}[25].

 

والواجب على جميع   المسلمين في كل مكان التواصي بالحق والتناصح والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن كما   قال الله: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب}[26]. وقال سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أول- ئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم}[27]. وقال عز وجل: {بسم الله الرحمن الرحيم}[28]، {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}[29]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال الله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)[30] وقال - صلى الله عليه وسلم -: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)[31].

 

والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة   ونسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكف البأس عن جميع المسلمين، وأن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد وقمع   الفساد والمفسدين، وأن ينصر بهم دينه، ويعلي بهم كلمته وأن يصلح أحوال المسلمين جميعًا في كل مكان، وأن ينصر بهم الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم   على نبينا محمد وآله وصحبه ". هذا مع أن الكثير من العلماء قديمًا وحديثًا قد بينوا ضوابط التكفير وأوضحوا شروطه وموانعه، ولعل ما كتبه شيخنا العلامة أحمد بن حسن المعلم في ذلك ظاهر وجلي لمن طلب الحق وبحث عنه، وهو منشور بفضل الله تعالى في مجلة المنتدى.

 

- الانتقاص من أقدار العلماء والطعن فيهم وفي نواياهم ونبزهم بما لا يليق بهم، واتهامهم بالمداهنة للحاكم، وأنهم مشايخ سلطة ودولة، ولذا لا يعتد بهم في علمهم وأقوالهم، بل قد يصل بالبعض إلى تكفيرهم بحكم موالاتهم للطغاة كما يقولون دون مراعاة للضوابط الشرعية في ذلك، ولعل الفتاوى التي صدرت بحق علماء الأمة الكبار كسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز والعلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني وغيرهما من أبرز الأمثلة على ذلك كما فعل أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني، وهناك من الفتاوى التي تحرم الصلاة خلف أئمة الحرمين بحكم كونهم يدعون لحكامهم وأولياء أمورهم كما فعل أبو قتادة، ولا شك أن هذا من الغلو في الدين، والتشدد فيه، والأمر أظهر من أن تساق له الأدلة في هذا الموضع.

 

ولعلنا نكتفي بمثالين اثنين يدلان على انحراف منهج القوم وإسقاطهم للعلماء والطعن فيهم وفي علمهم من جهة واستسهالهم سفك الدماء وإزهاق الأرواح من جهة ثانية، قال أبو قتادة الفلسطيني في مقال له نشر في مجلة الأنصار العدد 128: "لقد استطاعت الحكومة الطاغوتية السعودية أن تجند الكثير من المشايخ السلفيين في العالم عملاء لها يكتبون لها التقارير الأمنية عن نشاط الحركات الإسلامية، وهذه كذلك نتيجة سننية؛ فإن السلفي الذي يعتقد بإمامة عبد العزيز بن باز، ومحمد بن صالح العثيمين، واللحيدان، والفوزان، وربيع المدخلي، كائنًا من كان هذا السلفي، ومن أي بلد كان فإنه سيعتقد في النهاية بإمامة آل سعود؛ لأن مشايخه هؤلاء يدينون بالولاء والطاعة لآل سعود، فإمام شيخي إمامي، وإمام ابن باز هو إمام السلفيين، ولذلك ففهد بن عبد العزيز هو إمام السلفيين في العالم أجمع ... !!".

 

أما أبو محمد المقدسي فقد قال في جواب له على سؤال: هل المشايخ أمثال الشيخ عبد العزيز بن باز سيتركون الأمة على ضلال؟: "وصلتني رسالتك وصلك الله بحفظه وتوفيقه، وتسأل فيها: هل يترك الشيخ ابن باز  وأمثاله من المشايخ المسلمين على ضلال أم أنهم فيما أفتوا فيه من الخطأ فعلوه خشية الفتنة؟ فاعلم بارك الله فيك أنا لم نؤمر أن نشق عن قلوب الناس ولا أن ننبش عن نواياهم ولم نشتغل يوما قط في قصد ابن باز أو غيره من المشايخ ودوافعهم   القلبية في اجتهاداتهم التي خالفناهم وخطأناهم فيها وإنما يهمنا من ذلك كله التنبيه على الخطأ الظاهر والضلال البين والانحراف الواضح الذي قد يغتر به الشباب ويضلوا في متابعتهم له، ونحن نعرف فيما يظهر لنا أن كثيرًا من فتاوى هؤلاء المشايخ كانوا يبررونها أو يعللونها كما ذكرت في سؤالك بدرء المفسدة أو خوف الفتنة؛ ولكن تعلم بارك الله فيك أن أعظم فتنة في الوجود ليست هي سفك الدماء ونحوه من الفوضى مما  كان يحاذره أولئك المشايخ في فتاواهم التي يتأولون فيها للطواغيت أو يمنعون بها من الخروج عليهم ولو بالكلام والنقد الصريح؛ وإنما أعظم فتنة في الوجود هي الشرك   والكفر بالله كما قد أخبر تعالى بقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، وفي الحديث الذي يرويه البخاري وغيره سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - (أي الذنب أعظم عند الله ؟ فقال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك).

 

فقوله تعالى: (الفتنة أكبر من القتل) تعني كما يدل عليه سبب نزولها أن فتنة المسلم عن دينه ورده عن توحيد الله إلى ظلمات الشرك والتنديد سواء بتعبيده للأوثان الحجرية أم بتعبيده للأوثان العصرية أعظم وأكبر عند الله من مفسدة وكبيرة سفك الدماء في الشهر الحرام وهذا أمر بدهي في ديننا عند من يعرف خطر الشرك، ولكن المصيبة إذا قصر البعض معنى الشرك وحجّره على شرك القبور وأغفل منه شرك الدساتير والقوانين والقصور فلا شك أن فتاواه وموازينه ستضطرب عندها؛ لأنه سينظر إلى كثير من طواغيت الحكام على أنهم حكام مسلمون ليسوا بكافرين لكنهم ظالمون على أشد الأحوال؛ وسيقايس أحوالهم بأحوال بني أمية وبني العباس وسينزل أقاويل الأئمة في أولئك الخلفاء على هؤلاء الخوالف من الطواغيت؛ ومن ثم فمن البدهي أن يرى بهذا القياس الفاسد والنظر الزائغ أن فتنة سفك الدماء أعظم من الظلم والفسق الذي هو أعظم وصف لجرائم هؤلاء الحكام عنده !! فإن فساد الفروع نتيجة حتمية عن فساد الأصول وما ينتج من ضلال عن هذه الأفهام السقيمة لا يجوز السكوت عنه أو تبريره وتمريره وتسويغه بدعاوى حسن النية وطيب القصد ".

 

فهذه بعض المخالفات المنهجية تم عرضها وبيانها تحذيرًا وتصحيحًا للمسار، ونصحًا لكل من تلبس بها أو ببعض منها، رائدنا في ذلك الحق وبيانه، اتباعًا للحق ورجوعًا إلى الكتاب والسنة عند الخلاف والتنازع ببيان أهل العلم المعتبرين، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً}[32]، وقال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}[33]، وأسأله تعالى أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــ

[1]   روضة الطالبين، ج7ص417.  

[2]   المغني، ج13ص33.

[3]   ج4ص185.

[4]   ج20ص48.  

[5]   أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه، وظهور الجهل والفتن، في آخر الزمان، رقم 2673.  

[6]   ج4ص185.  

[7]   مغني المحتاج ج4ص210.  

[8]   الموافقات ص54.  

[9]   المستصفى ج2ص487.  

[10]   منهاج السنة ج4ص504.

[11]   الفتاوى ج28ص130.

[12]   مقاصد الشريعة الإسلامية ص168.  

[13]   النساء، آية 83.  

[14]   الفتاوى ج12ص468.

[15]   السيل الجرار ج4ص578.

[16]   أخرجه الترمذي، أبواب الإيمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب من رمى أخاه بكفر، رقم 2774.  

[17]   أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، رقم 2747.

[18]   أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سترون بعدي أموراً تنكرونها)، رقم 6647.  

[19]   الأعراف، آية 33.  

[20]   أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، رقم 105.

[21]   أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، رقم 2564.

[22]   النساء، آية 93.  

[23]   النساء، آية 92.  

[24]   أخرجه البخاري، أبواب الجزية والموادعة، باب: إثم من قتل معاهدا بغير جرم، 2995.  

[25]   البقرة، آية 204.

[26]   المائدة، آية 2.  

[27]   التوبة، آية 71.  

[28]   الفاتحة، آية 1.

[29]   العصر.

[30]   أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، رقم 55.

[31]   أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم 2586.

[32]   النساء، آية 59.

[33]   النحل، آية 43. 





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • وأنتم لا تعلمون
  • والله يعلم وأنتم لا تعلمون
  • اسألوا التاريخ
  • وأعلم من الله ما تعلمون

مختارات من الشبكة

  • وقفات مع القاعدة القرآنية: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • برنامج فاسألوا أهل الذكر(مادة مرئية - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • ( ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم(محاضرة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • اسأل.. اسأل (نشيد للأطفال)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • حديث: إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله....(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • طاقة إيجابية(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • {وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون}(مقالة - ملفات خاصة)
  • {وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} (خطبة)(مقالة - ملفات خاصة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 15/11/1446هـ - الساعة: 15:5
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب