• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    موقف أبي موسى الأشعري مع جندي من جنوده
    الشيخ عبدالعزيز السلمان
  •  
    النقد العلمي
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت ...
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

اختيار الله

اختيار الله
صافية دراجي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 25/11/2013 ميلادي - 21/1/1435 هجري

الزيارات: 8472

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

اختيار الله


ربما تكون لحظة البوح عن الحقيقة من أصعب اللحظات التي ترتطم فيها أمواج الحق بالباطل، وتظهر فوق الأنفُس تلك الهالاتُ التي تجعلك تقف مشدوهَ الحواس أمام قوة تسيِّر نظامًا تتشابك فيه نواميس الكون، وتسير خُطًى نحو آفاق تبعث بتباشير الغربة والاغتراب نحو أفق مضبب بترانيم القادم الذي يتدثر بكواليس من النورانية، هل كانت "اختيارُ الله" - تلك الأَمَةُ الفاتنة بقوتها وبهائها، وشبابها وحياتها، التي تتمايل قاب قوسين بين الحياة والموت - حقيقةً، أم قصةً من وحي خيال؟ كنت أتأمل فيها، وهي تَسرُدُ تفاصيل ما بقي لها من أيام، أو أشهر، أو سنوات "إنما الأعمار بيد الله".

 

هل المرض هو القاتل؟ هل الأجل؟ أيُّ سلطة للآخر أقوى من الآخر؟

بقِيتُ بُرهةً أتأمل مُحَيَّاها الطاهر البريء، وأتحسَّس أنفاسها القوية بإيمانها، يا لَلهِ! كم تأتيني آياتك الباهرات إلى هنا، أمامي أرى وُجودَك الصادق، وأرى ضعفي وهزيمتي أمام الحق واليقين، كانت "اختيار" تسردُ تفاصيل سعادتها بين أيدٍ احتوتها بحجم الفرح الذي يحلم به الأطفال، سعيدة ببراءة الطفولة حين تكرر قولها: "بين الموت والحياة ختمتُ حفظ كتاب الله"، هناك بين أربعة جدران، إنها نعمة المرض التي تُقرِّب الإنسان من ربه، هل هو الإيمان واليقين الذي جعلني أهيم بتسابيح جلاله، فيحقق أملي المرجو من هذه الحياة بأن أحفظ كتابه العزيز، وتتعطر روحي بفيض من عطائه؛ لأكون جليسة ربي في فترة وجيزة بين أربعة جدران، تحيط بي هالات من الحزن تنتظر لحظة أودع فيها الحياة؟

 

شعرت بأن دمعة ستغالبني لتنزل إلى مرأى عيونها الخضراء الجميلة، فغالبتُها بقوةٍ وتحدٍّ، طالبةً منها أن تواصل سرد رحيق بهائها، وقبل أن ترتفع الطائرة مُدَوِّيَةً مكسِّرةً نمط السير فوق السحاب كانت قد طمأَنَتْ زوجها أنها بخير، وأنها ستُعاود الاتصال به حالما تصل، أما أنا، فلم أشعر بشيء غير الرغبة في البكاء، كيف اصطفاها الله هكذا؟ كيف أَحَبَّها هكذا؟ كيف ابتلاها هكذا؟ وفي ابتلائه نعمة لا يُجْزَى بمثلها إلا الطاهرون.

 

قَطَعَتْ صمتَ الرحلة بيننا، وقطعَتْ ذبذباتِ إقلاع الطائرة بقولها: في سنة أجرَيْتُ أكثر من عشر عمليات جراحية، إنه ذاك الجرثوم الخطير الذي يقتلع من الرُّوح روحها بإذن بارئها، سرطانٌ نَغَّصَ عليَّ بريق الحياة وبهاءها حين أرى دموع المُحبين تحتبس عَنْوَةً، وأرى أوجاعهم الصامتة وهي تبكي رحيق الخوف من لحظة الوداع، من يُصَدِّق أني أتنفس، ولا أملك رئة، أعيش دون كَبِدٍ؟ لَحِقَتْ أعضائي ببارئها قبلي، وأنا في محطة الانتظار.

 

قاطعْتُها مباشرةً، وكُلِّي غبطة؛ لأني وجدت المسلك المناسب لأقول كلمتي المتواضعة:

• كلنا في محطة الانتظار سيدتي، المرض لا يقتل، إنما الآجال.

 

• أجابتني بابتسامة لا تُخفي ذكاءً يَفِيض من جنبات روحها الطاهرة: إنما المرض سبب من بين أسباب الموت، وكلنا راحلون، من يشكك في هذه الحقيقة؟ لست قلقة من الموت؛ إنما قصدْتُ أن الحزن الذي يسكن جنبات القلوب التي تحيط بي يجعلني أتألم لأَلَمِهِم، أعرف أن الموت لا يستأذن مِنْ أحد، لقد زادني المرض يقينًا بحقيقة الموت، وزادني الألم قُربًا من حقيقة هذا الوجود.

 

استغرب الأطباء كيف يعيش إنسانٌ هذه حالتُه، كانت التحاليل التي توصلوا إليها تقول: إن بيني وبين الموت وقعَ خُطُواتٍ؛ لا رئة، لا كَبِد، لا طِحال، لا رحم، أجزاءٌ شتى من جسدي معدومة، فتحوه وجدوه شبه فارغ.

 

ثم صمتت لحظة وهي تبتسم، فهمْتُ أنها ستقول كلامًا جميلاً، أو ربما كلامًا يريحها، فأردفَتْ في نشوةٍ من الفرح هزَّت شدْوَ صوتها المغرِّد أنسامًا برحيق الصدق:

• لقد آمن ذلك الجرَّاح الذي تتبع حالتي، دخل الإسلام، هُرِع ساجدًا لله، آمن بعدما رأى في مريضته آياتِ الله الباهرات.

 

• يا لَحُظْوَةِ إنسان آمن، وآمن معه كثيرون، وكأنها سمعت كلماتٍ نطقها قلبي، فزادت في قولها:

نعم، لم يكن الوحيد الذي دخل الإسلام، بل جمْعٌ من الأطباء معه رأوا ما رأوه بأمِّ أعينهم، لقد رأوا الله في تلك اللحظات التي يمتزج فيها الخيال بالحقيقة، أليست "اختيار" آيةَ الله أمامهم؟ أيُّ علم تعلموه بعد هذا؟ أيُّ قدرة تلك التي تمنح للإنسان الحياة، وهو في حالة موت؟

 

كان طبيبها منذ زمن لا يفارقها أو يكاد، يسأل كثيرًا وبإلحاح، وكأن شفقته عليها تحولَتْ في لحظة قوةٍ إلى شفقة منها نحوه، أو وكأن ما بينهما ليس فقط المرض، إنما رسالة أرادها الله أن تصل إليه، كان كبيرَ السن، وكبير القلبِ، وكبير الروح، لكنه عاش على خراب الحضارة، لا يدري هل وجوده صدفة، أم تدبير قوةٍ عليا؟ كان يسمع من "اختيار"، ويقرأ شيئًا لم يصادفه في حياته، في تجارِبه التي خاطت عيشة زمانه، سجد لله أخيرًا، ونطق الشهادة بإرادة صادقة، واعترف أن العِلم عاجز أمام قوة الإيمان، وصدق الصلاح.

 

ألَمٌ يَنخَرُ جسدها، وفرحةٌ تهز فؤادها، حظوةٌ لها أن يفتح الله بسببها على هذا المَشْفَى، على هؤلاء الجراحين والأطباء؛ ليؤمن أغلبهم أن الإسلام حق، وأن الله حق.

 

توقفت "اختيار" عن الحديث فجأة، شعرْتُ بأنها تعِبَت، ولم أُرِدْ استزادتها وفي القلب ألفُ وَهَجٍ يدعو للاستزادة، للاعتراف، لِلاّ صَمْت، ظلَّتْ تتأمل بعيونها الشاخصة عالَمًا بعيدًا فوق السحاب، كانت تنظر في شيء لم أدرك معالمه بعدُ، ربما لِمِثْل هؤلاء المختارين بَوْحٌ سري، ولحظات السياحة في عالَمِ الملكوت الأعلى.

 

كانت الطائرة تُحَلِّق في أرجاء السماء، ترتفع فوق السحاب، كنت أستحضر عبارة ذاك الجزائري المميز حين يقول: "سماء قسنطينة زرقاء"، كنت أشعر وأنا في غمرة ذلك السحاب أنني ألمس السماء، فلا أجد فيها تلك الزُّرْقة، فأجبت "مالك حداد": لا، سماءُ قسنطينةَ لم تعُدْ زرقاء، لا أرى فيها إلا لون السحاب، ولون الكآبة.

 

شعرت بأنني قريبة من الله، فاهتز فؤادي بعد لحظةِ غفلة استرَقَ الدعاء من قلب موجوع: يا رب، بين أسفار الحدود واللاحدود، يا رب، على عتبات هالات الحب الصادق.

 

الآن انضاف إلى قائمة أسماء العَلَم المعرفة اسم آخر، إنها "اختيار الله"، فوق السحاب لا أرى في وهج الضحى غير أشياء جامدة، عالمًا آخر يَزُف رؤى الوحدانية، كم تشعر في حالة الوجود السرمدي أنك قريب من الله، زادتني "اختيار" من عمري حياة ثانية، سأكون منكرة للجميل إن لم أشكر فضلها عليَّ بتلك الإطلالة الربانية، وسأكون منكرة لنِعَم الله إن لم أشكر اختياره لي؛ لألتقي بنبضٍ للحياة بين ثنايا الموت، بقصة تكتب نهايتها بابتسامةِ رضا وقناعة، هل كانت تلك الدموع التي تنزل بين الفينة والأخرى دموعَ حزن، أم ألم، أم فرح؟ لم أفهم سرها، لكنْ رأيت ابتسامة الرضا تفتح آفاقًا على أمل مرتجى، أيةُ حياة تساوي أمام غطرسَتِك وشموخك "اختيار الله"؟ المهم حسن الخاتمة، تعودْنا على قولها، من اختارها لك؟ أنت سعَيْتِ تجاه نافذة الفرح المنشود بطقوس الإيمان، أم أتتكِ تجُر تهجدات الفتح المبين على عالم لن يفوح منه إلا الحق؟ هل أنتِ تكتبين معي الآن قصة نهايتك، أم بداية حياتك من جديد؟

 

وجه يضم المتناقضات، شحوب فظيع لا يُخفي أثر المرض، وإشراقة جميلة لا تُخفي أثر الوقار والطهر، عيونها الخضراء الجميلة توحي بأبجدية الألم الذي عانَتْه طوال مسار ماضيها.

 

نطقت أخيرًا بعد صمت أسكَنَ في فؤادي لوعةَ الخوف ألاَّ تنطقَ مرة أخرى:

كنتُ يافعة شابة في مقتبل العمر مثل أترابها تحلُم بالسعادة والفرح، أحلامي بسيطة لكنها كبيرة كبر الأنثى التي تبيع عمرًا من أجل سعادة تحتويها، ودفء مشاعر تضمها، حلُمت بحبٍّ صادق يكلَّل بالزواج، فحقق لي اللهُ أملي بأن يهب لي من نسائم خلقه نسمة الفجر الوضاح، كان زوجي بحقٍّ عنوانًا لأسمى لغات الأُنس، وجدت فيه الزوج، والحبيب، والصديق، كانت مقلته تترنَّم فرحًا بالوجْد الصادق الذي ضم شوقنا عُشًّا دافئًا في بيتٍ احتوى أحلامنا الكبيرة، كنت أشعر حين أكون معه أن الله ميَّزني حقًّا، وأن الله يحبني حقًّا، وأن الله اصطفاني حقًّا بأن وهب لي هذا القلب النيِّر، والصدر الدافئ الحنون، كنت أشعر وأنا بجانب زوجي أن الحياة هو، وهو كل الحياة، وكان يضطرني في لحظات الضعف الأنثوي لأن يجعلني أشعر بذلك الشوق الصادق، ربما أكون أكثر وسامة منه كما تقول شقيقتي، لكن كنت أراه الأحلى والأجمل بين رجال الكون، كم أغتبط فرحًا حين أسمعه يهمس بهدوء في أذني عند الفجر! حين يريد النعاس أن يختطفني عن عالم الطُّهر في لحظة البَوْح، فيأخذ نداؤه الرقيق يحفر في خاطري: "قُومي حبيبةَ الرُّوح، أذان الفجر ينادينا، قومي نبتاع من نعيم الجنة ما غدًا يُنْجينا، قومي يا نبضَ الهوى، فنور الله يحتوينا"، إنه حُدَاؤُهُ الذي يحدو به قلبي الضعيف أمام شموخ رجولته وعذوبة نبضه، حفظت كلماته الرقيقة، انسابت إلى أوداج روحي، فصرت إن سبقته إلى سماع الأذان والقيام أناديه بها، فيبتسم وعيناه مغمضتان، مجيبًا ندائي: "سمعنا فاستجبنا" بصوت يتقطع من أثر هِزَّة النوم.

 

كنت في سعادة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، وبقي ما يكمل بهاء حبنا، ثمارٌ تنتشي نشوة الفرح في أرجاء البيت، حلم المرأة أن تُرْزق بمن يحمل بِرَّها، وتحميه بصوت دعائها المنساب أفراحًا على سماء أيامها، اكتمل حلم الزوج، ولم تكتمل فرحة البيت بثمار تغرس بها الفرح والمرح والضجيج على عتبات زواياه الفارغة، إلا من همس زوجي يُصَبِّرني، وينبهني إلى التريُّث؛ فساعة العمر معنا طويلة، ورحلة البدء كانت منذ عهد قصير، فلِمَ العجلة؟ والفرحة تغمر قلوبنا بحب عذري صادق يملأ قلبي وقلبه الرقيقين.

 

بعد لَأْيٍ من الزمن شاء الله أن يتحرك ذاك الشيء الجميل في أحشائي، إنه حلمي الكبير يتحقق بعد أكثر من عام من الزواج، تقول قريباتي: لم يمر الكثير على زواجك، فلِمَ العجلة؟ لكن كنت أشعر أن عامًا من الفرح الذي عشته مع زوجي سيصير أعوامًا، ونحن نحتضن ثمار حبنا، أيَّةُ بشرى أزُفُّها إلى فارسي الذي صبر على عنادي، وعلى استعجالي لاحتضان ولده بين يدي، لم تكن فرحته أقل من فرحتي، أجواء من القداسة والسكينة تغمرنا، تخيَّرْنا أشياءه الصغيرة، وألعابه الصغيرة، وحتى الأسماء، بدَأَتْ قائمة من المعاجم تزدحم في مُخَيلتنا، وعلى أثير ضحكتنا مرت الأيام الحالمة على وقع أحلام الغد؛ لأستيقظ على وقْع سيارة إسعاف تحملني على جناح السرعة إلى المشْفَى، سقط الجنين! ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 27]، "لله الحمد والمنة"، سقطت فرحتي المخمورة منذ عهد الطفولة الحالمة، نعمة الأمومة تمنح المرأة حياة ثانية، شعرت في لحظة الضعف بالهزيمة، تمسكتُ بقوة بالله، وأنا أستذكر قوله: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]، تمسكت بقوةٍ بقوله: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 2]، زادني قول زوجي قوة وإيمانًا وشجاعة: الحياة أمامنا، والمسار ما زال طويلاً، والمهم عندي أنتِ قبل كل شيء، أنتِ حياتي وفرحي، وبنوني وبناتي، عودي إليَّ بسرعة تحملين على راحتيك نوْرَسَ الأمل، لا تكوني كافرة بأنعم الله علينا، تقويت على الجهد، وحملت مِشْعَل الأمل بنفس راضية؛ لأتلقى بعد ستة أشهر الصدمة ذاتها، لم تكتمل فرحتي، مرة أخرى يسقط الجنين من بطني، إلهي ما الذي يحدث لي؟ هل الابتلاء أكبر مني، أم أن الضعف هد كِياني؟!خرجْتُ مرة أخرى من المحنة ذاتها لكن أكثر قوة وأكثر إيمانًا بأن كما هو ابتلاؤه تعالى كبير، فكذلك رحمته وسعت الآفاق؛ إنه ﴿ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [البقرة: 212]، وكان زوجي يحمل معي الهمَّ نفسه لكن برضًا وصمت، ويكرر على مسامع قلبي كلمات الصبر بأن القناعة باب الرضا، والرضا باب الله الأعظم، كان يحملني على الصبر بقوة، ويجبرني على الصبر بقوة، ويفرض على ضعفي التقوِّي بالله، كم تبدو الحياة جميلة بالقرب ممن نحب!

 

تماثلت للشفاء، وزدت تقربًا من الله، كان الألم ينخر جسدي، لقد تعب كثيرًا من جراء الحمل والإجهاض، للمرة الرابعة يحدث لي الإجهاض، في كل سنة مرة، لم أجرؤ على تناول أدوية منع الحمل رغم نصح الأطباء، كيف أمنع عن نفسي الحمل، وأنا أشتهيه مع كل ذرة هواء أستنشقها، مع كل رمشة عين أرمشها؟! لم أنسَ أن أشكر الله، صرت متعودة على فقدان الحمل.

 

ثم لم أدر كيف صرت أشعر بالغثيان والدوار الذي لا يكاد يفارقني، اعتقدت أنه ألم الحزن، أو آلام الإجهاض المتتابع؛ لكن الفحوصات أثبتت أنه السرطان، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.

 

كانت نتيجة تلك الفحوصات محطة لانطلاق عالَمٍ آخر من الآلام التي لا تنتهي لعائلتي ولزوجي، كانت محطة لأن أسافر باستمرار إلى الخارج لتلقِّي العلاج الذي يلزم إنسانًا هذه حالته، على عتبات الموت ينظر في الحياة من نافذة مضببة.

 

لن أنسى إطلاقًا تلك الليلة التي استيقظْتُ فيها آخر الليل، ولم أجد زوجي في مكانه، انتظرته ساعة، ولما تأخر قمت من مكاني وإذا بي أرى ضوءًا خافتًا في الغرفة المقابلة، وحين اقتربت سمعت دعاء زوجي بنحيب وبكاء قائلاً: "ربِّ، لا تأخذها مني، رب، لا تحرمني منها؛ فلا حياة لي بعدها"، لن أنسى ذلك الموقف، تَذَكُّرُه يعذبني، عدت إلى مكاني قبل أن ينتبه زوجي أني سمعته، إن رجولته تأبى له أن يُظْهِرَ ضعفه أمامي.

 

كنت أتابع قصة "اختيار" باهتمام كبير، لم أستطع أن أعلِّق، لم أقدر على قول كلمة، استسلمتُ للُغة الصمت، ولاحظت دموعًا حَرَّى تتساقط على خديها المتوردين بحرارة الاشتياق، دموعًا هادئة تتخللها ابتسامة؛ ليمتزج الحزن بدثار من الرضا، أو ربما هي ابتسامة تستذكر من خلالها لحظات الحياة التي كانت تجمعهما، وتلك الذكريات القابعة داخل مكنونات النفس والتي يأبى الزمن أن يمسحها، إنها تَعُود في كل لحظة تهز الفؤاد بما يصادف ذلك اللقاء، أو تلك اللحظات، ما أصعب الذكريات! وما أقسى وجودها في داخلنا! الذكريات الجميلة تترك وراءها أسفَ الرحيل من دون عودة، والذكريات التعيسة تحمل معها ألمًا، وحسرةً، ودموعًا، وشيئًا كبيرًا من السواد الذي يسكن دواخلنا إلى ما لا نهاية، أو ربما نهايته حين تحتضن قطعةٌ من التراب جسدَنَا الراحل - لا محالة - إلى عالم البقاء الأبدي.

 

شعرت بحزن "اختيار"، استوعبت ألمها، أو شيئًا من آلامها، لم أشعر إلا ويدي تُمْسِك على يدها بقوة؛ لأهمس لها بكلمة، لم أدر كيف قلتُها:

• لقد اصطفاكِ الله.

أجابت للتوِّ: ربما.

 

وأردَفَتْ: - أرهقْتُكِ بحديثي.

 

• لا إطلاقًا، سعيدة جدًّا لهذا اللقاء، لم أشعر بالوقت، وكنت في حاجة لأن ألتقيَكِ، كنت في حاجة لأن أرى آلام الآخرين أمامي؛ كي أعرف موقعي في هذه الحياة، ما أجمل إيمانَكِ وقوتك وتحديك!

 

أطبقَ طوق الصمت يُغَلِّفنا، الطائرة تشير إلى موعد النزول، شعرت بعاطفة قوية تشدني نحو "اختيار"، بإعجاب، بشفقة، بامتنان.

 

الطائرة تتنزل، وآلامي بقصة "اختيار" تتنزل في القلب، حسيسها وهزيزها وهزيز أنفاس الحزن يغالبني، حين يتحدث الصمت بلغة الوَحْدة، وحين يحترق نبض الحياة لينير الحياة، كنت أتأمل من نافذة الطائرة لحظات الهبوط، كم تعجبني تلك الدقائق التي أرى من خلالها جمال الطبيعة!

 

كان زوج "اختيار" ينتظرها برفقة طفل صغير، أتاها على جناح السرعة يعانقها، أشارت إليه إنه ابن شقيقتها "المعتز بالله".

 

ودَّعْتُ "اختيار"، ودَّعْتُ قصةً للتحدي، والإيمان، والثقة، والمعاناة، ودَّعْتُها وأسفُ الفراق يخط أبجدياته، لكنها الحياة، هي هكذا محطات نقتبس منها رحلتنا المستقبلية في ضوء ما نتعلمه منها، محطات للِّقاء، ولا لقاء بلا فراق.

 

وصلت إلى البيت، وكم كنت مستعجلة - على غير العادة - لأن أخلو بنفسي! وعلى غير العادة احتبست ضحكتي التي تعودت أن أطلقها في أرجاء البيت لأنشر النشاط والحيوية، وأوقظ بها مشاغبات الصغار، على غير العادة شعرت بأن ابتسامتي تحتبس في الداخل، وأنه لا شيء في هذا الوجود يستدعي أن تفرح من أجله، كل شيء جميل يمر، ينقضي، ينتهي، ربما حتى أحزان البشر ستنتهي يومًا ما!

 

إنه يوم ليس ككل الأيام، صوت من أعماق معاناة الآخرين دغدغ مشاعري، شعرت بأنني أحيا من جديد، أو أموت مع كل ابتسامة ألمٍ رأيتها من "اختيار"، ومع كل نفحة إيمان تُسَطِّرها ببهاءِ قُرْبِهَا من الله.

 

كانت تزدحم في مُخَيلتي أشياءُ مبعثرة، وأحاسيس مبعثرة، لم أعرف كيف أفسرها، شعرت في لحظةٍ أنني قريبة من ذاك العالم العلوي الأزلي، وأنا في غمرة سجودي، صورة "اختيار" لا تفارقني، رفعْتُ أكف الضراعة إلى السماء، وأجهشْتُ ببكاء مُرٍّ، ولم أكن أعلم لماذا أبكي، هل على "اختيار" أم على نفسي؟!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الله أكبر
  • رضيت بالله ربا
  • يا ذكي اتق الله
  • إن الدين عند الله الإسلام
  • حسن الظن بالله تعالى
  • أقبل على الله (قصيدة)
  • تفنن في اختيار ما يليق بك

مختارات من الشبكة

  • لماذا اختيار الإسلام دينا؟ الاختيار بين الإسلام والمعتقدات الأخرى (كالنصرانية واليهودية والهندوسية والبوذية..) (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • أسس اختيار المؤذن(استشارة - موقع الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي)
  • رسالة في الزكاة لابن كمال باشا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطوات إجراء الحديث الصحفي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • قبل الالتحاق بكلية الشريعة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • خطباؤنا هل يحسنون اختيار موضوعاتهم؟(مقالة - آفاق الشريعة)
  • اختيار الاسم الحسن للمولود(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • أحداث رمضان (2) غزوة بدر وأفضلية اختيار المولى عز وجل(مقالة - ملفات خاصة)
  • اختيار الذكر والدعاء(مقالة - آفاق الشريعة)
  • قراءات اقتصادية (54) النظرية المكانية في اختيار المكان المناسب للنشاط الاقتصادي(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)

 


تعليقات الزوار
7- شكرا
صافية دراجي - الجزائر 11-07-2014 04:17 PM

شكرا لكم جميعا أيها الإخوة أيتها الأخوات

6- حقيقة
نيروز بن زقوطة - الجزائر 24-01-2014 01:10 AM

جميل جدا ما كتبتيه أختنا الكريمة، وأحسب القصة من الواقع المعاش، فهي تخترق القلب والإحساس بدون تكلف مطلقا.
سلمت وسلمت يمناك أينما كنت.

5- بضدها تتميز الأشياء
محمد حداد - الجزائر 29-11-2013 02:40 PM

قصة عظيمة المغزى جليلة المعنى، وزاد في عظمتها وقوتها فصاحة اللغة وعلو مستواها الأدبي.

لا يدرك الناس حقائق النعم وتفضل ربهم - سبحانه - عليهم بها، إلا بعد فقدانها، والسعيد من وُعظ بغيره، وإن في هذه القصة لموعظة للمتعظين.

فلنستحضر نعم الله علينا التي لا تُحصى، [[وإن تعدوا نعمة الله لا تُحصوها]].

ولنتأمل في حقارة الدنيا، فإن كل شيء له نهاية قد عدم قيمته بنهايته، [[بل تُؤثرون الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى]]، [[فما أُوتيتُم من شيءٍ فمتاع الحياةِ الدنيا وماعند الله خيرٌ وأبقى]].

4- اختيار الله
حفيظة مبارك - الجزائر 28-11-2013 01:06 PM

قصة يقرؤها الواقع قبل العين... يدمع لها القلب قبل الجفون ....
قصة تقهر المتجبرين.... تهمد سطوة المتكبرين
قصة تبعث الأمل في نفوس المبتلين
تطمئن أفئدة المنيبين ... المؤمنين بالغيب ...
قصة تستحق القراءة فعلا .... وفوق ذلك تستحق الاعتبار لمن يعتبر

3- رائعة جدا
كهينة - الجزائر 27-11-2013 07:13 PM

لا أستطيع أن أقول أكثر من أن القصة في غاية الروعة، لم أقرأ قصة بهذا المستوى الأدبي واللغوي الجميل والهادف والصادق والمؤثر منذ زمن.كاتبة جديرة بلقب روائية الجزائر الأولى بجدارة واستحقاق.
نحتاج إلى من يذكرنا بحقائق الوجود الكبرى.
موفقة لصاحبة القصة ومباركة أينما كانت وحيثما حلت.

2- رائعة
ليلى - الجزائر 27-11-2013 06:23 AM

أثرت علي القصة حتى بكيت
جميلة وهادفة وصادقة. بالتوفيق لصاحبتها

1- قصة مؤثرة..
ahmed abo issam - الجزائر 27-11-2013 12:03 AM

قصة مؤثرة والله

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب