منارة جامع إشبيلية: الخيرالدا (4/4)

4- المحاولات من أجل إعادتها إلى طابعها الموحدي:
كانت هنالك عدَّة محاولات خلال القرون المنصرِمة، من أجل بناء الطابق العلوي لمنارة إشبيلية وإعادته إلى صورته الموحدية؛ ففي القرن السَّادس عشر الميلادي جرت هنالك محاولتان، ولكن ليستا ذات شأن كبير؛ لأنَّهما لم يضيفا شيئًا يستحقُّ الذكر[1].

وفي السَّنوات الأخيرة من القرن التَّاسع عشر الميلادي، قام فريق من العلماء والفنانين بمحاولة ترميم المنارة وإعادتها إلى ما قبل زلزال 1355 م، مستوحين شكلها الأصلي من التَّشابُه بينها وبين منارتي الكُتُبِيَّة في مراكش وحَسَّان في الرباط، ومستندين إلى المعلومات والأوْصاف الواردة في "المدونة الأولى لتأريخ إسبانيا العام"، وما جاء في كتاب مورغادو Morgado الموسوم بـ "تاريخ إشبيلية" والذي نشر في إشبيلية سنة 1587 م؛ أي: بعد 19 سنة من انتهاء التَّرميمات التي قام بها المهندس القرطبي هرنان رويث Hernán Ruiz في منارة إشبيليَّة ما بين سنة 1560 و 1568 م، كما أشرنا إلى ذلك سابقًا.


 

الخيرالدا

إلى جانب هذه المعلومات التَّاريخية، اعتمدوا أيضًا على بعض الرسوم والتَّخطيطات لبعض المشاهير في العمارة وغيرها.

وكان من حصيلة هذه المحاولة، ورغْم التَّشابُه بين المنارات الثلاثة - والذي ذكره لأوَّل مرة لُوِيس دَلْ مَرْمُول [2] Luis del Mármol في القرن السادس عشر الميلادي، ودرج عليه من بعده كثيرون - لم يعتمدوا إلاَّ على منارة مراكش فقط، في إعادة بناء المظْهر الخارجي التَّصاعُدي لمنارة إشبيلية والَّذي يشبه "شكل المصباح اليدوي" La linterna، لخلو منارة حسان من هذا الشكل[3].

الخيرالدا

تُورِّس بَلْباس[4] Torres Balbás- وهو من أشهر الأثريين والباحثين الأسبان في العمارة الأندلسية، وكتبه جديرة بالترجمة إلى العربية - ذكر أنَّه اطَّلع على نقش من الرخام المُعَرَّق alabastro، عُثِرَ عليه في كنيسة إحدى القرى الصغيرة، في أقصى شمال إسبانيا، تدعى Villasana de Mena، يَحتوي على رسم تخطيطي لمنارة جامع إشبيلية، يعود زمنه إلى ما قبل أن يُسمِّيها أهل إشبيلية بالخيرالدا.

ويرى تُورِّس بَلْباس أن سانشو أورتيث Sancho Ortiz de Matienzo - أمين خزانة بيت مقاولات كاتدرائية إشبيلية، وكاهنًا ذا مرتب فيها آنذاك - هو الذي بعث بِهذا النَّقش وغيره من الأحجار ذات الصور والزُّليج (الكاشي) azulejos إلى قريته، حيث كان فيها مثواه الأبدي فيما بعد.


 

الخيرالدا
 

في هذا النَّقش الرخامي - والذي بدون شك وصل من إشبيلية - يظهر فيه الطَّابق السفلي لمنارة جامع إشبيلية والطَّابق العلوي منها قبل هدمه، ويتَّصف بالدقَّة، رغم أنَّه منقوش بشكل مصغَّر، ويشابه إلى حد ما منارة الكُتُبِيَّة في مرَّاكش.

وإضافة إلى ما ذكرنا، فهناك دلائل تاريخيَّة تفيد أن التَّشابُه بين منارتي إشبيلية ومراكش أكثر منه في منارة حَسَّان؛ إذْ إنَّ الكتبية هي الأقدم، ويفترض أنَّه ابتدأ ببنائها في الربع الثالث من القرن الثاني عشر الميلادي، بأمر الخليفة عبدالمؤمن (ت 558/ 1163)، وأنجزت - كما يبدو - نحو سنة 593/ 1196 - 7، في هذا الوقت ابتدأ العمل في منارة حسان في الرباط، ثم توقَّف على أثر وفاة يعقوب المنصور في ربيع الأوَّل عام 595 / كانون الثاني 1199، كما ذكر المرَّاكشي[5].

الخيرالدا

إذًا؛ أقدم المنارات هي منارة مراكش، وبعدها منارة إشبيلية، وأخيرًا منارة حسان في الرباط، ولو أنَّ الباحث غومث مورَنو M. Gómez Moreno له تحفُّظاته وشكوكه، من أنَّ منارة الكتبية قد بنيت على أنقاض مسجد سابق، يعود بناؤه إلى عهد عليِّ بن يوسف بن تاشُفين (500-537/ 1106-1143)[6].



 

الخيرالدا

من جهة أخرى، هناك فروق في الأطوال والقياسات والمواصفات، فهي متقاربة في الكتبية والخيرالدا؛ إذْ إنَّ طول صومعة الكتبية 12.50 مترًا، والخيرالدا 13.60 م، بينما في منارة حسان 16 مترًا، بداخل الأولى نواة مربعة الشكل طولها 6.80 م، والخيرالدا 6.86 م، الخيرالدا يبلغ ارتفاعها 69.65 مترًا من الأساس إلى الطابق الذي أضافه هرنان رويث، وفي الكتبية 67.50، وفي منارة حسان توقف إلى ارتفاع 44 مترًا.


 

داخل الخيرالدا

والأهم من هذا كله: الاختلافات في مواد البناء والزخرفة، فالخيرالدا تمتاز بعمارتها الصاعدة في إيقاع، وزخارفها المحفورة في الآجر؛ كالمخرمات والموزعة في تعادل واتزان مع دقَّة وبساطة تنطقان بهذه الرَّوعة، ويتَّفق مظهر البرج الخارجي مع نظامه الداخلي كما لو كان مرآة تعكس صورته، ويفصح البناء الداخلي للصومعة عن إحكام لفن البناء ومعرفة دقيقة بأصول العمارة، "وزخارف الخيرالدا تعبر عن فن يختلف اختلافًا بيِّنًا عن فنون مراكش المعاصرة له"[7]، لهذا فقد أثرت في العمارة الأشبيلية في العصر الإسلامي والمسيحي على السَّواء، وفي فنون الأندلس والمغرب وغيرها، من آثار المُدَجَّنِين فيما بعد.

 

الخيرالدا

تلك هي الخيرالدا تصدح اليوم تاجًا في سماء إشبيلية، وتشمخ صرحًا خالدًا ينمُّ عن عصر ذهبي قد ولَّى - والفائز من يتَّعظ - وتغرد فيها أغاني أهلها، وقد صدق فيهم قول الشَّقُندي: "أخفُّ النَّاس أرواحًا، وأطبعهم نوادر"[8].


 

منارة الكتبية في مراكش
 


 

منارة حَسّان في الرباط

حتى امتزجت ثلاثةٌ: "إشبيلية والوادي والخيرالدا" في خفَّة دمائهم ورقتهم، فصارت طابعا مميَّزًا لتراثهم ورقصاتهم الشَّعبية وأغانيهم الشهيرة التي لا تخلو مناسبة منها، حتَّى في ساعات الشدَّة والعوز، فهم اليوم - كما قال عنهم بالأمس صاحب كتاب "مناهج الفِكَر" -: "أسرع النَّاس إلى الطرب، وانتهاز فرصة الزَّمان الساعة بعد الساعة"[9].

 

Giralda, Kansas City

"Giraldilla "de Lebrija

ولم تسأم الخيرالدا من كثْرة زوَّارها من كل بقاع العالم، رغم أنَّ آخرين لم يسمع بها، وإن سمِع بها لم تهزَّ من قلبه شعرة، فما أجدَرَهم بتربية على حبِّ الفن وتذوُّقه.

ورحم الله ذلك الوَشَّاح الَّذي يقول في مُوشَّحَة مدح بها المعتضد بن عبَّاد:

Wrigley Building Tower, Chicago

Freedom tower, Miami

ولم أمَّا اليوم - كما يتغنَّى بها في كثير من أغانيهم المشهورة - إشبيلية عاصمة جنوب إسبانيا "لها لون خاص" Tiene color especial، وبعلها الخيرالدا.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] Torres Balbás, "Reproducción de la Giralda...", p. 294.
[2] Luis del Mármol Caravajal, Descripción general de África, II; 28, libro 3, cap. 40.
[3] Torres Balbás, "Reproducción de la Giralda...", p. 294.
[4] Torres Balbás, "Reproducción de la Giralda...", p. 295-297.
[5] المراكشي، المعجب، ط. دوزي: 192 - 3، ومن الترجمة: 230، ط. العريان والعلمي، ط. السابعة، الدار البيضاء 1978: 384. 
[6] M. Gómez Moren, El arte islámico en España y en el Magreb, en Arte e Islam, por Heinrich Gluck y Ernst Diez, 2ª ed., Barcelona-Madrid-Buenos Aires, 1934, pp. 114-5.
[7] عبدالعزيز سالم، المساجد والقصور في الأندلس: 45.
[8]  المَقري، نفح الطيب: 3/ 212.
[9] المَقري، نفح الطيب: 159.