صناعة تجليد المخطوط في التراث العربي

صناعة تجليد المخطوط في التراث العربي

مدخل:

لم تقتصر عناية الحضارة الإسلامية على العلوم الدينية والمعارف العقلية، وإنما امتدت لتشمل العلوم التطبيقية والصناعات اليومية، فضلًا عن العناية البالغة بالفنون والآداب، ومن أهم هذه الصناعات ذات الصبغة الفنية، صناعة المخطوط؛ مخزن المعارف وسجل التجارب والخبرات فى الحضارات الراقية.

وتُعدُّ صَنْعَة التجليد أحد أركان صناعة المخطوط، وهو المرحلة الأخيرة من إنتاج المخطوط، ويجتمع فيه الجانبان الصناعي والفني؛ فالصناعي المتمثل في عمليات الصَنْعَة وإجراءاتها، والفني المتمثل في زخارف الأغلفة وتذاهيبها.

والمدخل الأول للفهم العلمي الصحيح لصناعة المخطوط، ومعرفة كيف كان العرب يصنعون المخطوط، وكيف كانت تتم عملية تجليده؛ هو استجلاء التدوينات والمؤلَّفات التي ترجع إلى عصر المخطوط وصناعته، وإلى المشتغلين بها من الصُّناع والمُجلِّدين، إلى جانب الدراسات التاريخية والتطبيقية التي تدرس نماذج مما وصل إلينا من تجاليد المخطوطات وتختبرها.

صَنْعَة التجليد في المصادر التراثية العامة:

لم تسمح الطبيعة الصناعية والفنية لصَنعَة تجليد المخطوطات، والعمليات والإجراءات المتخصصة فيها من مثل الخزم والحبك وكسوة الجلد وما يتبعها من زخرفة وتذهيب ونحوها؛ لم تسمح لغير المصادر المتخصصة في الصَنْعَة بكبير تناول لها، على خلاف ما ورد في هذه المصادر غير المتخصصة (أو المصادر العامة) حول تاريخ التجليد وتطوره، وأشهر البلدان فيها، والمُجلّدين وأخبارهم وتراجمهم، ونحو ذلك من مباحث تاريخ التجليد وتطوره؛ فكتب التاريخ والتراجم والبلدان وكتب الأدب والإنشاء وغيرها، تزخر بإشارات مفيدة لمن يتتبع تأريخ تجليد المخطوطات عند المسلمين، وثمَّت جهود مبذولة لاتُنكر في هذا المجال[1].

لم تمنع هذه الحال من إشارات وإلماحات يسيرة وردت هنا وهناك في هذه المصادر (العامة) تُفيد في توثيق صَنْعَة التجليد عند المسلمين، من مثل الكلام على البلدان المشتهرة بالجلود الجيدة، وشهرة الدّباغة والتجليد (ومن أولى مراحل تجهيز كسوة الغلاف اختيار الجلد المناسب)؛ فمحمد بن أحمد المقدسي الجغرافي (ت 380 هـ)، وكان يتعاطى صَنْعَة التجليد، يورد مثلاً في كتابه ((أحسن التقاسيم)) أن مصر كانت تشتهر "بأديم جيد صبور على الماء، ثخين ليّن"[2]، "وكانت اليمن معدن العصائب والأُدُم والعقيق والرقيق"[3]، وقد ورد عن الجاحظ والهمداني والمسعودي وغيرهم إشارات مشابهة[4].

أمَّا عن صُنع الغراء المستخدم في التجليد (وهو كذلك من التجهيزات المهمة في الصَّنْعَة)؛ فقد ورد عند المقدسي أيضًا تفضيلات بين غراء النِّشا والأشراس واستخدامهما بين مُجلِّدي الكتب في الشام واليمن[5]، ووصفات أخرى في كتب الإنشاء مثل ((صُبح الأعْشَى)) و((الثَّغْر الباسم))[6].

ووصلتنا إشارات عن أوصاف لأغلفة وأوعية تُفيد في المواد التي كان تُستخدم في الصَّنْعَة وغيرها، من مثل ما ورد من أن كُتب الحلاج كان منها ما هو مُبطَّنٌ بالديباج والحرير[7]، وما ورد عند شهاب الدين المقري (ت 1041 هـ) من وصف مطوَّل للمصحف العظيم الذي أهداه أهل قرطبة لعبد المؤمن بن علي الموحدي (ت 558 هـ)، وما صنع له من صناديق وأغشية نفيسة مُحلَّاة بالذهب والفضة، ومُرصَّعة بأنواع الياقوت والحجارة الكريمة[8]، وكذلك السجل المخطوط الذي وصل إلينا لمكتبة جامع القيروان قديمًا فيه أوصاف في غاية الفائدة في معارفنا بهذا الصدد[9].

وأخيرًا ربما ما ورد عند المقريزي في خططه عن تخصيص بند مالي في ميزانية دار الحكمة "لمرمة ما عساه يتقطع من الكتب، وما عساه يسقط من ورقها"[10].

حافظتان من الحرير الأطلسي المزركش لحفظ المصحف المنسوب للإمام عليّ بمشهده بالنَّجف، مُهداة للمشهد في العصر الصفوي

المصادر الخاصة في صناعة المخطوط العربي:

حفظ لنا التراث العربي الزاخر عددًا من النُّصوص التي اختصت بصناعة المخطوط وتفاصيلها الفنية؛ من تركيب الأحبار، وصُنع الورق، والنِّساخَة، وغيرها، وقد تضمن بعضها أيضًا الكلام على صَنْعَة التجليد.

ويُعدُّ كتاب "عمدة الكُتَّاب وعُدَّة ذوي الألباب" أحد أشهر هذه المصادر التي اعتنت بصناعة المخطوط العربي بمختلف أركانها وتفاصيلها، وقد احتوى على فصل خاص بالتجليد يدخل في إطار دراستنا التفصيلية للمؤلفات المتخصصة في صَنْعَة التجليد، وسيأتي التعريف به. كما يُعدُّ كتاب "المخترع في فنون من الصُّنع" من مصادر صناعة المخطوط، رغم أنه في الأصل من كتب الصِّناعات الشاملة، إذ اشتمل على صناعات أخرى منها صناعة الأسلحة والخيام والصابون وغيرها[11]. وقد اعتمد مؤلِّفه على كتاب "عمدة الكتاب" في فصوله الخاصة بصناعة المخطوط، ومنها فصل التجليد - على زيادات أصيلة فيه -، والذي يدخل أيضًا في إطار دراستنا وتعريفاتنا. وهذان الكتابان يُعدَّان الوحيدين في كتب صناعة المخطوط العربي الشاملة، التي أفردت لصَنْعَة التجليد فصولاً ومباحث.

أمّا كتب صناعة المخطوط الأخرى، فورد في بعضها إشارات من مثل لصق الدفاتر ونحوها[12] كالتي أوردها الرازي في مخطوطه المكتشف حديثًا "زينة الكتبة"، والذي يُعدُّ من بواكير مؤلفات الصناعة وأقدمها، والذي نقل عنه معظم من كتب في الموضوع، ومنهم "عمدة الكتاب" وغيره[13].

ورغم أن صَنْعَة التجليد تُعدُّ رُكنًا أصيلا من أركان صناعة المخطوط، ومن ثمَّ مؤلفات الفن، فإنها تميزت بشيء من الاستقلالية المهنية والمعرفية، وكثرة التفاصيل الصناعية والفنية، ممَّا دعا إلى إفرادها أحيانًا بمؤلَّفات خاصَّة بها.

المؤلفات المتخصصة في صَنْعَة التجليد:

إلى جانب المؤلَّفات الخاصة بصناعة المخطوط العربي، التي احتوت على فصول في صَنْعَة التجليد، وهي: "العمدة" و"المخترع"، أُفرد بالتصنيف مؤلفات متخصصة مستقلة من جانب صُنَّاع وفنيّين خَبَرُوا الصَّنْعَة، وكانت مهنتهم التي امتهنوها، وعرفوا قدرها وشرفها، وأحبوا أن يسجلوا معارفهم التي اكتسبوها بالتجربة والتعليم في هذه المؤلَّفات التي أبرزت في عنواناتها اسم الصَّنْعة (التَّسْفير) رأسًا.

وصل إلينا من هذه المؤلَّفات المُفرَدة أربعة هي: ((التيسير في صَنْعَة التَّسْفير)) لبكر الإشبيلي (توفى سنة 628 أو629هـ)، و((صناعة تسفير الكتب وحلّ الذهب)) أحمد بن محمد السفياني (توفِّي بعد سنة 1029هـ)، و((كيفية تسفير الكتب)) لعبد العزيز بن أبي بكر الرسموكي (ت 1065 هـ)، ونظم ((تدبير السفير في صناعة التَّسْفير)) لابن أبي حميدة (عاش بعد سنة 737 هـ).

هذا بالإضافة إلى مخطوط ورد اسمه في فهرس مخطوطات المكتبة الوطنية بالمغرب (المطبوع والإلكتروني)[14]، وهو ((تقييد في كيفية تجليد الكتب)) لمجهول، تحت رقم (د - 1177)، وللأسف لم يستطع الزملاء العاملون في المكتبة أن يتوصلوا إليه، إما لفقده أو وضعه خطأً في غير مكانه - ولعله الأقرب -[15].

هذا ومن التراث المفقود:

منظومة في التَّسْفير، لأبي العباس أحمد بن الحسن بن يوسف الصالحي الزحلي الشفشاوني، الشهير بابن عرضون (ت 992 هـ)، والذي نقلت مخطوطتين من مخطوطات السفياني، عنها أربعة أبيات في آداب تبطين الكتب [16]. وكذلك كتاب "التدبير في صناعة التسفير" لمجهول، نقلت عنه حواشي مخطوط الإشبيلي، وظاهرٌ أنّه غير نظم ابن أبي حميدة، لأن المنقول كلام منثور، كما نقلت عن شخص يُدعى نبيل بن نبيل الرُّعَيْني. وعسى الأيام أن تأتي لنا بهذه النصوص ونصوص أخرى مجهولة أو نُسخ أخرى للمؤلَّفات التي وصلتنا، تكشف المزيد حول صَنْعة التجليد.