• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    موقف أبي موسى الأشعري مع جندي من جنوده
    الشيخ عبدالعزيز السلمان
  •  
    النقد العلمي
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت ...
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / روافد / موضوعات فكرية
علامة باركود

العصرانية في حياتنا الإجتماعية

د. عبدالرحمن بن زيد الزنيدي

المصدر: مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد 10، السنة 10، ص372-463
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 14/2/2007 ميلادي - 26/1/1428 هجري

الزيارات: 36532

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر
الحمدلله الواحد الأحد، الفرد الصمد، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه.
وبعد:
فقد كان المسلمون – في عصورهم المتأخرة – أمةً واحدةً، يجمعها التعلق بكتاب واحد هو القرآن الكريم، لا يداني قداستَه شيء، يسوقها هذا الكتاب إلى تعاليم هادية، هي: السنة النبوية، التي لا يماري في عظمتها وحُجَّيتها – إجمالاً – أحدً منهم.
ويعم هذه الأمة إلا القليل جهلٌ بدينها الذي تعظم كتابَه ونبيَّه وتفريطٌ في الإلتزام به، ومراوحةٌ بين العودة إليه، وعياً بضرورة الرجوع إلى منهاجه، من خلال محاولات الإصلاح والتجديد في تلك العصور، وبين التفلت منه إتباعاً للشهوات، وركوناً إلى الدنيا، وتلاعباً من قبل علماء السوء.
ولكن الأمر تغيّر في العصور الأخيرة حينما اتصلتْ هذه الأمة بأمة أخرى ذات نمط حضاري مغاير ومؤثر، فرض على من إتصل به من هذه الأمة المسلمة توجها وحركة جديدة في الحياة تغاير ما استمرأته أمتهم قبل ذلك.
حتى أصبح هؤلاء المتأثرون بفكرهم وَسَمْتهم أمةً داخل هذه الأمة، أي: أنه أصبح في داخل البيئة الإسلامية نمطان من الحياة مختلفان توجَّهاً وحركة، وأهدافاً.
وتفاعلت الحالة في هذه الأمة بني هذين النمطين:
الموروث الراكد.
والغريب الوافد.
ولقد كان حال الأمة السابق مرضاً، ولكنَّ النمط اللاحق الوافد أشد مرضاً، وأسوأ عاقبة.
لأن السابق – جهلاً وتفريطاً وإنحطاط همة – كان عرضاً ناتجاً عن فَقْد التوجيه السليم مع بقاء الفطرة سليمة، وقابلية الإنطلاق متوفرة.
أما اللاحق الذي تمثَّل في ولاء لغير الله، وحب لغير هذه الأمة، وتعلقٍ بغير دينها، فإنه وباء مدمر للفطرة، مفسد لقابلية الحياة الصحيحة، يوشك أن يكون قاتلاً لإنسانية المسلم.
وقد ظل المسلمون يقاومون آثار التردي الفكري والسلوكي الذي عم في العصور المتأخرة فترة من الزمن، ولمَّا يبلغوا الشأوَ المطلوب، وهم لمقاومة المرض الوافد، وما خلَّف من تشوهات بحاجة إلى جهود أوفر، وتركيز أكبر.
إنه لكي تصح نهضتهم التي يتوفَّزون لها الآن، والتي تطمح الصحوة الإسلامية إلى أن تكون فيها الإمَامَ الموجِّه، لابد من تقويم سليم وَجَرْدٍ مركَّز لحالة التردي التي رسَّخَتها – في المجتمعات المسلمة – تلك التوجيهاتُ الوافدة التي سارت بالمسلمين في غير الطريق الصحيح فترةً طويلة من الزمن، حتى تعمَّق ترديهم، وحاق بهم تَيْه كبير، ولابد أن يكون هذا التقويم شاملاً، وعميقاً، ومتواصلاً، من أجل أن يواكب خطورة هذا التردي.
هناك من يرى أنه آن لنا أن نتجاوز محاربة التخلف والفساد، ومقاومة عناصر الهدم في المجتمع الإسلامي بناءً على أن الصحوة بِمدِّها المتكائف قد اكتسحت كل ذلك وأنها تتطلع للبناء.
ومع إيجابية هذه المشاعر وشبابيتها المتوقدة، إلا أنه من الخطورة بمكان الانسياق العاطفي معها، وتجاوز مرحلة تهيئة الأرض، وإثبات صلاحيتها للبناء عليها.
مع إمكانية الجمع بين البناء على القدر الكافي من الصلاحية، ومزاولة عملية الفحص والتطهير اللازمة للأساس.

إن الصحوة الإسلامية رمز النهضة المرتقبة لهذه الأمة رغم توسعها، وإستقطابها الكبير لكافة أصناف الناس، والتحسن المتزايد في داخلها، ينبغي أن تعي أنها تسعى للإرتقاء بأمة قد أنهكت أديمَها ضربات النظم الفاسدة، والأفكار المنحرفة، والإستغلال البشع من أعداء حاقدين، وأبناء مخدوعين.
وهذه الدراسة القصيرة تستهدف التركيز على زاوية خطرة من زوايا هذا الموضوع، موضوع التيار الفكري الذي وفد على الأمة المسلمة واستهدف عزل المسلم عن الوحي الإلهي، وصرفه عنه، وربطه بالفكر المهيمن في هذا العصر البعيد عن هدي الله.
وهو التيار الذي تعددت أسماؤه، علمانياً وتنويرياً وحداثياً...
فضلاً عمّا تقمَّطَه من فلسفات، وضعية، ووجودية ويسارية وغيرها.
هذه الزاوية الخطيرة من زوايا هذا التيار – الذي آثرت من أسمائه إسم (العصرانية) بحكم شمول هذا الإسم لمدارسه المتنوعة، وصدقه على حقيقة هذا التيار – تتمثل في السريان العصراني في الحياة الإجتماعية والفردية للمسلمين.
إذ الدراسات الكثيرة لهذا التيار تتجه – غالباً – إلى أصول فلسفاته وكشف الوجوه البارزة لدعاته، ومناقشة الأطروحات الفكرية لمنظريه، ونحو ذلك من القضايا الفكرية.
ومن ثم تبقى تلك الزاوية جديرة بالإتجاه لدراستها لسبر آثار هذا التيار في جوانب حياة كثيرة من المسلمين، التي انفعلت بإيحاءاته، فأصابتها لوثاته، وإن كان عامةُ هؤلاء لا يعون فلسفات هذا التيار، ولا طروحاته، ولو عرفوها لكفروا بها، وأعلنوا براءهم من أهلها.
ومجتمعات المسلمين متفاوته في تأثرها بهذا التيار سعةً، وعمقاً، والكاتب مربوط – غالباً – بواقعه الذي يعيش في ظلاله، فلا تثريب عليه إن انعكس ذلك على ما يكتبه، فلم يأت شاملاً، ولا مستوعباً.
وهذا البحث الذي بين يديك يعرفك بالعصرانية في دائرة الظروف الواقعية، وفي ضوء الإسلام، لذا فإنه يتركز في مسائل أربع:
الأولى: في مفهوم العصرانية، وطبيعة البيئة التي ولدت فيها، وتطورها في بيئتها الغربية.
الثانية: مشكلة العصرانية في العالم الإسلامي من حيث انتقالها إليه من الغرب، وحال الأمة أمام هجمتها، ثم مواجهة الصحوة الإسلامية لها، وأخيراً رصد لبعض مظاهر العصرانية في حياة المسلمين الإجتماعية.
الثالثة: العصرانية والإسلام.
تمثلات العصرانية وإدراجها في إطار مصطلح شرعي، ثم ما بين العصرانية والعصرية، وبيان الموقف المطلوب إتخاذه تجاه العصرانية في هذه الآونة.
الرابعة: المجتمع السعودي والعصرانية.
بعض خصائص المجتمع السعودي التي كان لها أثر لى تفاعله مع العصرانية الوافدة، وحال هذا المجتمع تجاه العصرانية.
آمل أن يكون فيه ما يفيد المطلع عليه.
والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

العصرانية منبتاً ومعنى ونشأة
الألفاظ التي تطلق على التيارات الوافدة، مثل:
عصرانية، علمانية، تنويرية، وحداثة.
ومثلها – أيضاً – ما تولد من رحِمِها من اتجاهات:
يسارية، ووضعية، ووجودية، وذرائعية، وغيرها من فلسفات – هذه الألفاظ –، وضعت تعريباً لألفاظ غربية تحمل معاني قائمة في الفكر الأوربي، وقد تختلف الألفاظ أو تتفق بين اللغات الأوربية، وقد تعرَّب اللفظة الغربية ببدائل من الألفاظ، لا بلفظ واحد.
العصرانية، ومثلها: الحداثة تعريب للفظة mode صلى الله عليه وسلم nism   أو secula صلى الله عليه وسلم ism 
والعلمانية، تعريب للفظة secula صلى الله عليه وسلم ism – السابقة.
والتنوير، تعريب للفظة enltghtement أو tllumtnation 
هذه الألفاظ الانجليزية تعني وراء دلالتها اللغوية المجردة مفاهيم فكرية تكونت في ضوء ظروف ثقافية أوربية خاصة.
ومن هنا: فلابد لمعرفة حقيقة التيار الوافد من الرجوع إلى الأساس الذي ينزع إليه في دائرة الثقافة الغربية.
لذا فمن أجل معرفة العصرانية سندع هذه الألفاظ، ونتجه إلى منبتها – أوروبا – لنُطِلَّ عليها وهي تتلوَّى على جنبيها تحت تقلبات القرون المتطاولة حتى برزت منها تلك التيارات بروز الأورام في الجسد المختل، لتنتقل كالعدوى إلينا بعد ذلك.

أوروبا الوثنية – قديماً:
كانت أوروبا وثنية عمادها الأساطير التي تهيمن على تصورات العامة وأفكار الفلاسفة حول الوجود والألوهية والكون والإنسان.
وقد إمتازت حضارة اليونان بشدة الاعتداد بالحياة الدنيا، والتهالك على منافعها، ولذائذها، والاستهتار بالدين، وقلة التقدير لما وراء المحسوس، وانطلاق الحرية الشخصية دون قيد، والولع الزائد بالفنون تمثيلاً ونحتاً وموسيقى وغناء.
ثم حَكَمَ الرومان اليونان، ولم يكن لدى الرومان فكر وفلسفة، وإن امتازوا بالقوة، وصفات الجندية، لذلك غلبت عليهم المدنية اليونانية، فاستخفوا بالدين، وتهالكوا على اللذات، وقدَّسوا القوة، والاستغلال، وكانوا رغم وجود المعابد وتعبدهم فيها – أحياناً – بالرقص والغناء والألعاب – التي كانت طريقة اليونان في عبادتهم أيضاً – لا بالتذلل والخشوع والتضرع – كانوا رغم ذلك – يرفضون تدخل الآلهة وممثليها من رجال الدين في شؤون حياتهم ونظامها. (وكان – كما يقول سيسرو – الممثلون يُنشِدون في دور التمثيل أبياتاً معناها أن الآلهة لا دخل لها في أمور الدنيا، فيصغي إليها الناس ويسمعونها بكل رغبة)[1].
وهكذا صارت تقوم حياتهم المعاشية بعيداً عن دينهم، تابعة للأمزجة الخاصة، ولقوانين الدولة الرومانية ونظمها.

النصرانية في أوروبا:
دخلت النصرانية إلى أوروبا من خلال بعض دعاتها، ومالت إليها قلوب بعض الناس – خاصة العامة – وإن كان آخرون قد استنكفوا أن يقبلوا ما فيها من تصورات تكدَّر صفو ماديتهم المفرطة، فقد ذُكِر أن جماعة من الفيثاغوريين دعوا أحد دعاة النصرانية إلى مجمعهم ليحدثهم عن هذا الدين، فلمّا حدثهم عن اليوم الآخر، وما فيه من بعث وحشر.. سخروا من حديثه ودينه[2].
وحينما تولى الملك قسطنطين الذي اعتنق النصرانية في مستهل القرن الرابع الميلادي نَصَرَ هذه الديانة، وجعل كلمتها عالية، وسخَّر حكمه لنشر النصرانية، ولكن أي نصرانية هذه؟.

إن النصرانية التي دخلت أوروبا على يد (بولس – رسول الأمم) ليست هي النصرانية التي دعا إليها المسيح – عليه الصلاة والسلام – فقد أفسد فيها هذا اليهودي الذي كان يحاربها، ثم انقلب داعية إليها، وانحرف بها عن مسارها التوحيدي الخالص[3].
وأمر آخر، وهو: أن عداء اليهود للمسيح وأتباعه وتعاليمه والنفرة التي حصلت بين هؤلاء الأتباع واليهود جعلت النصرانية تتجرد من التشريعات العملية التي أوصى المسيح – عليه الصلاة والسلام – بتلقيها من توراة موسى – عليه الصلاة والسلام.
بهذه الصورة دخلت النصرانية بلاد أوروبا، ولهذا اكتفى رجال النصرانية حينما رفعهم قسطنطين، وتبني ديانتهم بإنشاء الكنائس، وتتويج الملوك، ودعم شرعية هؤلاء الملوك القائمة على التشريعات الرومانية السابقة.
بل إن الأوضاع في تلك البلاد أثَّرتْ كثيراً على النصرانية، حيث انحرفت نحو وثنية الرومان، وشحنت كتبها بالأساطير اليونانية، ولعل أكبر ماسخ لهذه الديانة هو الأمبراطور قسطنطين نفسه رافع لواء النصرانية[4].
وعلى مر العصور صارت تزداد هيمنة رجال الدين النصراني على الحياة في أوروبا رافضين أي مشارك لهم في هذا الشأن، خاصة في مجال العلوم والطب ونحوه فساد الجهل، والخرافة، والانحطاط.
ومن أكبر جرائم رجال الدين – هؤلاء – أنهم لكي يسدوا الباب على أي متطلع من خارج قنواتهم حشدوا في كتبهم المقدسة كثيراً من المعلومات البشرية والمسلمات المعرفية في عصورهم وما قبلها عن الطبيعة والفلك والجغرافيا والتاريخ والأحياء، وغيرها، وصبغوها بصبغة الدين، باعتبارها تفسيرات للوحي المعصوم الذي لا يسع النصرانيَّ الخروجُ عليه أو القولُ بخلافه، لأن هذا يعني الكفر، والزندقة.
ولتأكيد هذا المنحى الذي يُفْرد الكنيسة بحق التعليم وحدها اعتمد رجال الكنيسة نظرية الإشراق الأفلوطينية في المعرفة التي خلاصتها أن المعرفة الصحيحة إلهام إلهي يهبط على شخص مهيإ لذلك، نتيجة تجرده من الجوانب المادية، وهذا التهيؤ لم يكن لغير رجال الكنيسة، وعليه فمنهم وحدهم تُستَمد المعرفة الصحيحة.. أمّا من سواهم فحسب تجردهم من المادة أن يجعل نفوسهم قابلة لتلقي تلك المعرفة، ومن ثم صدرت مراسم بإغلاق المدارس خارج الكنيسة، وحصر التدريس في نطاقها.
وهذه الفترة هي التي يسميها الغرب بعصور الظلام من القرن الرابع – تقريباً – حتى القرن العاشر الميلادي.
هذا فضلاً عن أن هذا التجرد المطلوب من علائق الدنيا هو سبيل الفوز في الآخرة.
وكان من نتائج ذلك أن أصبح الدين والتطلع إلى سعادة الآخرة هو المسيطر على مشاعر الناس، مع الإستهانة بالدنيا بصفتها شراً عائقاً عن الفلاح الأخروي.
وتحول الإيمان بالله والشعور بعظمته إلى سلبية إنسانية، وعدم تغيير للواقع، لأن ذلك يعني عدم التسليم بالقضاء والقدر[5].

أوروبا النهضة:
في أواخر ما يسمى بعصور الظلام في أوروبا، احتك الغرب بالمسلمين في عصور الزخم الثقافي لديهم من خلال الحروب الصليبية والدخول إلى المسلمين في الأندلس، ورأوا سموّاً في أخلاق المسلمين، وقوة في عقيدتهم، وسعةً في أفقهم العلمي، ورقياً في مدنيتهم، فأورثهم ذلك غَيْرةً من هؤلاء الأعداء وحسداً في أنفسهم لهم، واهتم بعضهم بنقل شيء ممّا عند المسلمين ممّا يتصورون أن به إرتقاء بأحوالهم الفكرية، والمدنية.
وكان تركيزهم على كتب الفلسفة من جانب، وكتب العلوم الرياضية والتطبيقية من جانب آخر[6].
ولعل السبب في ذلك: أن الفلسفة تتناسب مع طبيعة فكرهم التأملي، وأن العلوم الرياضية، والتطبيقية من السهل تجريدها من الدين الذي نشأت في ظله وهو الإسلام، وهو: الدين الذي ينفر منه الغربي بحكم الصورة المشوهة له عنده.
وكان من أثر هذا الاحتكاك أن بدأت دعوات خافتة، ثم جهرية – متفرقة، ثم مجتمعة – إلى حركة فكرية يفتح فيها الباب لذوي الطموح العلمي، كي يتنافسوا في مجالات المعرفة ليرسموا للغرب طرق حياة أفضل.
وهذا ما يعني أن ينطلق الفكر الغربي من إطار الكنيسة، أي: أن يتحرر منها.
وكان مما تنادي به هذه الدعوات: أن هناك حقائق يمكن أن يصل إليها الإنسان بعقله، كما أن هناك حقائق مصدرها الدين.
ولكن رجال الكنيسة رفضوا هذه الدعوات، وحرمت كتب الفكر الخارجية عن دائرة الكنيسة، ومنع تدريسها، وحورب مؤلفوها، خاصة منهم الذين أعلنوا بعض النظريات الفلكية، أو الجغرافية المخالفة لما قررته الكنيسة في كتبها ممّا استقته في الفلكيين والجغرافيين القدماء.
وكان هذا الرفض للعلم، والحرب لرجاله من قبل رجال الكنيسة، مما أثار ثائرة رجال الفكر، فاشتدوا في وجهتهم مراغمين الكنيسة ورجالها، ثم تراجعت الكنيسة بعد اشتداد الاتجاه المقابل، حتى اعترف بعض رجال الكنيسة، مثل (روجربيكون 1292م)[7] بأن سلطان الكنيسة يقتصر على العلوم الدينية المتعلقة بالآخرة.. أمّا العلوم الدنيوية المتعلقة بمصالح الإنسان في هذه الحياة فمناطها الفكر البشري.
وهكذا توزع حياة الإنسان مصدران، هما: الدين، والفكر البشري، وإذا كان الدين يتمثل في تعاليم ثابتة، فإن الفكر البشري متطور متغير.

الإنسان وعصرانيته:
هذا التغير المتجدد في فكر الإنسان وحركته جارٍ في إطار الزمن، ومن هنا كان لكل فكرٍ بشري في كل عصر مستوى معين، وخصائص مميزة عن سابقه، فإذا نادى الموافقون تجاه أتباع الدين الداعين إلى اعتماد الوحي الإلهي إلى اتباع الفكر – كما يسمى في عصرنا – أو العقل – كما في العصر العباسي – فإنما ينادون إلى اتباع فكر معينَّ هو الذي يسود عصرهم[8].
ولهذا كانوا يستغنون – أحياناً – عن ذكر الفكر، داعين إلى مجاراة العصر والتمشي، معه.
وهكذا صار هناك دين له علمه ورجاله، وواقع له فكره ورجاله.
ولكن الوضع لم يبقى على هذا التقسيم.

لقد تدخل الفكر في دين الكنيسة فبحث فيه – أي: بحث في كتبه المقدسة – كما فعل (أبيلاردت 1142م) رغم أنه من رجال الكنيسة في كتاب له عنوانه (نعم ولا) أثبت فيه تناقضات الكتاب المقدس، والتحريف الذي جرى له[9].
واستمر هذا النقد يوهي من قيمة كتب الدين ووثاقة تعاليمها، حتى فقدت أي قيمة علمية، وأصبح العلم محصوراً فيما يصدر عن الفكر البشري معالجاً الواقع، فقيل: العلم، والدين، على أنهما متقابلان.
بل جُعل من الموضوعية التي تضفي على الفكر قيمة علمية تُحرر الباحث من مشاعره الدينية، وعقائده، سوى مما اعترف، العلم التجريبي منها.
ولعل هذه الصورة من العصرانية هي ما يرمى إليه من سماها بالعلمانية قاصداً نسبة هذا التيار إلى العلم.
ولكنها لم تبق في نطاق العلم، والمعارف التجريبية، فقامت الدعوات التي تنادي بفصل السياسة عن الدين الكنسي لتكون مسيرة بحسب المطالب التي يقتضيها !العصر، فصار ما يسمى بالسلطة الزمنية في مقابل السلطة الروحية والدينية، وتوالت النظريات السياسية التي تنتزع السلطة من يد رجال الدين الكنسي لتضعها في يد رجال السياسة حيث تكون السيادة التشريعية والرقابة على التنفيذ متداولة بين البشر بعيداً عن الله وعن الدين والتعاليم المنسوبة إليه، ولعل من أشهر هذه النظريات – الميكافيلية، والعقد الاجتماعي[10].
ومثل عصرانية السياسة عصرانيات الأخلاق، والاقتصاد، والاجتماع، بل والعصرانية الدينية التي اشتهت أكثر من غيرها باسم العصرانية، وقد تمثلت في حركات لدى يهودٍ ونصارى تحاول تحوير مبادئ الدين الذي تنتسب إليه إلى ما يتواءم مع العصر الحاضر – بالنسبة لهم – بفلسفاته وقوانينه الفكرية والتطبيقية.
فالحركة اليهودية الإصلاحية تتمثل أبزر مبادئها التي وضعتها عام 1887م في رفض كل ما لا يتلاءم مع أفكار الحضارة العصرية وقيمها، ومن ذلك عقيدة الآخرة والثواب والعقاب.
ومثل ذلك عند النصارى الذين ركزوا على رفض الخوارق والغيبيات، وعلى ضرورة تطوير تعاليم الدين وفق تقدم المعرفة[11].
هناك – أيضاً – ما يمكن تسميته بعصرانية المشاعر التي تتمثل باتجاه يسعى إلى صرف مشاعر الحب والولاء والإعجاب والاهتمام عن الدين وعقائديه إلى العلم المادي وتطبيقاته.
وأساس هذا – لديهم – أن العلم البشري في هذه الأعصر حقق نتائج متقدمة في مجال الحياة المادية، أمّا الدين – الدين الكنسي أساساً – فإنه رغم عدم بطلان بعض أسسه الكبرى، كوجود الله، وخلود النفس.. إلا أنه لا يستحق الاهتمام المصروف له، لما أثبت العلم من تهافت كثير من دعاوي حسب نقد الفكر التجريبي له.
لذا حسبه من الإنسان انجذاب وقتي محدود، ليكن بعضاً من يوم في الأسبوع[12].
أما الاهتمام الأكبر فينبغي أن يوجه إلى تحسين وضع الإنسان المادي والاجتماعي في حياته هذه، التي يعيشها بين الولادة، والوفاة، وينبغي أن ينحسر من ثم تفكيره بالآخرة والجنة والنار، حتى لا يؤثر على اندفاعه في حياته، وتمتعه بها، مطلقاً من كل قيد، إلا الضوابط القانونية – العصرانية – التي وضعت بعيداً عن الدين لتضمن الاندفاع المتسق للجميع في دوامة هذه الدنيا.
هذه العصرانية – المشاعرية – هي التي دعت إليها الحركة الاجتماعية المشهورة باسم (سيكولورزم) التي ترجمت إلى العلمانية.

تناقض الغرب في موقفه من الدين:
انتهينا مع الأوروبيين في موقفهم تجاه دين الكنيسة وتعاليمه ورجاله إلى أنهم أدركوا أنه يمثل عبئاً على كواهلهم يعوق حركتهم، ويحد انطلاقتهم، ويقف أمام نجاحهم في الحياة، ويشغلهم عن تطلب مصالحهم بأنفسهم بقضايا ممثلة تنفر منها النفس، وتشك في صحتها.
ثم كان سعيهم في حصر سلطانه عن حياتهم.
ولكن الإنسان متدين بغريزته، والغربي الذي عاش قروناً طويلة في ظل دين يربطه بعالم وراء هذا العالم المشهود، ليس من السهل عليه أن يبقى تائهاً لا وجهة له في الحياة – في شأن التصور خاصة –.
بين هاتين الحالتين:
– الشعور بعدم الاستغناء عن الدين بصفته مطلباً روحياً وضرورة فكرية، إيماناً بوجود الله، وخلود النفس، والتطلع وراء هذا العالم المحصور المحدود.
– والنفرة من دين الكنيسة حنقاً عليه نتيجة الويلات التي حاقت به بسبب هذا الدين، ومعرفة تهافت كثير من دعاوي رجاله باسم الدين.
– بينهما – طفق أناس يقترحون أدياناً بديلة:
– قال بعضهم: إن النصرانية حق في بعض أصولها، كوجود الله وخلود النفس، وقيام حياة أخرى، لكنها غير ذلك – خاصة – فيما يتعلق بالواقع وإن نسب إلى الوحي، فينبغي أن يتدين بها في الحق دون ما سواه.
– وسعى آخرون إلى استحداث دين يستند إلى الفطرة سموه الدين الطبيعي مثل: (يوهان، وتورالبا).
– وآخرون قالوا بالدين الإنساني القائم على القيم الإنسانية المشتركة التي تقف وراء مظاهر التباين المذهبية التي يتفرق بها الناس.
– وهناك من دعا إلى دين الربوبية الذي يقارب التصور الأرسطي لوجود الله[13].
وهكذا فرغم افتتانهم بالعلم والفكر الجديد وأخذهم به، بقي الدين في نفوسهم، بل بقيت – كما يقول أميل باتروا: "في خفايا ضمائرهم قوتان متقابلتان حاولوا أن يقيموا بينهما سلاماً، بحيث يكون موقع العلم العقل والفكر متجهاً نحو الطبيعة، وموقع الدين القلب والعاطفة متجهاً نحو الدار الآخرة حسب تنظيم ديكارت للعلاقة بينهما"[14].
لذا كان أغلب العصرانيين في فكرهم وأدبهم ونظمهم مهتمين بدينهم النصراني في حياتهم العملية، حيث يجعلون له نصيباً من الوقت، وإن كان ضئيلاً.
ومن ثم بقيت النصرانية الهوية المميزة للأوروبيين، والعمق الوجداني الذي تبرز متأثرة به رؤاهم وفنونهم واتجاهاتهم، وهذا ما يعبر عنه الناقد المشهور؟ (ت.س.إليوت) في قوله: "في المسيحية نمت فنوننا وفي المسيحية تأصلت – إلى عهد قريب – قوانين أوروبا، وليس لتفكيرنا كله معنى، أو دلالة خارج الإطار المسيحي، وقد لا يؤمن فرد أوروبي بأن العقيدة المسيحية صحيحة، ولكن كل ما يقوله، ويفعله يأتيه من تراثه في الثقافة المسيحية، ويعتمد في معناه على تلك الثقافة".
ويقول بعد ذلك: "إذا ذهبت المسيحية فستذهب كل ثقافتنا"[15].
بل إن نيتشه اعتبر الشيوعية امتداداً لثقافة أوروبا المسيحية، لأنها أزمة في هذه الثقافة، أو حسب تعبيره الإبنة غير الشرعية للحضارة المسيحية، وأنها ستعود للانتماء لهذه الحضارة يوماً ما – المصدر نفسه – هذا فضلاً عن التوظيف السياسي والثقافي للدين الكنسي في فرض هيمنة الحضارة الأوروبية على الشعوب الأخرى من خلال الغزو التنصيري الرهيب[16].
وهذا الموقف الذي يبدو فيه الاضطراب تجاه الدين قبولاً ورفضاً، تشبثاً ونفوراً منطقي – من وجهة نظري – وإن غابت عن كثير منهم منطقيته، لأن الدين الكنسي لديهم يحمل حقاً وباطلاً:
– حقاً يبرد ولو شيئاً قليلاً من ظمأ الفطرة الإنسانية الذي تزيده المذاهب المادية والإلحادية عطشاً، وغليلاً[17].
– وباطلاً تنفر منه الفطرة، ويصطدم بالعقل والواقع، ومن ثم يحدث انفصاماً بين عقل الإنسان وإيمانه بهذا الدين[18].
هذا فضلاً عن النقص في الكتاب المقدس فيما يتعلق بالتشريعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية سوى تحكمات كلية وضعها رجال الكنيسة لإحكام قبضتهم على الحياة والأحياء في أوروبا – في عهد الكنيسة –.
لذا كان لابد لهم من الحركة خارج الدين لتقوم حياتهم وترتقي.
لعله يقال هنا.
الإلحاد المطلق بالدين كما تمثل بالماركسية والوضعية ونحوها ألا يعتبر عصرانية؟ إذ أن سير الحديث انتهى بنا – أو كاد – إلى أن العصرانية دون الإلحاد.
والجواب: هو أن التيارات العصرانية – أساساً – لم تكن رافضة للدين بالكلية، كتيارات الإلحاد، وإنما كانت تزاحم الدين بالواقع، مستهدفة تطويع الدين للواقع، أي: إبقاء الدين ولكن بعد تلقيحه بطعم العصر القائم تلقيحاً يكيفه وفق متطلبات الواقع[19].
ولكن العصرانية – هذه – كانت هي الخطوة التي أوصلت إلى الإلحاد، بل المتكأ المنطقي لبعض فلاسفته الذين يرون: أن من الخداع للناس مطالبتهم بالأخذ بدين نكيفه وفق أهوائنا ومعارفنا، وتحذيرهم من الإلحاد.
إذ ما الفرق – هكذا يقول الملحدون – بين هذا الدين وفلسفتنا، سوى أن العصارنيين وضعوا فلسفتهم تحت اسم دين له تاريخ، فكأنهم هدفوا إلى استغلال الشعبية التي يحظى بها الدين لتمرير عصرانيتهم من خلاله.
وبغض النظر عن مقصد العصرانيين الغربيين – خاصة القدماء منهم – من حركتهم، هل هي خدمة الدين، أو العداء له، أو أمر بينهما، فإن الحركة انتهت إلى تضخيم الواقع الحياتي، وتركيزهم الإنسان وجهده في دنياه، بعيداً عن دينه، وخالقه، وآخرته، وهي النهاية العملية لتيارات الإلحاد[20].
ومع أنه تواصل مع الحركة العصرانية تقدم في المجال العلمي الكوني، تزيد به شيئاً فشيئاً رفاهية الإنسان الغربي، وهيمنته على الكون المحيط به.
إلا أنه أحس بخوائه الروحي القاتل، وباهتزاز إنسانيته، أي: اهتزاز قيمته، لذا تلفت يبحث عن حلول لهذه المعضلة:
– نقداً للإغراق المادي في حضارته القائمة.
– وتأكيداً على بعث الانتعاش في النصرانية لدى الأوروبيين.
– وبحثاً عن وجبات روحية تسد الجوع العام خارج نطاق أوروبا، خاصة لدى الديانات الشرقية المشهورة باهتمامها بالجانب الروحي.
– وارتخاء في المواقف الإلحادية الرافضة للدين، أو الساخرة به وقد تمثلت مثل هذه المطالب في كتب كتبها مفكرون كبار، وفي حركات شبابية رافضة، وفي تصريحات متناثرة صحفية وإعلامية ناقدة لهذا الشرود عن الله.

معنى النصرانية:
بهذا التتبع – غير الاستقصائي – للمسيرة الفكرية الدينية في أوروبا اتضح مفهوم العصرانية الذي يتحدد بأنها [تحكم الواقع الدنيوي المعاش وما ينتج عنه، وجعله المقياس للصلاحية وعدمها في حياة الإنسان.
أي: هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في طل زمن (عصر) وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري].
والعصرانية – بهذا المعنى – تضم في إطارها كل التوجهات والتيارات التي ظهرت مناوئة للدين في أي جانب من جوانب الحياة منذ بداية نهضة أوروبا، والتي لا تزال تظهر حتى الآن.
والعلمانية سواء قصد بها أساس الفكرة التي هي ربط الحياة بالعلم البشري مقابلاً للدين، أو كانت خداعاً من المترجمين حيث جعلوها بديلاً لحركة صرف اهتمام الناس عن الله، وما وراء الحياة الدنيا إلى زهرة هذه الحياة وحدها – وهي المعروفة بـ: (secula صلى الله عليه وسلم ism).
سواء قصد هذا أو ذاك، فهي العصرانية[21].
ومثل ذلك: سائر الألفاظ التي تبتدع في ظل مسيرة العصرانية، مثل: التنوير الذي يصف بعض العرب فلسفتهم به، والحداثة التي شاع استخدامها في الأونة الأخيرة، كاتجاه فكري عام.
أما التنوير:
فإن اللفظة التي ترجم عنها، وهي (illumination , enlightenment) تطلق على الإتجاه الذي يتركز على المنهج التجريبي بصفته منهج العلم الوحيد مقراً مما يقره هذا المنهج كوجود الله مثلاً، وهو: منهج نيوتن، وجون لوك، ونحوهما.
ولكنها بعد ذلك صارت تطلق على الفلسفات التي تحارب العالم الغيبي واصفة إياه بالظلام، فالتنوير هو: الركون إلى التجربة الحسية مصدراً للمعرفة، والبقاء في عالم الحس مجالاً.
ولهذا وصف د.زكي نجيب محمود فلسفته الوضعية التي ترى: أن كل فكر يتجاوز عالم الطبيعة، غير علمي، بل خرافي[22]. – وصفها – بأنها تنوير.
ولكن ناقداً له وصفها بالمقابل بعد أن كشف عن مصادرات منطقها اللغوي الميتافيزيقية بأنها فلسفة تعمية، لا تنوير[23].
وأما الحداثة:
تعريب كلمة (mode صلى الله عليه وسلم nity, modeصلى الله عليه وسلمnism)[24] فهي اتجاه شاع في أوساط متعددة في الأدب والفن في شكل ثورات على الأنماط السائدة، واستحداث أنماط جديدة صاخبة.
وفي نطاق الدين في شكل توجه يهدف إلى تفسيرألفاظ الكتاب المقدس على حسب المفاهيم الفلسفية والعلمية المعاصرة بصورة مفرطة مشابهة للتفسيرات الإشارية عند الصوفية.
والحداثة الآن بمفهومها العام تقابل التقليدية والأصالة معاً، تعني: الإنسلاخ من التقليدي في حياة الفرد والمجتمع فكراً ونظماً وعلاقات وأنماط حياة متنوعة، والتحلي بدلاً منها بجديد مغاير.
والجديد بالنسبة للمسلمين – غالباً – هو ما لدى الغرب.
يقول برهان غليون في كتابه (اغتيال العقل): الحداثة ممارسة يومية.
هي تغيير في كل الاتجاهات لبُنى الواقع والفكر العربي، إنها إندراج دون أوهام في العالمية والحضارة المادية وأولوياتها.
هي: إنهاء هذه الخصوصية وذلك التراث[25].
والحداثيون العرب يعترفون بأن حداثتهم مستقاة من الحداثة الأوروبية، كما قال محمد برادة: "إن الحديث عن حداثة عربية مشروط تاريخياً بوجودٍ سابق للحداثة الغربية، وبامتداد قنوات للتواصل بين الثقافتين"[26].
ولأن حركية الحداثة – في أوروبا – كانت موجهة لنقد الدين وإخضاعه لتطوير العقل البشري وفق مسيرة الفكر المعاصر، اندفع المتأثرون العرب بها في هجوم قاس على الإسلام، مصادره، وعقيدته، وشريعته.
هذا:
وقد يستخدم بعض البارزين في الحركة الإسلامية التحديث بمعنى التجديد، ولكن إذاً التجديد لا ينفك عن منحى الحداثة، فهو تجديد، يكون لفكر العصر الحاضر دور كبير فيه، تجديد يجرد الكتاب والسنة من لواحقهما التراثية، ويتحلل من كثير من الضوابط لحساب خطاب العصر السائد مثل من يفسر الإجماع الشرعي بأنه: اتفاق مجلس مؤسسة أو حزب أو دولة على أمر من الأمور، أو يجرد القياس الفقهي من العلة الرابطة بين الأصل والفرع.

المسلمون والعصرانية
العالم الإسلامي أمام العصرانية:
كان العرب ومن حولهم من الأمم – قبل الإسلام – يتشبثون بعقائد خرافية، ويتدينون بنحل منحرفة عن سواء السبيل، ويحكمون حياتهم بأعراف، وتقاليد رفعوها من أنفسهم، وحاكوا فيها من يجاورهم من أقوام.
بعث الله نبيه محمداً – صلى الله عليه وسلم – من بين العرب بدين الإسلام، فقدم للناس دين ربه، من خلال وحي إلهي تلقاه.
– عقائد يقينية قي قضايا الوجود التي تهم الإنسان في حياته.
– وأحكاماً عبادية، وخلقية، واجتماعية كاملة في كل شؤونه.
{وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً}[27]. (سورة الأنعام: 115).
وتلقى العرب ثم من حولهم هذا النور المبين والحق الشافي، فاستقامت به حياتهم الفكرية والعملية، واستوت به حضارتهم المتفردة بجمعها بين العلم الصحيح، والخلق القويم.
واعتصموا بهذا الهدي من التيه مع التائهين.
ولكن الأمة الإسلامية لم تبق على هذا الاعتصام الذي كان عماد رشادها في قرونها الأولى.
بدأت ترتخي يدها في الاستمساك بحبله شيئاً فشيئاً، وتضعف صلتها به، وتتقبل بدائل من خارجه في عاداتها وعباداتها، بل وعقيدتها، فشاعت البدع والضلالات في العقائد والعبادات.
وتحكمت الأعراف والعادات في السلوك والعلاقات.
وفشا الجهل بالدين، مما أدى إلى إنقلاب المفاهيم، وتلاعب الدجالين فيهم.
وتقهقروا فكرياً في كل جوانب العلم فقهاً وإيماناً وعلوم وسائل، حتى هيمنت النصوصية التي كان منتهى طالب العلم منه، حفظ النص، وفك بعض رموزه، أو حفظ القواعد دون تطبيق لها في حركته العلمية والعملية.
وهكذا أصبحت حياة المسلمين الفردية والاجتماعية في العصور المتأخرة حياة راكدة متخلفة مهترئه[28].
كان العالم الغربي في هذا الوقت الذي يسير فيه العالم الإسلامي في طريق التقهقر فكرياً، وحضارياً – في فورة نهضته المدنية وانطلاقته التحررية – خاصة من إسار الكنيسة – حيث بدأت تتشكل لديه ملامح تقافة حضارية فاعلة.
وهكذا:
منذ قرنين تقريباً التقى المسلمون بالغربيين لقاءً مختلفاً عن لقاءاتهم السابقة بغيرهم من الأمم، لقاءات الفتح والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلام الكفر إلى نور الحق والإيمان.
أجل.
لقد كان هذا اللقاء الأخيرتفاعلاً فكرياً بين طرفين:
الغرب.
والمسلمين.
الغرب ممثلاً بثقافة حية متوثبة، سواء في علمهـا التقني التطبيقي أو في فلسفاتها الاجتماعية، أو في مواقفهـا الحادة الثائرة، بعداً عن الدين واستهتاراً بالأخلاق، وتهالكاً على المادة، وطموحاً إلى التغيير والسيطرة داخل بلادها، وخارج حدودها. والمسلمين ممثلين بثقافة ذات أساس علمي مكين، لأنه وحي إلهي معصوم. ولكنها في واقع حياتهم متكلسة متقهقرة محتاجة إلى البعث والإحياء.
وفي دائرة هذه المعادلة أطل الغرب على المسلمين، فأخذ زمام المبادرة منهم في تحريك جوهم الساكن، الذي سكن معه مركبهم، وراح يقذف على المسلمين أنواعاً من المشاريع النهضوية التي تستهدف إحداث تغيير ثقافي، مستغلاً كل القنوات المتاحة التي من أهمها تَنَفُّذُهم الفكري والتعليمي، والسياسي، في فترة الإستعمار، أمَا أهمها: فهم أبناء العرب والمسلمين الذين درسوا في الغرب أو استهوتهم أحواله، وبهرهم بريقه، ومن ثم أشربوا مذاهبه فحملوها إلى بلادهم على أنها طوق النجاة من الواقع الأليم لأمتهم العربية والاسلامية، وهؤلاء هم رواد العصرانية الأوائل في العالم الإسلامي[29].
وهكذا ابتدأت حركة العمرنة عند المسلمين، من واقعهم كان منطلقها: المسلمون متخلفون، وبحاجة إلى نهضة وبعث.
وهذا ما لا يخالفهم فيه غيرهم من المسلمين.
إنما الخلاف فيما وراء ذلك في منهج النهوض الذي يلوح به العصرانيون وهو أن تقام حياة المسلمين على أساس ما انتهى إليه الفكر البشري في هذا العصر في سائر النظم والمعارف والفنون.
ما هو هذا الفكر البشري؟
إنه فكر الغرب – فلسفاته، ونظمه، وآدابه.
وهكذا اكتمل المسلسل.
إنحراف من المسلمين عن دين ربهم، أورثهم إنحطاطاً، وتخلفاً، هيأ هذا التخلف ساحتهم لتعلو فيها صيحات العصرانيين، بل هيأ كثيراً منهم لتقبل العصرانية.
ومع هذا فإن للغرب ذاته إستعماراً، واستشراقاً، وتنصيراً، وتغفيلاً دوراً قوياً في دعم مسيرة العصرانية بتمكين رجالها من المناصب، وسلخهم عن دينهم ما استطاعوا إلى ذلك طريقاً.
وقد سلكت العصرانية في العالم الإسلامي مسلكين:
1 – مسلك الدعوة الصارخة والفرض الحاسم للاندفاع في حضارة العصر والتضحية بمن يعوق عن ذلك من دين وتقاليد، بل والتضحية بمن يعوق ذلك من الذين يقفون أفراداً وحركات في وجه مسخ الأمة المسلمة.
وقد تم ذلك بوسيلتين:
* بقوة الحكم والتطبيق العملي كما فعل أتاتورك، وجمال عبدالناصر، وبورقيبة، وأحزاب البعث.
* بحركة الفكر من قبل المنسلخين من إهاب أمتهم، كما تعكسه دعواتهم الحركية – مثل: طه حسين، وعلي عبدالرازق، وزكي نجيب محمود، وصادق جلال العظم، وفؤاد زكريا، ومحمد أركون، وعبدالله العروي، وكثير من الوضعيين، واليساريين، والوجوديين.
2 – مسلك العصرنة العملية التخطيطية التي ئغمئرن شؤون الدولة في نظمها، وحياة الناس في جوانبها المختلفة، من خلال الإقتصاديين في الإقتصاد، والسياسيين في المبادىء العامة، وأهل الأدب والفن في مشاعر الناسى ورؤاهم، وأهل الفكر في مجالات العلم، وطرائق التربية، ومناهج التعليم، وهلم جرا.
والعصرانيون في البيئة الإسلامية أنواع:
– ما بين منسلخ من الإسلام ملقحٍ بمذهبية بديلة، ومن ثم يشعر أن وجوده في البيئة الإسلامية، وفي مجتمع يحكمه الإسلام لا قيمة له ولا فاعلية، ما دام أن الإسلام الذي انفصل عنه هو المهيمن والمعيار، ولذا يحاربه.
– أو معاد لعلماء الإسلام والملتزمين به لا يجد سبيلاً لثأره منهم، إلا بمحاربة الدين الذي يحملونه.
– أو نصراني لا يسعده أن يسود الإسلام في أرض هو فيها.
– أو صنيعة من صنائع الأعداء يهدف معهم إلى كسر شوكة الإسلام طلباً لعرض من الدنيا، أو نتيجة غسيل مخ تم له[30].
– أو مخدوع يجهل حقيقة الإسلام وحقيقة العصرانية، ولا يدري أن هذه العصرنة إفساد في الدين وانحراف عن سبيله.
– أو لا مبال بأمر دينه – الإسلامي – ترك قياده لثلة الأصدقاء، أو لزملاء العمل، أو لمصطادي الفارغين، فكان أن استهووه في تيار العصرانية ليكثر سوادهم، أو يتشيع لهم، أو يخدمهم بمركزه، أو يروج لهم في أوساطه، وبين أترابه، وربما كان أكثر هذه الفئة الأخيرة من الشباب الذي فقد حضانة سليمة، فأصابوا منه مقتلاً باحتضانهم له لتسخيره، وإن لم يع من عصرانيتهم شيئاً، إلا السخرية بالدين وسب حملته، والإكبار لكل ما عند الغرب، لأنه من عند الغرب.

* واقع الأمة تحت تسلط العصرانية:
وتظاهرت أمور عديدة لخدمة العصرانية:
1 - الإستعمار الغربي بجيوشه، واستشراقه، وتنصيره.
2 - الابتعاث إلى الغرب.
3 - الحكومات المنحرفة التي هيأت للعصرانيين وسائل التممير في المجتمعات المسلمة، وحاربت بالمقابل الاتجاه الإسلامي.
4 - السرطان الشيوعي الذي جند عملاءه اليساريين لتدمير الدين والقيم، إلى غير ذلك. مما جعل الخناق يحكم بشدة على الأمة المسلمة، حيث أورث:
– واقعاً حياتياً للمسلمين ممسوخاً بعيداً عن الدين، ضائعاً في وجهته، يزداد إنحطاطاً، وتدهوراً، متقلباً بين شعارات العصرانيين من ليبرالية إلى إشتراكية، إلى ماركسية، إلى قومية... ما بين تبعية مكشوفة لأحد النظم الاستعمارية سابقاً – والبنى الفكرية الغربية لاحقاً، تلك البني التي تُبًزَّر لتجعل السبيل الأمثل لحياة الإنسان، وبين تجديف بين تلك النظم لتلفيق مذهبيات مشكلة من تلك البنى الفكرية.
– واقعاً مضطرباً بين أنماط التصورات والصور الحياتية التي تعرض على المسلم بمنحاها الغربي المصادم لوجهة الإسلام الواضحة لديه فيها في المناهج التعليمية، والدراسات الإنسانية، والمؤسسات الإجتماعية، والحركات االفنية والأدبية والبث الإعلامي.
يرافق هذا كله مقاومة عدائية جادة لأي تحرك إسلامي إيجابي – فردياً، أو جماعياً لتحطيمه والحيلولة دون امتداده، وتأثيره في الحياة التي استبدوا فيها به.
ومع أن الصحوة الإسلامية بدأت تبعث الحياة والصحة في هذا الواقع المهترئ، وتصعد من حركة النقد الاسلامي للاتجاه العصراني، فضلاً عن الفشل المتتابع الذي كشف للكثير عن إفلاس العصرانية، ونفاق كثير من دعاتها، مما جعلها الآن في حالة جزر واضح.
مع هذا فإنه ما يزال الإعلام، والتعليم، والحكم، والمؤسسات الفاعلة وكثيرمن الأحوال!، والنقابات، ونحوها من مراكز التأثير تحت هيمنه تيار العصرانية في أغلب مناطق العالم الإسلامي، مما يعني عدم انحسارها عن الساحة، وإن حاولت تغيير شعاراتها، ومنافقة الواقع الذي بدأت تربته تتغير من تحتها بتأثير صيب الصحوة الإسلامية المبارك.
ولكي تعلم أن العصرانية ما تزال حتى الآن متنفذة – في أكلح وجوهها – في دنيا العرب ومسيطرة على مراكزها المؤسسية المؤثرة، وأنها لما تزال سائرة في عملية إغواء الأمة وإرباك نهضتها.
لكي تعلم ذلك، ينبغي أن تعرف أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليسكوا)[31] قد وضعت ما أسمته بـ(الإستراتيجية الثقافية للدول العربية)، من أجل أن تسترشد بها الدول العربية الأعضاء في الحمل الثقافي والمناهج التربوية والبرامج الإعلامية.
وقد أقرت هذه الاستراتيجية من قبل المجلس الوزاري للمعنيين بالثقافة عام 1451هـ – الذي دعا إلى نشرها وتعميمها والاسترشاد بها في خطط التنمية الثقافية للدول الأعضاء.
وقد دعي للمشاركة في إحداث هذه الخطة الشاملة على مستوى العالم العربي أكثر من ستمائة مفكر عربي، وباحث، ليس فيهم عالم أو مفكر إسلامي واحد، بل إن أكثرهم ممن اشتهر بعدائه للإسلام والقرآن، وانسلاخه عن عروبته[32].
ولأن هذا مجرد مثال أذكر لك ملخصاً لبعض مقولات تلك الإستراتيجية:
1 - إنتشار (الفكر الغيبي) أي: الإيمان بالغيب أهم أسباب إنتكاسة الحضارة العربية.
2 - إذا كان الدين عنصر الوحدة في القرون السابقة، فإن القومية هي عنصرها في العصر الحديث.
3 - دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب حركة سياسية تسرت باسم الدين.
4 - من المستحيل أن نقبل تقنيات الغرب وعلومه، ونرفض في نفس الوقت فلسفاته، ونظمه.
5 - الحضارة الأوروبية حضارة مطلقة قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان.
6 - لا يمكن أن نتحرر من الغرب حتى نتحرر من تراثنا ذاته.
7 - النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – كان يدير سياسته بفكر عقلاني، لا ديني.
8 - على استراتيجية الثقافة العربية أن تحذر السقوط في حبائل الفكر الديني[33].

* العصرانيون ومفاجأة الصحوة الإسلامية:
تصور العصرانيون في العالم العربي والإسلامي أن دين الإسلام قد انحسر عن التأثير في الحياة، وأن أهله قد انكمشوا للأبد، وأنه في طريقه إلى النسيان الأبدي.
وربما كان التسائل الوارد بينهم هو: هل لَفَطَ الدين أنفاسه الأخيرة، هل تطاير رماده بعد احتراقه، أو لا؟
تصوروا ذلك نتيجة حتمية لتلك العوامل المتظاهرة في نشر العصرانية المناوئة له، وغرسها في أرض المجتمع الإسلامي، ولِما قدَّموه من إغراءات ومشروعات نهضوية مستغربة، وما أغرقوا به المجتمع من مشكلات معقدة – إقتصادية، وإجتماعية وترفيهية –، وما شّنوه من حرب فكرية وعملية على الدين وعلمائه المتحمسين له.
ولكن الله خيب آمالهم.
فقد فاجأتهم الصحوة الإسلامية وهم يتلذذون بأحلامهم تَهُدَّ ما بنوه، وتسفه ما نصبوه من أصنام، وتقدم نفسها بديلاً أصيلاً لقيادة هذه الأمة بعدما انكشف زيف كل الشعارات والطروحات التي قدمها العصرانيون.
وكان وقع هذه الصحوة عليهم شديداً مذهلاً.
* فبعضهم أنكرها وأدعى أنها خيال لا حقيقة له، وأنها أحلام وهمية طرب إليها المتدينون من الواقع الذي يمقتونه[34].
* وآخرون اعترفوا بوجودها وبانتشارها السرطاني – كما يصفه بعضهم – ومن ثم ذهب هؤلاء يندبون حظهم، نادمين على أن الإسلام لم يستأصل كلياً من التربية العربية، حينما كان كل شيء بأيديهم.
* ويلوم أناس منهم أنفسهم، لأنهم عاشوا في خيال، نتيجة استلابهم لقوانين اجتماعية تلقوها من الغرب على أنها حتميات مطلقة، لا يندّ عنها شيء، ومن ثم طبقوها على مجتمعاتهم وانتظروا نتيجتها المحتومة – قبولاً من الأمة لعصرانيتهم واستدباراً للدين – فراعهم أنها انعكست إلى ضد ما كانوا يأملون.
يقول د.علي الكنز: "إن التحليل السوسيولوجي الذي جاء به عبدالله العروي وتبنيناه نحن ما هو في نهاية الأمر إلا مغالطة لا يمكن أن تشاهد في التاريخ"[35].
ويقصد الكنز هنا ما نقله العروي عن الفلسفة الماركسية من أن بروز الرجل التقني – رجل الصناعة – متناسب مع إختفاء رجل الدين.
كلما ازداد بروز الأول زاد اختفاء الثاني، حتى ينسحب الدين نهائياً من المجتمع إذا سادته الروح التقنية.
ويصور (برهان غليون) الصعقة التي أحدثتها الصحوة فيهم فأفسدت عليهم ثويماتهم المغرقة في الفناء في عصرانيتهم، فيقول بعد كلامه عن تيار التحديث الجارف ونضاله الشامل المستميت الذي انحسر أمامه التراث والشعور الديني وهيمنة علماء الدين – هذا التيار الذي يتمثل في نظم، وأحزاب، ومؤسسات إعلامية، وثقافية، واتجاهات فكرية – يقول بعد هذا: "وفجأة تغير الوضع والمشكلة – مشكلة – إقصاء الدين عن الحياة – التي بدت محسومة منذ أكثرمن نصف قرن برزت من جديد أقوى من أي حقبة أخرى حتى لقد تحولت في العديد من البلاد العربية إلى موضوع الجدال الأول في الحياة العامة الثقافية والسياسية"[36].
ثم ماذا؟
ما هو الموقف الذي أتخذته العمرانية تجاه هذه الصحوة؟
أغلب العصرانيين – على اختلاف مشاربهم – لا يرى خيراً للأمة من هذه الصحوة، بل يراها حجر عثرة في مسيرة النهوض العربي.
وسبب ذلك أن جيل الصحوة واضح المبدأ في حركته وهو الرجوع إلى الكتاب والسنة في معالجة المشكلات التي تطرحها علاقة الإنسان بالعالم والطبيعة، والفكر، والفن، والمجتمع، بحيث لا يجعل للثقافة العصرية الأوروبية أي دور معياري في معالجة تلك المشكلات[37].
أي أن سبب إخفاقها – لديهم – عدم عصرانيتها.
لكن هذه الصحوة فرضت نفسها على الواقع الإجتماعي، وامتدت فاعليتها إلى الجوانب الحيوية من هذا الواقع – الإعلام، التعليم، السياسة – ومن ثم كان لا بر للاتجاه العصراني من اتخاذ هوقف حركي من هذا التحدي الذي تمثله الصحوة.
إذا تركنا جانباً[38] الذين يرون ضرورة مواصلة إغراق المجتمع المسلم بالتحديث والعصرنة، وتجاهل هذه الصحوة، أو السخرية بها، والإغراء بسحقها، وتهويل عواقب فتح المجال لها بين الناس، وفي مجال الحكم.
إذا تركنا هذا الصنف جانباً، فإننا نجد أن الموقف التكتيكي للاتجاه العمراني إزاء الصحوة يتمثل في الانفتاح عليها، ومغازلتها، والاعتراف بها كواقع ينبغي أن يكون له دور في تشكيل المجتمع، وأن تسمع له الاتجاهات الأخرى، لكن ذلك كله عَرْضٌ تُغْري به الصحوة لا يمكن أن يمارس إلا في إطار تنازل من الصحوة عن رفضها المبدئي للحداثة والليبرالية الفكرية، وأسس المنهجية العصرانية.
وقد يقدم بعض هؤلاء نصائح وتوجهات لها كي يقبلوهـا، وتشارك من ثم بناء المجتمع.
يرى – مثلاً – الدكتور عابد الجابري وهو يتحدث عن المغرب العربي والحركة الإسلامية فيه: أن هذه الحركة لن تنجح في تأسيس وجودها وسط الجماهير كقوة محركة للتاريخ إلا إذا تبنت أهدافاً سياسية، واجتماعية تستجيب لمطلب الجماهير ومطامحها المادية والمعنوية معاً، وإذا فعلت ذلك فإنها ستتحول لا محالة إلى حركة سياسية، ويالتالي سيتوقف نجاحها على مدى تكييفها للدين مع السياسة[39].
وهذه الدعوة التي قد تبدو منصفة ومتهيئة لسماع الحق من أهله دعوة خبيثة – وإن أخلص بعض دعاتها – لأن ثمرتها وقوع الصحوة في فلك العصرانية، أي: أنهما تتحرك مشدودة بخيوط الفكر العصراني ومشكلاته النابتة – أصلاً – في حضارة غير – حضارتها. وهذه الدعوة هي ما تعرف بحالة الإستقطاب الفكري التي كثرت دعوة العصرانيين لأهل الصحوة إلى الوقوع في شركهـا من خلال مطالبتهم بتقديم مناهج ورؤى حول المشكلات التي يعاني منها العالم المعاصر، والتي لم تخرج في تصورهم عن التعلق بأحد الحلول التي سبق الغرب إلى تجربتها.
وقد يكون بعضهم طيب النية في دعوته، ولكن انغلاقه في دائرة الفكر المعاصر بتصوراته الوجودية، ونظرياته الإجتماعية بعيداً عن دينه يبعده عن تخيل أن الإسلام يمثل منظومة مذهبية متكاملة لها أساسها العقدي ونظمها الشاملة المترابطة وتطلعاتها المتميزة[40].
كذلك يرى العصرانيون في مواجهة الصحوة ضرورة تنويع البحث في عملية اختراق البنية الإسلامية.
فإن كان الإغراء بالثقافة الغربية المعاصرة، وتكريس قيمتها في المجتمع المسلم، وفرض نُظمها بالقوة لم يحقق هدفه المنشود، وهو: إنفصال المجتمع الإسلامي عن تراثه الذي يمثل جاذبية تشده عن الإندماج في خضارة العصر، فإنه ينبغي أن تستبدل به أو تشرك معه جهد آخر، وهو: النقد المركز للتراث حتى ينهدم الأساس الذي تركن إليه هذه الصحوة.
يرى بعض هؤلاء أن هذا النقد ينبغي ألا يكون سبباً مباشراً للتراث، لأن هذا قد يزيد من تشبث الناس به، وإنما يتم بإعلان إحترام التراث والدعوة للرجوع إليه، من خلال نقدٍ واعٍ له بعقليتنا المعاصرة، خاصة أسس هذا التراث المنهجية التي قام عليها.
هذا هو ما يركز بعض العصرانيين البارزين اليوم عليه:
مثل: محمد أركون صاحب الدعوة إلى الرجوع للقرآن الكريم لدراسته وفق المنهجية الألسنية.
وحسن حنفي الذي يسعى لبعث مبدأ تقديم العقل على النقل، والذي يرى أن الدواسة المعمقة للقرآن الكريم تبين أنه علماني المنحى، وإنما حوله المسلمون إلى وجهة دينية[41].
ومحمد عابد الجابري الذي يرى أنه لكي نؤمن بفاعلية المنهج العلمي الغربي لابد أن ننقد المناهج التي قام عليها التراث عند المسلمين، لنكشف قيمتها في دائرة المنهجية القائمة اليوم[42].
وهناك من اتجه إلى التراث ليتكئ عليه في ترويج عصرانيته، من خلال عملية انتقاء لبعض عناصره التي تقبلها منهجية الفكر المعاصرة أو من خلال بعض رموزه المنحرفة عن الإسلام، أو ذات الشذوذ في فكرها مثل: ما فعل د.زكي نجيب محمود في (تجديد الفكر العربي)، ود.حسن صعب في تحديث العقل العربي.
وهناك فضلاً عن هؤلاء آخرون كانت لهم مواقف تتسم باتزان وعدل، حيث ينادون بضرورة أن ينقد العصرانيون مناهجهم، وأن يعترفوا بأن ظهور الصحوة ناتج عن إخفاق[43] مشروعاتهم، وأن يتأملوا في الصحوة، ويعرفوا ما عندها على حقيقته، لا من خلال مناظير مستعارة، وقد أعرب بعضهم عن رغبته في التعرف على حقيقة فكر الصحوة ودعوتها من أهلها.
ولعل ما يلحظ من تحسن في كتابات بعضهم، أو تراجع عن بعض مقولاتهم السابقة نتيجة لمراجعة ذاتية سببها هذه الصحوة التي هزت السفينة التي ظنوها سكنت على الشاطىء الذي يهوون بعد أن أوثقوها بحبالهم عليه.

* من مظاهر العصرانية في حياتنا الإجتماعية:
– كما سلف – فقد تهيأت للاتجاه العصراني في البلاد الإسلامية ظروف ساعدت على نشر وبائه، وإذا كان الإستعمار عاملاً ساعد على نشر هذا الوباء ما استطاع في البلاد التي استعمرها، فإن قيام النظم التي تنفذت بالعصرانيين في الجوانب المختلفة، خاصة الثقافة، والتي تنفذوا هم بها – أيضاً – كان عاملاً أكبر وأخطر، لا في البلدان التي حكمتها فقط، بل امتد تأثيرها إلى ما وراء ذلك.
وسأشير هنا: إلى بعض مظاهر العصرانية التي تسربت إلى حياة الكثير منا، واستمرأها، والتي يدأب العصرانيون على إشاعتها ما استطاعوا مغالبين حركة المد الإسلامي.
وليس الحكم عاماً، أي أنني لا أحكم بتمثلها في الجميع، ولكنها مع ذلك منتشرة، سارية في حياة كثير من المسلمين، حتى من الذين يحاربون الفلسفات التي صدرت عنها.
وقبل السرد المرقم لمظاهر العصرانية في حياتنا الإجتماعية والفردية، أنقل لك مقتطفاً من كلام راصدٍ غربي لحياة المسلمين يرسم فيها صورة لتحولها مبيناً أن الهيمنة التي كانت للدين – للقرآن، والسنة، والشريعة – على شعور المسلم ووجدانه قد خفت أو غابت ليحل محلها شعور منحرف نحو الغرب يُكبره ويهم به.
يقول المستشرق هاملتون جب: "إن الإسلام كقوة مسيطرة على الحياة الإجتماعية فقد مكانته وسلطانه، فهناك مؤشرات أخرى تعمل إلى جانبه، وهي في كثير من الأحيان تتعارض مع تقاليده، وتعاليمه تعارضاً صريحاً، ولكنها تشق طريقها إلى المجتمع المسلم بقوة، وعزم، فإلى عهد قريب لم يكن للمسلم اتجاه سياسي يخالف الإسلام، ولا أدب إلا الأدب الديني، ولا أعياد إلا الأعياد الدينية، ولم يكن ينظر إلى العالم الخارجي إلا بمنظار الدين، وكان الدين هو كل شيء بالقياس إليه، أما الآن: فقد أخذ يمد بصره إلى ما وراء عالمه المحدود، ولم تعد تعاليمه الدينية القديمة صالحة لإمداده في حاجاته الروحية، فضلاً عن حاجاته الإجتماعية، بينما أصبحت مصالحه، وحاجاته الدنيويه هي، أكثر ما يسترعي انتباهه"[44].
ولابد أن يكون في بالك أن اقتصاري على بعض الأنماط الاجتماعية التي تمس قلوب الناس وحركتهم المباشرة، لا يعني انحصار آثار العصرنة فيها.
كلا.
إن عامة المصائب الفكرية والاجتماعية والحضارية على مستوى الأمة والشعوب والدول عائد إلى العصرانية – بالدرجة الأولى –، التي وقفت بالأمة عن النهوض السليم وفق شريعة ربها، وحطمت ما بقي من بنيتها في الاقتصاد، والسياسة، والفكر، والأسرة وغيرها، وجعلتها في جوانب حياتها تابعة ذليلة للغرب.
يقول منير شفيق مبيناً الأثر الشامل للفكر المتغرب في الأمة وقد كان من ذويه ثم هداه الله (اندفع الفكر المتغرب يشهر حرباً شاملة عل الإسلام وأهله، ظاناً أن في ذلك تحريراً للشعب، وللمرأة، وإطلاقاً للعقل... ولكنه ما درى أن تلك الحرب تأتي بنتائج معاكسة تماماً، إذ إذا بالشعب يُحطَّم ويُشل، وإذا بالمرأة تتيه وتضيع، وإذا بالعائلة تتمزق وتتخبط، وإذا بالعقل يصبح مغلولاً إلى الغرب، وإذا بالاستقلال تبعية، وإذا بالتقدم الاجتماعي مزيداً من التحفط، ثم وصلت الأمور إلى أن يعلن ذلك الفكر نفسه أننا نعيش زمن الإنحطاط العربي[45].
وإليك الآن بعضاً من مظاهر التأثير العصراني في حياتنا الإجتماعية:
1 – تأليه الإنسان:
إنعكست السلبية وضعف التفاعل مع الكون التي كانت سمة الإنسان في قرون الضعف – عند المسلمين – إلى نقيض متطرف لدى كثير من المسلمين غَذَّته العصرانية بما استوحته من الغرب الذي غلا في الإنسان حتى منحه خصائص الألوهية، ألمْ يصرح كثيرمن رواد النهضة الأوروبية بأنهم عملوا على (نقل المقعد من الله إلى الإنسان، ولذلك سمي بعضهم هذا الدين الجديد الإنسانية)[46].
أجل.
لقد ركز الكثيرون – من المسلمين – على الإنسان، وما له من خصائص متفردة، وقدرات خلاقة، تجعله يواجه الحياة كما يشاء، ويصبح بها سيد قدره[47]، كما يشيع هؤلاء أن الإنسان تحررمن سلطات الطبقية والعنصرية والمسلمات القيمية، وكأنه بذلك متفرد في هذا الكون، يُغير ولا يتغير، يملك بقدراته ولا يملكه أحد، مما يؤدي إلى ضمور الإيمان بهيمنة الله وتدبيره ومدده.
وفى هذا السبيل يدخل الركون إلى الأسباب المادية، والتعلق بها بصفتها مناط النجاح دون سواها، سواء كانت هذه الأسباب عقاقير يستشفي بها، أو عتاداً عسكرياً يحارب به، أو حتى رياشاً وثراء يتعلق به طالب السعادة على أنه سبيلها، ومن ثم حصر الهم بتلك الأسباب، والغفلة عن مسبب الأسباب – سبحانه –، وضعف التوكل عليه، بل وإهمال نوع آخر من الأسباب، وهي الأسباب غير المادية، كالدعاء والإقبال على الله – سبحانه – والإحسان إلى المحتاجين.
وليس المقصود هنا دعوة إلى سلبية الإنسان في الكون وإهمال الأسباب، سواء الذاتية منها في الإنسان، كالعلم والحركة العاقلة النشطة، أو الوسائل المعينة في البناء المدني والإرتقاء الحضاري.
إن الهدف كشف خلل في الحياة المسلمة، علاجه: وضع الأمور في أنصبتها الصحيحة إيماناً بهيمنة الله وسبق مشيئته مشيئة العباد، وجريان الأسباب بأمره، ثم أخذاً بالأسباب وفق هذا التصور.
2 – البطولة:
ميزان الأفضلية في المجتمع الملتزم بالإسلام هو: التقوي (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
التقوي بمعناها الشامل، الذي يستجمع العلم والعمل – الفقه في الدين، وتطبيقه في الحياة عبادة، وخلقاً، وحركة.
وكلما زاد نصيب المرء من التقوى علا مقامه في المجتمع، ونافس الآخرين في هذا المضمار.
ونتيجة لذلك: فإن البارزين في مثل هذا المجتمع هم الذين يملكون رصيداً من هذا الزاد يجعلهم موضع ثقة الناس، والأسوة لهم.
لهذا كان العلماء العاملون الصادقون هم نجوم المجتمع ومثالاته.
ولكن الأمر تغير نتيجة تغير مجتمعات المسلمين، وانكماش هيمنة الدين الصحيح على حياتهم، وبعد تغلغل العصرانية زادت الطين بله، حيث صارت البطولة والنجومية وهالات البروز، محصورة في مجالات بعيدة عن قيم الإسلام أو تافهة لا رجحان لها في ميزانه.
3 – المادية:
يتمثل هذا المظهر في التركيز المفرط على الإزدهار المادي وأسباب الرفاهية المدنية، حتى يصبح محل الإهتمام الأول، ويجعل هو المقياس لنهضة الأمة ورقيها، ويرى الناس أن النجاح هو نجاح الإنسان في التحويش[48] أكثر من غيره من الناس من الأموال، مما جعل الناس يفتنون به ويصبون جهودهم في الاستحواذ على أكبر قدر يتمكنون منه ولو كان ذلك على حساب جوانبهم الروحية والإنسانية.
ويدخل في ذلك: صرف الاهتمام الأكبر لما يعني بالجانب الجسدي ورفاهيته تخطيطاً، وتبرعاً، ومطالبة، كالملاعب، والحدائق، والملاهي بما لا يتوازى على الأقل، مع الإهتمام بوسائل الإرتقاء بالروح والفكر، كالمساجد، والمكتبات ودور العلم والمعرفة.
إن هذه الخديعة التي وقع فيها كثيرمن المسلمين إنسياقاً وراء مسلك الغرب في تصور أن التقدم والإرتقاء الحضاري محصور في التنمية المادية هي الألم الذي يئن منه الغرب الآن، والتي سماها (أودال) ناظر الداخلية الأمريكية قبل سنوات (توراة الدمار) داعياً إلى تصعيد الغضب والإستنكار لها فالشوارع العريضة، والبنايات الشاهقة والأسمنت المسلح، وزحمة السيارات، وتكاثف دخان المصانع والتكنولوجيا، كل هذه لا تشكل مدنية، ولا حضارة حقة، إذا فقد معها الإنسان روحه، وتاه عن الهدف من وجوده[49].
4 – من مظاهرها – أيضاً – تفشي الذرائعية[50]، التي يلهث فيها الإنسان وراء المصالح القريبة والمنافع العاجلة، حتى ضعفت لدى كثير من الناس رعاية الحق والأخلاق، بل صار الحق لديهم ما حقق لهم عرضاً قريباً أو ربحاً مادياً بلا اكتراث بحل، أو حرمة.
بل إن هناك دعوات محمومة إلى إقامة العلاقات، وبناء الصداقات على أساس المصالح المتبادلة دون رعاية للدين، فالعصر كما يدّعي أولئك عصر المصالح، لا عصر الإيديولوجيات والمبادئ[51].
ونتيجة لسيطرة النفعية المصلحية على توجه الإنسان وعلاقاته، فقد صار الحب، والبغض، والصلة، والهجران، والقرب، والبعد، والتعاون وضده – كلها – قائمة على المصالح، وعلى أساسها تتحدد القيم.
ولم يكن ذلك لأن هؤلاء يؤمنون بالفلسفة – البراجماتية – الذرائعية التي لا ترى من الحقائق إلا ما أثمر منافع مادية عاجلة في هذه الحياة، دون إيمان بما وراءها من حياة آخرة.
كلا إن كثيراً منهم لا يعرف هذه الفلسفة – أصلاً – ولكن حياتهم العملية إنعكاس لها وللأسف.
ولقد تجاوز الأمر إلى أن أصبح التباهي ومفاضلة الأخرين مقصوراً على هذا الجانب، سواء في حياة الأفراد، أو المؤسسات والهيئات، حيث تقيس تقدمها الحضاري، وتقدم شخصيتها للآخرين، من خلال ما وصلت إليه من وضع مادي غافلة عن القيمة الثقافية، والزاد الروحي الذي يُمكن أن تقدم به نفسها سابقة للآخرين[52].
5 – الإنفصام بين الدنيا والدين:
لعل هذا المظهر يمثل أساساً للمظهر السابق. لقد حاول العصرانيون تأكيد التباين بين الدين = الإسلام والدنيا المعاصرة.
بمعنى: أن المسلم إذا أراد أن يعيش حياة عصرية متمتعاً بتسهيلاتها ومنافساً في بناء صروحها، فلابد له من التخلي عن دينه.
فإن أصر على التزام دينه، فعليه أن ينسحب من حياة الناس، منغلقاً على نفسه، مستغرقاً في مطالب دينه.
يقول العصراني الوضعي د.زكي نجيب محمود: "إني لأقولها صريحة واضحة، إني لأقولها صريحة واضحة، إمّا أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته، وإمّا أن نرفضه ونوصد الأبواب دونه لنعيش تراثنا، نحن في ذلك أحرار، لكننا لا نملك الحرية في أن نوحد بين الفكرين"[53].
هذا من جانب العصرانيين.
ومن جانب آخر: فإن المواقف الانفعالية لبعض العامة من المسلمين في عدد من البيئات إزاء كل ما كانت تقذف به مدنية الغرب من مستجدات في بدايات انفتاح تلك البيئات على الغرب، والمتسمة بالرفض لها، والتحذير منها بصفتها مستحدثات لم تعهد في بيئاتهم، ولم يسمعوا عنها في تراثهم الإسلامي، وقد يتصورها بعضهم داخلة في مسمى البدعة، التي تعرض الآخذ بها إلى نقص إيمانه وثلم دينه، ولعل ارتباطها بغير المسلمين تصنيعاً، وبغير الملتزمين من أبناء المسلمين ترويجاً، واستخداماً – أول الأمر – قوَّى تلك الشبهة.
هذه المواقف أوحت للناشئة الصغار – بخاصة – أن القضية دينّ ومسجد، ومن ثم هروب من الحياة المتدفقة، أو بالمقابل انفلات من الدين، ومن ثم انفتاح على الحياة، ومشاركة في تيارها المغري.
هذه الصورة التي يتمثل فيها الفصام الحاد بين الدين والحياة، قد تتمثل بهذه البشاعة في حياة بعض الناس، فيغرقون أنفسهم في تيار الدنيا غير رافعين بالدين رأساً، إمّا منسلخين منه تماماً، أو دون ذلك، فقد يصلي – مثلاً – بعض من تتمثل فيه هذه الظاهرة، لأنه لا يسعه – ما دام جيرانه وأبناءه وإخوانه ومن حولة يصلون – إلا أن يصلي حتى تصبح الصلاة عنده بالتعود شيئاً قائماً في حياته، فيصلي ولو كان وحده، وقد يصوم – أيضاً – ولكن حياته بعد الصلاة حياة لا إسلامية تماماً، حيث يظل ساهياً لأهياً مستحلاً لكثير من المحرمات، ساخراً بشعائر الدين ودعاته، فكأن صلاته تلك مجرد وقفة روتينية في سيره البعيد عن الله، بل قد يشعر بثقلها على نفسه، وَقطعها تواصل غفلته، فيعتبرها عَقَبه في طريقه، لا مجرد وقفة، ومن ثم تصبح تلك الصلاة الشكلية نشازاً في حركته، غير مؤثرة في سلوكه، ولا رابطة له بربه.
وقد تكون الصورة أقل من ذلك، ولكن الحاجز ما يزال قائماً، ويتمثل ذلك في الانفصام – في هيمنة الدين على مشاعر الشخص – بين المسجد، وخارجة. تجد أناساً متدينين في ساحة العبادة وأثناء تأدية الشعائر، وهو تدين صادق نحكمه المشاعر الإيمانية الفياضة، ولكن هذا التدين يضعف في حركتهم الحياتية خارج المسجد في جلساتهم وتصرفاتهم ومعاملاتهم، فلا يهيمن عليها هيمنته على حركتهم التعبدية.
6 – من المظاهر – أيضاً – تجرد الأخلاق من طبيعتها الإسلامية، التي تربط الأخلاق بالله – سبحانه –، وبمسؤولية الإنسان أمامة يوم القيامة، حيث شاعت مسميات مثل: القيم، والمُثل[54].
كما تقهقرت فاعلية الثواب والعقاب ورضوان الله، واحتساب الجزاء عنده عن كثير من النفوس المسلمة، فلم تعدّ مناطاً لفعل الخير، والتبرع بالأموال والإسهام في المشروعات النافعة، أو سبباً في ترك الباطل، والتراجع عن ظلم، أو عمل منكر، وإنما أقيمت بدائل تتجه إليها تلك التصرفات، كإرضاء الضمير، أو اتقاء تأنيبه، أو الإنسانية... ونحوها.
7 – وبمناسبة الثواب والعقاب: فإن من آثار العصرانية ذات النزعة المغرقة في المادية أنها أورثت قلوب كثير من المسلمين قسوة شديدة، وغلظة على ما يتجاوز المادة القريبة، حتى ضَعُفَ كثيراً تأثُّرها بالترغيب، والترهيب، والوعد، والوعيد وصار بينها وبين ذكر الموت والجنة والنار حجاب كثيف.
لقد كان الناس قبل عقود من السنين – في بلادنا – إذا سمعوا المذكر بالموت، وأهواله، والقبر ووحشته، والجنة ونعيمها، والنار وعذابها، ترق قلوبهم ويلومون أنفسهم على تفريطهم، وينفعلون يا واقعهم، إن قصيراًً من الوقت أو طويلاً بذلك الوعظ حتى الفسقة منهم.. أمّا الآن: فإن هذا اللون من الوعظ – لدى كثير من الناس – أصبح مستهجناً غير سائغ، لأنه يهدف إلى نقل الإنسان إلى عالم ليس مجالاً لاهتمامه، هذا الاهتمام – الذي حصره بعالمه المادي العاجل، ولا يريد التفكير بسواه، أو أن تذكيره بذلك يوقظ فيه الشعور بعظم جريرته، ونقص علمه وهمته حينما نسيَ مصيره المحتم، فلا يريد هذا التذكير هرباً من هذا الشعور، كما يتضايق من يُذكر بجرائم سابقة له تهز من مركزه، ومقامه.
8 – من أشمل المظاهر المؤسفة ضعفُ الشعور بالتميز الإسلامي، ذلك التميز الذي يشعرفي ضوئه المسلم بأنه منفرد بين بني البشر كلهم بقيمة تقصر عنها جميع القيم الموجودة، سواء لدى الأمم المتحدة، أو غيرها، وذلك لأنه يرتكز على منهج إلهي يحمل الحق المطلق، خلافاً للأمم الأخرى، التي ترتكز على مناهج وضعتها العقول البشرية.
ودلالة هذا الضعف في شعور التميُّز هو: تفشي العادات والتقاليد الغربية[55]، في التعامل والتصرفات، وفي تنظيم الحياة الفردية، والأسرية والاجتماعية دون امتعاض أو تأمل في مدى إنسجامها مع الشرع والتقاليد الاجتماعية الإسلامية أو عدمه، بل لعلها تكون مجال تفاخر لدى البعض.
9 – ومن أخطر المظاهر قيام عقائد وأنصاب في حياة بعض المسلمين تنافس الإيمان بالله، والعقيدة في قلب الشخص، وتتحكم في مشاعره وسلوكه في الحياة، يرتبط بها همَّه، ويبذل لها نفسه، ويقوم على أساسها حبه، وبغضه، وولاؤه، وعداؤه.
10 – وممَّا هو جارٍ في الساحة الإسلامية – والعربية بالذات – وخصوصاً في البيئات التي قوي فيها تيار الصحوة، وبدأ يزاحم التيارات العصرانية التي كانت مستبدة فيها قبل ذلك، دعوة يحاول العصرانيون بطرحها إبقاء مواقع لهم في المجتمع المسلم كي يواصلوا تدمير هذا المجتمع من خلاله.
يقولون: إن البلاد فيها إضافة إلى الإسلاميين، عصرانيون ماركسيون ووضعيون، ووجوديون... وهؤلاء مواطنون ومن حقهم أن يبقى لهم تمثيل فاعل في المجتمع ومؤسساته، وأن يكون لمناهجهم وخططهم أعتبار في مسيرة البلد.
ومن ثم لا تكتفي هذه الطائفة من العصرانيين بإعطاء نفسها حق الإجتهاد في قضايا التشريع، بل تطلب من المسلم أن يحول (عقيدته إلى مجرد رأي للتخلص من التعصب والطائفية)[56].
ويرون أن رفض إعطائهم هذا الحق إحتكار لحق المواطنة عنهم إلى طائفة خاصة هم الإسلاميين.
وإنما ذكرتها هنا – ضمن المظاهر – لأني أشعر أنها أصبحت قناعة لا عند مروجيها العصرانيين، بل عند بعض الصالحين من المسلمين، شعوراً بأن من الإنصاف والعدل التسليم لهم بذلك.
ولا ريب أن هذه خديعة ماكرة، لأن هذا الحق لا يحتكره الإسلاميون لأنفسهم، وإنما هو حق الله الذي جاء به نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – في الكتاب والسنة، وهذا ما لا يسمع منتسباً للإسلام، سواء أدخل نفسه في دائرة الإسلاميين أو العصرانيين رفضُه وجلبُ البدائل البشرية له، أي: أنه لا مجال للخروج عليه، فضلاً عن تبني خلافه في مجتمع مسلم[57].
11 – الركيز على الحرية في حياة الإنسان وفق التصور الغربي لها، حرية التدين، والاعتقاد والتعبير – الرأي، والتشريع دون فرض شيء من خارج الإنسان، مع غياب لقيمه العبودية في الإسلام التي هي مرتكز حياة المسلم تصوراً، وسلوكاً[58].
ولهذا كانت ثمرات تلك الحرية تجاوزاً من المرأة المسلمة لتعاليم الشريعة – سفوراً واختلاطاً وإهمالاً للمحرمية في السفر ونحوه –، وكان من ثمارها استنكار مؤاخذة من يستهزئ بالدين وعلمائه أو ينكر أحكامه، ومحاولة إلغاء حد الردة وعد شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدياً على الحريات وحجراً على الرغبات.
ولقد كان من آثار هذه النزعة التحررية المتجهة نحو التحلل من الدين والخلق أنها أدت إلى تفسخ عائلي، ونفور من قبل الناشئة المندفعين معها عن محيطهم – أسرهم وجيرانهم والصالحين من بارزي مجتمعهم.
فعلوا ذلك توقياً لرد فعل هؤلاء الجيران، والأقارب تجاه ما يمارسونه من تحلل وما يسيرون فيه من طريق منحرف.
لذا نجد من ثمار الصحوه الإيمانية الأن تقارب الناس والتئام العوائل وشيوع روح الأخوة والإحترام.
12 – المرأة في المجتمع المسلم عنصر متميز مؤثر والرجل صاحب القوّامة في هذا المجتمع يرتد إلى المرأة، وتنعكس روحها فيه أمِّا له في صغره وزوجة له في كبره.
وركيزة السمو وقيمته في المرأة إنما هو في إنسانيتها المتميزة في ماهيتها الأنثوية الفطرية التي بها كانت ميزتها الخاصة، وفاعليتها الاجتماعية في دائرتها النسائية، وفي محيط الرجل أيضاً.
ولقد كان من غايات العصرانية خلع هذا الثوب الإنساني من المرأة لتفقد ماهيتها، ومن ثم ميزتها الساحرة.
ومن وسائل هذا الخلع محاربة هذه الماهية وتشويهها باعتبارها – ويا للانتكاس – إزراءً بالمرأة وتهويناً من شأنها، ومن ثم سعت الحركات العصرانية في مجالات الأدب والإعلام والسياسة وغيرها – سعياً أسهمت فيه المرأة نفسها – لكي تجعل المرأة مخلوقاً متحرراً من تلك الأنوثة، رافضاً لوظائفها الفطرية.
وإذا كانت هذه الوسيلة خطيرة، فإن وسيلة أخرى لا تقل خطراً – لسهولة انخداع المسلمات بها –، وهي: صرف المرأة إلى تكثيف الاهتمام بالمظاهر الخارجية، وإعلاء قيمتها على حساب إنسانية المرأة وأنوثتها الطبيعية، حتى أصبحت كثير من المسلمات لا ترى نفسها، ولا تشعر بقيمتها إلا من خلال ما تحيط بها نفسها، أو تملكه من أزياء، ومساحيق وقصات شعر مستعار وغير مستعار، وهيكل جسمي مُعَدَّل بحسب معايير الموضة، وبالعلاجات والأجهزة المنوعة.
وتحولت المرأة الطبيعية إلى امرأة مُصَنَّعة[59]، تفقد تلك الروح الإنسانية التي كانت تمتاز بها المرأة الطبيعية، وما زالت المرأة تندفع وتدفع في هذا السبيل بتضخيم قيمة شكلها الخارجي، من خلال المجلات المهتمة بتجارة الأزياء ومبتكرات التجميل ونحوها، من مظهريات المرأة[60]، على حساب ما يهتم بقيمتها الذاتية في إنسانيتها وموقعها الأسري العظيم.
13 – ضعف القيمة العلمية للنصوص الشرعية – آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية – عند بعض الكتاب في حركتهم العلمية.
فمقتضى إيمان الشخص بأن هذه النصوص مستمدة من الوحي الإلهي أن يقف عند حقائقها، ويجعلها معياراً يزن به ما سواها.
لكنّا نجد بعض الكتاب والصحفيين يعالجون قضايا فكرية أو تشريعية بنظرات فكرية، أو استفتاءات اجتماعية، مع أنها تكون مقررة في النصوص بشكل حاسم.
بل تجد ذكر القرآن الكريم والرسول – صلى الله عليه وسلم – إذا ورد في حديث هؤلاء يرد مجرداً من هالة القداسة التي تربط به – القرآن مجرداً من الوصف، ومحمد مجرداً من ذكر نبوته، ومن الصلاة والسلام عليه.
14 – ثم إن البناء الفكري والعلمي بعد أن كان مركزه الذي ينطلق منه هو: الكتاب، والسنة والحقائق المنبثقة منها، صار يبدأ مع علوم أخرى، ويتأسس على معارف متنوعه، لكنها ليست شرعية، بل إنها لدى كثير من الشباب تتمحور في صفحات الفن، والرياضة، ونحوها من التوافه الصحفية، حيث يرتكز الإهتمام الشعوري بها، والوعي المحتدم عليها مقابل فتور وَقَرف فيما يتعلق بالجوانب الإسلامية – الفكرية.
15 – كما تجد أن بعض الشباب يتجه في حل مشكلاته ومعالجة أزماته الإجتماعية إلى إستشارات غير إسلامية لدى إجتماعيين، أو نفسيين أو مجرد صحفيين يجمعهم نقص أو عقم كامل من الوعي بالشريعة الإسلامية ومنهحجها في بناء الإنسانً والمجتمع والعلاقات بين الناس، وصيانة كل ذلك من الفساد وحلول ما يمكن أن يحدث فيه من علل.
وصفحات المشكلات في الصحف التي يطلب فيها هؤلاء الشباب الحلول لمشكلاتهم أو تبصيرهم في حركتهم من محرر أو محررة، لا يعلمان من الدين شيئاً يفيض بها الميدان.
16 – القلق النفسي: كما أن من سِمًَة هذا العصر: أنه عصر صناعي، كذلك فإنه عصر القلق والإضطرابات النفسية.
وإذا كان الضرب هو مصدر السمة الأولى، فإنه كذلك مصدر السمة الثانية، وبقدر ما ينفتح للناس من آثار هذا العصر مدنية وثقافة بقدر ما يزيد توترهم وحرج صدورهم.
ولقد تلوثت المجتمعات الإسلامية بهذا المرض – مرض القلق – الذي صار يستفحل ويفتك بالنفوس، نتيجة إشاعة الشك والإلحاد والمذاهب الفكرية المتصاربة، والخلاعة الصحفية، والقصص الماجنة، والفن الذي يدور بالناس بين علاقات عاهرة، وتأوهات بائسة وصراع مادي، وإغراءات آثمة.
وإذا كان الإنحراف عن الدين، وضعف الإبمان بالله، وبالقضاء والقدر، وباليوم الآخر، عوامل أساسية في تعمق القلق واستشرائه في حياة الناس – الشباب خاصة – فإن ما أغرقت به العصرانية مجتمعات المسلمين من ثقافة وفنون وافكار ساخرة بالدين، مستهترة بالحياة سبب كبير في ضعف الإيمان، ويَعُدْ الإنسان عن ربه، وشيوع الأخلاق الفاسدة التي تمثل مصادر قلق وتوتر في نفس المتخلق بها، حينما تفسد صلته بالله وعلاقته بالآخرين من حوله، من أمثال: الحقد، والحسد، واحتقار الأقل ثراء، أو جاها، وتَسَخُّط المصائب وعدم القناعة.
وممّا يزيد المشكلة تعقيداً: أن هؤلاء المصابين بالقلق – والذي تتمثل مبادؤه بالشعور بالفراغ الحاد – يلجأون لعلاجه من نغوسهم بأدوية من صيدلية العصرانية ومروجاتها – أو على الأقل من غفرازاتها –، كالإدمان على مشاهدة الأفلام السيئة، أو ألعاب الميسر، أو المخدرات، أو الأسفار الآثمة ونحوها مما يزيدهم شعوراً بالتفاهة والقلق، ويكثف ظلمة الدنيا أمامهم، فهم كناقش الشوكة بالشوكة.
ومن المفارقات المحزنة والخطيرة – في أمر كثير من هؤلاء – أنهم لا يجهلون أن انشراح النفس وسعة الصدر وقرة العين غنما هو بذكر الله والارتباط بكتابه وحسن الصلة به ومناجاته، واتباع هدايته؛ لأنهم يقرأون كتاب ربهم وسنة رسولهم – عليه الصلاة والسلام –، ولا يمارون أن ما قرره حق لا ريب فيه؛ لأن ذلك من بدهيات إيمان المسلم.
إنهم يقرأون أو يسمعون قوله سبحانه:
{أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. (الرعد، آية: 28).
{طه، مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}. (طه، آية: 1 – 2).
{الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}. (الأنعام، آية: 82).
{الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلاَّ الْمُصَلِّينَ}. (المعارج، آية: 9 – 20).
كما يعرفون أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – التي تحدد للمسلم المنهج السليم في صلته بربه، ونظرته لهذه الحياة، وتعامله مع اناس بما يجمع شمله، ويملأ قلبه بالقناعة، ويغم بالسكينة نفسه، ويبدد همه.
كما أنه يقرأ في مقابل ذلك النصوص التي تبين أن الشرود عن الله والتهافت على مساخطه – المتمثلة بشباك العصرانية – مفضٍ إلى البؤس والتعاسة والقلق، من مثل قوله سبحانه:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. (طه: 124).
{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (الأنعام: 125).
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ}. (ق: 5)... إلخ من النصوص المتوافرة في هذا.
ولكن هؤلاء – للأسف – نأت بهم عنها جواذب العصارنية، وزاغت بأبصارهم فعميت عليهم هذه الهداية الواضحة، فاصبحوا عنها معرضين[61].
17 – من المظاهر – أيضاً – الفوضى في الاصطلاح، وتداخل المفاهيم لا عند العامة من قراء الصحف فقط؛ بل عند ذوي الريادة الفكرية.
وهذه عدوى من الفكر الغربي الذي يتسم بتداخل المعاني والمفاهيم لدرجة التعقيد في كثير من ألفاظه الرائجة في ميدان الفكر، ومن خلال قناة العصرانية تسربت إلى الثقافة في البيئة الإسلامية هذه الآفة، سواء تمثلت هذه الآفة في ألفاظ منقولة كلفظ الإيديولوجيا التي راج استخدامها، مع أنها (ككلمة معقدة وغامضة، وتطرح كثيراً من دون وضوح)[62].
ومثل الديمقراطية والاشتراكية اللتين تتسعان لتطبيقات متنوعة مختلفة.
أو كانت الألفاظ عربية، ولكن ألصقت بها مفاهيم لألفاظ مقابلة في اللغات الأخرى، كالحداثة، والسلفية، والتراث، والحرية، ونحوها في استعمال كثير من المفكرين.
خذ مثلاً لفظة (العروبة) ماذا يقصد بها المفكر العراقي حسن العلوي الذي يطرحها بديلاًً للقومية العربية الفاشلة بعد أزمة الخليج.
في مقابلة صحفية معه يؤكد أن مشروع القومية العربية قد فشل تماماً، وأنه المسؤول عن المصائب التي حلت بالعراق ومن حوله، ويقدم البديل الناجح، منادياً بعروبة العراق، بحيث تصبح العروبة لا القومية العربية هي هوية العراق.
ويفسر ذلك بأن القومية العربية تحارب الإسلام، أما العروبة فهي مسلمة.
ومع القلب بين الصفة والموصوف – العروبة والإسلام – فما زال الكلام قابلاً للفهم، لكنه وهو يؤكد على ضرورة الالتفاف حول مشروعه يؤكد مخاوفه أن تسبق تيارات أخرى إلى العراق لتحكمه، ويمثل لها بالماركسيين والإسلاميين[63].
فماذا تعني العروبة بصفتها مبدءاً ذات منهج يا ترى؟
إن اضطراب المفاهيم خلال فكري يورث بلبلة لدى الناس، وقد يوصل إلى السفسطة والتباس الحق بالعاطل؟ ومن ثم التيه والضياع.
وقد نهى الله المؤمنين عن قول (راعنا) حينما ألقى اليهود على معناها ظلالاًً لا يتفق ومقام الخطاب من المؤمنين للرسول – صلى الله عليه وسلم –.
18 – ومن المظاه ر التي تنتج التيه والضياع – أيضاً – وتورث الناس حالة من التأرجح بين المواقف وفقدان التمييز الازدواجية في التوجيه الفكري، والحركة الاجتماعية بين المتناقضات في القيم والأعمال.
فقارئ الصحيفة يجدها في صفحة تنقد ما تمجده، وتدعو له في صفحة أخرى.
ومثله: سامع الإذاعة، ومشاهد الشاشة، وكذلك الطالب في مدرسته ومع مدرسه، والناشئ مع بيته وأهله، والمواطن مع سائر المؤسسات التي يتعامل معها.
تناقض بين الدعوة والسلوك، بين اللوائح والتطبيق، بين وضع الإنسان فى حال أو موقع عن وضعه في حال، أو موقع آخر.
ما هو الأثر النفسي على الناشئ وهويقول في أعلى صفحة ملونة في صحيفة دعاية حارة لشراء نوع من الدخان مؤكدة المتعة في شربه، ويقرأً في أسفلها تحذيراً – حكومياً، – منه، وبيان ضرره بالصحة.
أو يقرأ في صفحة من مجلة نقداً للعفن الفني الذي أصبح مباءة للمخدرات والسفالة الخلقية، ثم يقرأ في صفحات تالية مقابلات مع نجمات ونجوم الفن وأدوارهم الإنسانية في الارتقاء بالذوق والمفاهيم للأمة، وترفعهم عن المتاجرة والربح المادي.
أو يقرأ تحقيقاً عن العوائد الايجابية لقضاء الإنسان إجازته في ربوع وطنه على نفسه وأولاده ووطنه، مادياً وخلقياً. ثم يقرأ في العدد ذاته أو في ما بعده أن رئيس تحرير المجلة عاد من إجازته التي قضاها في فرنسا – مثلاً – وأن مسؤولاً كبيراً طار إلى أثينا لقضاء إجازته هناك بصحبة الأهل والأولاد... إلخ. الصور الكثيرة التي تشمل – غالباً – جوانب الحياة الاجتماعية المتنوعة.
مثل هذا المنهج يجعل الشباب في حالة تيه تختلط فيها معالم الحق بالباطل أمامه، فيفقد حسه الخلقي تجاه الخير والشر، والطيب والخبيث، وتهون عنده الأمور، وتصبح شخصيته باهتة، لا لون لها ولا طعم، فلا يبقى إلا شهواته التي تحكمه منحرفة به نحو الفساد.

الإسلام والعصرانية
عرفنا أن العصرانية في أوروبا حسب نشأتها وعموم مسيرتها تعني: (الاستناد إلى الفكر البشري في ضوء العصر الذي يعيش فيه في وضع نظم الحياة الإنسانية، وصرف إلاهتمام الأكبر إلى المطالب المادية، والارتقاء المدني مع السماح بالتدين الفردي للإنسان في القضايا الروحية، وبعض القيم الخلقية، واعتبار الدين محصوراً في هذا النطاق.
وعرفنا أنها انتهت في تياراتها الإلحادية إلى الكفر بالدين جملة وتفصيلاً.
وقد أشرنا إلى أنه: يمكن للغرب أن يبرر تفلُّته من هيمنة تعاليم الكنيسة بأنها تعاليم وضعها البشر قبل قرون في ضوء الفكر الذي كان يحكم عصرهم ذلك[64]، فكان المنطق أن يستبدل بها تعاليم قائمة على فكر أنضج وأكثر تقدماً، ما دام أنه لا مجال لديهم لاتباع وحي معصوم تتمثل فيه الحقاثق مطلقة من نسبية الزمان، والأوضاع التي تحكم حقائق ونظريات العقل البشري.
أمّا في العالم الإسلامي: فإن العصرانية ليست نمطاً واحداً يؤمن بوجود الله وربوبيته، ويرفض تعاليمه التي جاء بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مقيماً حياته على منتجات الفكر في عصرنا الذي نعيش فيه.
إن للعصرانية – في بلاد الاسلام – تمثلات عدة:
أ – فقد تتمثل في مواقف إلحادية لا تؤمن بوجود الله أصلاً، كالمواقف الوضعية، والماركسية، والوجودية التي يرى أتباعها – من أبناء المسلمين – أن الاعتقاد بوجود عالم وراء عالم المادة تغييب للعقل وتخريف غير مقبول.
ب – أو مواقف تؤمن بوجود الله وربوبيته، وقد تظهر حيَّة، ولكنها تنكر وحيه ورسله، فلا تسمح للوحي بأي سلطان على حياة أصحابها، كالاتجاه البعثي الذي لا ينكر وجود الله – صراحة – ولكنه يرى أن ما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – ليس وحياً، ولكنه نتاج الروح العربية التي كانت تعمر كيانه استطاع به أن يعالج وضع الأمة العربية في تلك الفترة التاريخية.
ج – أو مواقف تؤمن بما سبق، معترفة بنبوة محمد – صلى الله محليه وسلم – ورسالته، ولكنها تحصر اتباع الوحي في نطاق العبادات – فقط – أو معها الأحوال الشخصية دون النظم الاجتماعية، التي ينبغي أن تُسيرها الدولة وفق المصالح الزمنية المقدرة وفق النظرات العقلية، أو الدراسات الاجتماعية.
ومن مسالك أتباع هذا الموقف في تقرير موقفهم بَعْثُ الرأي المنسوب إلى الشيخ نجم الدين الطوفي (ت 716هـ) رحمه الله، الذي يقضي بتقديم المصالح على نصوص الكتاب والسنة إذا بدا أن هناك تعارضاً بينهما[65].
د – أو مواقف تؤمن بالله وبالرسالة، وبكل ما جاء به الوحي من تشريعات حتى في المجالات الاجتماعية.
ولكنها تقف في التلقي فيما يتعلق بهذه المجالات عند حد المبادئ العامة دون التفصيلات التي جاء بها الكتاب والسنة، معتبرة هذه التفصيلات مجرد تكييف وقتي لتحقيق تلك المبادئ في عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – وعصر خلفائه، والعصور المشابهة لها في وضعيتها الاجتماعية.
ومن ثم فلنا وقد تغير عصرنا أن نضع تفصيلات أخرى تتحقق بها تلك المبادئ العامة إقامة للعدل ونفياً للضرر ورعاية لحقوق الناس... إلخ. – مثلاً – الشيخ عبدالله العلايلي في كتاب له عنوانه: (أين الخطأ؟) كتب مبحثاً بعنوان: (أبأعيانها أم بغاياتها هي الحدود الجزائية). يرى أن الحدود – الشرعية – مرتبطة بغايات هي حماية المجتمع، وردع المعتدين، وإيقاف الظلمة عند حدهم؛ هذا هو الثابت الذي لا محيد عنه، أمّا أعيان الحدود فلا ضير من استبدالها، ما دام البديل يحقق تلك الغايات.
مثلا: السرقة عقوبتها القطع في نص القرآن، لكن وفق هذا الموقف (عقوبة القطع غايتها الردع الحاسم، فكل ما أدى مؤداها يكون بمثابتها)[66].
وقد يكون الخلل الفكري لدى فئة من أهل هذا الموقف واقعاً في مجالات الفكر التي يدرسونها علم نفس أو اجتماع، أو فن ونحوها، بسبب تلقيها من الغرب، تلقياً مباشراً بحيث تشربوا روح الفكر الغربي في هذه الجوانب مع دراستهم لها، فيأتون للنصوص الشرعية لانتزاع ما يحاولون توجيهه كي يؤيد أفكارها لإقناع أنفسهم أو غيرهم بعدم محالفتها للإسلام.
ذكر الدكتور جعفر شيخ إدريس: أنه صارح اجتماعاً لرابطة الطلاب المسلمين في أمريكا بأنهم من أسباب تخلف المسلمين.
قال لهم: أنتم من ضمن الأسباب، وأعني: بأنتم الطلاب المتدينين الملتحين أصحاب الثياب القصيرة، الذين يصلون ويصومون – الذين يذهب الواحد منهم سنوات ليدرس علم النفس أو الاجتماع أو الاقتصاد...الخ. دون أن يفكر في معرفة الجانب المتصل بعلمه هذا بالدين.
ثم يقول: نعم أنت في صلاتك وصيامك ودعوتك العامة مسلم، لكن في العلم الذي ستذهب وتطبقه في العالم الإسلامي أنت دور كايم أو فرويد، لكن بلحية، وما إلى ذلك فأنت تخدعني –.. أرى أن هذا جانب من العلمانية كنا غافلين عنه..)[67].
هـ – أو مواقف – دون ذلك كله – تتمثل في اجتهادات لتفسير النصوص الشرعية أو استنباط بعض الأحكام أو دراسة بعض القواعد المنهجية، لكنها تتم تحت ضغط الفكر المعاصر، فتأتي منحرفة إليه، مبتعدة عن النصوص الشرعية.
وأكثر من تقع منهم هذه الصورة الأخيرة من بعض المتحمسين للإسلام من الحاملين لواء الدعوة الإسلامية، الذين يعالجون في كتاباتهم هذه القضايا الشرعية، مع أنها لم تقم دراستهم الرئيسة على علم الكتاب والسنة أو درسوه، ولكن انفعالهم بالواقع المعاصر غلب على تأثير العلم الشرعي في أفكارهم[68].
وقد يكون من هؤلاء مفكرون كانوا فيما مضى عصرانيين من الصور السابقة العصرانية، ثم تراجعوا عن عصرانيتهم تلك نحو مواقف أقرب إلى دينهم[69].
ومع أن هذه التمثلات تمثل أنماطاً متدرجة، إلا أن المتأمل يجد تداخلاً بينها لدى كثيرمن العصرانيين.
تقرأ لأحدهم مقابلة صحفية – مثلاً – فتدرجه في الموقف الأخير، لكنك تجده في كتاب من كتبه – ليس بين ظهوره وبين مقابلته فارق زمني يذكر – صريح في اتخاذ الموقف الأول، أو الثاني.
وهذا الاضطراب الفكري، وتناقض المواقف سمة معتادة في مثل دراسات هؤلاء لأسباب كثيرة، من أهمها: ابتعادهم عن مصدر الحق ومجافاتهم له، وهو: الوحي الالهي العاصم من التيه في مجالات التصورات والقيم التي هي مجال بحوثهم. {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج}. (ق: 5).
وهذه سنة ربانية تلاحق كل الشاردين[70].
ومنها: وجود بقايا من الإيمان في قلوب بعضهم؛ إيمان منكمش منزو، لكنه قد تسرى الحياة في بعض أطرافه نتيجة موقف أو حدث أو لمحة نفسية، أو فكرية، فيحنون لدينهم ويقتربون منه، ثم يعود إلى الانكماش فيعودون.
ومنها: مسايرة الظروف التي تحيط به؛ إمّا المجتمع المحيط بهم، أو اتجاه الصحفية المستضيفة لهم، أو المؤتمر الذي شاركوا فيه، أو جو الصحوة الذي حاصرهم[71].
ومع هذا كله: فإن واقع الأمة المسلمة يشهد في الآونة الأخيرة تغيرالت تحولٍ من العصرانية إلى الإسلام تجري – غالباً – من خلال ارتقاء فكري متدرج، ممَّا يبشر بخير لهذه الأمه المسلمة، التي عانت كثيراً وَحُبست عن بناء نهضتها طويلاً.
هذه هي الصورة الفكرية للعصرانية في العالم الإسلامي، وفي مقابلها. وإن مقتضى إيمان المسلم بدين الإسلام أن يصدِّق ويسلِّم بكل ما جاء به وحي الله، المتمثل في رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – الخاتمة والناسخة لما سبقها، في القرآن الكريم، والسنة المطهرة.
يصدق بالأخبار؛ سواء في مجال العقيدة[72]، أو التاريخ، أو الكون والحياة. ويستسلم لأحكامه في سائر ميادين الحياة – في العبادة والأخلاق والتنظيمات الاجتماعية.
ولأن العصرانية تمثل تجاوزاً للكتاب والسنة، وابتغاء لغير حكمهما فإنها تعدُّ تعدياً لحدود الله، وَتُمَثِّل خللاً في إيمان الآخذ بها في أي جانب من تلك الجوانب.
ولكن إذا الخلل يتفاوت بحسب هؤلاء الآخذين، من حيث مقاصدهم، ودوائر تجاوزهم.
فإذا أردنا أن نضع العصرانية في إطار مصطلح شرعي[73]؛ فإنها تمثل فسوقاً. والعصراني يعتبر فاسقاً[74].
والفسق درجات:
فقد يكون كفراً أو نفاقاً، كما في قوله سبحانه: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ}. (السجدة: 18).
وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. (التوبة: 67).
وقد يكون ضلالاً كبيراً، لكنه دون الكفر، وإن كان أعظم من المعصية التي يقترفها الإنسان نتيجة إغراء لشهوة أو غضب. يقول سبحانه: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}. (الحجرات: 7).
فذكر الفسوق بين الكفر والعصيان، ممَّا يقتضي مغايرته لكل منهما للعطف، ويفهم منه بحسب الترتيب وسطيته بينهما.
وهذا هو ما يمثل له العلماء بكثيرمن البدع، وأنواع من الشرك الأصغر.
وقد يكون معصبة صاحبها عاص، مادام يعتقد حرمة ما يفعل من مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ}. (الحجرات: 11).
بل قد يقع بعض المسلمين في العصرنة نتيجة اجتهاد ناقص خاطئ، تميل به نفسه فيه إلى مجاراة العصر، فيما لا يتسق مع دلالات النصوص ومقاصد الشرع، مع ظنه أنه يخدم بذلك الإسلام.
والمواقف العصرانية السابقة لا تخرج عن دوائر الفسوق المذكورة، كل موقف بحسب الدائرة التي يدخل تحتها.
أمّا الأثر العملي لمعرفة الحكم بشأن العصرانية، فإن له جانبين مهمين:
1 - جانب يتعلق بالأفكار العصرانية من حيث إن العلم بحكم الإسلام فيها يحدد خطورتها على الإيمان، وبالتالي يكون هذا العلم أساساً للتحصين ضد تسربها وإفسادها ومنطلقاً للنصح والدعوة لمن قد ينخدع بها.
2 - وجانب يتعلق بحاملي هذه الأفكار ليقيم المسلم ولاءه على ميزان شرعي سليم، دون إفراط أو تفريط؛ لأن الأفكار كلما تخفف في الشرع كما وكيفا كمان !مب حاملها من البراء أكبر، وبالمقابل كلما تخفف منها وتحسن ارتفع معدل الولاء ل. وليعي المسلمون – أيضا – معسكر هذا الاتجاه ليتعاملوا معه، بما يتناسب مع حجمه، ومستوى أصحابه، من حيث فغترهم، ومن حيث قربهم من الإسلام، أو بعدهم عنه.

العصرانية والعصرية
يفترض كثير من الكتاب الإسلاميين الذين يعالجون قضية التفاعل بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي في العصر الحديث تساؤلاً في ذكر القارئ الذي ينتهون به إلى أن ركونه إلى الفكر البشري – الذي تمثله الآن حضارة الغرب – على حساب الوحي الإلهي ولو شيئاً قليلاً خطر على إيمانه يوشك أن يمحقه، وأن اعتمامه بالوحي في مقابل ذلك الفكر هو الموقف السليم إسلامياً.
هذا التساؤل هو:
هل معنى ذلك أن مقولة زكي نجيب محمود السابقة في كون التزام الدين يقتضي الكفر بالحضارة المعاصرة والبعد عنها صحيحة؟
السؤال بصيغة عملية، ما الموقف السليم الذي ينبغي أن يقفه المسلم تجاه الفكر المعاصر في أوجهه المتعددة؟
والاجابة المجملة – هنا – هو: أنه ينبغي للمسلم ألا يستدبر هذه الحضارة منسحباً من الحياة؛ بل يتفاعل معها، ولكن من خلال إسلامه، بحيث يجعله معياراً يزن به نتاج الغرب فيقبل أو يرفض، أو يقوم ما كان قابلاً للتقويم.
بعض الباحثين يسمى ذلك بالموقف النقدي مقابلاً لموقف الأخذ الكلي والرفض الكلي، كأبي الحسن الندوي، وبعضهم يسميه بموقف الثقة بالنفس، كالأستاذ عبدالكريم عثمان، وبعضهم يسمى ذلك بالعصرية مقابلاً للعصرانية، كالدكتور السيد الشاهد، الذي يجعل العصرية مشيرة إلى تمسك المسلم بدينه الإسلامي جملة وتفصيلاً، ديناً ودنيا، ولكنه يتفاعل مع واقع عصره أكثر من العازفين عن ذلك[75].
ومع هذا فينبغي أن نعلم أن هناك من يطلق لفظ ((العصرية)) على مضمون العصرانية التي نرى الحديث فيها، كيوسف كمال في كتابه (العصريون معتزلة اليوم).
ولا أرى حاجة إلى التوسع في هذه المسألة؛ إذ المقصود التنبيه عليها فقط، بحكم صلتها بما نحن فيه.
لكني لابد أن أشير إلى نقطتين:
أ – أن الموقف المطلوب من المسلم تجاه الحضارة المعاصرة يتجاوز الموقف السلبي المقتصر على إصدار أحكام الحل والحرمة، والصلاح والفساد، إلى موقف إيجابي يُسهم فيه المسلم بترشيد الحياة البشرية في جوانبها الحضارية الشاملة، تعديلاً لمعُوجِّها، وتقديماً للبدائل الصالحة، وكشفاً لإخفاق العناصر الفاسدة وتحقيق سعادة الإنسان.
سواء كان ذلك في نطاق الدراسات الإنسانية، أو النظم الاجتماعية، أو التطبيقات المدنية.
ب – إن العنصر الأساسي الذي يعي به المسلم ما ينبغي القيام به تجاه التحديات والمعروضات أمامه هو الفقه في الشريعة، الذي يزرع في كيان المسلم معرفة صحيحة بالمواقف المطلوبة، واندفاعاً حركياً لتطبيق مقتضى تلك المعرفة.
ولهذا نجد أن جيل الصحوة استطاع رغم السنين القصيرة ومحدودية الإمكانات استثمار النتاج الحضاري لخدمة الدين ومصالح الأمة، كما استطاع البروز في ميادين التأثير ومجالات العلم التي تمثل قوام الحضارة المعاصرة بما لم يستطعه العصرانيون رغم إمكانياتههم الزمنية والظرفية عبر عقود.
* المساحة الغائمة:
قضية التفاعل مع الثقافة الغربية لم تعد في الآونة الأخيرة دائرة بين عصرانيين يعلنون أولوية هذه الثقافة على ما يخالفها ولو كان إسلامياً، وبين إسلاميين يأخذون بضد ذلك.
لقد تغيرت وضعيتها وصارت هذه القضية تدور في مساحة غائمة بعد ذلك الوضوح، أو هكذا يتصور البعض.
ولا هذه المساحة يقوم جدل بين جيل الصحوة الإسلامية والتيارات الأخرى.
– تلك التيارات تتهم جيل الصحوة بأنه يطالب بالنهوض، جاعلاً من أسسه تحرر المسلمين من الغزو الثقافي الغربي، وأنه يبالغ في تصوير التحريف الثقافي ويربطه بجميع مظاهر الثقافة الغربية في مجتمعاتنا، وأن الحركات الإسلامية (في معركتها من أجل السلطة تبنت مواقف معارضة للأنماط الثقافية الغربية الحديثة، ووعدت جماهيرها بالقضاء على التحريف الثقافي، وإحياء الثقافة الإسلامية، ولكنها لم تحدد معنى التحريف الثقافي، ولم تضع برنامجاً واضحاً للأحياء، وقد تجد صعوبة دائمة في تحقيق ذلك؛ لأن منطلقها السياسي الأصلي لم يؤسس على معارضة الاقتباس الحضاري)[76]. وأن غاية ما عند هؤلاء الاسلاميين (التأكيد على أن الإسلام فيه كل الحل، وفيه كل شثيء ومن أجل ذلك فليست لعروض الإسلاميين وكتاباتهم في الثقافة المعاصرة وعنها قيمة معرفية)[77].
– وجيل الصحوة يرى أن تلك التيارات رغم إظهار بعضها أن حداثتهم وعصرانيتهم تهدف إلى تفاعل ثقافي مع الغرب يأخذون عن طريقه ما لدى الغرب من يأخذون ثقافية نافعة، وغير مخالفة لمنهج الإسلام وقيمه.
إلا أنهم لم يحددوا منهجية التفاعل، ولا الأسس التي تحكمه، ولا تلك القيم التي لن يقبلوا مخالفها.
والحق أن هناك فارقاً بين الطرفين:
فالاتجاه الإسلامي أو جيل الصحوة وإن لم يقدم تفصيلاً بكل جوانب الثقافة محدداً رؤيته في هذه الجوانب ومنهجه إزاءها.
إلا أنه بحكم خاصيته – التي هي الإسلام – الذي يمثل – مبدئياً – قاسماً مشتركاً بين الطرفين – يقدم مبدءاً ذا خطوط منهجية وموضوغية واضحة، من اليسير حتى كل تلك التيارات التي لا تعد نفسها إسلامية وإن كان أصحابها مسمصين، إذا وعوها إدراك المقبول من غيره في ميدان التفاعل الثقافي إسلامياً.
المبدأ هو (أن الإسلام متمثلاً بالقرآن الكويم والسنة الشريفة هو: المعيار لتقويم الثقافة البشرية المعاصرة)[78].
أما الخطوط الموضوعية والمنهجية فتتمثل في الأصول الإيمانية والأحكام الشرعية.
– فالأصول الإيمانية بما فيها أركان الإيمان الستة التي على رأسها التوحيد – توحيد الله بأفعاله وأفعال العباد – بتفصيل ما تقرر في القرآن والسنة عن كل منها[79].
– وأحكام الشرع سواء في المجالات العقدية أو الخلقية أو النظم الاجتماعة بما تقرر لها في القرآن والسنة من عمومية زمانية ومكانية وإنسانية، ومن ارتباط مصلحة البشر بتطبيقها، ومن كونها علامة الإسلام الصحيح،... إلخ.
كل ذلك مما لا يجهله عامة الناس فضلاً عن المثقفين – وهو: ما يسمى ((المعلوم من الدين بالضرورة)) – يعتبره جيل الصحوة ميزان تقويم للوارد الثقافي؛ بحيث إن ما جاء مناقضاً له حائداً بالناس عن تلك الخطوط يكون بداهة تحريفاً ثقافياً، وما انسجم معه، أو يخالفه فإنه يدخل دائرة المشروع.
وتبقى بعد ذلك عناصر من الوافد الثقافي لا يستطيع تحديد مقامها هؤلاء – من خلال المعلوم من الدين بالضرورة – ولابد فيها من اجتهاد ذوي التمكن العلمي والفكري؛ علماً بالشرع، ووعياً بعناصر الثقافة البشرية، وقد تتفاوت الاجتهادات فيتسمع الأمر في ذلك.
ولكن عناصر المُحتاج إلى الاجتهاد قليل بالنسبة لمساحة الوافد الثقافي الواسعة.
والناظر في واقع الصراع القائم بين جيل الصحوة والفئات الأخرى، يجد أنه دائر في غالبه – في تلك المساحة التي يتفق على معرفتها عموم المسلمين خاصة، المفكرين والمثقفين.
هذا بالنسبة لجيل الصحوة[80].
أما التيارات الأخرى:
فإذا أخرجنا منها التي ما تزال تحارب الإسلام ومبادءه، فإن الأخر من تيارات الوطنية والقومية والحداثة –... الخ. التسميات التي تظهر احترام الإسلام – بالرغم من إعلانها عدم محاربة التراث، وأنها لا تأخذ من الغرب ما يتناقض مع القيم الاسلامية، وأنها تريد تمحيص ما عند الغرب لأخذ الصالح فقط من ثقافته... إلخ.
– بالرغم من هذا – فإنها لم تحدد عناصر هذا التراث المعتبر لديها، ولا تلك القيم، ولا ميزان تحديد الصالح من الطالح في الوافد الثقافي، فإذا ما حاكمهم جيل الصحوة إلى ما لديه من ميزان، قالوا: هذا ميزانك، لا ميزاننا، فإذا طلب ميزانهم كان عباراتٍ فضفاضة، لا تحديد تحتها.
ومن ثم فقد يقبلون أشياء في الثقافة الغربية، لا تنسجم مع الكتاب والسنة، ولا الأصول الإيمانية، ولأ الأحكام الشرعية – وهي: معيار جيل الصحوة – كما لا تنسجم مع القيم الإسلامية إذا حددت بأنها القيم التي تقررت في النصوص الشرعية، ولا مع المصالح إذا كان ضابطها قائماً على مقاصد الإسلام وأحكامه – والمفترض أن هذا معيارهم الذي يزعمون –.
ولذا نجد أن عبارة (في إطار القيم الإسلامية، أو في ظل تقاليدنا الدينية) التي تُذْيَّل بها الدعوات التي تطلب أو تقترح استحداث برامج أو أوضاع اجتماعية وثقافية منقولة من الغرب – نجدها – أصبحت مجال تنذُّر بل واستهجان كما كان الشأن في عبارة (مذبوح على الطريقة الإسلامية التي وضعت على أغلفة صناديق الأسماك، أي: أنها شيك لا رصيد له).
والسيل الأمثل لتجاوز هذه الأزمة في واقع المسلمين بين جيل الصحوة والتيارات المقابلة.
– بالنسبة لتلك التيارات هو: أن تيار الإسلام من أجل أن تعي حقيقة الإسلامية.
أي: تعرف كيف يتحقق الانتماء للإسلام من شخص، أو من ثقافةٍ.
إن سليم النية والهدف من أتباع ئلك التيارات يبدأ غبشُة في رؤيته للأشياء والأفكار في علاقتها بالإسلام من هذه النقطة، بحيث يئصور الإسلامية إما انتساباً قومياً، أو قاعدة تراثية، أو مجرد مشاعر قلبية نحو الله، وشخص الرسول، وبعض الأماكن المقدسة، أو بعض أصول عَقدية فكرية، أو مجموعة من الشعائر التعبدية... ونحو ذلك من التصورات التي استلهموها من الواقع، أو من دراسات اجتماعية وتاريخية لبعض الأدران.
والحل: أن يعرفوا الإسلامية – معنى إسلام الشخص، أو إسلامية الثقافة، من خلال الإسلام نفسه – الكتاب والسنة.
فإذا عرفوا ذلك سَهُل عليهم تمييز ما يشوش على هذه الإسلامية من الثقافة الوافدة، ئما لا ينسجم معها.
وهنا تتبدد الغيوم، ويكونون بين خيارين: إما الاندراج في مسلك مقابليهم بتحكيم الإسلامية في الوافد الثقافي[81]، وإمَّا المصارحة باستعدادهم للتضحية بإسلاميتهم جزئياً أو كلياً لحساب هذا الوافد.
– هذا بالنسبة لتلك التيارت، أمَّا اتجاه الصحوة: فالحديث بشأن موقفه المطلوب في المبحث التالي.

الموقف من العصرانية
الذي يعرف الإسلام على حقيقته، ويعرف العصرانية بصفتها اتجاهاً فكرياً في العالم الإسلامي لا يماري بأنها:
هراء؛ لأنها تفتقد أي أساس لها في المجتمع المسلم الذي أغناه الله بمورد الوحي لإقامة حياته، وتحديد وجهته الحضارية، فالمروج لها فيه كمستبضع تمراً إلى أهل خيبر، بل دون ذلك إنه كالذي يسوق أطرافاً صناعية بين قوم أصحاء، طامعاً في إغرائهم بها، كي يبؤوا أطرافهم السليمة، ليستعيضوا بها مصنعاته.
وأنها: ضلال؛ لأنها مناهج مخالفة للإسلام الحق، وليس بعد الحق إلا الضلال.
وأنها عامل سقوط وتخلف للمجتمعات الإسلامية، لأنها ضلال، والضلال ليس أساس ارتقاء وعلو[82].
وهنا: يَرد سؤال.
إذا كان الأمر بهذا الحسم الصريح المبدئي، فكيف تُرّوَّج العصرانية وتروج في البيئة الإسلامية؟
والجواب: أن لذلك أسباباً لعل من أبرزها:
– الوعي بهذه الحقيقة – حقيقة أن العصرانية عامل تدمير للمسلمين وإبعاد للإسلام عن حياتهم، ومن ثم ترويجها من قبل أعداء الإسلام في الداخل والخارج لتحقيق نتائجها المدمرة.
– الجهل بالإسلام نتيجة تصوره من خلاد واقع المسلمين، أو من خلال كتب مشوهة له. سواء من كتب الفرق القديمة – الضالة –، أو من كتابات المستشرقين وتلاميذهم.
– الانخداع بالعصرانية وإحسان الظن بها، وتصور إمكانية التلفيق بينها وبين الإسلام في حياة المسلم.
أما الموقف الذي أرى ضرورة تبنيه اجتماعياً تجاه هذا التحدي العصراني القائم في البلاد الإسلامية في هذه الآونة من الزمن، فإنه يتمثل باختصار فيما يلي:

1 – نشر العلم الشرعي:
علم الكتاب والسنة هوإسلام المسلم، به تتشكل شخصيته الفردية وتنضبط حياته الاجتماعية، وبه يتحصن من عاديات الهدم والفساد.
ولأن العصرانية عامل هدم للبنية الإسلامية، لحياة المسلم الفردية والجماعية.
لذا كان لابد من نشر العلم الشرعي – علم القرآن والسنة – بكل الوسائل الممكنة، بحيث يكون هذا النشر شاملاً وعميقاً، شاملاً من ناحيتين:
– من ناحية الناس بحيث يغطي الناشئة والعامة، وذوي الحرف المهنية والمهن الحرة والتخصصات العلمية إنسانية ومادية.
– ومن ناحية مجالاته بحيث يشمل الجوانب الحياتية المختلفة في مسائل الإيمان والعبادات والأخلاق والنظم الاجتماعية – اقتصادية وسياسية وأسرية، وملاحقة الوقائع الحية في كل جانب.
وعميقاً من ناحيتين أيضاً:
– من ناحية تجاوزه المبادئ الأولية التي تلقِّن لتلاميذ الابتدائي والمتوسط إلى مدى أعمق وأركز؛ لأن غير المتخصص بالعلم الشرعي في وقتنا هذا ليس كالعامي فيما غبر من السنوات، لمّا كان معزولاً في مزرعته، أو مع غنمه وأبقاره، أو في قريته، حينما كان مصدر ئقافته لا يتجاوز شيخ قريته، أو مجالس سمرها التي لا يتجاوز المشاركون مستواه.
إن صنوف الفكر – الآن وألوان الثقافات أصبحت تتخطف الإنسان من كل جانب بالصوت، والصورة، والكتابة، ومغريات المدنية كلها أو بعضها.
تبادره في البيت، والشارع، والسيارة، والبقالة، ومكان العمل، وغير ذلك.
فلابد من الارتقاء بثقافته الشرعية، حتى تكون مهيمنة على هذه المعروضات ومن ناحية أسلوبه الذي ينبغي أن يكون كفيلاً بتحقيق فاعلية المادة – وهي العلم الشرعي – في نفس المسلم بأن يجمع هذا الأسلوب بين الوضوح والمنطقية والحيوية، بمعالجة الهموم الكبرى للمسلم في ميدان الثقافة، وأن تتوفر فيه خصائص السبك العلمي الواعي لواقع الفكر القائم.
واختصار ينبغي أن يًحقق العلم الشرعي:
– تصوراً إسلامياً شاملاً واضحاً، يجعل أصحابه ذوي وعحي حاضر بمداخل العصرانية، وذوي تمييز لما يعترضهم من شبه.
– وإيماناً دافقاً يجعل صاحبه مرتبطاً بالله، حذراً على دينه، يقظ الضمير أمام وساوس العصرانيين، حتى فيما لا يعرفه على وجه الصحيح؟ بأن يحيك في صدره، ويتلجلج في قلبه ممّا يجعله آيبا إلى الحق دائماً، فإذا غازله عصراني مباشرة، أو من خلال وسيلة إعلامية، كان هذا الإيمان الدافق – حتى ولو فاقه العصراني علمية وفكراً – لهيباً يُحْرٍق سهام هذا الحاقد، ودرعاً يصونه منها.
ولابد قبل هذا كله أن يكون العلم ذاته مؤصلاً تأصيلاً شرعياً صحيحاً بأن يكون مرتكزه الكتاب والسنة ارتباطاً بغايتهما، وإنضباطاً بمناهجهما ودوراناً على موضوعاتهما دون جنوح إلى التزيدات التي ألحقت بالفكر الإسلامي الأصيل، ونسبت إليه لمجرد أنها صدرت عن منتسبين للإسلام، أو كونها تبحث مسائل إسلامية.
إن من الجناية على المسلمين وضلال الرأي في مواجهة الفكر العصراني أن يقابل بعقليات المتكلمين والفلاسفة – السابقين – وفنائيات التصوف، وآراء بعض المنتسبين للعلم في العصور المتأخرة – عصور انحسار الفكر الإسلامي – المبتعدة عن النصوص الشرعية، إن السبيل الوحيد هو: ربط المسلمين بهدي ربهم – القرآن والسنة المطهرة – وتفهيمهم إياه وفق المنهج السليم المرتكز على طبيعة لغة هذا الهدي، وفهم الجيل الذي تلقى هذا الهدى من المبعوث به – صلى الله عليه وسلم – وهم صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين كانوا كما أخبر عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – (أبرَّ الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً)[83].

2 – مواكبة الحياة المتدفقة والمبادرة إلى الطموحات المشروعة:
الحياة المعاصرة تفيض وتطفح في كل جوانبها، في تراكماتها الفكرية.
وفي قيمها الاجتماعية.
وفي مبتكراتها المادية.
وهذا التدفق في كافة جوانبه مصبوغ بثقافات منوعة، ولابد لكي يحفظ الإنسان توازنه فوق موجاتها من أن يقوم الفكر الإسلامي بهذه المواكبة وفق مسالك كثيرة نشير إلى بعضها:
أ – حركة تقويم مبادرة لكل ما تفيض به هذه الحياة من قضايا لتقرير مدى ملاءمته للإسلام من عدمه.
ب – حركة نقد للفكر العصراني بدرجة تفوق منهج عرضه علمياً.
ج – إيجاد البدائل الصالحة النافعة للمحرمات التي تغوي بها العصرانية الناس، وتتسلل إليهم من خلالها.
ومعروف الدور الكبير الذي قدمته الأشرطة في ميدان الدعوة والإصلاح، والأناشيد الطيبة، مقابل ما كانت الأشرطة مقصورة عليه قديماً من محرمات.
مثلا: القصة من أخصب طرق الدعوة المؤثرة وغير المباشرة، لهذا ركز عليها العصرانيون كتابة وترجمة، حتى بلغت نسبة القصص المترجمة بين كل مما ترجم إلى العربية في بعض سنوات العقد السابق أكثر من 90%.
وغالب المجلات لا يخلو كل عدد منها من بضع قصص تتركز – غالباً – على الجنس أو الجانب المادي، أو بعض النزعات الإنسانية الهابطة.
ورغم اهتمام بعض الإسلاميين بهذا، إلا أن الأمر يحتاج إلى جهود منوعة؟
خاصة من فئة الشباب ذوي المواهب المتفتحة.
ومثل القصة: الشعر، والنقد... إلخ.
د – الحركة الإعلامية:
ولا أقصد بها مجرد المشاركة الفردية في استغلال وسائل الإعلام المتاحة – مع أنه لا شك مطلوب ومهـم، ولكني أقصد أن تكون هناك جهود إعلامية، وتكون مشتركة بتفاعل متداخل، بحيث تكون قضية من القضايا هماً مشتركاً لكل من لديه جديد يقيمه فيها، حتى يكون لها وقع في الحياة الاجتماعية، وحتى تنضج في إفهام الناس.
إن كثيراً من العصرانيين يمارسون هذه الحركة، وقد استطاعوا أن يشغلوا الرأي العام بكثيرمن قضاياهم، وأن يُمْلوا عليه تصوراتهم لها.
يطرح الواحد منهم قضية في الصحافة، فينقدها آخرون في صحف أخرى، أو أعداد لاحقة، ثم تعقب عليها أو على النقد سواهم.. وهكذا، حتى يهتم بها الناس وقد تشغل أحاديثهم وسائل بعضهم بعضاً عنها.
وأولى بأهل الخير والتقي والدعوة إلى الله من القادرين أن يمارسوا هذا العمل، وأن يحولوا اهتمامات الناس من تلك التي يسوقهم إليها العصرانيون، أو يلجئهم إليها الفراغ إلى اهتمامات ينتبه بها الغافلون، ويعود الشاردون، ويفهم الجاهلون، ويرتفع مستوى إسلامية المسلمين.
هـ – استثمار المنحى العاطفي عند المسلمين في استنقاذهم من كيد العصرانية.
– يمثل الكشف عن الأصول التي استمدت عنها.
– والإشارة إلى الراجعين إلى الحق من العصرانيين.
– وكشف مراوغاتهم الثقافية، فقد كانوا – مثلاً – يزعمون أنهم لا يحاربون الإسلام، وإنما يقاومون المواقف المتزمتة للرافضين لنتاج المدنية المعاصرة والمعارف الحديثة، وهم الأن أمام جيل متفوق في المعارف العلمية تسمو به طموحاته لبناء حضارة أمته، وهو: جيل الصحوة ولكنهم ما فتئوا يحاربون هذا الجيل وينتقصونه، ويشوهون سمعته أمام المجتمعات ولدى الحكام.
– وبيان زيف قناعاتهم بأسسهم الفكرية، من خلال التقلبات التي لا يستقرون فيها على حال، سواء على مستوى التيارات الفكرية والنظم المتأرجحة بين اليسار الاشتراكي واليمين الليبرالي.
أو على مستوى الرواد، وحسبنا هنا مثالاً ما حدث من الدكتور عابد الجابري في تبريره صنيع البعث في الكوبت، ناقضاً بذلك أطراً فكرية ركزها في بلاد المغرب، ودعا إليها كثيراً في المشرق قبل أن ينسفها تماماً[84].
و – ومع الاتجاه الكشفي للزيف لابد من حركة بنائية موحدة الجهود ومبرمجتها، حتى تستطيع بناء الجسم الإسلامي بعد تدمير العصرانية له – بناءه – في مجالات الفكر والروح والنظم والتأثير الحضاري.
ز – الحوار مع العصرانيين – خاصة من أبناء المسلمين –، ولا أقصد بالحوار – أساساً – المطارحات الفكرية حول المسائل الجزئية من قضايا المعرفة أو الدين.
إن الذي أقصده هو: أن يقترب منهم القادرون من الدعاة لتصور حقيقة موقف كل منهم.
فقد يكون منهم من لا يقصد عِداءً للإسلام، وإنما سخر ذكاءه لوجهة تنسجم مع مزاجه أكثر من انسجامها مع قناعته، فلم يجد له موجِّها رفيقاً يعود به إلى درب الصواب.
وقد يكون منهم أتباع لا يفقهون حقيقة مواقفهم وخطورتها.
وقد يكون منهم ذوو طلب للحق ورغبة في التوصل إلى خير مما هم فيه.
وإن كان قد يوجد فيهم معاندون، متمردون راغبون عن الحق بعد علم ويقين، وبعد تصور واقع الشخص الفكري تمارس معه الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
ح – المشاركة الإيجابية في المؤسسات الاجتماعية؛ سواء كانت رسمية أو أهلية، كالنوادي والجمعيات، والهيئات الخيرية ونحوها، لا من أجل التعرف على الناس ودعوتهم من خلال هذه المؤسسات فحسب، وإن كان هذا خطوة أولية مهمة؛ بل من أجل المنافسة في تسخير هذه المؤسسات وصياغتها، حتى تكون في أهدافها، وبرامجها، ونشاطها مركزاً من مراكز الدعوة بدل أن تبقى مهملة لا حياة فيها، أو ميداناً مسخراً فيما يضر الأمة ولا ينفعها.
ومع ذلك فينبغي الحذر من المؤسسات المشبوهة أو المعروفة بانتماءاتها العقدية الفاسدة، كالأحزاب العصرانية، والمنظمات الماسونية ونحوها.

3 – التمثل الإسلامي الواقعي:
إشاعة العلم الشرعي عامل حصانة من العصرانية وإيقاظ للفطرة السليمة، وضبط للوجهة الصحيحة والغاية الحقة للناس، والمواكبة العلمية لحركة الحياة، تحرر من السلبية، وانبعاث نحو الفعل المبادر في دائرة الإسلام، بعيداً عن دوائر العصرانية.
وببقى عامل مهم في إيجابية الموقف الإسلامي تجاه العصرانية، وهو: التمثل الإسلامي الواقعي.
هذا التمثل الذي يمثل التحدي الأكبر والحساس تجاه أهل الإسلام اليوم، والذي يزداد تعاظماً كلما اكتسبت الصحوة مساحة من حرية العمل، ويزيد مواجهةً لها كلما زاد بروزها على الساحة، وتعلقت بها آمال الناس والأمة في تحقيق مطامحها التي أخفقت العصرانية في إنجاز شيء منها.
والمقصود بالتمثل الإسلامي الواقعي:
أ – توصيف منهج للحياة الإنسانية – الفردية والاجتماعية – منضبط بالإسلام غاية، ومنهجاً، قائم على مراعاة واقع العصر الذي نعيشه بأبعاد هذا الواقع المتعددة – سياسية، واقتصادية، وفكرية، وإعلامية، وغيرها – وبخلفياته المتشعبة في كل بعد من أبعاده.
ب – حركة تطبيق واعٍ شامل لذلك التوصيف حسب الإمكانات المتاحة، والوسائل المتيسرة بمنهج متثبت وخطوات متدرجة متزنة.
ج – تفاعل لا يغفل – أبداً – النقد الموجه لذلك التوصيف ولحركة تطبيقه؛ سواء من خارج أصحاب الموقف أو منهم أنفسهم، حتى يستثمر هذا النقد عامل ترشيد وإنضاج، لا معول تحطيم، أو وسيلة إلهاء.
هذا التمثل هو المهمة التي تتضخم أمام أهل الإسلام، بعد أن كانت المهمة الكبرى لهم هي: مقاومة المد العصراني الجارف[85].
لقد أمسكت العصرانية بمقاليد كثيرة في بلاد المسلمين، وخططت وحكمت ونفذت ما قدر لها أن تنفذه.
والدور قادم على أهل الإسلام – على الصحوة بالذات – التي ينبغي أن يتجاوز دورها هدم العصرانيات الفكرية والحركية إلى بناء أسانيد وركائز بديلة[86] تحقق تمثلاً واقعياً.
سواء في تحديد الرؤية الصحيحة – إسلامياً – لما يجرى في العالم من تغيرات تعني المسلم – دون ريب –، أو لما يجري في عالمه الإسلامي على مسرح السياسة، أو في تحديد الخطوات الصحيحة من غيرها – في تفصيلات العمليات الاقتصادية بمسمياتها، وشعاراتها، وتقلباتها القائمة بصورة تزرع في نفسه اليقين، والثقة بحركته معها. أو في الاستراتيجيات الاجتماعية التي تحدد الأمداء أو البدائل الممكنة في مثل قضايا الرياضة، والتعليم، والإعلام، والمرأة، وإبراز أوضاعها القائمة...الخ.
بحيث إن المسلم يجد نفسه محاطاً بوضوح كافٍ ووافٍ لكل جزئيات حركته، فلاحاً كان، أو عاملاً، أو تاجراً، أو موظفاً، أو مسؤولاً عاماً، أو هيئة مخططة.
إن هذه الحاجة بالنسبة للصحوة الإسلامية لم تعد دراسة مستقبلية – أي تنظيراً لما بعد عقد أو عقدين مما يتوقع حدوثه – إنما معالجة واقعية لأحوال الناس الذين اشرأبوا نحوها، مستدبرين طروحات العصرانية.
وحينما نتلهى عنهم وعن حاجاتهم، فإننا على أحد وجهين:
أ – إما أن نكل هذه المهمة مهمة التمثل الاسلامي الواقعي – في تحديد استراتيجيتها إلى الناس أنفسهم بعد عودهم للحق، أي: إلى العصرانيين الراجعين من ذوي القدرات الفكرية[87].
ب – أو أننا نرى المسألة لا تستحق إعداداً وتخطيطاً؛ بل ربما يجعل هذا من التكلف المنهى عنه، والمنافي لبساطة الدين وفطريته.
وفي كلا الحالين: فإن ذلك يدل على عجز مرده الجهـل وعلى نقص خطير في فهم الإسلام الذي هو غايات، ومقاصد، وأحكام تشريعية تفصيلية لحياة البشر في كل أطوارها وسائر أوضاعها.
وفي الوعي بالحياة البشرية وتعقيداتها التي لم تعد حركات أفراد منفصلة يسهل إيقافها وتغيير مجراها، وإنما أصبحت مؤسسات، ونظماً مترابطة، متشعبة الأبعاد.وينبغي أن نعلم هنا: أن مناط هذه المهمة – مهمة التمثل الإسلامي الواقعي – هم ذوو القدرة، والعلم الشرعي، والوعي بالواقع[88]، كما ينبغي أن نعلم أن هناك جهوداً حثيثة – فردية – في هذا السبيل، بمعنى: أنه ينبغي ألا نفهـم أن الساحة مجدبةٌ تماماً من حركة التمثل الإسلامي الواقعي، ولكن حاجة الواقع أكبرمن تلك الجهود.

* أسس تحقيق التمثل المطلوب:
لابد أن يركن ذلك التمثل الإسلامي على أساس مكين، حتى يكون مشروعاً، حاملاً أعلى ما يستطاع من درجات الإسلامية والواقعية.
ولابد لتحقيق ذلك ممَّا يلي:
1 - أن يقوم على تصور سليم واع لواقع الحياة البشرية في هذا العصر بكلى تعقيداتها، وخلفياتها، وإنجازاتها، بحيث يستثمر كل جوانب هذا الواقع القائم في بناء مثاله.
2 - وعلى وعي بالشرع؛ مقاصد، ودلالات، وأحكاماً، وأسساً منهجية. وينبغي أن يعي جيل الصحوة أنه لا يكفي لتأصيل نظم الحياة وفكرها أن يكون المؤضلون ملتزمين بالإسلام تعبداً، وخلقاً، ومشاعر؛ بل، لابد لهم وراء ذلك من تأهيل علمي، شرعي، كي يتبوأوا منبر مهمة التأصيل.
3 - وأن يحذر المتصدون له من الوقوع في الاستقطاب إلى أفلاك العصرانية، وحتى الفكر الغربي – وهو الذي أشرنا إليه فيما سبق –[89] وهو ما تدأب فلول العصرانية في العالم العربي إلى جر الصحوة إليه، ليبقى مشدوداً إلى منطلقاتهم أخذاً ورداً في مناوشات فكرية لا دور للإسلام فيها إلا بأن يُستشهد ببعض نصوصه تأييداً لما انتهى إليه هؤلاء.
لقد حدث هذا في علم الكلام قديماً، وحدث في العصر الحاضر – ممّا سمي بالمدرسة العقلية، وهو الآن أحد السهام التي يراد إنفاذها في حركة الصحو الناهضة.
4 - وأن تقوم هذه الحركة على أساس البناء المذهبي، دون النظرات التجزيئية التي تُفقد نظم الإسلام وأحكامه كثيراً من قيمها.
والمقصود بالبناء المذهبي هو: النظر إلى الإسلام بصفته ديناً متكاملاً (عقيدة وعبادة، وخلقاً، ونظماً اجتماعية)، والانطلاق في حركة توصيفه وتطبيقه من هذه النظرة الكلية، بعيداً عن الترقيع التجزيئي الذي يشوه صورة الاسلام، ولا يحقق للحياة الإنسانية إسلاميتها المطلوبة. يستوي في ذلك أن يكون الترفيع بأخذ جزء أو أجزاء من الإسلام وتركيبها في مذهبية عصرانية قائمة، أو باطراحِ جوانب من الإسلام، وتركيب بعض البُنى العصرانية في موضعها في مذهبية الإلسلام. وكلا الأمرين أخذ بهما العصرانيون، وينصحون الصحوة بأخذها.

المجتمع السعودي والعصرانية
دراسات التأثير الغربي على المسلمين رغم أنها دراسات تعالج أوضاعاً اجتماعية، وثقافية، ممّا يعني أنها تستقرئ واقعاً، أو مواقع معينة تسبر التأثير، والتفاعل في دائرتها.
– رغم هذا – فإن عامة هذه الدراسات غير متعينة، أي: أنها غير متخصصة؟ بأن يركز كل منها في بيئة، أو دولة محددة – مثلاً – فهي دراسات عامة للعصرانية، أو العلمانية، أو أمثالها من الأسماء، وتأثيرها في العالم الإسلامي، أو على الأقل العربي، وقد يكون بعضها نظرياً يعالج حكم الإسلام فيها، أو أثرها على إسلام المسلم مطلقاً، لا في ظل واقع معين، وبعضها الآخر رغم عمومية العنوان يظل دائراً في فلك بيئة معينة، كمصر مثلاً.
– والحق:
أن المجتمعات المسلمة متقاربة فيما بينها – خاصة العربية – في كثير من الخصائص وبالذات في منزعها التراثي ووحدة المنهل المقدس لديها – الكتاب والسنة – كذلك فإن ريح العصرانية التي هبت على هذه المجتمعات من الغرب كانت موحدة الغاية، متقاربة الأسس وإن تعدد وجوهها.
ولكن وراء ذلك كله فإن الحياة الاجتماعية التي هي موطن الدراسة مما تتمايز به البيئات وتختلف فيه الشعوب تبعاً لأوضاع جغرافية، أو موروثات تقليدية محلية، أو مؤثرات داخلية، أو خارجية تخص مجتمعاً دون آخر.
وفي هذا الإطار يرى كل متأمل أن للمجتمع السعودي عناصر تفرد كثيرة اكتسب بها طابعاً خاصاً انعكس على تفاعله مع المؤثرات الوافدة فأثمر نتائج يتسم كثير منها بالوصية.
لذا أرى أن من النافع للجيل – السعودي – الناشئ أن يسهم القادرون من الكتاب ممن عاش وعايش فترة انفتاح هذا المجتمع على العالم وتفاعله السمابق معه في رصد هذه الفترة في جوانبها الثقافية والاجتماعية، وما طرأ عليها، وما نتج عنها، والمقاربة بين تفاعل هذا المجتمع وتأثره بالعصرانية، وتفاعل المجتمعات الأخرى والعربية بالذات؛ خاصة مصر التي تُسقط الدراسات للعصرانية – غالباً – عليها.
إني أؤكد حق شبابنا المتطلع إلى تحسس واقعه والارتقاء بمجتمعه بأن يعرف هذا التفاعل في صفحة مجتمعه الذي نشأ فيه، لا من خلال واقع مجتمعات أخرى يضطر إلى تطبيقه، فيتصور مجتمعه حياةً وأشخاصاً، وعلاقات في ضوء ذلك الواقع المختلف، في فهمه، وينفصم عن الواقع الحقيقي لمجتمعه.
فهل من همةٍ لدى القادرين من المؤهلين علماً، وصدقاً، وشمولية فكر تنبعث لتحقيق هذه المهمة.
وسأشير إشارة موجزة إلى هذه المسألة من زاوية هذا البحث – العصرانية – ركيرة النظر هنا أن المجتمع السعودي مجتمع متفرد بين المجتمعات الإسلامية، والعربية في جوانب شتى تهمنا منها تلك الجوانب التي تصب مجتمعة في تركيز إسلامية هذا المجتمع إلى درجة أن أصبح الإسلام – في تصور الأخرين، حتى من غير المسلمين – يستدعي استحضار هذا المجتمع، فكأنه مرادف له.
ومن هذه الجوانب:
1 - أن مهاد هذا المجتمع كان مهبط رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – الرسالة الخاتمة والناسخة للرسالات السابقة، والموجهة للناس كلهم، والتي سيظل نورها مضيئاً إلى قيام الساعة.
2 - وأن فيه مأرِزَ الإسلام – المدينة المنورة – التي وُلدت فيها دولة هذا الدين، وفيها مسجد نبيه، حيث يأوي إليها هذا الدين إذا طورد في أقطار الأرض، كما جاء بذلك الحديث الشريف ((إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها))[90].
3 - أن فيها الأماكن المقدسة والمشاعر المعظمة، التى فرض على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يزوروها – إذا استطاعوا – وأن يتجهوا إليها في صلواتهم كل يوم مرات.
4 - أن تراثه الإسلامي حي في نفوس أهله، فهو تاريخهم الذي يتأملون، وأدبهم الذي يتذوقون، بل حقيقة حياتهم التي يعيشون.
5 - أن حركة النهضة التي ظهرت فيه، وثقفت رماحه المعوجة، كانت حركةً إسلاميةً صافية، لم يكن لمدارس التخلف في العالم الإسلامي تصوفاً، وفلسفة، ونحوها، ولا لعصرانية الغرب تأثير في منهجها وحركتها.
6 - لم تطأ أرضها جيوش الاستعمار الكافر التي تحكمت في بلاد إسلامية كئيرة، في مناهجها التعليمية وتنظيماتها القانونية، وتركيبتهـا السكانية. وكثير من أنماط حياتها الاجتماعية منحرفة بها في كل ذلك نحو الروح الغربية.
7 - أنها كانت بيئة فطرية؛ سواء في فترة انغلاقها السابق، أو انفتاحها اللاحق. فالمكونات الثقافية لمناهجها التربوية – خاصة في المراحل الدراسية الأولى عمادها النصوص الشرعية، ومبادئ علوم الدين، والتراث العربي والتاريخ الإسلامي بعيداً عن تيه الفلسفات وضلال النظريات المنحرفة[91].
والعلم الشرعي هو مدار حياة هذا المجتمع تعلماً لفنونه وتقاضياً إليه، واستفتاءً لأحكامه.
وهكذا فِطرة نقية يغذيها مدد ثقافي وعلمي إسلامي يحفظ الفطرة وينميها ويجعل لها حضورها أثناء التفاعل مع أنماط الفكر البشري[92].
8 - إن الحكم فيه بيد أُسرة ارتكزت حينما بدأ حكمها الشامل لهذا المجتمع على مبادئ دعوة إسلامية أصيلة، صارت تشكل إرثاً وهوية للحكم في هذا المجتمع.
وهذه القضية المصيرية الكبرى حاضرة في أذهان أهل هذا المجتمع حكاماً ومحكومين بشكل حاسم وواضح[93].
وقي هذا الاتجاه صدر النظام الأساسي للحكم في 27/8/1412هـ – مرتكزاً في بنوده على هذا المنحنى الإسلامي المريح – مثلاً –.
مادة (11): المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله، وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.
مادة (6): يبايع المواطنون الملك على كتاب الله، وسنة رسوله، وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر.
مادة (7): يستمد الحكم سلطته من: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام، وجميع أنظمة الدولة.
ومواد أخرى كثيرة تجعل الإسلام هو الهوية التي تسري في عروق الدولة كلها، وتنفي شرعية أي خبث يفد على هذا المجتمع.
وبالمقابل: فإن التأييد والتعليقات من المسؤولين والمفكرين، بل وأحاديث العامة قد تركزت بهجتها أكثر ما تركزت على التأكيد الذي حظيت به هذه الهوية العظيمة.
هذا المجتمع ذو الملامح السابقة من آخر المجتمعات الإسلامية تفاعلاً مع الفكر الغربي المعاصر.
وإذا لم يكن للاستعمار والتنصير والمدارس الأجنبية، والطوائف غير المسلمة من قوات العصرنة في غالب البلاد الإسلامية أثر مباشر في خلخلته، فإن عوامل أخرى كان لها أثر متفاوت في هذا المجال، مثل:
1 - الابتعاث للدراسة في الخارج، وخاصة لخارج البلاد الإسلامية.
2 - استقدام المدرسين – من غير المسلمين أوحتى من مسلمين منحرفين – بعد انتشار التعليم، مما جعلهم ينتشرون معه في سائر البلاد.
3 - العمالة الوافدة التي كانت منوعة الأديان، والتقاليد.
4 - السفر إلى الخارج؛ وخاصة الأسفار السياحية بالعوائل، المشتملة على النساء، والأطفال، والمراهقين.
5 - وسائل الإعلام – خاصة – المنطلقة من مراكز العصرانية؛ سواء من الغرب أو من داخل البلاد العربية.
وإذا نظرنا في واقعنا في ضوء المظاهر – الإجتماعية للعصرانية – التي سبق ذكرها – سنجد كثيراً منها قد تمثلت صورها في حياة البعض، وإن لم تكن بحذتها التي انتهت إليها المجتمعات الأخرى.
بل إن بعض الجوانب ذات الحساسية احتفظ المجتمع السعودي تجاهها بتماسك طيب تعضده حشمة هذا المجتمع ودينه، وجهد علمائه، ودولته، مثل ما يتعلق بقضايا المرأة التي تمثل أهم الأهداف التي تصوب إليها العصرانية سهامها القاتلة[94].
والحق أن لهذا المجتمع بعامته وعلمائه ودولته موقفاً مشكوراً تجاه المد العصراني.
تمثل ابتداع لا محاولة الفرز بين النافع من العلم وتطبيقاته، والضار على المجتمع في دينه وخلقه، من أجل أخذ الأول ورد الثاني، كما تمثل في مواقف ذات حساسية تجعل الناس يعون ما يُقدمون عليه ما يتلقفونه من الغرب، من حيث ملاءمته لأحكام الاسلام، وخلق المجتمع أو لا.
كما تمثل – أيضاً – في مؤسسات علمية ودعوية تجعل مهمتها تحصين المسلمين ومقاومة الدخائل المدمرة، لا في نطاق المجتمع السعودي فحسب، بل امتد أثرها إلى المسلمين خارجه[95].
ويدخل في هذا الجهد تعميق الثقافة الإسلامية في نفس الناشئ، حتى يعي حقيقة إسلامه وعياً يكفل له كشف زيغ كل الطروحات العصرانية، التي تهدف إلى أن محل في نفسه محل دينه.
وقد سُعي إلى ذلك من خلال مادة الثقافة الإسلامية التي أكدت عليها سياسة التعليم في مراحله المختلفة، وإن كانت لم تأخذ قيمها أحياناً، لعدم الوعي بغاياتها الحقيقية في حياة المسلم التي تعتورها السهام الغازية من كل جانب.
ومع ذلك فينبغي ألا نخدع أنفسنا بأن نرى مجتمعنا في ظل ميزاته الطيبة التي مر ذكرها وحسب؛ بل لابد من الوعي بأن الكيد الهادف من أعداء هذا الوطن والجاهلين بالإسلام، لا يزال متواصلاً في هذا العصر منذ بدأت إرساليات التنصير تجوس خلال الخليج والبحر الأحمر مادة عيونها طمعاً في النفوذ إلى هذه البلاد قبل عشرات السنين، يوم أعلنت البعثة العربية للتنصير خطتها العملية لغزو هذه الجزيرة (احتلال الداخل عن طريق الساحل)[96].
ومنذ أخذ الغرب يتربص بهذه البلاد الدوائر من خلال جنوب الجزيرة العربية، الذي تم تسليم الحكم فيه بعد جلاء بريطانيا عنه إلى الجبهة القومية اليسارية، مع أنها مدعومة من الماركسية عدوة بريطانيا، ولم يكن لها دور بارز في حركة الاستقلال، إنما تتم ذلك ليكون تجربة في الجزيرة – من أعداء الإسلام – ومنطلقاً لامتداد الحركة التحررية اليسارية في الخليج العربي، وفي بلدان البحر الأحمر.
منذ تلك البدايات وخلال تطوراتها، وحتى وقتنا هذا الذي تحسب فمه دوائر العصرانية العالمية دقات قلب هذا البلد، والحاقدون يبذلون جهودهم لصرفه عن مسيرته الخيرة الناهضة، ولإحداث الثغرات في سمته الذي لا يزال نموذجاً في عالمنا الإسلامي.
إن العصرانيين رغم أنهم لا يستطيعون تجاهل تلك السمات المميزة لهذا المجتمع من حيث صبغته الإسلامية:
إن في قاعدته الجماهيرية.
أو في الإرث المكين لسلطته الحاكمة.
إلا أنهم يُراغمون هذه الحقيقة، طامعين بأن يلبسوا الحق بالباطل، وأن يستطيعوا من خلال كيدهم تحويل وعي المسلم بدينه، وبحقيقة انتمائه لإسلامه، ويقينه أن مقتضى كؤنه مؤمناً بهذا الدين أن يظل صافي العقيدة والعبادة من كل شائبة شرك أو بدعة وأن تستقيم حركته في الحياة على منهاج الله بأن تحكمها في كل جوانبها شريعة به[97].
– تحويل هذا الوعي – إلى تصور غائم مشؤش لدى المسلم لمعنى إسلامه، بحيث يكتفي بإسلام الوراثة، أو الهوية والاسم، أو بعض الشعائر التعبدية، ونحو ذلك – مما خدعوا به كثيراً من جهلة المسلمين في مجتمعات كثيرة –، ومن ثم يسمح لهم بأن يتدخلوا في حياته الاجتماعية، سياسة واقتصادية، وعائلية وثقافية، لينشروا فيها عمرانيتهم.
وإن مما يؤسف له أن يُخدع بهذه اللوثة من أبناء هذه البلاد أناس أتصورأن كثيراً منهم يحملون في قلويهم إيمانا بالإسلام، وحباً لمجتمعهم، ورغبة صادقة في أن برتقي سلم المجد الحضاري. ولكنهم رغم ذلك وقعوا في أحابيلها إمّا:
– بسبب نقص في فهمهم لحقيقة الإسلام في عقيدته وشريعته، نتيجة عدم دراستهم له أصلاً، أو لتصوره من خلال بعض الصور التراثية، أو الصور الحاضرة التي لا تمثل حقيقة الإسلام، وإن حملت اسمه، أو من خلال دراسادت اشراقية أو شعوبية حاقدة تستهدف تشويه الإسلام.
– أو بسبب موقفٍ نفسي من بعض التصرفات، أو الأشخاص الذين يحملهم هؤلاء على الإسلام، إمّا لهيئاتهم، أو لشهاداتهم، أو لطبيعة عملهم، فيتصورون أن شخصياتهم تمثل الإسلام بحَسيها وسيئها.
– أو نتيجة انخداع ببعض المذهبيات الفكرية، لما يحيط بها من بريق، وما يتسم به دعاتها من حيوية، وما تمثلت به من نظم سياسية.
– أو لخضوع تحت ضغط الواقع العربي والعالمي، الذي كانت الخيوط تشدُّه بعيداً عن الدين.
– أو بسبب نتيجة فكرية يلازمها شعور بالنقص، ممَّا يجعل التابع تليمذاً غير قادر كل تجاوز أساتذته عرباً، أو غربيين، حتى ولو استبطن قناعات مخالفة لهم.
لبعض هذه الأسباب أو لغيرها انصرفوا بطاقاتهم الفكرية، وجهودهم الحركية إلى الإساءة لدينهم ومجتمعهم.
– بتذويب عوامل الحصانة الاجتماعية فيه أمام الاختراق العصراني.
– وتقديم النماذج الطازجة للبُنى الثقافية والمذهبية المنافرة لدينهم وهويتهم، على أنها البدائل الصالحة التي ينبغي أن يندمج فيها المجتمع معصرنًا بها مؤسساته التقليدية.
– وتغييب ركيزة إسلامية كبرى تتمثل بها حقيقة تميز المسلم، وهي (الولاء، والبراء) من خلال تمجيد الملاحدة، وإضفاء الهالات الضخمة عليهم، وإبرازهم أمام الناس بصفتهم المثل الحياتية.
– ونقل عقدة النقص والشعور بالدونية إلى الجيل الناشئ، كي يخجل من واقعه، وبتتلمذ على من يفقدون أدنى درجات المصداقية علماً وخلقاً، من مفكرين، وشعراء وغيرهم[98].
– وتسفيه الارتباط بالتراث الإسلامي بأساليب منوعة.
– وحجب العيون عن رؤية الحقيقة، إذا كانت لا تتفق والوجهة المروجة من طريفهم.
.... إلخ. صور الإساءة التي تقل أو تكثر، تخف أو تحتد من شخص لاخر، لكنها مع ذلك تعكس خللاً خطيراً تعيشه تلك الفئة في فكرها وإيمانها وصدق ولائها لمجتمعها، وفي استيعابها لمقومات البناء الحضاري في هذه البلاد. [الإسلام والمجتمع السعودي، والعصر القائم].

هَزَّة الإيقاظ:
في الآونة الأخيرة تضافرت عوامل عديدة كانت جديرة بأن تهز النفوس اليقظة للعصرانيين من أبناء المسلمين وأبناء الجزيرة والخليج بالذات، لعل من أهمها:
– الإفلاس الذي انتهت إليه الاتجاهات والمذهبيات التي أزاغ وهخها أبصارهم واستهواهم مدها العصراني في عقود محاضية، هذا الإفلاس الذي انتهى بالانهيار الماركسي[99].
– والصحوة الإسلامية التي برزت تحدياً مذهبياً غنياً لسائر المذهبيات خاصة المروجة منها في عالمنا الإسلامي.
– أما طامة تلك العوامل فهي أزمة الخليج التي كشفت زيف أكبر الأصنام العربية – البعث المقيت – الذي كرس العصرانيون العرب، ومنهم: عصرانيو الخليج جهدهم ووولاءهم له، ولرموزه قبل الكارثة.
والحق أن هذه العوامل هزَّت نفوساً كثيرة بالفعل.
وقد برز ذلك في الصحف بعد أزمة الخليج نقداً للنظام العربي، ولأساسيات الفكر القومي، وللقيم العربية المنهارة، التي لم تزع قيادات فكرية من تأييد الباطل البعثي. ولكن هذه الهزة رغم إيجابيتها لا تخقق قيمتها إلا إذا وجهت توجيهاً سليماً من قبل أصحابها؛ بأن تنتهي – من بني قومنا – إلى مراجعة ذاتية لا يتحول فيها المتبصر من غرفة إلى أخرى، باحثاً عن النور في بيت تياره الكهربي مقطوع أساساً؛ بل لابد من الخروج من البيت وهو هنا: الدائرة العصرانية إلى مصدر النور وهو: دينه، ليستمد منه الضوء الذي يدخل به هذا العصر ليبدد ظلمات غرفه ودهاليزه، عارفاً ما فيه من الأشياء على حقائقها تحت هذا الضوء.
أمّا رفض الخروج من حلقة العصرانية: فإنه يُفقد التغير قيمته؛ لأن ثمرة الكفر تجربة من تجاربها لا تعني سوى التعلق بسواها من التجارب الجديدة.
ومهما زعمنا أننا امتلكنا ثقتنا بأنفسنا، والقدرة على تجاوز المراكز العربية التي كنا نستلهمها ما تبثه من فكر، وتنادي بما ترفعه من شعارات، فإننا سنظل أتباعاً، ولن نشعر لأنفسنا ولا لمجتمعنا بقيمة كيانية ما دمنا في دائرة هذه الحلقة (العصرانية). وهذا ما يُخشى أن يقف عنده أثر أزمة الخليج – خاصة – والتغيرات العالمية بعامة بالنسبة لهؤلاء، بل هوما يشهد به الحال لبعضهم[100].
يذكر الدكتور محمد الرميحي[101]: أن هذه الأزمة هزت المثقف الخليجي، مما عاد به ليحاسب نفسه، يقود متحدياً عن المثقف الخليجي (لقد ثبت بالدليل القاطع أن كثيراً منا غرر في تصوره لما يمكن أن تقدمه الأنظمة التي سميت في أدبياتنا بالثورية... لقد كانت بعض المفاهيم تنفر بعض مثقفينا وطلابنا في الخارج من أهلهم وذويهم، وتغرر بهم لدرجة أن يتنكروا لمجتمعهم).
لقد كان البريق الثقافي لبعض الأطروحات القادمة من الشرق والغرب التي بشر بها بعض المثقفين والسياسيين العرب تبهر بعض شبابنا، فتجد أسباباً عديدة منها: عدم الفهم الكامل لتركيبة، ومسار مجتمعنا، ومنها الانبهار بالجديد، ولم نحاول في السابق أن نسبر أغوار تلك الأطروحات ربما لإحساس بالنقص تجاه الآخرين، أو لتضخيم في المشكلات التي تواجهنا)[102].
ثم ماذا؟
إلى أين بعد هذه القناعات الانفعالية، وبعد أن أصبح – كما يقول – النظام العربي والجامعة العربية – بما حملت من أوهام الوحدة العربية والتنمية، وحقوق الإنسان والأمن القومي – جثةً تحتاج إلى من يدفنها، لا مريضاً يحتاج إلى علاج؟[103].
إلى أين الاتجاه بعد التطواف على مذهبيات الشرق والغرب، وبعد أن أصبحنا (أكثر نضجاً وأكثر فهماً وتفاعلاً، بل وثقة في أنفسنا؟).
الجواب إلى الارتماء سريعاً ودون تلكؤ في أحضان الأيديولوجية الجديدة – كما يسميها – إلى الاندماج في التيار العالمي الجديد إلى الخروج من زقاق الثاريخ إلى طريق الإنسانية السريع الذي يلتحم فيه العالم الآن في مسيرة موحدة تدفعها الليبرالية السياسية والمبادرة الفردية، والنظام المالي المفتوح[104].
وهكذا – كما قال الحارثي – عدنا حيث كنا.
لماذا؟
لأننا لم نخرج من حلقة العصرانية، وإن مقتنا بعض وجوهها.
من هنا أؤكد على استثمار هذه الهزة النفسية لذوي التوجه العصراني في مجتمعنا المتميز.
أدعوهم:
إلى أن يقوموا لله – خالقهم والمطلع على سرائرهم – مثنى وفرادى ثم ينفكروا في لحظات صدق مع النفس، وتجرد من الهوى والعصبية، ليسألوا أنفسهم.
ما حقيقة أهدافهم؟
وما مدى سلامة وسائلهم؟
وما مدى انسجامهم مع هويتهم الحقيقية؟
وما هو المسلك الحق المقنع عقلاً، المرضي وجداناً، الناجع واقعاً، الصحيح شرعاً لنهضة هذا المجتمع فكرياً، واجتماعياً، وحضارياً؟
ولا ريب أن بقايا الفطرة الإنسانية وجذور الإيمان بدينهم، وموضوعية التفكير ستقود من كتب الله له الهداية – نحو موقع جديد سينطلقون منه في توجهٍ جديد، خادمين بفكرهم، وأدبهم، وجهودهم أنفسهم ودينهم ومجتمعهم وأمتهم.
وإخال أن هذا التوجه الجديد سيقوم على منطق لا عهد للدوائر العصرانية في عالمنا العربي به، لعل من أبرز سماته:
1 - التحرر من أسر الثقافة الأوروبية التي تشكل منظومة فكر متشابكة، لا يستطيع الشخص الذي تهيمن عليه أن يقوم شيئاً إلا من خلالها.
2 - التحور من المصطلحات العصرانية التي تمثل في حقيقتها لبناتٍ مختومة بطابع الثقافة التي ولدت فيها وتطورت في ظلها.
3 - دراسة الإسلام دراسة شمولية مركزة تعي الفرق ما بين الوحي الإلهي وتعاليمه الراجعة إليه، وبين النظرات الاجتهادية لآحاد العلماء، فضلاً عن الأفكار الفلسفية والتطبيقات البدعية التي تنسب إلى الإسلام وليس لها به أدنى صلة، وهي التي – غالباً – ما يُسقطها العصرانيون على الإسلام، فيتصورونه من خلالها.
4 - الانطلاق من الإسلام وفق تلك الدراسة بصفته مذهبية مستقلة، لها منطقها ومصطلحاتها الخاصة، ومقاييسها المتميزة، ووجهتها المتفردة في تصور الكون، والوجود، والإنسان، والحياة.
5 - النظر إلى العصر على أنه وعاء تجري فيه حركة الإنسان في سائرمجالات حياته، ما بين صعود، وهبوط، مع وعي أن الرشد هو التفاعل مع هذه الحركة إمداداً لها واستمداداً منها، وفق معيار المذهبية الإسلامية.
وبعد فيا ترى:
ألم يأن للذين يلتمسون النور خارج دينهم متهافتين على الدوائر المظلمة ليقتبسوا – زعموا – من نورها أن يرجعوا وراءهم نحودينهم ونورهم، وأن يتقوا الله في أنفسهم، وفي ناشئة الأمة التي يُطفئون والإيمان في نفوسها، ويطمسون نور الفطرة في صدورها.
ليحذر هؤلاء من التمادي في (ضاعة طاقاتهم الفكرية، ومواهبهم الفائقة في حسرات عليهم، ستبقى ندماً أليماً لمن أدركته رحمة الله، فاهتدى قبل موته، أو تكون حجاباً عن ربهم وختماً يحول بين قلوبهم، والتوبة، فيموتون على ذلك فيكون الهلاك) – نسأل الله العافية –.

ختاما:
أسوق ما حكاه الله عن أمةٍ انتكس رأيها فزهدت بحق بين يديها، وتعلقت بباطل عند غيرها – جهلاً وسفها – يقول سبحانه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}. (الأعراف: 138 – 139 – 140).
ولهذا البلد الكريم، ولكافة أهله اذكر بنداء هتف به العالم الحائر منادياً هذه البلاد، قبل أربعين عاماً، وما زال النداء قائماً.
يقول هذا العالم:
(إنك تجودين عليَّ أيتها الجزيرة العربية بمقدارٍ عظيم من البترول أدير به ماكيناتي، وأسيرّ به عجلاتي، فأنا أدين لك بالفضل وأشكر صنيعك).
ولكني كنت أنتظر منك أيتها الجزيرة السعيدة، يا مولد نبي الرحمة شيئاً، أعز وأثمن من الذهب الأسود، كنت أنتظر منك أن تخرجي له عجلة الحياة التي غاصت في الوحل، وأن توجهيها التوجيه الصحيح، وأن تخلعيى ركابها من هذا المأزق، فقد عجزت حكمة الحماء، وصناعة الصناع من إخراجها، فأخرجيها بما معك من حكمة النبوة، وبقية قوة الرسالة والإيمان واليقين، وسيريها بنور الشريعة الإلهية، والهداية الإسلامية.
وفي الأخير، أقول: إنك يا جزيرة العرب قطعة مني يصيبك خيري وشري، ويصيبك لفحي ونفحي، لا يمكنك أن تعيشي منعزلة عني، فإن أدركتني وأصلحست شؤوني فإلى نفسك أحسنت، أو لا فعليك وعلى أهلك جنيت!)[105].

فهرس المراجع
1 - اتجاهات في الفلسفة المعاصرة – تأليف عزمي إسلام – طبع دار الفكر ببيروت.
2 - آراء نقدية – تأليف د.مهدي فضل الله – ط1/1401هـ، دار الأندلس للنشر.
3 - الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية – تأليف د.قاسم السامرائي – ط1/1453هـ.
4 - الاسلام في معركة الحضارة – تأليف منير شفيق – طبع دار القلم – الكويت.
5 - الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر – منير شفيق – ط2/1407هـ الزهراء للإعلام العربي.
6 - الإسلام والحضارة الغربية – محمد محمد حسين – ط 1/1399هـ – المكتب الإسلامي بيروت.
7 - الاسلام والعلمانية وجهاً لوجه – يوسف القرضاوي – ط2/1411هـ مؤسسة الرسالة بيروت.
8 - أصول التنصير في الخليج العربي – هـ. كونوى زيقلر – ترجمة مازن مطبقاني – ط ا/1410هـ مكتبة ابن القيم – المدينة المنورة.
9 - اغتيال العقل – برهان غليون – ط3/1990م مكتبة مدبولي بالقاهرة.
10 - إنسانية الإنسان – رينيه دوبو – ترجمة نبيل الطويل حـ1/1399هـ مؤسسة الرسالة بيروت.
11 - تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط – يوسف كرم – طبع دار القلم بيروت.
12 - تاريخ الفلسفة اليونانية – يوسف كرم، ط 4.
13 - تجديد الفكر العربي – زكي نجيب محمود، ط6 دار الشروق – بيروت.
14 - تحديث العقل العربي – حسن صعب ط 1/1969م دار العلم للملايين بيروت.
15 - التراث والحداثة – محمد عابد الجابري – ط1/1991م المركز الثقافي العربي بيروت.
16 - تفسير ابن كثير – اسماعيل بن كثير القرشي – دار الفكر بيروت.
17 - التقارير السرية للمخابرات الأمريكية – إبراهيم العربي – المركز العربي للنشر والتوزيع القاهرة – والأسكندرية.
18 - تهافت العلمانية في الصحافة العربية – سالم البهنساوي ط1/1410هـ دار الوفاء بالقاهرة.
19 - جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث – جمال سلطان ط1/1412هـ مركز الدراسات الإسلامية – بريطانيا.
20 - حوار المشرق والمغرب – د.حسن حنفي ود.محمد عابد الجابري ط1/1990م مكتبة مدبولي القاهرة.
21 - شرح العقيدة الطحاوية – محمد بن أبي العز الحنفي – تحقيق د.عبدالله الزير وشعيب الأرناؤوط ط1/1408هـ مؤسسة الرسالة بيروت.
22 - الشريعة الإسلامية والآفاق العالمية – معروف الدواليبي – بحث ضمن مجموعة بحوث قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1399هـ.
23 - الشيخ عبدالله العلايلي والتجديد في الفكر المعاصر – د.فائز ترحيني ط1/1985م منشورات عويدات – بيروت – باريس.
24 - الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الاسلامية – أبوالحسن الندوي – طبع عام 1397هـ – مطبعة التقدم القاهرة.
25 - الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي – مجموعة بحوث بتحرير وتقديم د.سعد الدين إبراهيم ط1/1988م نشر منتدى الفكر العربي الأردن.
26 - صحيح الإمام البخاري – محمد بن إسماعيل البخاري – المكتبة الإسلامية – استانبول – تركيا.
27 - العرب والإسلام – أبوالحسن الندوي ط2/1389هـ – المكتب الإسلامي بيروت.
28 - عصر الإلحاد – محصد تقي الأميني الندوي – ترجمة مقتدى حسن ياسين – طبع دار غريب للطباعة بيروت.
29 - العلم والدين في الفلسفة المعاصرة – أميل باترو – ترجمة أحمد فؤاد الأهواني – طبع الهيئة المصرية للكتاب 1973م.
30 - العلمانية – سفر الحوالي – ط1/1402هـ جامعة أم القرى.
31 - الغارة على التراث الإسلامي – جمال سلطان – ط1/1410هـ مكتبة السنة بالقاهرة.
32 - في الفكر والثقافة الإسلامية – عدنان زرزور ط4/1411هـ – المكتبة الإسلامية.
33 - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين – أبوالحسن الندوي – ط6/1385هـ دار الكتاب العربي بيروت.
34 - محاضرات الموسم الثقاقي لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية لعام 406 – 1407هـ الطبعة الأولى 1411هـ طبع مركز الملك فيصل – الرياض.
35 - المسثشرقون – نجيب العقيقي – ط4 دار المعارف القاهرة.
36 - المسيحية – من سلسلة مقارنة الأديان – د.أحمد شلبي ط9/1995م مكتبة النهضة المصرية – القاهرة.
37 - المسيحية – نشأتها وتطورها – شارل جنيبر – ترجمة د.عبدالحليم محمود – المكتبة العصرية بيروت.
38 - معالم الثقافة الإسلامية – عبدالكريم عثمان – ط4/1394هـ مؤسسة الأنوار – الرياض.
39 - المغرب المعاصر – د.محمد عابد الجابري – ط1/1988م مؤسسة بنشرة – الدار البيضاء.
40 - مفهوم تجديد الدين – بسطامي سعيد – ط1 دار الدعوة – الكويت.
41 - الملك عبدالعزيز والتعليم – د.عبدالله أبو راس – وبدر الدين الديب ط1/1407هـ.
42 - مواقف من تاربخ الكنيسة – رولاند بينتون – ترجمة القس عبدالنور ميخائيل – ط2 دار الثقافة القاهرة.
43 - نقد العقل الوضعي – عاطف أحمد – ط1 دار الطليعة بيروت.
44 - ورقة في الرد على العلمانية – د.محمد يحي ط2/1408هـ – الزهراء للإعلام العربي – القاهرة.

صحف
1 - البيان – الإسلامية – مجلة شهرية – تصدر عن المنتدى الإسلامي – لندن.
عدد 40 تاريخ ذي الحجة 1411هـ.
عدد 41 تاريخ محرم 1412هـ.
عدد 43، 44 تاريخ ربيع الأول 1412هـ.
2 - التوباد – مجلة فصلية – تصدر عن الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بالرياض.
عدد محرم 1410هـ.
3 - الرياض – جريدة يومية – تصدر عن مؤسسة اليمامة الصحفية بالرياض.
عدد يوم 2/11/1412هـ.
4 - العربي – مجلة شهرية تصدر عن وزارة الاعلام بدولة الكويت.
عدد أكتوبر 1991م.
5 - المجلة العربية – مجلة شهرية – تصدر في المملكة العربية السعودية – الرياض.
عدد رمضان 1406هـ.
6 - المسلمون – جريدة أسبوعية تصدر عن الشركة السعودية للأبحاث والنشر.
عدد 340.
عدد 377 في 20/2/1412هـ.
7 - اليقظة – مجلة أسبوعية تصدر عن دار اليقظة الكويتية للصحافة والطباعة والنشر.
عدد شوال 1412هـ.
8 - اليمامة – مجلة أسبوعبة تصدر عن مؤسسة اليمامة الصحفية – الرياض.
العدد الصادر بتاريخ 15/11/1411هـ.
العدد الصادر بتاريخ 11/7 /1412هـ.
العدد الصادر بتاريخ 24/3 /1412هـ.
العدد الصادر بتاريخ 23/4 /1412هـ.
ــــــــــــــــــــــ
[1]  ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين أبو الحسن الندوي ص:163.
[2]  تاريخ الفلسفة اليونانية – يوسف كرم، ص:253.
[3]  انظر في تقرير هذا التغيير الذي أحدثه (بولس) في النصرانية كتاب المسيحية نشأتها وتطورها – شارل جنيبر ترجمة د.عبدالحليم محمود المطبعة العصرية بيروت ص104592) انظر عدداً من النقول عن أساتذة نصارى مثل ويدي، وبري الذي يقول (أن بولس هو في الحقيقة مؤسس المسيحية بل واعترف الفاتيكان بهذا – المسيحية – أحمد شلبي، ص111 – 130 – الطبعة التاسعة 990 –.
[4]  انظر شارل جنيبر – المسيحية نشأتها وتطورها – مرجع سابق ص104 حيث يذكر تأثير المذاهب والنظريات التي كانت تعمر عقول الناس قبل تلقي المسيحية حيث يدخلون هذه المذاهب والنظريات في المسيحية التي يعتنقونها وكذلك تأثير للفلاسفة.
[5]  انظر تحليلاً نقدياً لمسيرة أوروبا – ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين مرجع سابق ص:156.
[6]  لم يكن النقل مقتصراً على كتب الفلسفة والعلوم التطبيقية والرياضية فقد ترجمت النصوص الشرعية – القرآن والسنة وسيرة الرسول ترجمات مشوهة حتى عد الدكتور قاسم السامرائي هذا القرآن المترجم (قرآناً جديداً مصنوعاً في الغرب) وكان الهدف من هذه الترجمات تشويه الإسلام أمام الأوروبيين أما كتب الفلسفة والعلوم الطبيعية التي ترجمت لتدرس فكان المقصود منهجها العقلي المتحرر واستثمار طرائقها البحثية التجريبية انظر – قاسم السامرائي الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية ص3546، ط1، 1403هـ.
[7] روجر بيكون هذا يعتبر من نافلي التراث الإسلامي إلى أوروبا، فقد ترجم كتباً من العربية، ويعتبر من المشجعين الأوائل على تعلم اللغات الشرقية، والعربية بالذات. انظر تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط – يوسف كرم 154 وانظر كذلك: المستشرقون – نجيب العقيقي (1/120).
[8] الفلاسفة والمعتزلة الداعون إلى العقلانية في الدراسات العقدية، إنما كانوا يدعون إلى نسق معين تمثل بالفلسفة العقلية الوافدة عليهم من فلاسفة اليونان ومن تأثر بهم.
[9] انظر: (العصرانية) السيد الشاهد – مجلة التوباد، محرم 1410 هـ، ص: 149.
[10] انظر في هذا فصل ((علمانية الحكم)) من كتاب العلمانية – د.سفر الحوالي، ص209.
[11] من أبرز هؤلاء الراهب لويزي في دراسة له للأناجيل، وجورج تيريل في كتابه (برنامج العصرانية). انظر هذه المسألة بتوسع في: مفهوم تجديد الدين – بسطامي، ص108.
[12] يصور أحد الغربيين حالتهم مع الدين قائلاً: إننا نعبد الدولار طيلة أيام الأسبوع، معبدنا البنك إليه تهفو نفوسنا وله يتجه سعينا، ولكننا مع ذلك نعبد الله متجهين إلى الكنيسة جزءاً من يوم الأحد!
[13] انظر: عصر الإلحاد محمد تقي الأأميني، ص:64، والإسلام والحضارة الغربية – محمد محمد حسين، ص185.
[14] العلم والدين في الفلسفة المعاصرة – أميل باتروا، ص19.
[15] في الفكر والثقافة الإسلامية – عدنان زرزور – ص31 – 32.
[16] وفي هذا الإطار لم جد الرئيس الأمريكي (جورج بوش) في حملته الانتخابية للعام 1992 حرجاً من تمجيد الدين والدعوة إلى التمسك به، واعتبار الإيمان هو سر عظمة أمريكا، وأن رئيس أمريكا لابد أن يكون مؤمناً، مع أن أمريكا دولة عصرانية – تجعل الشعب مصدر السلطات والتشريع وتنظم قوانينها على أساس الدراسات العلمية والواقع الاجتماعي بعيداً عن الدين الممجد.
[17] ولعل هذا من أسباب كون النصارى أكثر تجاوباً مع الدعوة الإسلامية وأسرع دخولاً في الإسلام من الوثنيين والملحدين؛ لأن عناصر الحق من دينهم تمثل خطوة نحو الإسلام.
وقد صور ما ذكرناه ((يوسف إسلام البريطاني)) في قصة إسلامه، حيث إنه لم تسترح فطرته للمسيحية، فتعلق ببعض الديانات الصينية، ثم بالماركسية، ولكنه عاد إلى النصرانية مرة ثانية، أنها أخون قسوة على النفس من تلك، حتى اهتدى إلى الإسلام أخيراً، فاستقر بفطرته المقام. انظر: المجلة العربية – رمضان 1406هـ.
[18] انظر مثلاً لهذا التأرجح في مجال الدين لدى العالم 0رينيه دوبو) الحائز على جائزة نوبل للعلوم في كتاب أخرجه عام 1970م، وهو: إنسانية الإنسان – فهو تحت ضغط الحضارة المادية يتجه – ناقلاً عن هوايت الابن – إلى أن الأمل الوحيد لإنقاذ العالم هو الاتجاه الديني العميق، لكنه في مكان آخر ينقد المسيحية بما فيها مت تفتت وإبهام وفلسفة زائغة – انظر: إنسانية الإنسان – ترجمة: نبيل الطويل، ص15.
[19] ولا شك أن الدين سيتحول إلى مسخ جديد، وإن أبقى له اسم الدين، إذ سيكون شبيهاً برجل طعم بهرمون أنثوي، فرق صوته، وتساقطت لحيته وارتفع صدره، ولكنه أصبح مسخاً لا هو بالأنثى، ولا بالذكر.
[20] قد يبدأ الناس مسيرة معينة، مستهدفين هدفاً محدداً، ولكن النتائج لا تأتي على ما رسموا، وهذا ما نريد قوله عن العصرانية على اقتراض حسن الظن.
ولقد كان ديكارت مؤمناً بوجود الله، محترماً للدين، ولأحقية الوحي في الحديث عن عالم الغيب، ولكن فلسفته العلمية انتهت باتباعه إلى الوضعية الملحدة.
وهذا ما ينبغي أن يعيه القادة والمفكرون المسلمون في دفعهم الأمة إلى التفاعل مع العصر، حتى لا ينتهوا بها إلى مواقع لا يرضاها دينهم، ولا تسعد بها أمتهم.
إن نبل المقصد وصدق النية لا يكفي وحده، إذ لابد معه من سلامة المنهج وانضباط الحركة، وفي نهايات علماء الكلام قديماً، والعصرانيين في الأمة حديثاً آية للمعتبرين.
[21] انظر تحليلاً لهذا التيار بين التسميتين (العلمانية والعصرانية) في مقالة العمرانية – مجلة التوباد، ص148، عدد عام: 1410هـ – للدكتور السيد الشاهد، ولعل له الريادة في هذا التحديد.
وانظر – بالمقابل – مفهوم تجديد الدين – بسطامي سعيد، ص95، 115. حيت انتهى إلى جعل العصرانية تعريباً للفظة (modernism  ) وقد رأيت من خلال ما مر أن العصرانية تصدق على المصطلحين معاً.
[22] له كتاب عنوانه (خرافة الميتافيزيقيا) أي: خرافة ما وراء الطبيعة – الوجود الغيبي.
[23] الأستاذ عاطف احمد في كتاب (نقد العقل الوضعي).
[24] يفرق د.محمد هدارة بين المصطلحين فيجعل الأول هو الذي يصدق على الحداثة بمفهومها الشامل المذكور ويجعل الثاني مقصوراً على التفاعل مع ظروف العصر دون الانقطاع عن الماضي أي العصرية التي ستأتي في صفحة 74 انظر محاضرة هدارة – الحداثة والثراث، ص77، من محاضرات الموسم الثقافي لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية لعام 1486 هـ – 487.
[25] برهان غليون – اغتيال العقل – ص: 194.
[26] انظر: مجلة البيان – الإسلامية – ص: 19، العددان: 43، 44 1412هـ، حلقات الدكتور أحمد خضر بعنوان (علماء الاجتماع والعداء للدين وللصورة الإسلامية).
[27] صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام. انظر: تفسير ابن كثير (2/67).
[28] هذا الحكم للعموم، لكنه ليس عاماً لكل الناس، بل ولا كل البيئات، فقد ظهر خلال القرون المتأخرة فحول من العلماء المتحررين من ضغط الثقافة المهيمنة في وقتهم، وقد تجاوز تأثيرهم أنفسهم إلى بيئاتهم، فحركوا راكد فكرها، وردوا أهلها إلى الأصول الصحيحة التي بها حياة فكرهم وسلوكهم السليمة إلى الكتاب والسنة.
انظر توسعاً في تصوير حال المسلمين في القرون المتأخرة:
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، مرجع سابق ص: 129.
العلمانبة – سفر الحوالي، ص: 507.
الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام عبدالستار سعيد.
[29] سوى هؤلاء هناك صنف آخر من المسلمين رزقه الله سداداً في الموقف تجاه مدنية الغرب الغازية لفكره ودينه، فرجع إلى أساس إيمانه، إلى دينه.. إلى الكتاب والسنة، وجعلهما معياراً يزن بهما واقع أمته ووافد المدنية الغربية لينفي الخبث من كليهما، ويأخذ السليم منهما.
[30] تنكشف حيناً بعد حين عمالة بعض الأشخاص المؤسسات والدول، من خلال الأحداث أو رجال المخابرات مثل مايزكويلاند في لعبة الأمم وجورج آدمز في التقارير السرية للمخابرات الأمريكية الذي ذكر سعة هيمنة هذه المخابرات على المثقفين والصحافة ودور النشر لتسخيرها فيما يسهل من مهمة الحكومة الأمربكية في السيطرة على الشرق الأوسط وكانت من مهارة التغلغل؟ بحيث أن مجلة مثل (حوار) اللبنانية ظلت زمناً لم يكشف أن تمويلها الرئيس من المخابرات الأمريكية مباشرة، مما حدا برئيس تحريرها توفيق صائغ إلى الاستقالة أثر افتضاح المجلة. أنظر: التقارير السرية إبراهيم العربي، ص49.
[31] أنشئت المنظمة في أوائل السبعينات الميلادية، وهي منظمة منحرفة في توجهاتها ورجالها، وعامة من تستعين بهم في أنشطتها، فهي تستبعد من يحمل فكراً إسلامياً، وتحارب الفكر الإسلامي ذاته.
انظر: صحيفة المسلمون، عدد (340) – مقالة (غزو من الداخل) جمال سلطان.
[32] انظر: الغارة على التراث الإسلامي جمال سلطان ص: 130.
[33] انظر في هذا: الغارة على التراث الإسلامي مرجع سابق، ص: 130.
وصحيفة المسلمون – عدد 340/29/12/1412 هـ – الحلقة الأولى – لجمال سلطان من (غزو من الداخل). وجدير بالذكر أن المنظمة الإسلايبة للتريية والعلوم والثقافة (ايسكوا) بصدد إعداد استراتيجية للثقافة الإسلامية، نأمل فيها الاستقامة والنفع للمسلمين.
[34] يعترف الدكنور غسان سلامة أستاذ في جامعة السوربون – في ندوة الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي – المنعقدة في الأردن في 1987م – وهو يتحدث عن الصحوة (بأنه ما زال عدد منا يشك في مجرد وجودها) ص: 388، من الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي تحرير – الدكتور سعد الدين إبراهيم.
[35] الإسلام والهوية – د.على الكنز – عن مجلة البيان الإسلامية – عدد (41)، ص: 12. في مقال (علماء الاجتماع والعداء للدين وللصحوة الإسلامية لأحمد خضر.
[36] اغتيال العقل، ص: 202.
[37] انظر: مجلة (البيان) الصادرة عن المنتدى الإسلامي – عدد: 740، ص: 44.
مقال. د.احمد خضر – علماء الاجتماع والعداء للدين وللصحوة الإسلامية.
[38] أعتى من هذا الصنف التقليدي الذي بقى رغم تغيرالأحوال ينفخ في بوقه القديم صنف زادت حدة هجومه، وتوسع في توزيع ضرباته في الأمة وهو الصنف الذي يطلق عليه الأستاذ جمال سلطان في صحيفة (المسلمون) (ظاهرة محمد أركون) نسبة إلى رمز من رموزه، فقد كان انعكاس التحول الاجتماعي الذي يسير فيه المجتمع المسلم نحو أصالته ديناً وتاريخاً وتراثاً ليجعلها فاعلة في حاضرها موجهة لحركة المشتغلين – كان انعكاس هذا التحول – على هذه الفئة مفزعاً – لما تحمله من طموحات مضادة – لذا قررت تصعيد المواجهة لا مع الواقع العربي فكراً وحركة فحسب، بل مع منازع الأمة بصورة شاملة، مع دينها، وقرآنها، ورسولها وتاريخها وتراثها، فضلاً عن فاعليتها الحاضرة.
ويلحظ كات الدراسة: أن هناك خيطاً يربط هذا النسق من أشخاص هذه الظاهرة وهو انتماؤهم إلى أقليات مذهبية، أو طائفية، أو عرقية. صحيفة المسلمون – عدد: 377، ص80.
[39] المغرب المعاصر – محمد عابد الجابرى، ص: 75.
[40] انظر إن شئت مزيد وضوح في هذه القضية – جذور الإنحراف في الفكر الإسلامي الحديث جمال سلطان، ص71.
[41] انظر: حوار المشرق والمغرب – حسن حنفي ومحمد عابد الحابري، ص 45، وكذلك الغارة على التراث الإسلامي (مرجع سابق)، ص: 131.
[42] في هذا كتب الدكتور الجابري دراسة فكرية مطولة ومركزة بعنوان (نقد العقل العربي).
[43] إلى هذا يوجه د.برهان غليون في (إغتيال العقل) وإن كانت له مواقف تتسم بالحدة تجاه الصحوة.
[44] العلمانية – د.سفر الحوالي، ص: 586.
[45] الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر – منير شفيق، ص148 – 149.
[46] الدين في مواجهة العلم وحيد الدين خان، ص: 95.
[47] على حد قول الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة 
فلابد أن يستجيب القدر
[48] لفظة عربية بمعنى التجميع والإمساك، سواء كان لصيد أو مال أو متاع، انظر: حوش في المعاجم اللغوية.
[49] أنانية الإنسان – رينيه دوبو، ص: 19.
[50] تعريب للفظة (برجماتزم) التي تعبر عن فلسفة يرى أتباعها أن قيمة المعتقدات والقيم الخلقية نابعة من أثرها، فما حقق منفعة للإنسان، فهوحق وخيروصحيح والعكس بالعكس، ومن أبرز روادها: وليم جيمس، وتشارلز برمر، وجون ديوى.
انظر: اتجاهات في الفلسفة المعاصرة – عزمي اسلام، ص: 85.
[51] يلاحظ بعد أزمة الخليج أن هناك تركيزاً هادفاً على هذا المنحى – المصالح لا المبادئ – مستغلين المفارقات التي حدثت في تلك الأزمة، ومنتهين من ذلك إلى أن علاقاتها المصلحية هي التي ساندتنا، وأن علاقاتنا الأيديرلوجية لم تسعفنا بالمستوى الذي كنا نرجوه.
[52] ذكرت الصحف ومنها (المسلمون) أن لندن وعدة مدن بريطانية شهدت منذ سبتمبر1991م لمدة ستة أشهر عروضاً ومهرجانات يابانية تقدم فيها أبرز مظاهر الحضارة اليابانية الثقافية والفنية والعلمية والمسرحية والرياضية. ويقول الخبر: إن هذه العروض تتناول الحياة اليابانية منذ القرن السابع حتى القرن الثالت عشر الميلادي، بعيداً عن النجاح الاقتصادي والتقني الذي ارتبط بصورة اليابان حاضراً، ويهدف اليابانيون من ذلك إلى إثبات أنهم رغم تقدمهم التقني والاقتصادي الباهر ما سزالون مشدودين إلى تراثهم وتقاليدهم بكل خصوصياتها.
[53] تجديد الفكر العربي، زكي نجيب محمود، ص: 189.
[54] التي هي بدورها مجال استهتار – كما يتضح في المسلسلات المُمَثَّلة – حيث يكون الملتزم بالحق الذي لا يغش ولا يسرق مجال سخرية الذين يعون عصرهم، فينتهزون الفرصة المواتية لالتهام ما تيسر لهم، دون تعثر في تلك القيم والمثل.
[55] بل وغير الغربية من عادات الأمم المختلفة البدائية عن طريق العمال والخدم، والأفلام.
[56] هذا ما يراه د.محمد الجابري في مشروعه للنهوض بالخطاب السياسي العربي، ولعلق محمود أمبن العالم على هذا الرأي بأنه: (دعوة تنويرية وتغييرية واعية ما أشد الحاجة إليها). أنظر: التراث والحداثة – محمد عابد الجابري – مركز دراسات الوحدة العربية، ص: 347، 348.
[57] هذا في الأمور التي فصل الله ورسوله فيها الأمر؟ أما القضايا الإجتهادية فدائرة بين المجتهدين، ويبقى ما وراء ذلك من المجالات المفتوحة لكل إنسان في ظل الضوابط الشرعية.
[58] المجال هنا: مجال عرض للمظاهر، لا معالجة للمسائل، لكني أشير إلى أنه إن وجد الغرب مبرراً لصيحته بالحربة من سطوة رجال الكنيسة باسم الله، فلا مبرر للمسلم في إطلاق تلك الدعوة، لأن تكريمه بالعبودية لله يحرره من أي عبودية لسواه.
بل إن مقام الإنسان في الإسلام أرفع من مقام حرية يُرفع عنه بها مجموعة قيود أنه مقام التكريم (ولقد كرمنا بني آدم)، هذه الكرامة التي تقتضي احتراماً له، ورعاية لحقوقه، من قبل دولته ومجتمعه والأفراد من حوله، فأين هذه من تلك؟
[59] التعبير للأستاذ تركي السديري في زاوية/ لقاء – الرياض 2/11/1412هـ مقال جميل بعنوان ((الشكل)).
[60] مثل: مسابقات ملكات الجمال، وفتيات العلاف والفن والتمثيل، حيث يكون جمال الشكل المعيار المقدَّم للبروز.
[61] الخطورة في هذه المفارقة هي: أن الإنسان قد تستخفه الشهوات في حالات الرخاء، فينساق معها مع شعوره بمخالفته للحق.
ولكنه في حالات الشد والمصائب يركن إلى الطبيب، مع صعوبة ما يقوه على نفسه تاركاً المُهَرِّجَ رغم إضحاكه، ويأخذ بالعلاج مع مراراته، تاركاً المطعوم اللذيذ.
فإذا ما رفض الطبيب والعلاج مع فتك المرض به، وصاري يهيئ للمرض وسائل فتك أسرع بجسمه فإنه يكون قد انتكس في عقله، بل وفسدت غريزته الحيوانية، وعاد في مستوى دون البهيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[62] صحيفة المسلمون، ص: 9، عدد: 20/2/1412هـ، والنص للدكتور سعيد البازعي – المدرس بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة الملك سعود.
[63] انطر: مجلة اليمامة – مقابلة مع حسن العلوي ص: 38، عدد يوم 15/11/ 1411هـ.
[64] التأثير البشري في الكتب المقدسة – عند النصارى – أمر بدهي عند المفكرين والفلاسفة، لا من هم خارج الكنيسة، بل حتى لدى كثيرمن رجالها وشارحي تلك الكتب، مثل: (وليم باركي) وغيره.
انظر في ذلك – المسيحية – أحمد شلبي، ص: 213، 215، مواقف من تاريخ الكنيسة – رولاند بنيتون، ص38، 100، تاريخ الفلسفة الأورويية في العصر الوسيط، يوسف كرم، ص: 109.
[65] انظر: تحدبث العقل العربي – حسن صعب 119، حيث يكرس هذا الرأي.
[66] آراء نقدية – مهدي فضل الله، ص: 92، وانظر: الشيخ عبدالله العلايلي والتجديد في الفكر المعاصر فايز ترحيني، ص 336.
[67] في محاضرة له بعنوان (مناهج العلوم الإنسانية ومشكلاتها) ضمن محاضرات الموسم الثقافي لمركز الملك فيصل لعام 1406 – 1407هـ، ص: 192.
[68] لعل الشيخ الغزالي في آرائه التي ثارت عليها موجة الرفض يمثل نموذجها.
[69] يمكن أن يؤخذ د.محمد عمارة كنموذج في بعض كتاباته المتأخرة.
[70] جرت على علماء الكلام والفلاسفة في العصر العباسي قبل هؤلاء، حيث وقعوا في الحيرة والاضطراب الفكري – كما اعترف كثير منهم – أمّا المسلم المعتصم بوحي ربه فإن اعتصامه به يورثه يقيناً فطرياً بالحقائق واستقامة على وجهة هذا الوحي المحددة، ممَّا يجعله يقظاً أمام كل فكرة مناقضة لحقائق تلك الوجهة الواحدة، تشمئز منها فطرته قبل أن يُسقطها فكره.
[71] انظر: نماذج من العصرانيين وأنواعاً متفاوتة من أفكارهم العصرانية في:
1 – العصريون معتزلة اليوم – يوسف كمال.
2 – غزو من الداخل – جمال سلطان.
[72] العقيدة حسب ما هومصطلح عليه في علم الكلام، وإلا فإن كل ما أخبر الله به يمثل مناطاً لاعتقاد المسلم.
[73] المنهج السليم: هو أن الحكم على الأقوال والأشخاص يتم من خلال المصطلحات الشرعية فحسب دون المصطلحات المولِّدة التي لم تضبط بالتحديدات الشرعية.
انظر: الجواهر النقية من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، ص:12.
[74] العصراني: هو الشخص الذي اتخذ العصراية نهجاً له، أو حمل أفكاراً كثيرة منها، أو دعا إليها؛ أمَّا شحص تحدث منه فلتات عمرانية محدودة فإنه لا يسوغ وصفه بها، وإن أُدين ما اقترفه من فلتات، فقد قال الرسول – r – لأبي ذر حينما فلتت منه نعرة عصية تجاه بلال: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)).
صحيح البخاري – كتاب الإيمان، ص: 22. ولم يقل r إنك أصبحت جاهلياً.
[75] انظر: مجلة التوباد – عدد: محرم 1415 هـ، ص150، وكذلك الصراع بين الفكرة الإسلامية، والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية للندوي، ومعالم الثقالة الإسلامية – عبدالكريم عثمان، ص: 163.
[76] مجلة اليمامة 42 – 11/7/1412هـ – مقال التحريص الثقافي والاحياء – للدكتور عثمان الرواف.
[77] الصحوة الاسلامية وهموم الوطن العربي (مرجع سابق)، ص: 277، 353، وانظر في الكتاب نفسه البحوث الثلاثة عن (الصحوة الإسلامية والثقافة المعاصرة) للجابري وهشام جغيط، ورضوان السيد، والمداخلات عليها.
[78] وغير المعاصرة من الثقافات البشرية حتى ثقافة المسلمين أنفسهم.
[79] مثلاً: الايمان بالكتب يمثل الايمان بأن الكتب السابقة قد خرفت، وأن أهلها قد ضلوا، وأن القرآن محفوظ من التحريف، ومنزه عن الباطل. والإيمان بالرسل يدخل فيه الإبمان برسالة محمد – r – بما ورد لها من خصائص – كنسخها لما سبق، وختمها للرسالات، وانحصار الدين الصحيح في اتباعها، وعموميتها للناس... الخ.
[80] جيل الصحوة هنا، عَلَم على اتجاه، وهو الاتجاه الوسطي الذي تحرك ذووه في الواقع باتزان بين علم شرعي، ووعي واقعي يقوم عليهما منهج حركة. وعليه: فإن وجود أفراد، أو جماعات تأوي إلى هذه الراية، وهي لا تُمثِّل هذا الاتجاه – إسلامياً – إنْ بالغلو أو بالتفريط ليست في حسباننا.
[81] هذا إذا حدث يمثل تحولاً إلى الضد من مواقفهم، وقد يحدث هذا إذا وعوا حقيقة أخرى وعياً إيمانياً شعورياً، وهي: أن الإسلام – الذي تقوم عليه إسلامية المسلم وإسلامية ثقافته – مُنزَّل من عند الله، متعال على الزمان والمكان ونسبيات الفكر البشري، ممَّا يُقر في خَلّدهم أنه الحق، وأن ما يضاده باطل، مهما كان مصدر هذا المضاد، تمكناً ونضجاً، وبهذا يتخطون مشكلة أخرى لهم مع جيل الصحوة، حيث ينتقدون هذا الجيل بأنه لا يقدم مذهبيته ومنهجه، على أنه أطروحة قابلة للنقاش والأخذ والرد والامتزاج مع الأطروحات الأخرى، وإنما يقدمها على أنها أيديولوجية إلهية متفرقة على كل أطروحة بشرية قائمة أو ستقوم؛ ومن ثم فدورها دور نضالي إحلالي تجاه الأفكار البشرية المقابلة، لا تركيبي وامتزاجي معها.
انظر: الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي (مرجع سابق)، ص: 347. وأساس هذا النقد لديهم تعاملهم مع الإسلام كغيره من الثقافات والأديان بصفته إرثاً بشرياً قابلاً للخطأ والصواب – لا وحياً إلهياً قطعي الحقائق، وهذا التصور ناتج – بدوره – عن الحلقة التي تشكل داخلها تفكيرهم وهي: الفكر الغربي – العصراني – الذي لا يتجاوز بالقيمة العلمية – لتعاليم الدين سوى الفكر البشري.
[82] يقول الدكتور محمد يحيى ((إن العلمانية محاولة فاشلة لفرض التخلف في العالم الإسلامي بإبعاد الدين عن الحياة، وحصاره قي الزوايا والموالد، وهي نفسها بتقليدها الكامل وتبعيتها للغرب نوع من التخلف والجمود العقلي، والقعود عن الابتكار واكتفاء بقوالب جاهزة، وأفكار ماتت في الغرب نفسه، ونقلت عنه في أشكالها البدائية...)).
ورقة في الرد على العمانية د.محمد يحيى، ص: 101.
[83] شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز – تحقيق: التركي والأرناؤوط (2/546).
[84] وقد كانت الصدمة لبعض مفكري الخليج من مواقف رواد الفكر والأدب – العصرانيين – من أزمة الخليج التي اسقطوا بها مقولاتهم في الحرية والديمقراطة ونحوها – كانت من الشدة بحيث دعت الدكتور حسن الإبراهيم إلى دعوة هؤلاء – عبر صحيفة الشرق الأوسط – إلى الانتحار؛ لأنهم سقطوا.
[85] هذه سنة الحركة في الحياة (التخلية ثم التحلية) أو النفي ثم الإثبات على منطق الشهادة (لا إله إلا الله)، فقد كشفت الصحوة جهودها لتطهير المجتمع المسلم من أدران العصرانية، داعية الناس إلى العودة للإسلام دون تفصيل، ولكنها لابد لها بعد أن أدت دعوة تجاوز الواقع العصراني والتعلق بالاسلام أثرها أن تفصل حياة الناس على مقاسات الإسلام مع مواصلة جهاد العصرانية التي ستمثل وضعاً عدائياً قائماً لن يستسلم بشكل تام، حتى مع ظهور الإسلام.
[86] الاندماج في عملية الهدم دون التخطيط لما بعدها يوقع الناس في حيصة بعد أن يتهيأوا للتخلي عن البنيات السابقة لهم، حينما يشعرون أنهم سيصبحون في الخواء؛ نتيجة النقص في البدائل، أو عدم استوائها لدى الذين قاموا بعملية الهدم. لذا فقد يلعب العصرانيون على الحبل فيقدمون للناس بدائل عصرانية عن البنى السابقة، وكم بذل المسلمون من دماء في محاربة المستعمرين والطغاة، ثم قطف الثمرة سواهم.
[87] ولقد اهتبل بعض العصرانيين هذه الثغرة، فأعلموا حبُّهم للإسلام، واستعدادهم لخدمته، ومن ثم خلعوا على أنفسهم لقب المفكرين الإسلاميين، وبدأوا يقدمون للناس منهج حركة الحياة المطلوب، من حلال رُؤاهم المشبوهة، أو على الأقل الناقصة.
[88] أمّا العامة والمثقفون ثقافة لا تؤهلهم للريادة في هذا المجال، ينبغي أن يعوا دورهم تلقياً من المؤهلين، وحماية لمشروعهم الإسلامي، ومن الخطأ أن ينعكس الأمر فيُصبح الرواد تبعاً للعامة، ينفعلون بآرائهم ولو كانت فجّة، ويدارونهم ولو على حساب الحق.
[89] مبحث (العصرانيون ومفاجأة الصحوة الإسلامية)، ص: 38.
[90] رواه الشيخان وغيرهما. انظر: صحيح البخاري – كتاب فضائل المدبنة، الباب السادس.
[91] هذه الفلسفات والنظريات ترزع – وللأسف – في نفوس أبناء المسلمين وتعليم كثير من البلاد المسلمه، مما يؤدي إلى زعزعة بقايا الفطرة والتقاليد الإسلامية التي يعيشها مجتمعه، إذ الغالب في تلك المناهج أنها تعرض الفلسفات والنظريات المخالفة للإسلام، دون عرض مقابل للإسلام، ومنهجه، وموقفه. من تلك الفلسفات.
[92] ليس بين التفاعل مع الفكر البشري فلسفياً وعلمياً، وأصالة الإنسان الفطرية مفارقة لأن الفطرية هنا لا تعني البدائية فكراً أو حياة إنما تعني بقاء الأوليات العقلية (سواء من منطقيات المعرفة أو في الأخلاق) حية حاضرة في نظر الإنسان وممارسته خلافاً لإنسان ينشأ في جو مضطرب تسوده فلسفات لا منطفية، وله فيه أدب الاغتراب، ونحو ذلك مما يؤدي إلى مسخ فطرته.
[93] انظر وضوحه في أقوال حكام هذه الدولة في:
– خطب الملك عبدالعزيز.
و(وثائق للتاريخ) صادر من وزارة الإعلام السعودية.
وقد أجمل الملك فيصل – رحمه الله – هذا العنصر بقوله: ((البيت السعودي بيت دعوة قبل أن يكون بيت ملك)).
الملك عبدالعزيز والتعليم د.عبدالله الرواس، وبدر الدين الديب. ص: 17.
[94] بالنسبة للوضع العام.. أمّا التفلتات الشاذة فلا تمثل من المجتمع، ومن ثم فهي ساقطة الاعتبار.
[95] كالجامعات الإسلامية، وهيئات الدعوة، ورابطة العالم الإسلامي، والندوة العالمية للشباب الإسلامي.
[96] أصول التنصير في الخليج العربي – هـ. كونري زيقلر – ترجمة: مازن مطبقاني، ص: 33.
ويذكر أنه في عام 1914م عرض المبشر الطبيب مايلريا على الملك عبدالعزيز – رحمه الله – تأسيس مستشفى للبعثة في الرياض، فرفض الملك ذلك رفضاً حاسماً – 65 من المصدر نفسه.
[97] هذا الوعي الذي يمثل فهماً صحيحاً لحقيقة الدين الذي جاء به رسول الله – r – ورضيه المولى – سبحانه – لعباده – في هذه البلاد – من أثار دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – ذلك أن تصور المسلمين لدينهم كان قد أصابه الغبش حتى قبل ظهور العصرانية في سائر البلاد في عصور الضعف عند المسلمين.
[98] وقد كثسفت أزمة الخليج من فضائح هؤلاء المثقفين العرب! ما فيه عبرة لأولي الألباب.
[99] في عام 1974م كنتيجة لصيحات النقد الموجهة لنظم العالم القائمة عقدت هيئة الأمم المتحدة بكامل أعضائها اجتماعاً (دار البحث فيه عن نظام جديد، وأقروا بالإجماع: إن النظامين القائمين، والأنظمة العالمية السائدة أصبحت غير صالحة لقيادة العالم المتحضر، الذي أصبح الإنسان يفتش فيه عن قيمته وكرامته.. وقرروا رجوب إنشاء نظام جديد على قواعد جديدة، وأحبل هذا القرار إلى الجهاز العلمي للأمم المتحدة – اليونسكو) الشريعة الإسلامية والآفاق العلمية، ص: 3، معروف الدواليبي – بحث ضمن بحوث قسم الثقالة الإسلامية – بجامعة الإمام، لعام 1399 هـ.
[100] ولعل هدا ما يشير إليه الدكتور فهد الحارثي في شيء من العتب حينما قال: إن أزمة الخليج كشفت عن أنا كنا (نفكربطريقة خاطئة، وأن نمط تعاملنا مع الأخرين كان يبلغ مداه في الفشل، وأن كل شيء ممّا كنا نفعله كان يمشي على عكسه، وهو زائف، وهو براق، وهو خادع...). ولكنه يقرر أن هذا الكشف لم يحقق تغييراً إيجابياً؛ إذ (لا زلنا نفكر بنص الطريقة، ولا زلنا نأتي ما اعتدنا من ممارسات وتصرفات)، ثم يحذر مثفقاً (إننا خائفون.. – خائفون جداً أن يكون هذا الغد ليس أكثر من تكرار مسخ لذلك الأمر، فتصبح الأزمة مجرد ذكرى أو حلم مزعج قضي وانتهى، ثم عدنا كما كنا).
انظر: مجلة اليمامة، ص: 11، العدد: 1174 في 24/3/1412 هـ – وانظر أيضاً: منير شفيق – الإسلام في معركة الحضارة حيث ينبه إلى خطورة هذا الموقف الذي يقفه العصرانيون حيث يقوم نقدهم لبعص صور الحداثة الفاشلة على أرضها، وضمن منطقها – الغربي (وهذا ما يبقينا في الأرض ذاتها، ولا يكون نقدنا غير صدى لما يجري على أرض الفرنجة من صراعات)، ص117.
[101] مفكر كويتي رئيس تحرير مجلة العربي وصوت الكويت.
[102] مجلة اليمامة، ص: 50، عدد 13/4/1412هـ.
[103] المقالة الافتتاحية لمجلة العربي بعنوان ((سقوط الأوهام))، عدد أكتوير 1991م.
[104] المصدر السابق.
[105] العرب والإسلام، ص: 22، أبوالحسن الندوي.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • النظام الاجتماعي الإسلامي ودوره في التنمية
  • المفسدون الثلاثة
  • كيف تفكر بطريقة عصرية؟

مختارات من الشبكة

  • أبناء عبدالله بن عمر العدوي حياتهم وأثرهم في الحياة الاجتماعية والعلمية في المدينة المنورة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • صور واقعية من حياتنا الاجتماعية(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • صور واقعية من حياتنا الاجتماعية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الحضارة المعاصرة من منظور شرعي(مادة مرئية - موقع ثلاثية الأمير أحمد بن بندر السديري)
  • كيف نحيا ألف حياة وحياة؟(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • خطبة: حياتنا واللحظة الفارقة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • القرآن منهاج حياتنا (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • تعظيم الله وأثره في حياتنا (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • كيف تؤثر الصلاة في حياتنا (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أمي تتدخل في تفاصيل حياتنا(استشارة - الاستشارات)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 12/11/1446هـ - الساعة: 18:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب