الظاهرة الجمالية في الإسلام

الظاهرة الجمالية في الإسلام

إن علماء الجمال حينما بحثوا في أمر العلاقة بين "الجمال" و"الدين" لم يكن لآرائهم جامع يضم بعضها إلى بعض أو ينسق فيما بينها، بحيث تبدو موضوعية إلى حد ما، وإنما نجد هذه الآراء منتشرة على ساحة البحث في غير تنسيق أو ترتيب، شاغلة تلك الساحة من أقصاها إلى أقصاها، ففي أحد الطرفين نجد الذين ينادون بأن الجمال منبثق عن الدين، كما نجد في الطرف الآخر من ينكر أي علاقة بينهما، وفي مقدمة هؤلاء بعض رجال الكنيسة، وبين هذين الطريفين آراء كثيرة..

والمهم في الأمر، أن الذين رأوا الصلة وثيقة بين الجمال والدين لم يقدموا دليلاً على دعواهم، فضلاً عن أن يقدموا نظرية ما بهذا الصدد.

ولكنا ونحن نتحدث عن الإسلام نجد أنفسنا أمام ظاهرة جمالية مترامية الأطراف استقرت قاعدتها في جذر شجرة الإسلام لتحوط السوق بروائها وتنساب بعد ذلك من خلال الأغصان مغذية الأوراق والثمار، وإذا الحيوية والرونق هما الظاهر البادي للعين ومن ورائه الحقيقة الجمالية.. إنها الصبغة الإلهية لهذا الدين.

إن الجمال هنا حقيقة تأخذ أبعادها كعنصر له من الأصالة والأهمية والرعاية ما لغيره من الحقائق الأخرى، إنه عنصر قد روعي اعتباره ووجوده في أصل التصميم، ولذا فهو ليس في "بناء الإسلام" من باب النوافل والتحسينات التي يمكن الاستغناء عنها[1] إنه عنصر يدخل في تكوين المادة التي تصنع البناء نفسه.

وإذا كان الإسلام في نظرته الشاملة للكون والإنسان والحياة، وقد وضع بين يدي المسلم التصور الشامل للألوهية وللوجود الكوني وللحياة والإنسان، فإنه بذلك يضع حجر الأساس في بنائه الجمالي القائم على التناسق الرائع في هذا التصور الكلي الذي خلت منه، وقصرت عنه، كل المعتقدات والنظريات الأخرى.

فالعلاقة - هنا - بين الإنسان والكون علاقة ودّ وتفاهم، وكذلك هي بين الألوهية والعبودية، علاقة رحمة وهداية، والأيام التي يقضيها الإنسان في هذه الحياة على ظهر هذا الكوكب ليست نهاية المطاف.. بل هناك حياة أخرى.. فالغاية موجودة.. وليس العبث هو كل ما في الوجود، وليست الغربة هي طابع الحياة.. وليس الصراع مع القدر هو التعبير عن الوجود[2].

وغدت نظرة المسلم نتيجة لهذا التصور نظرةً شاملةً كلية، لا تنطلق من زوايا ضيقة، ولا تحدها أطر مادية كثيفة تمنعها من أداء مهمتها، ونفاذها إلى حقائق الوجود.

إن حديثنا عن الجمال في الإسلام. لن يكون حديثًا عن الجمال في الفن، - كما هو الشأن في كتب علم الجمال- ولكننا نتحدث عن الجمال في مجالاته الكبرى في الكون... والإنسان.

والإنسان... وما أدراك ما الإنسان؟ لن نكتفي بالوقوف معه كظاهرة جمالية أبدعها الله، كما أبدع كل شيء خلقه، بل سنتحدث عنه مخلوقًا حُمِّل الأمانة ووضِعَت بين يديه تربية غايتها الوصول به إلى الجمال. جمال المظهر، وجمال المعنى، الجمال الإيجابي والجمال السلبي.. وإذا تحقق له ذلك.. فحينئذ يكون قد وصل إلى تطابق الجمال الخلقي - الذي صنعه الله - مع الجمال الكسبي الإرادي - الذي أريد منه تحقيقه - وبهذا تتحقق إنسانيته التي أرادها الله له[3].

ونقف مع الإنسان مرة ثالثة، في إنتاجه الجمالي "الفن"[4]، لننظر إلى الفنان المسلم وهو ريشة في يد هذا الدين يخط بها التزام العقيدة - لا إلزامها - فإذا به جزء من حركة هذا الدين تنشئ لوحة الفن في كمالها وبهائها بعيدًا عن سفاسف الأمور وترهاتها، صورة الفن وقد التقى عالم الأرض بعالم السماء فإذا بالراية راية هذه العقيدة "جبريل تحت لوائها ومحمد[5]".

وحديثنا في هذا الباب عن "الظاهرة الجمالية في الإسلام" سنبين فيه أصالة الجمال في المنهج الإلهي. إذ هو مقصد من المقاصد التي أمر الإنسان بالسعي إلى تحقيقها في ذاته وفيما يحيط به. كما نبين فعَّالية الجمال وارتباطه بالعقيدة وبلوازمها كذلك.. بحيث تكون القناعة كاملة، إن شاء الله، بأننا نطلق من أساس متين لا يقوم بنيانه على التجميع من هنا وهناك وإنما عناصر البنيان من مادة الأساس ذاتها، فلا تعارض إذن ولا تنافر.. إنه من تلك الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.

وإنه لكذلك لأن النصَّ القرآني هو المادة والدليل...

وسيكون بحثنا في الموضوع خلال المقالات القادمة ضمن الموضوعات التالية:

• الجمال مقصود في أصل الخلق.

• تأثير الجمال في النفس الإنسانية.

• الجمال والقضية الكبرى.

• العموم والشمول.

• الظاهر والباطن.

• سمات الجمال.