هكذا فليكن العمل الصحافي (2)

هكذا فليكن العمل الصحافي (2)

دروس لصحافتنا النائمة

من الفائزين بجوائز التميز في العمل الصحفي الاستقصائي

في الولايات المتحدة الامريكية لعام 2013

ما هو موضوع مشاركتي الصحفية القادمة؟

يا له من سؤال محير يُقلقني ويزعجني، مثله كنَفَق مظلم وراعبٍ، ولكن لا مفرَّ لي من ولوجِه، أدخله مختارًا؛ لتنهش كآبتي أنياب اليأس، عجيبٌ هذا الجرح، أفكلما الْتأم وطاب هربتُ منه إليه، وفتحته ليعود الألم الملهم، وطفِقت أبحث من جديد عن بلسمٍ شافٍ، وشمعةِ أمل.

تُفزع رُوحي صرخاتُ أشباحٍ في زواياه الرهيبة، صرخاتٌ ظننت أنني تعوَّدتها: اهرُبْ من الطرح الروتيني، تَحَدَّ تلك الخطوطَ الملونة الوهمية، استَثِرِ القارئَ، انطلق من هموم المجتمع، لا تَلْعن الظلام وأوقِدْ شمعة، ما الفائدة مما نكتب؟ هل يهتم القارئ؟ ولمَ يبخلُ برأيه؟ ألا ما أطولها من رحلة، وما أعمق الهوة بين مستوى الصحافة لدينا والمرجو والمأمول! و ما معنى التميز في العمل الصحافي، وما طريقه، وكيف تخدم الصحافة الوطن والمواطن في اليوم والغد وما بعده؟

أهرب من حيرتي، وأُصِم أذني عن كل هذه الأسئلةِ وغيرها وغيرها، وأنكر حالي، وأختبئ تحت مِخدَّتي في صمتٍ، ولكن طول العِشْرة أذاع السر، فيهرب النوم، ويجذبني السيد "قوقل" بلا رحمة ولا شفقة، فأخوض غمار البحار، وأتحدى المتاعب والأخطار، وأقفز من سفينة إلى أخرى، وأحط رحالي في ألف ميناء وميناء، وأنطق وأستنطق من لاقيتُ بألف لسان ولسان، ولا أستقر، ولا تهدأ رُوحي، ولا تسكن نفسي، وتشتد المعاناة، فأبكي وأصرخ، وأُغالب الألم بكلمات علمتني إياها أمي الحبيبة: "اشتدي تنفرجي!".

استنطقت الضادَ وأهلَها ومضاربَهم، فلم يسعفوني، وأتى الفارس الهُمام، بقميص الفرج من ديار العم سام.

في خبر بتاريخ: 18 نوفمبر 2013: الإعلان عن الفائزين بجائزة بارليت وستيلي لعام 2013 للتميز في البحث والتقصي الصحافي في الولايات المتحدة الامريكية:

(Barlett & Steele Awards for Investigative Business Journalism)

لا أدري ما الذي ينبغي أن أَعرِضه أولاً؛ لأنه أكثرُ إثارة وتشويقًا وتبيينًا لنُضْج وأثر العمل الصحافي لدى أولئك القوم؟ هل أَعرض أسماءَ الصحف الفائزة والصحفيين المبدعين؟ أم هل أَعرض مواضيع البحوث الاستقصائية المتميِّزة وآثارها التي تم على أساسها اختيارُ الفائزين؟ سوف أذكر ذلك كله، ولكنني - هنا - تركت قصدا وتشويقا للمهتمين – بخاصة - ذكر النصائح الخمسة عشر التي ذكرها الفائزون وأهدوها للإعلاميين المتميزين في العالم!

فاز بالجائزة الذهبية البحث والتقصي الصحفي الجريء الذي كشف النقاب وعرض الأدلة الدامغة والمستندات التي تثبت وتشير إلى: أفسد الجمعيات الخيرية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعنوان هذا البحث الفائز الذي استغرق عاما كاملا من العمل الدؤوب والسفر لجهات عدة: America`s Worst Charities، ولا تتجلى عظمة هذا العمل وتحديه إلا إذا علمنا أن عدد المنشآت الخيرية المعفاة من الضرائب في الولايات المتحدة الأمريكية بأكملها يتجاوز 1، 6 مليون منشأة، ولم يكن البحث لينجح لولا اعتماده على أساليب استقصائية وبحثية إبداعية وممنهجة، فلقد جمع فريق البحث قاعدة معلوماتية عملاقة لمدة عشرة سنوات قوامها: الأداء المالي والقانوني والضريبي ونمط استعانة الجمعيات الخيرية بالشركات الربحية المتخصصة في جمع التبرعات، وتم تحليلها بطرق إحصائية علمية حددت وكشفت المتلاعبين في هذا العينة البحثية الضخمة.

أثمر هذا التقصي الصحفي نتيجة مدهشة ومحزنة، فلقد جاوز مجموع ما جمعته هذه الجمعيات الخيرية من تبرعات المحسنين بليونا من الدولارات، ويتركز أغلبها في ثلاث ولايات: فلوريدا ونيويورك وكاليفورنيا، أما الجانب المحزن والمؤسف من الأمر أن هذه المنشآت الشجعة لم تصرف دولارا واحدا من هذه التبرعات في أعمال الخير التي أوهمت المتبرعين بالعمل من أجلها.

أعد هذا التقصي المضني والمحفوف بالمخاطر الصحفيتان الجريئتان: كرس هندلي وكيندل تاقرت من صحيفة: خليج تامبا تايمز بولاية فلوريدا بالمشاركة مع مركز التقصي الصحفي:

(Kris Hundley and Kendall Taggart، Tampa Bay Times and The Center for Investigative Reporting)

كما فاز بالجائزة الفضية بحث وتقص صحافي شجاع قامت به الصحافية: لويز ستوري من صحيفة نيويورك تايمز، ولقد كشف البحث الفائز التلاعب والفساد وضعف الأثر الناتج من توجيه بعض المعونات المالية التحفيزية والتسهيلات الحكومية لبعض المبادرات الحكومية والخاصة تحت ستار خادع وحجة وهمية هي توفير فرص عمل جديدة وإنعاش الاقتصاد الأمريكي.

عنوان البحث: هل تقوم الولايات المتحدة على أساس المعونات؟ (United States of Subsidies by Louis Story from)، لم تيأس الصحافية لندرة المعلومات وغياب الإحصائيات الرسمية في بداية العمل، ولقد أثمر عملها لأربعة أشهر في جمع معلومات متفرقة وأرقام مبعثرة في قاعدة معلومات منظمة مفصلة و مفيدة، ، وكشف البحث عن معونات حكومية سنوية كبيرة جدا تتجاوز 80 بليونا من الدولارات، أعطيت لبرامج ومبادرات عددها 1874 فقط!

تلا هذه النتيجة المذهلة قياس ممنهج للأثر الحقيقي لهذه المحفزات الحكومية، وأفادت قاعدة المعلومات في توجيه البحث نحو جهتين: 1- ولاية تكساس لكونها أعلى الولايات صرفا للمحفزات الحكومية 2- شركة جنرال موتورز لكونها أعلى الآخذين والمستلمين لهذه المحفزات لسنوات طويلة ومتتابعة، ولم يكن من الصعب – بعد ذلك – بيان إخلاف شركة جنرال موتورز (وغيرها) للكثير من وعودها والتزاماتها المرتبطة بالمحفزات الحكومية التي أخذتها لسنوات عديدة.

فاز بالجائزة البرونزية بحث أعده: Susan Pulliam، Rob Barry، Jean Eaglesham، and M. Siconolfi (Editor)، ونشرته صحيفة وال ستريت، ولقد فضح هذا العمل الصحافي عددا من الإداريين التنفيذيين لبيعهم وشرائهم لأسهم شركاتهم بناء على علمهم بأداء الشركة قبل التصريح به لعموم المساهمين، وعنوان البحث الفائز: التلاعب من الداخل: (Insider Games).

اعتمد هذا البحث الصحافي الفائز - مثل ما سبق ذكره - على جمع قاعدة بيانات ومعلومات ممنهجة، تسجل وتحصي بشفافية ودقة مقدار وزمن ما يلي:

1- تصريحات الشركات المعنية حول أدائها المالي.

2- الخسائر والأرباح والخسائر التي تفاداها 1000 إداري تنفيذي حين متاجرتهم بأسهم شركاتهم لمدة ثمان سنوات، وتبين هذه المعلومات بوضوح أسماء المخالفين من الإداريين التنفيذيين الذين تزامنت أرباحهم أو تفاديهم للخسائر مع تصريحات شركاتهم حول أدائها المالي.

يا لها من أعمال صحافية جبارة، تجعل الصحافة والإعلام الحر - عند أولئك القوم - جديرًا وأهلاً لتلك التسمية العجيبة المَهيبة: السُّلطة الرابعة!

دعونا نَزِد القارئ إثارةً وإعجابًا ودهشة وإجلالاً بذكر نُبذة مختصرة عن الهيئة المنسقة والمانحة لهذه الجوائز التقديرية الرفيعة، إنها ليست جهةً رسمية، أو وزارة من الوزارات، بل هو مركز غيرُ حكومي، اسمه: مركز دونالد رينولدز الأهلي لصحافة الأعمال Donald W. Reynolds National Center for Business Journalism.

ولنصعِّدْ مستوى الإثارة والإعجاب لدى القارئ بذكر حقيقة جميلة حول هذا المركز، فهو جزء من منظومة وقفية أنشأها الإعلامي والمستثمر: دونالد رينولدز في عام 1954 (Reynolds Foundation)، وأوقف لها مبلغًا ضخمًا من المال، مقداره: 115 مليون دولار أمريكي.

لن أعلق في الخاتمة على جودة الأعمال الصحفية الفائزة بهذه الجوائز، ولن أعيدَ ذكر الآثار الكبيرة والمنافع الجليلة التي يَجنيها المواطنُ والإنسان في تلك الدول، فهذه ظاهرة وواضحة، ولا أظنُّ أن هناك مَن ينكرها، أو ينقص من قدرها، لن أعلق في الخاتمة على جودة الأعمال الصحفية الفائزة بهذه الجوائز، ولن أعيدَ ذكر الآثار الكبيرة والمنافع الجليلة التي يَجنيها المواطنُ والإنسان في تلك الدول، فهذه ظاهرة وواضحة، ولا أظنُّ أن هناك مَن ينكرها، أو ينقص من قدرها، ولكنني أرغب وأتوق بشدة ولهفة في لَفْت أنظار رجال الأعمال والموسِرين في بلداننا الإسلامية، وبلدنا خاصة - وهم أذكياء لَمَّاحون، وللخير محبُّون - إلى هذا المثال المشرق والجميل الذي ضربه دونالد رينولدز لتفاعل رجال المال وجهودهم الضخمة في الارتقاء بفاعلية وجودة وأثر الإعلام في بلدانهم، ولقد توفي رينولدز منذ زمن طويل، أو هكذا يقولون ويزعمون، ولكن الحقيقة أنه خلَّد اسمه وذِكره واهتمامه الراقي في هذا الوقفِ العظيم، وهذه الخدمة الجليلة للإعلام الهادف والمجتمع، فيا ليت شعري من يقتدي برينولدز في بلادنا؟ بلاد الكرم وحب الخير والآخرة والرغبة في نفع الغير.

بلاد محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أُعجب بحاتم صاحب ذلك الشعر الخالد الجميل وهو يخاطب زوجته التي تلومه لكرمه:

مَاوِيّ، إن المالَ غادٍ ورائحُ ويبقى من المالِ الأحاديثُ والذِّكْرُ