صفحات من المساعدات العسكرية العثمانية لفرنسا (2)

صفحات من المساعدات العسكرية العثمانية لفرنسا (2)

الجُذُور التَّارِيْخِيَّة لمَوْقِف الحُكُوْمَة الفَرَنْسِيَّة من الأُمَّة الإسْلامِيَّة (20)

سَعْيُ هنري الثاني ابن فرانسوا الأول لتجديد الصُّلْح مع الدولة العثمانية:

تَوَلَّى المُلْكَ من بعد فرانسوا ولدُه هنري الثاني، والذي أَبْقَى على السفير الفرنسي في الدولة العثمانية، وأمره بمُصاحبة السلطان العثماني في حَمْلَته على الصَّفَويِّين في بلاد فارس؛ حِرْصًا منه على توثيق أَواصِر العلاقات بين البلدين، لعله يُفْلِح في إحياء المعاهدة التي عَقَدها والدُه مع الدولة، ونَكَص عنها مرتين من قبل، ومَرَّ السفير الفرنسي عند عودته من مُصاحبة السلطان سليمان في حَمْلته ببلاد الفُرْس على بيت المَقْدس، ورَحَّب به القَساوسة والرُّهْبان هناك، كما رَحَّبوا بجَعْل رعايا الدولة العثمانية من الكاثوليك تحت حماية المملكة الفرنسية.[1]

التَّحالف العُثماني الفرنسي العَسْكري الثاني:

لما عاد السفير إلى فرنسا، وجد أن الحرب قد اشتعلت بين فرنسا والهابسبورج ثانية، فرجع إلى القسطنطينية، واتفق مع الباب العالي على أن تَتَّحِد الأَساطيل العثمانية والفرنسية؛ لتقوم معًا بغَزْو جزيرة كورسيكا، مُعاقَبَةً لجمهورية جَنَوة الإيطالية التي كانت تحتل الجزيرة في ذلك الوقت؛ لأن الجَنَوِيِّين ساعدوا شارلكان في حَرْبه على فرنسا من جهة، ولكي تكون جزيرة كورسيكا مركزًا لأعمال الأُسْطولين الفرنسي والعثماني في غَزْو السواحل الإسبانية، والإيطالية.

كَلَّف السلطان العثماني طرغد بك أحد أكبر القادة البحريين العثمانيين بمهمة الدفاع عن فرنسا، ومساعدتها؛ وذلك بسبب إعلان شارلكان الحرب عليها مُجَدَّدًا في شهر سبتمبر من عام 1551م، وقد كان طرغد بك يكره الفرنسيين؛ بسبب نَكْثهم المتكرر لعهودهم.

سار طرغد بك بأُسطوله من إستانبول إلى مركز اللواء البحري الذي يقوده بميناء بروزة الواقع بغرب اليونان حاليًا، ثم أَقْلَع بأسطوله، فرَسا في ميناء بغرب مدينة نابولي الإيطالية، وكان السفير الفرنسي دارامون يُرافقه في الأُسطول.

تَقابَل الأُسطول العثماني بالأُسْطول الإسباني، وكان بقيادة أندريا دوريا الجَنَوِي الإيطالي، قائد القوات البحرية الإسبانية، وكانت جمهورية جَنَوة آنذاك تحت حِماية شارلكان ملك إسبانيا والهابسبورج، وكان لقاء الأُسْطولين بالقرب من جزيرة بونزا في أغسطس من عام 1552م، فانتصر العثمانيون، وانسحب دوريا بعد عَجْزه عن حِماية سبع سُفْن من أُسْطوله، انتقلت إلى حَوْزة طرغد بك، كما أَغْرَق العثمانيون عدة سفن أخرى.

ويُعَدُّ انتصار بونزا أحد أكبر إنجازات طرغد بك، الذي نجح عقب المعركة في احتلال جزيرة كابري المواجهة لنابولي، وسيطر لمدة شهرين على مياه البحر التيراني، الواقع بين الساحل الغربي لإيطاليا من جهة، وكل من جزر صِقِلِّيَّة، وكورسيكا، وسردينيا من جهة أخرى، وهو أحد أَفْرُع البحر المتوسط.

وفي أول فبراير من عام 1553م عُقِدت معاهدة إستانبول بين السلطان العثماني سليمان القانوني، والملك الفرنسي هنري الثامن، والذي كان يرجوا السلطان العثماني التَّفَضُّل بقَبول تجديد الامتيازات، وتقديم المساعدة لفرنسا، فكتب إليه يقول: لم يَبْقَ لدى فرنسا أي أَمَل في المساعدة من أي مكان آخر، عَدا حَضْرة سلطان العالم؛ حيث إن حَضْرة سلطان العالم قد قَدَّم من قبل مساعداته لمرات عديدة، إن فرنسا ستكون مُمْتَنَّة إلى الأبد، لو سوعدت بمقدار من النقود والبضاعة، ستُطَبِّق شهرة الكَرَم التركي العالم أَجْمَع، إن مثل هذه المساعدة تُعْتَبر لا شيء بالنسبة إلى سلطان العالم.

ولقد نَصَّت المعاهدة المذكورة على أن يضع هنري الثامن الأُسْطولَ الفرنسي رَهْنًا للدولة العثمانية، في مُقابِل المساعدات البحرية العثمانية، وعلى أن تترك فرنسا أُسْطولها إلى الدولة العثمانية، في حالة عدم تسديد فرنسا مصاريف الحَمَلات البحرية.

رجع طرغد بك إلى إستانبول، فقَضَى بها الشتاء، ثم غادرها في صيف العام التالي على رأس أسطول بحري، وانضم إليه أُسْطول بحري فرنسي، كان موجودًا في مودون بشبه جزيرة المورة اليونانية.

ثم غزا صِقِلِّيَّة بالأُسْطول المُشْتَرَك، وأنزل جنودًا في مدينة كاتانيا، وهي ثاني مدن صِقِلِّيَّة بعد باليرمو، وأنزل جنودًا آخرين في مدينة باستيا، مركز جزيرة كورسيكا، فاستولى على المدينة والقلعة، وأَباد جيشًا للعدو من سبعة آلاف مقاتل، وانتقلت جزيرة كورسيكا لحَوْزة العثمانيين، وخَلَّص حوالي سبعة آلاف أَسِيْر مسلم كانوا بها.

ثم عاد إلى إستانبول، بعد أن سَلَّم إدارة جزيرة كورسيكا إلى الفرنسيين، بأمر من الديوان العثماني، فلم يتمكن الفرنسيون من الحفاظ على الجزيرة؛ حيث هاجمها أندريا دوريا في الشهور الأخيرة من نفس العام، وانتزعها منهم، ولم يتمكن الفرنسيون من استعادتها إلا بعد قَرْنَيْن كاملين من الزمان.

تم تعيين بيالة باشا قائدًا للقوات البحرية، وناظرًا للبحرية في العام التالي 1554م، وكان في الثامنة والثلاثين من عمره، فأمره الديوان العثماني بإعادة فتح جزيرة كورسيكا، وتسليمها للفرنسيين، الذين كانوا قد أَراقوا ماء وجوههم في الإلحاح على الدولة العثمانية؛ لتساعدهم في استرداد جزيرة كورسيكا.

فخرج بيالة باشا بالأُسْطول في صيف العام نفسه إلى البحر المتوسط، والْتَأَم بأُسْطول فرنسي يَقُودُه البارون دو لاجارد، ثم رَسَا الأُسْطول المُشْتَرَك في ميناء بيومبينو الإيطالي، ثم أَنْزَل في البَرِّ بجزيرة كورسيكا ثلاثة آلاف جندي، وحاصر كالفي، ولكنه غضب على الفرنسيين، فرفع الحصار، ورحل عن كورسيكا، ولم يتمكن الفرنسيون من أخذها.

ثم أمر الديوان بيالة باشا في العام التالي بمساعدة فرنسا كذلك، فالْتَقى بطرغد بك، واحْتَلَّا ريجيو كالابريا الإيطالية، وبحث بيالة باشا عن أُسْطول أندريا دوريا في البحر، فلم يجده، فرجع إلى إستانبول، ووصل طرغد بك إلى إسبانيا في مَسْحه للمياه المتوسطية؛ بَحْثًا عن الأَساطيل التابعة لشارلكان.

ثم خرج بيالة باشا في حَمْلة بحرية أخرى في عام 1557م، ولم يتمكن من العثور على أُسطول أندريا دوريا كذلك، فرفع الراية العثمانية، وقام بعمل عَرْض بحري في البحر المتوسط.

وكان أندريا دوريا قد تَقَدَّم في العُمر، فاسْتَقال من قيادة القوة البحرية الإسبانية، وقد أَثَّر فيه كثيرًا تَخَلِّي شارلكان عن العرش، وعَيَّن على قيادة القوة البحرية الإسبانية ابن أخيه، ثم انْسَحَب إلى قَصْره الكبير في جَنَوة، مُعْتَزِلًا العمل العسكري، والحياة السياسية.

وفي صيف عام 1558م سار كل من بيالة باشا، وطرغد بك بأُسْطول عثماني، ففتحوا جُزُر البليار الإسبانية بالكامل ـ ميورقة ومنورقة ويابسة ـ ولم تستطع إسبانيا حماية الجزر، فاضطرت لعَقْد الصُّلْح مع فرنسا في العام التالي في معاهدة شاتو كامبريزيه، وتَمَّت تَرْقِيَةُ بيالة باشا بعد هذه الانتصارات العظيمة إلى رُتبة فريق أول بحري.

ثم كانت هزيمة الأُسْطول الإسباني السَّاحقة في معركة جزيرة جَرَبة التاريخية ضربة كبيرة جدًا للقوة البحرية الإسبانية، وقد فتح بيالة باشا بعد ذلك عِدَّة قِلاع قرب نابولي بإيطاليا، وسَلَّمها للفرنسيين، لكنهم لم يتمكنوا كالعادة من الحفاظ عليها.[2]