• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    موقف أبي موسى الأشعري مع جندي من جنوده
    الشيخ عبدالعزيز السلمان
  •  
    النقد العلمي
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت ...
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

التعصب

التعصب
د. بليل عبدالكريم

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 2/2/2012 ميلادي - 9/3/1433 هجري

الزيارات: 82512

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

حينما يبزغُ نجمُ أيِّ أمَّة، وتأخُذ في صُعود مَقامات القوَّة والتحضُّر، تدرج الأمَّة مدارج النَّشأة والتكوين، فتستنفد طاقات أفرادها فُرادَى وجماعات، فنجدها "وقد استفزَّت أحسن ما في أفرادها من الإمكانات والمواهب والقُدرات، في كافَّة المجالات السلوكيَّة والاجتماعيَّة والعلميَّة، كما نجدُها كذلك وقد أماتت ما بين أفرادها من نزعات هدَّامة، تخرج بها عن طريقها المرسوم، فنجدها تشقُّ طريقها بقوَّةٍ، وبسرعة حتى تظهر على مسرح الحياة قويَّة فتيَّة، لا مجالَ للضعف والتفرُّق بين أبنائها، ثم لا تلبث أنْ تصل إلى طور الاستقرار والتوسُّع، الذي غالبًا ما يصحَبُه الغنى بعدَ الفقر، والترف بعدَ الخشُونة، والحضارة بعدَ البَداوة، فتُستَبدل شيئًا فشيئًا بمشاعر القوَّة والاندِفاع؛ مشاعر الترف والتَّنعُّم، ويبدأ أفرادها في الانشِغال بما بين أنفسهم، بدلاً من الانشِغال بِمَن هم خارج كيانهم من أعداء مُتربِّصين، فقد أمنت حُدودهم وتوسَّعت رُقعتهم، فإذا حدَث ذلك وابتدع صاحب هوى بدعةً، اتَّبعه عليها فريقٌ، فيتعادون ويتخاصَمون، ثم يتَنافَرون ويتحاربون"[1].

 

 

وقيام الأمَّة الإسلاميَّة لم يخشَ عليه الفقر، بل أنْ تُبسَط الدنيا لأفرادها كما بُسطت لمن قبلَهم، فتُهلكهم كما أهلكَتْ مَن قبلهم، وسِرُّ الله في العلم قيامُ الحضارة الحاضنة له، والحضارة مَبلَغُ العلم والمال، والحضر من تجمُّع البشر، وتطوُّر عمران الحجر.

 

 

وأُسُّ قيام الجدل التَّرف المادي، ثم التَّرف الفكري، فحين تتشعَّب العلوم، وتتشعَّب الفنون، وتبحث كل شاردة وواردة، تميلُ النُّفوس للطرائف واللطائف، ثم للغَرائب وكل مخالف، وكلَّما بعُد الزمن عن عصر النبوَّة خفَت نور المشكاة الربانيَّة، وقَلَّ مَن يُحيي السنن ليُضِيء الدُّروب إلا ونشب الخلاف، فما نسي قومٌ حظًّا ممَّا ذُكِّروا به من وحي ربهم إلا قامت بينهم العَداوة والبغضاء، فيتَّسع الخرق على الراقع، ويَكثُر الشقاق، ويتشعَّب الخلاف، ويتداعَى الناس على الأدعياء، ولو قام فيهم مَن يَزعُم النبوَّة لزحف معه رهطٌ منهم.

 

 

وتوسع المعايش، وتنوع الأعراف والأعراق، في مدار الحضارة الممتدَّة الأطراف، يكثر مَشاغلها، ومَشاكلها، وتتعدَّد نوازلها، وتتكاثَرُ قضايا الناس ومسائلهم، واختلاف الزمان والمكان، وتبدل الأحوال من فقر وشظف إلى غنى وترف، ومن مُشاكَلة طائفة من الناس، إلى قضايا أمم، يورد التنوُّع في الحلول، والاختلاف في الفتوى، وهذا خاضعٌ للمفتي والمستفتي، وزمان ومكان الفتوى؛ فتكثُر الأقوال وتتنوَّع الآراء، وكلُّها ناشبٌ عن أمورٍ اقتضَتْها طبيعةُ اجتماع الناس، وطبيعةُ الإنسان المختلفة التركيب بين الواحد والآخَر.

 

 

والاختلاف يحلقُ من حوله مَن يَنصُرُه، ويعصبُ رأسه، ويعضد رأيه، ويُناصر مَن معه، ويُكاسر مَن عليه؛ ولذا النازع غريزة الأنا بالفرد، وغزيرة نحن للجماعة، فالتعصُّب باستِبداد الرأي يفرزُ العصبيَّة بالغلوِّ في تقليد صاحب الرأي.

 

 

والتعصُّب له دواعٍ نفسيَّة واجتماعيَّة؛ أمَّا النفسيَّة فهي العصبيَّة السيكولوجيَّة للفرد نفسه، ثم التقليد وهو تعصُّب الجماعة لرأي فردٍ دُون غيره، أمَّا الاجتماعيَّة فهي عقليَّة القطيع ونفسيَّة الرقيق، بِحُبِّ الانقياد بلا قيدٍ، وما مال نعجة لوجه إلا مال الكلُّ معها، وهنا يكون دِين الأكابر وقول الملوك، يسوقُ رأس الطائفة قومه، حيثما ولى ولوا، فتنشأ الطائفيَّة بعقليَّة الأقليَّة المتعاضدة ضد الخطَر الخارجي، المتعصِّب على رأي أو رجل كمركزٍ محوري وجودي لها، إن سقط هدم الهيكل العام للطائفة وتلاشت.

 

 

و"التعصُّب ظاهرةٌ اجتماعيَّة شديدة الخطورة، وبخاصَّة عندما يتَّخذ أشكالاً عدوانيَّة عنيفة سافرة.

 

وهو قديمٌ في التاريخ البشري، ومستمرٌّ في أيَّامنا، في أثناء العلاقات بين الأمم والقوميَّات، والعلاقات بين الأديان والطوائف الدينيَّة، والعلاقات بين المذاهب والتنظيمات السياسيَّة، والعلاقات بين الجماعات الصُّغرى والمحليَّة"[2].

 

 

وللتعصُّب صُوَرٌ ودَواعٍ، فهنالك التعصُّب العِرقي، والتعصُّب الطائفي الدِّيني أو السياسي، والتعصُّب الفكري أو العقدي:

 

• والتعصُّب العرقي نشَأ عنه الدول القوميَّة، والطائفي الفرق الدينيَّة والتكتُّلات الحزبيَّة السياسيَّة، والتعصُّب الفكري المذاهب والمدارس.

 

• والتعصُّب العرقي يُعرَف بالعصبيَّة والعنصريَّة والقوميَّة، والتعصُّب الحزبي الديني يُعرف بالطائفيَّة، والفكري يُعرف بالتعصب والغلوِّ والتطرُّف.

 

 

العصبيَّة والتعصُّب:

 

كان عرب الجاهليَّة على قبيلَيْن عظيمَيْن؛ قحطاني وعدناني، والعدناني على فِرْقين؛ ربعي ومُضَري، كلٌّ حربٌ على الآخَر لا يُسالمه، وقتالٌ عليه لا يُهادنه، وعراكًا معه لا يُساكنه، حتى إذا طلع فجرُ الإسلام، سكنت نعرات الجاهليَّة، وتركها المسلمون لنتَنِها، واستبدلتْ رابطة القبيلة بأسمى منها، ألا وهي أُخوَّة الإسلام، ومِعيار العُلا هو التُّقى، غير أنَّ قومًا خمدَتْ فيهم نعرات الجاهليَّة حينًا من الدهر، وما إنْ ولى عهد النبوَّة حتى طلعت بقَرْنِها مع مُسَيلمة الكذاب، كذَّاب ربيعة، أيَّام الرِّدَّة، ثم طفأت نارها، غير أنَّه كثُر رمادُها، فاشتعلت بعدَ الخِلافة الرَّاشِدة، وكان للفِرَقِ نعراتٌ قبليَّة عصبيَّة، صاغَتْ أفكارًا بلبوس دِيني، ومن هؤلاء الخوارج؛ فجلُّهم من بني ربيعة، وعلي - رضي الله عنه - والأمويون من مضر، والرافضة الباطنيَّة معظمهم فُرس، وطوائف أُخَر مثلهم؛ كالبابكيَّة والمخرميَّة وغيرها.

 

 

و"التعصُّب العِرقي كان وما زال ذا أثَر كبيرٍ في حياة الإنسان، وقد يكونُ تأثيرُه في أحيانٍ كثيرةٍ أخطر من التعصُّب الفكري، أو الحِزبي، أو النِّقابي، أو الرياضي؛ لأنَّ كثيرًا من الناس لا يهتمُّون بالمبادئ الفكريَّة، ولا ينتَمُون إلى أحزابٍ أو نقابات أو أندية رياضيَّة، في حين أنَّ لكل البشر دوائر عرقيَّة من أسر وعائلات وقبائل وشُعوب وقوميَّات وأجناس، وكثيرٌ من مفاهيم هذه الدوائر فيها تعصُّب عرقي.

 

 

ويُوجد التعصُّب العِرقي في دُوَلٍ متقدمة تكنولوجيًّا، وفي دول نامية، وفي مجتمعات إسلاميَّة، وفي مجتمعات علمانيَّة، ويتمُّ تجسيده في مَفاهيم، وشعارات، وأقوال، وأعمال، وقوانين، وأعراف، وأهداف مُعلنة أو سريَّة.

 

 

وهو أحدُ مَنابع الغُرور، والظُّلم، والحسد، والكراهية... إلخ.

 

 

وهو فوق كلِّ هذا أحد معوقات التنمية على المستوى المحلِّي والقومي والعالمي، فأغلب خطط التنمية تعيشُ في دوائر عرقيَّة وطنيَّة، ممَّا يمنعُ تحقيق القفزات القوميَّة والكبيرة، سواء كانت اقتصاديَّة، أو سياسيَّة، أو تكنولوجيَّة، أو إداريَّة، أو ثقافيَّة.

 

 

ويتنكَّر التعصُّب العرقي أحيانًا في ثوب المصلحة الوطنيَّة، ويتكلَّم أحيانًا أخرى باسم مصلحة القبيلة أو العائلة أو الأسرة.

 

 

ولعلَّ أخطر ما في التعصب العرقي أنَّه عدو مجهول؛ أي: لم يُدرِك الكثيرون إلى الآن خُطورته وآثاره المدمِّرة، فالكثيرون يعتَبِرُونه جُزءًا من الانتماء الوطَني، أو القَبَلي، أو القومي؛ ولهذا يتمسَّكون به، بل يُدافِعون عنه، وهم لا يَشعُرون أنهم يُدافِعون عن الباطل، والتخلُّف، والجهل!"[3].

 

 

مفهوم التعصُّب والعصبيَّة:

 

قال ابن فارس: "(عصب): العين والصاد والباء أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على ربط شيءٍ بشيء، مستطيلاً أو مستديرًا.

 

 

ثم يُفرِّع ذلك فُروعًا، وكلُّه راجعٌ إلى قياسٍ واحد، من ذلك العصب...

 

 

ومن الباب: العُصبة، قال الخليل: هم من الرجال عشرة، ولا يُقال لما دون ذلك عُصبة.

 

 

وإنما سميت عُصبة لأنها قد عصبت؛ أي: كأنها ربط بعضها ببعض.

 

 

والعُصبة والعِصابة من الناس، والطير، والخيل...

 

 

قال أبو زيد: كلُّ شيءٍ بشيءٍ، فقد عصب به، يُقال: عصب القوم بفلان"[4].

 

 

والعُصبة: جماعةٌ مُتعصِّبة متعاضدة؛ قال تعالى: ﴿ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ﴾ [القصص: 76]، ﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾ [يوسف: 14]؛ أي: مجتمعة الكلام مُتَعاضِدة.

 

 

واعصوصب القومُ: صاروا عصبًا، وعصبوا به أمرًا[5].

 

 

ويحمل المدلول المعجمي لمفردة العصب مَفاهيم الاكتناز، والشدَّة، والإجماع على أمر، والإحاطة بالرأس، والطواف الدائري، واللزوم.

 

 

فالعصبيَّة من الربَّط بشدَّة على موضوعٍ رئيسٍ عينًا أو صفةً، مع لزومه دُون غيره.

 

 

و"العصبيَّة بداية نعرة فئويَّة، دمويَّة، رحميَّة ملازمة لنموِّ النوازع الأوليَّة، يتربَّى عليها الطفل، وتبدأ مع الأمِّ في الأسرة"[6].

 

 

أمَّا التعصُّب الفكري هو تغَلُّب فكرةٍ ما على عقل إنسان، يجعلُها تسيطِرُ على تفكيرِه، فتدرأ مُناقَضاتها، وتمنعُ مُضادَّاتها، والبعض يصلُ به الحال إلى أنْ تسيطرَ عليه، وتجتاز الإدراك إلى الأعصاب، فيَثُورُ كلَّما عرض غيرها، ويغلق عليه كلَّما رُوجِع فيها، فلا يقبل حتى النظَر فيما دُونها، لا يُقلب النظَر في دليلها، ولا يقبل نظرًا في دليلٍ لغيرها، ولا يتمعَّن في رأي مخالف، وتأخُذه روح عدائيَّة إلى درجة الانفجار على خَصمه، ومنشأ هذا التعصُّب، ودافعه تهيج في الأعصاب.

 

 

و"التعصُّب: قيامٌ بالعصبيَّة، والعصبيَّة من المصادر النَّسَبيَّة، نسبةً إلى العصبَّة، وهي قوم الرجل الذين يُعزِّزون قوَّته، ويدفعون عنه الضيم والعداء، فالتعصُّب وصفٌ للنفس الإنسانيَّة تصدر عنه نهضة لحماية مَن يتَّصل بها، والذود عن حقِّه، ووجوه الاتِّصال تابعةٌ لأحكام النفس في معلوماتها ومعارفها"[7].

 

 

وهذا المفهوم هو الشائع في سنن العرب بأرض بالجزيرة "وقد تركت العصبيَّة أثرًا مهمًّا في الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة عند العرب قبل الإسلام.

 

 

وقد كانت إذ ذاك ضَرورة من الضَّرورات اللازمة بالنسبة إلى الحياة في الجاهليَّة؛ لأنها الحائلُ الذي يَحُولُ بين الفرد وبين الاعتداء عليه، والرادع الذي يمنعُ الصَّعاليك والخُلَعاء والمستهتِرين بالسنن من التطاوُل على حقوق الناس؛ إذ لا حكومة قويَّة رادعة، ولا هيئة حاكمة في استِطاعتها الهيمنة على البوادي، وعلى الأعراب المتنقِّلين.

 

 

بل هنالك قبائل مُتَناحِرة، وإماراتٌ مُتنافِرة، إذا ارتكب إنسانٌ جريمةً في أرضها، وفرَّ إلى أرض أخرى، نجا بنفسه وأمن على حياته هناك، ولكنَّه كان يخشى من شيءٍ واحد، لم يكن لأحدٍ فيه عليه سلطان، وهو "العصبية"، وسنَّة "الأخْذ بالثأر"، وهي العصبيَّة في ثوبها العملي.

 

 

كان يخشى من سُلطان الأخْذ بالثأر، حيث يتعقَّبه أهلُ الثأر، فلا يتركون الجاني يهنأ بالحياة، ولو بعدَ مُضِيِّ عشراتٍ من السنين، حتى يُقتَل أو يُقتَل أقرب الناس إليه.

 

 

وبذلك صارت العصبيَّة ضرورةً من ضرورات الحياة، بالنسبة لسكَّان جزيرة العرب؛ لحمايتهم، وصِيانتهم من عبَث العابثين"[8].

 

 

وفي الأكثر يَنقاد المتعصِّب إلى التطرُّف في رأيه ومعتقده على جانبين؛ إمَّا الإفراط، وإمَّا التفريط، والحسنة بين سيِّئتين، فلا يقبل أهل الترف غير التعصُّب لموروثاتهم، ولا أهل الغلوِّ الرجوع عن حميَّتهم؛ فالأوَّل تطرُّف سالب، والثاني تطرُّف موجب.

 

 

"وحَدُّ التعصُّب عند أهل الحِكمة العصريَّة: غلوُّ المرء في اعتقاد الصحَّة بما يَراه، وإغراقه في استِنكار ما يكون ضد ذلك الرأي حتى يحمله الإغراق والغلوُّ على اقتياد الناس لرأيه بقوَّةٍ، ومنعهم من إظهار ما يعتقدون، ذهابًا مع الهوى في ادِّعاء الكمال لنفسه، وإثبات النَّقص لِمُخالِفيه من سائر الخلق"[9].

 

 

والتطرُّف هو: "التنطُّع في أداء العبادات الشرعيَّة، أو مُصادَرة اجتهادات الآخَرين في المسائل الاجتهاديَّة، أو تجاوُز الحدود في التعامُل مع المخالف، والتنطُّع في أداء العبادات هو التعمُّق، أو مُجاوزة الحد في الأقوال والأفعال، ويدخُل فيه الزيادة على المشروع، والتِزام ما لم يلزم به الشارع، والورع الفاسد، ونحوه"[10].

 

 

ويُقابل التعصُّب الاعتصام، ودافعُه قوَّة الإيمان بالفكرة لدرجة انعِقاد القلب عليها، فلا يُزاحمها غيرها، فيبني إيمانه على يقين، ويُدافع عن يقين، مع فسحةٍ في الذهن للنظَر للقول الآخَر.

 

 

والاعتِصام غالبُه مبنيٌّ على أدلَّةٍ واضحة لصاحبها مبلغ اليقين، لا يوهمه كثرةُ المخالفين ولا قلَّة الموافقين.

 

 

وقد يكونُ مَن ابتُلِي بالعصبيَّة النفسيَّة معتصمًا على حقٍّ ويقين، كما للمُعتصِم فسحةُ فكرٍ ونظر، تجعَلُه يرقب غير ما يعتقد.

 

 

وفارق التعصُّب والاعتصام رفيع، وإنْ كان الأوَّل غالبًا ما يكون عن غير دليلٍ بل تقليدًا، فتجد المتعصِّب يميلُ لقول قومه أو طائفة أو مذهبه، حتى دون أنْ ينظُر للدليل، يكفيه أنَّ القول من جماعته العرقيَّة أو الدينيَّة أو السياسيَّة، ولا يألوا في رَدِّ غيرها، فقائد عقل المتعصِّب هوى نفسه، ومِعيار النظر منظار جماعته، فيُصغِّر العظيم ويُعظِّم الصغير؛ لاختلاف وسائط الرؤية، وقد يُدافِعُ عمَّا هو يعلم أنَّه باطلٌ؛ لحاجةٍ في نفسه، وأمرٍ وافَق هوى به، فيكون مِعيار صدق القضيَّة، وميزان أحقيَّة النظريَّة اللذَّة الذاتيَّة الأنانيَّة، والراحة النفسيَّة الآنية، ولو كان بذاك فساد السَّموات والأرضين.

 

 

وكثيرٌ من أهل التعصُّب هو ممَّن يُسارِعُ برمي غيره بتهمة العصبيَّة، مثلما يُرى بجلاءٍ في العلمانيين والمتغرِّبين، فأوَّل سِهامهم لِمَن يُخالف إفراطهم في تبجيل الغرب وما له، القذف بشُبهة التعصُّب، وهم جماعة "هم"، لسان ببغائي للمستشرقين والمنصِّرين وفلاسفة الغرب، لم يعلمْ منهم جديد فكر، ولا عبقريَّة صِياغة، ولا رونق نقد، بل تراهُم بين مذاهب الغرب مُتمرِّغين، بعقليَّة زِئبقيَّة، كل يوم هي في شأن، ومَقالهم وعقيدتهم أنَّ مَن قال بالدين فهو بين التعصُّب والتطرُّف لا مفرَّ، ومَن طعن في الدِّين فهو منهم، ولا يلت أحدٌ من عمله، ولا يتر من عقلِه.

 

 

والمتبصِّر في حالهم قديمًا وحديثًا وعصرًا، يرى منهم تعصُّبًا وحنقًا من أهل الدِّين والحق، فهو الأكثر إكراهًا للناس على مُعتَقدهم، والأكثر بطشًا وظُلمًا لغيرهم، والأكثر عداءً وتشهيرًا بِمُخالِفيهم، وسِيَرهم في الدولة الإسلاميَّة جهارًا نهارًا باديةٌ، فهم أكرهوا مجتمعات إسلاميَّة على ركب يخوت الإفرنج عنوةً، ونزع حجاب المرأة قسرًا، وحجروا على الدُّعاة، والنَّشاطات الإسلاميَّة، وحاصروا الكتب والمؤلَّفات، فأيُّ الفريقين أحق بالأمن؟ أيهم أحقُّ بالذَّمِّ؟

 

 

فمُصطلح التعصُّب تجدُ هذه الطائفة "تَلُوكُه الألسن، وترمي به الأفواه في المحافل والمجامع، حتى صار تكأة للمُتَكلِّمين، يلجأ إليه العَيِيُّ في تهتهته، والذملقاني في نفيقهته.

 

 

أخذ هذا اللفظ بمواقع التعبير، فقلَّما تكونُ عبارة إلا وهو فاتحتها، أو حشوها، أو خاتمتها.

 

 

يعدون مسماه علَّة لكلِّ بلاء، ومنبعًا لكلِّ عناء.

 

 

ويزعُمونه حجابًا كثيفًا، وسدًّا منيعًا بين المتَّصِفين به، وبين الفوز والنجاح، ويجعَلُونه عنوانًا على النَّقص وعلمًا لرَذائل.

 

 

والمتسربِلون بسَرابيل الإفرنج، الذاهبون في تَقلِيدهم مَذاهب الخبط والخلط، لا يميزون بين حَقٍّ وباطل، هم أحرصُ الناس على التشدُّق بهذا البدع الجديد.

 

 

فتراهُم في بيان مَفاسد التعصُّب يهزُّون الرُّؤوس، ويعبَثُون باللِّحى، ويبرمون السبال.

 

 

وإذا رموا به شخصًا للحَطِّ من شأنه؛ أردَفُوه للتوضيح بلفظٍ إفرنجي "فناتيك"، فإنْ عهدوا بشخصٍ نوعًا من المخالفة لمشربهم عدوه متعصبًا، وهمزوا به، وغمزوا، ولمزوا، وإذا رأوه عبسوا، وبسروا، وشمخوا بأنوفهم كبرًا، وولوه دبرًا، ونادوا عليه بالويل والثُّبور.

 

 

ماذا سبق إلى أفهامهم من هذا اللفظ، وماذا اتَّصل بعُقولهم من معناه، حتى خالوه مبدأ لكلِّ شناعة، ومصدرًا لكلِّ نقيصة؟

 

وهل لهم وقوفٌ على شيءٍ من حقيقته؟"[11].

 

 

وكثيرًا ما يغلب الطبع النفسي على الطبع الفكري، فصاحب الأنا نادرًا ما يرجعُ أو يُراجع، ولا يتقبَّل التصويب من البعيد أو القريب، وهذا يخلقُ شحنةً نفسيَّة تدفع الطاقة الفكريَّة كلها لنُصرة مُعتَقده ورأيه، ويغلق فكره عن تبصُّر أدلَّة الخصم، حتى لو كانت جليَّةً قويَّةً، وإن بهت فلت، وتلمَّس مخرج المِراء.

 

 

ومثال ذاك الخوارج؛ إذ "إنهم يشبهون في استِحواذ الألفاظ البرَّاقة على نُفوسهم، واستيلائه على مَداركهم اليعقوبيِّين، الذين ارتكبوا أقسى الفظائع في الثورة الفرنسيَّة، فقد استولت على هؤلاء ألفاظ الحريَّة والمساواة والإخاء، وباسمها قتَلُوا الناس، وأهرقوا الدِّماء، وأولئك استولت عليهم ألفاظ "لا حكم إلا لله" و"البراءة"، وباسمها أباحوا دِماءَ المسلمين، وخضبوا البلاد بها، وشنوا في كلِّ مكان غارات، وكانت الحماسة وقوَّة العاطفة ميزة اليعقوبيين والخوارج..."[12].

 

 

فرفعهم لشعار "لا حُكم إلا لله" قديمًا أيَّام الإمام علي وحاليًّا، كلمةُ حقٍّ أُرِيدَ بها باطلٌ، وقَرار أنفسهم، ما تبديه أعمالهم أنَّ دعواهم "لا حُكم إلا لنا"، إذا أعطوا من الدُّنيا رضوا، وإن لم يُدرِكهم نصيبٌ إذا هم يسخَطون، وإنْ وجد فيهم ذو مال فإنما يبغي الرياسة.

 

 

يقول المفكِّر جوستاف لوبون في وصْف نفسيَّة اليعقوبيين العصبيَّة وأمثالها: وتُوجد النفسيَّة اليعقوبيَّة خاصَّة عند ذوي الأخلاق المتحمِّسة الضَّيِّقة، وتتضمَّن هذه النفسيَّة فكرًا قاصرًا عنيدًا، وكل شيء خارجٌ عن الإيمان بالفكرة غير مُؤثِّر فيها، وما تغلب على الروح اليعقوبيَّة من العناصر العاطفيَّة؛ تجعلُ اليعقوبي كثيرَ السَّذاجة، ولَمَّا كان بهذا لا يُدرك من الأمور إلا علائقها الظاهريَّة، فإنَّه يظنُّ أنَّ ما يتولَّد في رُوحه من الصور الوهميَّة حَقائق، ويفوته ارتباط الحوادث بعضها ببعض، وما ينشأ عن ذلك من النتائج لا يحول بصره عن خياله أبدًا؛ إذًا فاليعقوبي لا يقترفُ الآثام لتقدُّم منطقه العقلي؛ إذ لا يملك منه إلا قليلاً، وإنما يسيرُ مُستَيْقِنًا، وعقله الضعيف يخدم اندِفاعاته؛ حيث يتردَّد ذو المدارك السامية فيقف.."[13].

 

 

وكثيرٌ من هذه الصفات النفسيَّة تلمسها عند الخوارج عبر تاريخهم، من أشعارهم إلى عَقائدهم إلى آرائهم الكلاميَّة إلى جَرائمهم، فالحماسة والجرأة - بجرعةٍ من الوقاحة - سمتهم جِيلاً بعد جيل، وكانت لهم مواقف عدَّة؛ مثل مقاطعة الخليفة علي - رضي الله عنه - في خُطَبِه، بل حتى في صَلاته، وتحدِّي بعضهم فُرادى للمسلمين جهارًا نهارًا، والعناد في قتلهم للصحابي عبدالله بن خبَّاب بن الأرت، ولَمَّا طالب الخليفة بتسليم القتلة قالوا بأنَّ الكلَّ شارَك في قتل ابن خبَّاب، فقاتَلَهُم عليٌّ - رضِي الله عنه - حتى كاد يَفنِيهم، ولم يَثنِيهم ذاك عن الرُّجوع عن موقفهم، أمَّا السذاجة فلهم مواقف تُضحِك؛ ولكنْ ضحكٌ كالبكاء، فبعدَ قتلهم لابن خبَّاب وبقر بطن جاريته، وقتل طفلها، تورَّعوا في تمرةٍ مُلقاة في قارعة الطريق! وكم لهم من قصص مع الكفار؛ فقد كانوا يُؤَمِّنون حياةَ الكافر، ويُبيحون دم المسلم، حتى إنَّ لهم لقاءً مع واصل بن عطاء رأس المعتزلة وجماعة من أصحابه، فلمَّا سألوهم عن معتقدهم أجاب واصل بأنهم أهلُ كتاب، فأخذوه وأصحابه وقرؤوا لهم آياتٍ من كلام الله ثم أبلغوهم مأمنهم![14].

 

 

ولو أعلمهم بإسلامه لجزوا عُنقَه، فعهدُهم قتلُ أهل الإسلام وتأمين أهلِ الأوثان، فكان فيهم التعصُّب للفِكرة لدَرجة الهوَس، مع التشدُّد في مُعامَلة المخالف، والخشونة في الدعوة والمعاملات، والجفاء في السُّلوك، والدِّفاع عن آرائهم بحدَّة وعَصبيَّة، فلا رفقَ في ما يصدرُ عنهم ولا أدب، ولعلَّ السببَ الجليَّ في ذلك أنَّ أكثرهم من أعراب البادية، ومَن بدا جفا، وقليلٌ فيهم أهل الحضر؛ وإن وجدوا فسِيماهم حدَّة الطَّبع والجَفاء؛ لأنَّ أفكارَ وعقائد وسلوكيَّات الخوارج لا تُوائم الطِّباع اللينة أو المتَّزنة والهادئة، فالخوارج واللين من الألفاظ المتناقضة لا تجتمعُ.

 

 

وهنا فرقٌ بين مَن قد يحرجه مجلس المناظرة، أو مقامه أمام المُناظِر، فيتفلَّت من رد الأدلَّة؛ كيما ينجو من حرج المقام، وبين مَن ينصر أقوالاً ويلزم غيره، ويُوالِي ويبرأ عليها، من غير برهان ولا أثارة من علمٍ، بل لا يرعي سمعه من قبل أنْ يدلي بقوله بالمنع.

 

 

التقليد:

 

من مقومات العصبيَّة بُعد العقليَّة النفسيَّة المهيئة أصلاً؛ لعدم الرُّجوع إلى الخلف، ظاهرة التقليد، فلا ينبت غلو تقليد إلا من بُذور تعصُّب، والتعصُّب الفردي يتكاثَرُ ويتآزَرُ ليحشد من حوله الأتباع، فتَنشَأ الطائفة، ويكون لها هويَّتها التي تدفعها لنصر أصولها والجهاد لإثبات كينونتها وتميُّزها عن غيرها، كيما يشعُر كلُّ طرفٍ في الطائفة بنشوة الانتماء، والخصوصيَّة عن العامَّة، وهنا تطفو الطائفيَّة ذات النزع التعصبيَّة، وهي كاللاحم لأطراف الطائفة، فترصهم كالقطيع، ما شق فردُهم فجًّا إلا تبعوه لا أنَّه على رشد؛ بل لأنهم منهم، وضابطهم هنا الآبائيَّة، والاغتِرار بالكَثْرة، وأنهم على أمَّةٍ من أمرهم، ولو جِيء لهم بأهدى ممَّا هم عليه، إنْ نظروا إليه فُرادَى تبصر العقل الفردي أنهم على ضَلال، وإنْ جمعت عُقولهم كانت للعقل الجمعي الطائفي نزعة استِبداد رأي الكَثْرة، ونزعة العصبيَّة للعصبة، فيتولَّد التعصُّب بالدَّفع والردِّ، وهنا يكون التحلُّق على الرأس، ويَزْداد التمسُّك بكبير القوم كلَّما أعلى النكير على مَن لم يكن منهم، فبلسانه السَّليط على مَن خالَف يُضفي حظوة تزكية على مَن وافَق.

 

 

منشأ التقليد الغلوُّ في الرجال، وإنزالهم مَقام العِصمة، ومَواضع العظمة، فيرد قول النبي برأي الولي، وقول العاقل بتخريف الجاهل، ويتبنَّى العُقَلاء ما يَرُوق للسُّفَهاء، وهذا من تعظيم أقوال المقلد، وإيثارها على غيرها من الهدى، والرد لها لا دُون تدبُّرها، ومحاكمة الأفكار والمُعتَقدات والمقالات لها، وإن وجد أهدى منها.

 

 

والتقليد المذموم ما أدَّى إلى التعصُّب لمذهبٍ أو عرق أو تراب، وألزم به الغير، وردَّ ما عَداه اعتقادًا بعِصمة المقلَّد، ويزداد سوءُه، وتحتد خُطورته، إن قاد للنزاع، وأشعل فتيل الصراع، وتجرَّأ على إبطال الحق، وإحقاق الباطل.

 

 

ولدى أهل النظر التقليد من مَقامات الجمود، وعَلامات التخلُّف والرُّكود، وسببه الولع بمخلَّفات الآباء، حين يعدُّ تعظيمهم من تعظيم أقوالهم ومُعتقداتهم، ولو بدا شُذوذها وبُطلانها، أو جِيء بما هو أهدى منها، فهي إنما قبلت؛ لا لأنها عظيمة البيان قويَّة البرهان، بل لأنَّ قائلها عظيمُ أهلِ المكان، فقوَّتها من قوَّة مركز قائلها، أورد عليها دَلائل وبيان، أو ساقها تشريعًا بلا برهان.

 

 

وتعصُّب المقلِّدة داعيه النُّفور ممَّا لم يشبَّ عليه الفتى، والعِصمة بما شاب عليه الرأس والقفا.

 

 

فكأنما الطَّعن في العادة طعنٌ في مُعتقِدها، ولمزٌ في قُدراته الفكريَّة، وتلميحُ بقِصَر نظرِه؛ أنْ كان ذا خطأ مُبين، فيحز في نفسه ردُّ باطلٍ عاشَرَه حينًا من الدَّهر، وقبول حقٍّ نابَذَه أمدًا من العصر، وهذا جليٌّ في أنَّ جلَّ السابقين لاتِّباع الأنبياء فتية آمنوا بهم، وهم زُمرة الناقمين على التقليد؛ إذ لم تشتعل رؤوسهم شيبًا بمقالات الآباء، فترى لهم قابليَّة نفسيَّة وإدراكيَّة؛ لردِّ ما قام بلا دَليل ولو اشتهر، ولهم فسحةٌ في مُراجعة الموروثات، وهمَّة للاستِدراك على العادات، وهذه النفسيَّة تبرد وتندر في الكهول، وتفتر في شيبة الرأس.

 

 

وهذا ما نصُّه المبين ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 170]، ﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23].

 

 

فأهل التَّرف أهلُ استبدادٍ بالرأي، واعتدادٍ بالنفس، يردُّون ما خالف أعرافهم، وينقمون على مَن حَطَّ من آثار آبائهم، فالمقدس حجَّته إجماع الآباء، والمدنس ما لا تهواه أنفس الأبناء، وواحدهم يعضدُ رأيه، عجبه بجسمه، ويصوب فكره؛ أنْ كان ذا مالٍ وبنين، ولو علم أنَّ قوله لا أبا له؛ إنما هو زنيم.

 

 

ولا تزال نزعة تقليد السابقين في قلوب اللاحقين، وإنْ كانوا يتفاوَتُون فيما بينهم، فمن الأفكار ما أضفت عليها الأجيال قداسةً تجعل لها سلطانًا على العقول، يدفعها إلى اختراع أقيسة لنُصرتها، والمجادلة عنها، والولاء والبراء عليها، وكل مغلول بتركةِ الآباء[15].

 

 

ولا يعدُّ اتِّباع الأنبياء تقليدًا، ولا يذم تقليد العامي وطالب العلم للعلماء، بل هو من اتِّباع أهل الذِّكر؛ لأهليَّتهم في بيان هدي الإسلام، والأصل لكلِّ مَن أُوتي آلةَ الاجتهاد أنْ يبحث ويُحرِّر، ومَن أُوتي الفهمَ أنْ يتدبَّر، ويلزم مَن لا علم له ولا قُدرة لتحصيله بتقليد العلماء، غير أنَّه يحرم التعصُّب والمنابذة لأجل ذاك خاصَّة في الفقهيَّات، ويحرُم على مَن تبيَّن له بطلانُ قولٍ أنْ يعتمده تقليدًا لعالمٍ أو إمامٍ، ويدرأ عرض الخلاف عن العامَّة، ويبين لهم قدْر ما ينفعه في مَعاشهم ومَعادهم، وطالب العلم عليه معرفةُ دليل مَن يتبع قوله وفهمه.

 

 

دين الملوك:

 

وللعصبيَّة عصبةٌ، ومبلغ منتهى العصبة دولةٌ، والناس على دِين مُلوكهم، ومَن ولي سلطة تولَّى دِين الناس بسُلطانه، ولذاك مَآرب من الملأ، كلٌّ بقدر نَواياه، فمنهم مَن يبغي الاستقرار، ودرء الطائفيَّة التي قد تشتَّت الأمر من بين يديه، أو يريد جمْع أمر قومه على ما لا يخالفهم فيه، فلا يختلفوا عليه، فتجده يشدُّ ركاب الدعاة لمذهبه، ويبني المعاهد، ويشيد المدارس، وينشر المؤلَّفات، ويبعث الوعاظ والدُّعاة.

 

 

وآخَر يُكرِهُ الناس عليها تعصُّبًا منه، ويحشد من حوله من يزينون ذلك، ويقتلعون له الحجج، ويحاجُّون عن السُّلطان من عارض، فينتفون شَواذ القول ممَّا دفن في مَقابر الباطل، وينقبون عن رُخَصِ المذاهب، ويلفقون بين الأقوال دُون أيِّ تناسُب.

 

 

"علمت أنَّ التعصُّب على قدم وُجوده حادثٌ طارئٌ على الإنسان، تولَّد عن مَفاسد الرِّئاسة في الجماعات.

 

 

وتأصل بالعادة والتقليد حتى صار في النُّفوس من الملكات، يظهَرُ ذلك لمن تدبَّر قدم التعصُّب في جنب خُروجه عن الطِّباع، ويعلمه مَن تأمَّل أحوال الرئاسة في صُدور هيئات الاجتماع"[16].

 

 

ومثال ذاك دولة العُبَيديِّين الإسماعيليَّة الباطنيَّة، فقد حشَدُوا لمذهبهم دُعَاة من أصقاع العالم الشيعي، وأكرَهُوا الناس على معتقدات وعادات، وقتلوا وحبسوا وعذَّبوا ونكلوا بِمَن عارضهم من عُلَماء، وأقاموا الأزهر جامعةً تُفاخَر بها زهراء قرطبة، وشيَّدوا ونظَّموا جماعات دعويَّة لنشْر مذهبهم، ونفْث شُبَهِهم، وربوا ناشئةً على ذلك، ومنعوا السُّنَّة وأهلها أنْ يلفظوا ببنت شفة، وروَّعوا مَن خالَف بالتنكيل، حتى أكرهوا على السُّكوت، وأقاموا لذلك مُنظَّمات هدَّامة، حبكة إداراتها وتنظيماته بأعجب سياسة ذاك الزمن، وصاروا مدرسةً في التنظيم السِّرِّي الدِّيني، وأكاديميَّة في الاختراق العقدي، ومؤسَّسة للإرهاب الفكري.

 

 

حتى دَرَسَتْ معالم الإسلام، ولُعِنَ الصحابة والأئمَّة الأعلام، وعفا الزمن عن ذِكر السنن أو تلاوة القُرآن، وأُبِيحت المحرَّمات في أيِّ مكان، وكاد يطلع على القوم مزدك أو ماني أو ديصان، يصيحُ بالقوم أنَّ هذا هو ديني، وأنا الأب وهذا ابني، فلِمَ يلحق بغيري؟

 

 

ثم أزال الله الغمَّة، وبعَث بصلاح الدين الأيوبي رحمةً بالأمَّة، فقَضى على دولتهم سياسيًّا، ثم هدَم نحلتهم فكريًّا، وكان أشعريَّ المعتقد، صوفيَّ السُّلوك، شافعيَّ المذهب؛ فنشَر المدارس والمعاهد، وجلب العلماء والدعاة، وفرَض العقيدة الأشعريَّة والمسلك الصوفي والمذهب الشافعي، لا يقبل بغيره في مملكته، حتى رَماه البعض بالمغالاة في إكراه الناس عليه، خاصَّة أنَّ بينَ السُّنَّة مَن يعارض ذلك.

 

 

وقاد حملة علميَّة عقديَّة لتطهير بقاع الشام ومصر من عفن الإسماعيليَّة، وتنظيف مُعتَقد الناس من بَراثن الباطنيَّة، فكان للمهمَّة الزوايا والطرق الصوفيَّة، والمدارس والمعاهد الأشعريَّة، وما هي إلا سنون وعادت السُّنَّة لدِيارها، وإن ترك الإسماعيليَّة بعض العادات بين العامَّة، صعب قلعها، بل تسرَّبت لفُضَلاء من أهل السُّنَّة، وتكلفوا لها أدلَّة حجيَّتها.

 

 

وطلبُ الرياسة من مسببات البغي، والنيل من الآخَرين وانتقاصهم، وهذا يقودُ أحيانًا لحد التنظير وتكريس مناهج للدِّفاع والهجوم، فتُخاض حملات كلاميَّة، ومعارك فكريَّة، وكلَّما اشتدَّ أوارها، وطال زمانها، قَوِيَ حجاجها، وتقعَّر لجاجُها، فيُتفنَّن في الأدلَّة، ويبرع في تطوير المسالك، وتتولَّد أفكار ومَقالات، وتقوى المدارك، وتنشأ تنظيرات أكثر حبكةً وأدق صنعةً، حتى يكتمل ويتشبَّع البحث والتقعيد، فيولد المذهب بكامل قُواه، وقد تترَّس بمنهج وخَصائص وقواعد، وكسب أهله خبرات القتال، وعرفوا مَيادين النزال، فدروا مواطن الزلل، وأبصَرُوا مواقع الخلل، فأصلحوا الثُّغور، وعدلوا الأمور، فيخلفهم جيل ما عليه إلا حمل ما ورث بعد أنْ نضج، فإنْ كانت له به طاقة صار به، وإلا قام عليه غيرُه من المذاهب؛ فيبيده هو ومَن تشدَّد له.

 

 

ومثله ما بين المرابطين والموحِّدين، فالأولى سنيَّة شاعَ فيها فقه الفروع والتقليد، والثانية تومرتيَّة شاع فيها فقه الحديث والاجتهاد، ودولة الموحِّدين قامت بإسقاطها للمرابطين على عقيدة رأس الحركة المهدي بن تومرت، فنشرتها وفرضَتْها عنوةً بحدِّ السيف، وهي عقيدةٌ تكفيريَّة.

 

 

ومنها الدولة العثمانيَّة الصوفيَّة الحنفيَّة مع مصر الأشعريَّة الشافعيَّة، وشمال المغرب العربي الأشعري المالكي، والسعوديَّة السلفيَّة الحنبليَّة.

 

 

وفي الملل الأخرى أمثلةٌ كثيرة؛ كفرض النصرانيَّة من الروم بعد تنصُّر الإمبراطور قسطنطين، والكاثوليكيَّة على أوربا، والإنجيليَّة على إنجلترا من ملكها هنري الثامن.

 

 

وتغيَّرت توجُّهات الملوك تغيُّرًا حتى في العلوم الطبيعيَّة، فكثيرٌ من الملوك كان له ولعٌ بالفلك وآخَر بالطب، وآخَر بالصِّناعات والاختِراعات، فيُوفِّر لها ما لم يكن لغيرها من قبلُ.

 

 

والطبقات السياسيَّة الحاكمة توسع من تسويق نظريَّاتها، وتُكثِّف من جُهود البرهنة على صَوابها، وتُكثِّف من الجهات القائم على تدعيم مُقرَّراتها، مثال هذا الأنظمة الإمبرياليَّة، والشيوعيَّة، والملكيَّة، والعلمانيَّة، والدِّينيَّة، وصورها أجلى من أنْ تسمى.

 

 

وطلب السُّلطان ممَّا ابتُلِي به المسلمون بعد ثاني الخلفاء، وإنْ كان هذا الأمر عامًّا في تجمُّعات البشَر أجمعين، والأمم والأقوام كلها، غير أنَّ قوَّة إيمان الصحابة وتحكيمهم للنُّصوص قبل هوى النُّفوس، درَأ عنهم فتنَ زَوابع عراك التيوس، لاعتِلاء الرُّؤوس، وهذا ما لم يكن بعد مقتل الخليفة عثمان - رضِي الله عنه - فصاغت الحزازات السياسيَّة نعرات عِرقيَّة، تحلَّت بشعارات عقديَّة، وتترَّست بنِداءات إيمانيَّة، فأنبتت أُولَى الفِرَقِ في الأمَّة الإسلاميَّة، الخوارج ثم الشِّيعة، ثم صحبها دَوافع الخلاف البشريَّة العامَّة؛ من عَصبيَّة وتعصُّب وتقليد لقول الطائفة، وتفاوت المدارك والأمزجة والرَّغبات، فصنعت آراء في قَضايا ساعتها، وطرحت مسائل تستشكلها أيَّام تكوُّنها، ثم تتجمَّع مَقالاتها، وتنسق مَقولاتها، لتنسج نسقًا فِكريًّا، يضطرُّها لتبنِّي منهج، يورد كلَّ ما يتدفَّق فيها إلى واديها العَقدي، ويستقر على قواعدها، وما خالَفها فهو زبدٌ يذهب جُفاء عن أوعيتها.

 

 

وهنا يشتدُّ الخلاف، ويقوى النِّزاع الفكري والعقدي، وكل يكفُّ الضَّربات عن حِزبه، فتقوى أدلَّة الخصوم، ويكثر البحث عن الثَّغرات، وتتقوَّى أدلَّة الهجوم، وتستجلب الدلالات، وتبتكرُ المناهج والمسالك والمقدمات.

 

 

اختلاف الأمزجة:

 

اختلاف نفسيَّات وطَبائع البشر، وتتنوَّع محدَّداتهم النفسيَّة ما بين ليِّن هيِّن، وما بين قاسٍ غليظ الطبع، وما بين مُتوسِّط بين هذا وذاك، يخالف بين سُلوكهم وتصوُّراتهم، والمتأمِّل في حركة "التفرُّق" التي حصلت في الأمَّة الإسلاميَّة، والناظر في سمات الفرق؛ كحركات الغلو والتكفير وغيرها في القديم والحديث، يجد أنَّ النفسيَّة "الغالية" هي نفسيَّةٌ مُهيَّأة ابتداءً إلى تقبُّل "الغلو"، فبدايتها مع البُعد النفسي، ثم تتكلَّف في تأصيل غُلوِّها بتلفيقاتٍ فكريَّة؛ حتى تطمئنَّ أنَّ طريقها صحيح، فالخوارج قديمًا أو حاليًّا يمتازون بالجَفاء في المُعامَلة، حتى قبل اعتِناقهم للآراء الخارجيَّة، فخَوارج العصر الأوَّل استَهوَتْهم فِكرة البَراءة من عُثمان وعلي وبني أميَّة؛ حتى احتلَّت أفهامهم، وملكت عليهم عُقولهم، وسدت كل باب للمُراجعة، فمَن تبرَّأ من عثمان وعلي وطلحة والزبير، سلكوه في جمعهم، وأضافوه لعدهم، وتسامَحُوا في مَبادئ أُخَر، كانت حال التَّدقيق أخطر من البَراءة تلك، ولما خرج ابن الزبير على الأمويين ناصروه، فلمَّا علموا أنَّه لا يتبرَّأ من أبيه، ومَن تبرَّؤوا هم منه نابذوه، وشهدوا لعمر بن عبدالعزيز بالحكم الراشد والعدل في الرعيَّة، لكنْ حال بينهم وبين القبول بالطاعة له البراءة.

 

 

هذا علنًا، أمَّا في قَرار أنفُسِهم، فقد حالَ بينهم وبين أولئك الصحابة والأمويين من قريش، عصبيَّتهم القبليَّة، التي لا يرضون بغيرها، ولا يقبلون إلا مَن هو منهم عرقًا لا دينًا.

 

 

والأُوَل منهم كانوا من أهل البادية في فقرٍ مُدقِع، وشدَّة وبلاء قبلَ الإسلام وبعدَه؛ لبُعدِهم عن القُرَى والحضَر، فلم تتحسَّن أوضاعهم كثيرًا، وأصابَ الإسلام شِغاف قُلوبهم، مع سَذاجةٍ في التفكير، وضِيق في التصوُّر، وبُعد عن العلوم، وعادتهم عدم الولاء لرأس دولةٍ، فهم بدوٌ رُحَّلٌ، كلُّ واحدٍ رئيس نفسه، وإنْ تجمَّعوا جعلوا الرئيس رؤوسًا، ولا الطاعة للإمام الواحد، فميزة الأعراب في الجاهليَّة أنَّ لكلِّ قبيل رأسًا، وتجميعهم تحت لواءٍ واحدٍ كان من المحال، والأعراب أشدُّ كُفرًا ونِفاقًا، وهم إنْ أسلموا لم يؤمنوا، وغالب مَن ارتدَّ في حُروب الردَّة كانوا من الأعراب، ومن اليمن، وهم من القبائل الربعيَّة المعادية للمُضريَّة التي منها قُريش، ومَن تُبَّعٍ أدعياء النبوَّة، لا تصديقًا بهم، بل عصبتهم لقبائلهم.

 

 

وزهد الخوارج لا عن غنى، بل عن فقرٍ، فليس صبر امتثال بل اضطرار، وطباع سارَتْ عليها حياتهم، فصارت عليها بَداوتهم، فحوَّلوها دينًا لزامًا؛ لذا لا تجد فيهم التكلُّف في تحمُّل قسوة المعاش؛ لأنَّ طباعهم اعتادت قساوة العيش وضَنك الحياة، فتولَّدت لهم طباع خَشنة وعُقول قاسية، وانفِعالات مُتهوِّرة مندفعة، قَلَّ مَن تجده فيهم ذا لين في المعاملة وتفهم.

 

 

وعلى نقيضهم المرجئة، نبتوا في ترف حضائر العِراق، بين المدنيَّة والعيشة الهنيَّة، لا يدرون ضنك العيش، جلُّهم من أهل الترف، طباعهم بين اللين ودونه، عاشروا أقوامًا وثقافات، وجاوَرُوا طوائف ودِيانات، فتَشابه الأمر عليهم، وكثُر فيهم تشقيق الكلام، وتتبُّع مُتشابه القُرآن، فتَراهُم قلَّ فيهم التعبُّد، وهالهم تكفيرُ مَن ثبت كفرُه؛ لرقَّةٍ في الدين تغلب بعضهم، وتورُّع زائد لدى طائفةٍ منهم، ونفاق مندس بين فرس عاشروا هذا المعتقد في نحلهم، فغلب عليهم التحلُّل من الأحكام، نقيض الخوارج الذين سِيماهم الغلوُّ في العبادات، وسيما المرجئة رقَّة الدين، والخوارج الغلو في التديُّن.

 

فاستحواذ الأفكار قد يكون له عامل وراثي وتربوي، فالفرد من طبْعه أنْ يكره كلَّ ما تعلَّق بما آلمه ممَّا مضى، من كلام أو صور أو روائح؛ لأنَّ تذكُّرها يستحضر وجع ذلك الألم، وطبائعه النفسيَّة تجعله يتقبَّل من الأفكار ما يرتاح لها نفسيًّا؛ لذا كان من القواعد العامَّة أنَّ السُّني يبحث عن الدليل ثم يعتقد، أمَّا المبتدِع فهو يعتقدُ ثم يبحث له عن دليلٍ يكسب ما يهوى شَرعيَّة دِينيَّة، فأفكار الخوارج لها قبول نفسي كبير عند ذوي الأخلاق الضيِّقة والنُّفوس الخشنة الطباع، وإن بعض مَن هدى الله لا يعتقدها، ولكن يجد في نفسه شيئًا ممَّا يُوافق هَواه وطبعه، إلا أنَّه يقدم ما أتى به نبيه على ما يهوى هو، والمرجئة تجدُهم يتهافَتُون على نُصوص الرحمة وسعتها ومغفرته، ويملؤون الحديث بالرجاء، ويتناسَوْن الوعيد، وعندهم الله تعالى غافر الذنب.. ويغلق القوس قبلَ شديد الطول؛ لذا تجدُ مَن يميلُ لهذا الفكر من أهل الترف وأهل الحضر، والكُسالى وضِعاف النُّفوس، ذوي السلوكيَّات المضطرِبة، ومرتعهم كان في مدن العراق، ومنها نبت الإرجاء، ومرتع ضنك العيش وقساوة الطبع بادية الصحراء، وأعراب الحجاز واليمن، ومنها نبَت الخروج، وقِسْ على ذلك الكثيرَ من الفرق والآراء والعقائد، فالشِّيعة كثيرٌ من آرائهم أصلها فارسي بتنوُّع عقائد أهل الفُرس، حتى عقيدة الإمام المعصوم هي من صُلب معتقداتهم في "كسرى الفرس"، والمتصوفة تاريخيًّا منشؤهم بالبصرة بمناطق تجاور طوائف نصرانيَّة رهبانيَّة، وأهل الكلام أساطينهم ليسوا عربًا بل من عجم العراق، وأرض العراق أهلُها أهل فراق، وتشقيقٍ للكلام، وطبعهم كثرة المسائل، واختلافهم على عُلَمائهم، وطينة العراق بها تداخُل حَضارات وامتِزاج مُعتَقدات، فناسَب الكلام جُذورهم الوراثيَّة، وبِيئتهم الاجتماعيَّة، وقابليَّتهم النفسيَّة، وأساليبهم الفكريَّة.



[1] "مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم"؛ محمد العبده، طارق عبدالحليم، دار الأرقم - الكويت، ط(2)، 1986، ص39.

[2] "أضواء على التعصب"؛ أديب إسحاق، جمال الدين أفغاني، ومجموعة من الباحثين، دار الأمواج - بيروت، ط(1)، 1993، ص7.

[3] "لا للتعصب العرقي"؛ عيد الدويهيس، دار الكويت، ط(1)، 1999، ص2.

[4] "معجم مقاييس اللغة"؛ أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا؛ تحقيق/ عبدالسلام محمد هارون، دار الفكر - بيروت، ط(1)، 1979، ج4، ص336.

[5] "المفردات في غريب القرآن"؛ لأبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني؛ تحقيق/ محمد سيد الكيلاني، دار المعرفة - بيروت، دت، ص3.

[6] "العصبية؛ بنية المجتمع العربي"؛ عبدالعزيز قباني، دون معلومات نشر، ص45.

[7] "أضواء على التعصب"؛ جمال الدين الأفغاني، ص28.

[8] "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"؛ جواد علي، دار الساقي - بيروت، ط(4)، 2001، ج7، ص397.

[9] "أضواء على التعصب"؛ أديب إسحاق، ص13.

[10] "التطرف الديني والرأي الآخر"؛ صلاح الصاوي، الآفاق الدولية للإعلام - (دون معلومات نشر)، ص10.

[11] "أضواء على التعصب"؛ جمال الدين الأفغاني، ص27.

[12] "تاريخ الجدل"؛ لأبي زهرة، ص 146.

[13] المرجع نفسه: ص147.

[14] "الكامل في اللغة والأدب"؛ للمبرد أبي العباس محمد بن يزيد بن عبدالأكبر؛ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي - القاهرة، ط(3)، 1997، ج2، ص120.

[15] "تاريخ الجدل"؛ لأبي زهرة، ص10.

[16] "أضواء على التعصب"؛ أديب إسحاق، ص15.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أسباب الاختلاف بين الناس
  • المذهبية الإسلامية: إشكاليات التعصب، وضرورات التسامح
  • الحجة بالوحي لا بالرأي، وسلامة الدين مطلب
  • التعصب المرذول!
  • كيف عالج الإسلام مشكلة التعصب القبلي؟
  • المجتهد وترك التعصب
  • أهمية البعد عن التعصب بكافة أشكاله وصوره
  • من سلبيات التعصب الرياضي
  • التحذير من التعصب المقيت
  • التعصب (قصيدة)

مختارات من الشبكة

  • خطبة التعصب(مقالة - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • القواعد السبع للتعامل مع المخالف: التحذير من التعصب(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • آفة التعصب والتنطع والمغالاة في مدح الدعاة(مقالة - موقع أ. د. فؤاد محمد موسى)
  • فتاوى الاعتكاف بين التعصب والانفلات(مقالة - ملفات خاصة)
  • أربعون حديثا في ذم التعصب القبلي (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • ما أجمل الجماعة والائتلاف والإنصاف، وما أقبح التعصب والفرقة والاختلاف(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة الجمعة ١٦-٥-١٤٣٩ هـ (التعصب)(محاضرة - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • التعصب المذهبي المعاصر(مقالة - موقع الشيخ د. عبد الله بن محمد الجرفالي)
  • ألمانيا: ذكرى مقتل مسلمة تصبح يوما لمناهضة التعصب(مقالة - المسلمون في العالم)
  • مقدمة لطيفة عن طرق دراسة الفقه ونبذ التعصب لأقوال الرجال(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
1- جميل جدا
موسى أحمد الزغاري - القدس 06-02-2012 08:36 PM

السلام عليكم ورحمة الله

الأخ الكريم بليل عبد الكريم
موضوعك عن التعصب من أجمل ما قرأت
جميل جدا

أضاف لي الكثير من المعلومت القيِّمة
واتسم موضوعك بالنزاهة العلمية والتي هي تبعد عن العصبية تماما
أشكرك كثيرا

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 12/11/1446هـ - الساعة: 18:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب