درس العربية ستين سنة .. العلامة أحمد بن محمد الحناوي (763 – 848 هـ)

درس العربية ستين سنة

العلامة أحمد بن محمد الحناوي (763 - 848 هـ)

هذا عالم جليل كان له في تعليم العربية جهد مشكور، وأثر مذكور، فقد درّس العربية ستين سنة أو أكثر، وإن كان الآن من المغمورين، ومن الوفاء له أَنْ نعرّف به، ونذكر جهوده المباركة في هذا المجال، ولعلنا نسعى في نشر تراثه النافع في ذلك، إنه العلامة أحمد بن محمد الحِنّاوي (763-848هـ).

اسمه ونسبه ونسبته:

هو أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم الأنصاري الفيشي ثم القاهري، المالكي، ويعرف بالحِنّاوي.

ولادته:

ولد في شعبان سنة 763هـ بـ (فيشا المنارة) من الغربية، بالقرب من طنطا، وانتقل وهو صغير مع والده إلى القاهرة.

نشأته:

نشأ في القاهرة، وجوّد القرآن على شيخين هما فخر الدين البلبيسي إمام الأزهر ومجد الدين عيسى الضريران، وجوّد الخط عند الشيخ محمد بن أحمد الوسيمي، فأجاد، وأذن له شيخه بتعليمه، وجرت له في هذه الأثناء قصة انتفع بها، فقد رآه بعض العلماء - النبهاء فيما يظهر - عند شيخه الوسيمي هذا، ورأى حسنَ تصوره وإدراكه فقال له: اترك الاشتغال بالكتابة، وأَقبلْ على العلم، فقصارى أمرك في الكتابة أن تبلغ مرتبة شيخك: فقيه كُتَّاب. فنفعه الله بنصيحته، وأقبل على العلم.

تكوينه العلمي في اللغة العربية:

حفظ الحناوي ألفية ابن مالك، وعرضها: أي قرأها من حفظه على شمس الدين بن الصائغ الحنفي، والإمام ابن الملقن، وأجازا له، وابن الصائغ سمع الألفية على رجل عن ناظمها.

وقرأ الألفية جميعها بحثاً، - ولم يذكر على مَن قرأها – ولم يُفتح عليه بشيء كما قال هو، وأداه هذا فيما بعد إلى وضع مقدمةٍ تقرأ قبلها كما سيأتي.

وقد أخذ النحو عن الشيخ محب الدين ابن هشام، ولازمه كثيراً حتى بحث عليه (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) تأليف والده، وسمع عليه (توضيح المسالك على ألفية ابن مالك) تأليف والده أيضاً، وغير ذلك.

ولعله هو الشيخ الذي قرأ عليه الألفية واستصعبها.

ومن شيوخه في النحو: شمس الدين الغماري، وشهاب الدين أحمد السعودي.

ومما يدخل في تكوينه اللغوي أنه سمع من الإمام الحافظ العراقي قصيدته في (غريب القرآن).

تكوينه في العلوم الأخرى:

أخذ الحناوي عن أئمة عصره، فقد أخذ الفقه عن الشمس الزواوي، والنور الجلاوي، ويعقوب المغربي شارح ابن الحاجب الفرعي وغيرهم.

ولازم العلامة عز الدين بن جماعة في العلوم التي كانت تقرأ عليه مدة طويلة وانتفع به.

ولازم في فنون الحديث زين الدين العراقي، وأخذ عن غيره كالهيثمي، وعلي الحراوي، والعز بن الكويك، وابن الخشاب، وابن الشيخة، والسويداوي.

ولازم الحضور عند جلال الدين البلقيني - وكان هو وأبوه سراج الدين البلقيني ممن يجله- وانتفع بدروس أبيه كثيراً.

تصدره للتدريس واهتمامه بالعربية:

عرف الحناوي بالفضيلة التامة، لا سيما في فن العربية، وتصدى للإقراء، فانتفع به خلق، وصار غالب فضلاء مصر من تلامذته.

وإذا فرضنا أنه تصدر للتدريس وعمره خمس وعشرون سنة، فيكون قد درس العربية إلى حين وفاته ستين سنة! وهذا يبين جهده وكثرة طلابه.

وكان حسن التعليم للعربية جداً، نصوحاً، هكذا وصفه تلميذه المؤرخ شمس الدين السخاوي، وليته شرح لنا طريقته في التعليم، لنستفيد منها، ولكن لعل مما يوضح وصفه له بـ (النصوح) أنه وضع في العربية مقدمة سماها (الدرة المضية في علم العربية) مأخوذة من كتاب (شذور الذهب في معرفة كلام العرب) لابن هشام الأنصاري.

يقول السخاوي إنه (كثر الاعتناء بتحصيلها، وحرص هو على إفادتها، بحيث كان يكتب النسخ منها بخطه للطلبة ونحوهم، وكنت ممن أعطاني نسخةً بخطه) ثم ينقل السخاوي عنه أن (سبب تصنيفها أنه بحث (الألفية) جميعها في مبدأ حاله، فلم يفتح عليه بشيء، فعلم أنه لابد للمبتدئ من مقدمة يتقنها قبل الخوض فيها، أو في غيرها من الكتب الكبار أو الصعبة، ولذا لم يكن يقرئ المبتدئ إلا إياها).

وهذا الذي توصل إليه الحناوي من تجربته الشخصية مهم جداً، فلا بد في طلب العلم من التدرج فيه شيئاً فشيئاً، ولذلك رتب العلماء في قراءة العلوم كتباً تقرأ أولاً، وأخرى ثانياً، وغيرها ثالثاً، وبغير هذا يشق الطلب على الطالب ولا يتمكن من العلم، وقد يؤديه ذلك إلى الترك.

وظائفه وأعماله وأحواله:

• درّس الشيخ (الفقه) في المنكوتمرية.

• وولي مشيخة خانقاه تربة النور الطبنذي التاجر في طرف الصحراء، بعد الجمال القرافي النحوي.

• وكذا مشيخة التربة الكلبكية بباب الصحراء.

• وخطب ببعض الأماكن.

• وحدّث باليسير، وسمع منه الفضلاء.

• وحج مرتين.

• وناب في الحكم عن جمال الدين البساطي فمن بعده، وحمدت سيرته في أحكامه وغيرها.

أوصافه:

قدم لنا تلميذه السخاوي صورة جميلة عنه إذ قال:

(كان خيّراً، ديّناً، وقوراً ساكناً، قليلَ الكلام، كثيرَ الفضل في الفقه والعربية وغيرهما، منقطعاً عن الناس، مديماً للتلاوة، سريع البكاء عند ذكر الله ورسوله، كثير المحاسن على قانون السلف، مع اللطافة والظرف، وإيراد النادرة، وكثرة الفكاهة والممازحة، ومُتِّع بسمعه وبصره وصحة بدنه.

ومن لطائفه قوله: تأملت الليلة وسادتي التي أنام عليها أنا وأهلي، فإذا فوقها مئة وسبعون عاماً فأكثر، لأن كل واحدٍ منا يزيد على ثمانين أو نحوها) وقد عاش الشيخ (85) سنة.

طلابه:

استفاد من الحناوي خلق كثير كما قدمت، وقد تتبعت أسماء مَنْ قرأ عليه ممن ذكرهم السخاوي في الضوء اللامع لأهل القرن التاسع فوصلت إلى (37) عالماً.

ومن اللطائف أن بين ولادة أكبر تلميذ، وأصغر تلميذ (70) سنة، وبين وفاتيهما (78) سنة!

وأصغر تلامذته وآخرهم موتاً وهو السخاوي عاش بعده (54) سنة، وكان له عند وفاة الشيخ(17) سنة.

وفي هؤلاء التلاميذ مَن كان أكبر من الشيخ سناً.

وفيهم أخوان وهما المرقمان بـ (14) و(24).

وفيهم ثلاثة أجيال: الابن والأب والجد، وهم السخاوي ووالده وجده لأمه.

وفيهم مَن أصبح من العلماء والأدباء المعدودين الكبار. وهاهي أسماؤهم:

1- إبراهيم بن محمد، برهان الدين المعروف بابن الديري (810-876هـ).

2- أحمد بن أحمد، شهاب الدين الجديدي (819-888هـ).

3- أحمد بن أحمد الشهاب البرنكيمي ثم الزنكلوني ثم القاهري (825-؟).

4- أحمد بن إسماعيل، شهاب الدين أبو العباس المنوفي القاهري السعودي ويعرف بابن أبي السعود (814-870هـ).

5- أحمد بن صدقة، شهاب الدين أبو الفضل العسقلاني القاهري المعروف بابن الصيرفي (829-كان حياً سنة 898هـ).

6- أحمد بن عبادة، شهاب الدين الأنصاري الخزرجي الزرزاري الأصل القاهري المالكي (؟-881هـ)

7- أحمد بن عبدالله، ولي الدين القاهري الشافعي ويعرف بابن الزيتوني (810-890هـ).

8- أحمد بن عثمان، شهاب الدين البرماوي القاهري (ولد قبل 810-قريب 860هـ).

9- أحمد بن محمد، صلاح الدين المكيني القاهري (821-881هـ).

10- أحمد بن محمد، شهاب الدين أبو الثناء الأشليمي ثم الحسيني القاهري ويعرف بابن صالح، ويقال له أيضاً: سبط السعودي (820-863هـ).

11- أحمد بن محمد، زكي الدين الأنصاري ويعرف بالشهاب الحجازي (790-875هـ). الأديب الكبير.

12- عبدالرحمن بن محمد، جلال الدين أبو الفضل السخاوي القاهري (799-874هـ). والد الإمام الحافظ المؤرخ السخاوي.

13- وجد الحافظ السخاوي لأمه، ولم أعرف اسمه.

14- عبدالرحيم بن أحمد، زين الدين الفوي القاهري ويعرف بابن بُحيح (؟-879هـ).

15- عثمان بن عبد الله، فخر الدين أبو عمرو المقسي (817-877هـ).

16- علي بن أحمد، نور الدين المنوفي القاهري البهائي ويعرف بابن أخي المنوفي (823-889هـ).

17- علي بن عبدالله، نور الدين أبو الحسن الضرير ويعرف بالسنهوري (814-889هـ).

18- علي بن محمد نور الدين الهيثمي ويعرف بالطبناوي (800-888هـ).

19- علي بن محمد، نور الدين المخزومي القاهري الحنفي، ويعرف بابن البرقي (797-875هـ).

20- علي بن محمد، نور الدين أبو الحسن المتولي الحنبلي ويعرف بابن الرزاز (؟-861هـ).

21- عمر بن حسن، ويعرف بعمر الدمياطي (828تقريباً-888هـ).

22- محمد بن أحمد، ناصر الدين أبو عبدالله الشيرازي الأصل، القاهري الشافعي، ويعرف بابن قياس (817-888هـ).

23- محمد بن أحمد، جلال الدين الحسني ويعرف بالشريف الجرواني (795-882هـ).

24- محمد بن أحمد، محب الدين الفوي القاهري، ويعرف بابن بحيح (؟-864هـ) وهو أخو عبدالرحيم السابق الذكر.

25- محمد بن إسماعيل، شمس الدين العمريطي (بعد 820-864هـ).

26- محمد بن صلاح، شمس الدين الرشيدي القاهري المقسمي ويعرف بابن أنس (765-855هـ).

27- محمد بن عبدالرحمن السخاوي، الإمام الحافظ المؤرخ (831-902هـ).

28- محمد بن عبدالرحيم، معين الدين أبو الخير الطرابلسي القاهري الحنفي ويعرف بابن الطرابلسي (812-873هـ).

29- محمد بن عبدالله، شمس الدين المقسي ثم الموسكي الشافعي (825-؟).

30- محمد بن عبدالمنعم، شمس الدين الجوجري القاهري الشافعي (821-889هـ).

31- محمد بن علي، تاج الدين المخزومي المغربي، ثم الحجازي الفوي القاهري ويعرف بالقلانسي (821-868هـ).

32- محمد بن محمد، شمس الدين أبو الخير ويعرف بابن البدراني (810-856هـ).

33- محمد بن محمد بن عبدالرحمن، بدر الدين أبو السعادات البلقيني (821-890هـ). من البيت المعروف بالعلم والتقدم.

34- محمد بن يوسف، بدر الدين أبو الرضى القاهري الشافعي (807-887هـ).

35- محمد ناصر الدين البريدي القاهري الحنفي (؟-875هـ).

36- يحيى بن محمد، محيي الدين الدمياطي (800-879هـ).

37- يوسف بن أحمد، جمال الدين الصفي (761-824هـ).

والذين صُرِح بدراستهم (المقدمة) هم الثاني، والسابع، والعاشر - وذُكِر عنه أنه حفظها - والسابع والعشرون، أما الذين درسوا الألفية فهم الخامس عشر، والسادس عشر، ولم يذكر عن الباقين ماذا درسوا.

وأفادنا السخاوي أنه تدرب في الإعراب على شيخين، أحدهما الحناوي، إذ أعرب عليه مواضع من صحيح البخاري، وعن علاقته بالشيخ يقول في ترجمته لنفسه بصيغة الغائب:

(قرأ على أوحد النحاة الشهاب أبي العباس الحناوي مقدمته المسماة بالدرة المضية، وكتبها له بخطه إكراماً لجده.

وتدرب بهما - أي بالبرهان بن خضر والحناوي - في الإعراب، حيث أعرب على الأول من سورة الأعلى إلى الناس، وعلى الثاني مواضع من صحيح البخاري).

ولم تقتصر إفادة السخاوي منه على النحو، بل أفاد أشياء أخرى، يقول هو في ذلك: (وعرضت عليه (عمدة الأحكام)، وأخذت عنه بقراءتي وغيرها أشياء، والتحقت في ذلك بجدي لأمي فهو ممن أخذ عنه، ولذا كان الشيخ يكرمني).

مؤلفاته:

لم يذكر له سوى:

1- (الدرة المضية) وتعرف أيضاً بالمقدمة الحناوية.

وقد رآها الحاج خليفة وقال: (أولها: وما توفيقي إلا بالله)، ومنها نسخة خطية في دار الكتب المصرية برقم 3/163 (310). وأفادنا السخاوي أنها من شذوذ الذهب لابن هشام شيخ النحاة في عصره، فهذا أثر من علمه وفضله أيضاً.

2- تعليق عليها، أملاه على تلميذه ابن الزيتوني (ت:890)، وذكر السخاوي في ترجمة هذا أنه عزم على تبييضه. ولا ندري أفعل أم لا.

شروحها الأخرى:

قال السخاوي: (قد شرحها جماعة من طلبته) ولم يذكر في هذا الموضع، وفي سائر المواضع من كتابه الضوء اللامع سوى اثنين، وهما:

• محمد بن محمد بن عبد الرحمن، بدر الدين أبو السعادات البلقيني (821-890هـ).

قال السخاوي في ترجمته: (شرح مقدمة شيخه الحناوي في النحو، في مجلد لطيف، وقف عليه مؤلف المتن) أي كان هذا في حياة الشيخ.

وقد وصفه السخاوي هنا بأنه في مجلد لطيف، وكان قد قال في ترجمة الحناوي عنه بأنه (طوله جداً)!.

• يحيى بن محمد، محيي الدين الدمياطي (800-879هـ)

قال السخاوي في ترجمته: (أحسن ما كان عنده العربية، حتى إنه شرح فيها مقدمة شيخنا الحناوي).

وقد رأى الحاج خليفة هذا الشرح وقال: (أوله: الحمد لله الذي جعل النحو قانوناً لتركيب الكلام، وفرغ من شرحه في ذي القعدة سنة 859هـ).

أي بعد وفاة الشيخ بـ (11) سنة.

وقد وصل إلينا هذا الشرح فمنه نسخة باسم (المحاسن الفتحية في حل ألفاظ الحناوية) في مكتبة سوهاج بمصر برقم (96) نحو، ومنها نسخة مصورة في معهد المخطوطات بالقاهرة برقم (143).

أيام الشيخ الأخيرة ووفاته:

ذكرت أن الشيخ كان من أهل الظرف، ولعل من ظرفه كذلك ما قاله السخاوي أنه (كان يوصي أصحابه - إذا مات - بشراء كتبه دون ثيابه، ويعلل ذلك بمشاركة ثيابه له في غالب عمره، فهو لخبرته بها يحسن سياستها، بخلاف من يشتريها، فإنه بمجرد غسله لها تتمزق. أو كما قال).

ولا بد أن هذا كان في أيامه الأخيرة، وقد توفى في ليلة الجمعة 28 من جمادى الأولى سنة 848، وصلي عليه بجامع الحاكم، ودفن بمقبرة البوابة. رحمه الله وجزاه عن العربية خير الجزاء.

أجر متصل:

مات الشيخ ولم يمت علمه، فقد شرحت مقدمته بعده - كما مر معنا -

وجاء في ترجمة محمد بن عبدالغفار السمديسي المولود بعد وفاة الشيخ بخمس سنوات أنه قرأ (المقدمة) على تلميذه السنهوري. مما يدل على تداول الناس لها بعده.

ونسأل الله أن يقيض لها ولشرحها (المحاسن الفتحية) من يقوم بخدمتهما ونشرهما على الوجه الذي يليق بهما.