• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    موقف أبي موسى الأشعري مع جندي من جنوده
    الشيخ عبدالعزيز السلمان
  •  
    النقد العلمي
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت ...
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

البعد الإستراتيجي في مسيرة الدعوة

البعد الإستراتيجي في مسيرة الدعوة
محمود محمد الزاهد

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 19/10/2011 ميلادي - 21/11/1432 هجري

الزيارات: 13426

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

إنَّ المؤمن الذي ينظر للأمور من خلال منهج الله، لهو أبعد الناس نظرًا، وأعمقهم فكرة[1]، ذلك المنهج الذي يَملِك النظرة الكونيَّة الشاملة، والتصوُّر الحقيقي لمُجريات الأمور وحقائق الأشياء، بالإضافة إلى العرض التاريخي السريع الذي يربط الحاضر بالماضي في سلسلة بشريَّة واحدة، بعيدًا عن ضيق الأُفق الذي تَحُدُّه العقولُ في حَيِّز الزمن أو الأرض، أو الجنس أو العِرْق، ويَختزله الفكر السطحي لحقائق الأشياء في معارف أوَليَّة قاصرة.

 

فمن خلال هذا المنهج يستطيع الإنسان أن يرى الإنجاز التاريخي كلَّه لأُمَّة الحقِّ متصلاً مترابطًا، وأن يعدَّه من منجزاته هو، طالَما كان هذا الاعتداد من داخل حَيِّز الانتماء لهذه الأُمَّة، ومِن ثَمَّ يستطيع إكمال المسيرة واكتساب القوة، والرسوخ والحَفْز للمُضي قُدمًا على نفس الطريق، وفي نفس الاتجاه، وبنفس المنظور؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92]، وقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 89 - 90]، وقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58].

 

فيستطيع الإنسان من خلال هذا المنهج القرآني التصوُّرَ الحقيقي للمشهد الواقعي من مختلف جوانبه وزواياه، فلا تَشغله الظواهر العارضة عن التأمُّل والتفكُّر في المعاني والحقائق، ولا تَطغي المَحْسُوسات والماديَّات على الأخْذ في الاعتبار أهميَّة القِيَم والمبادئ، ويَستطيع المؤمن الفرد أن يَنفُذَ ببصره إلى عين الحقيقة، فيتصوَّر أعداءه في موقف الهزيل الضعيف، الذي خَسِر بحساباته القاصرة أسبابَ النجاح والظَّفر، حتى وإن بدا للناس أنه في أَوْج القوَّة والغَلَبة؛ قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 18].

 

المؤمن وجَريان السُّنن:

كيف لا يَنظر المؤمنُ هذه النظرة الكُلِّيَّة الشاملة وهو يعلم عِلْمَ اليقين أنَّ العاقبة للمُتَّقين، وأن الأرض لله يُورثها مَن يشاء من عباده الصالحين، وأنَّ ارتفاع الكفار وعُلوَّهم في الأرض، إنما هو زمن المُهْلة، وطلب الفَيْئة والرجعة، وأنهم إن تَمادوا في طُغيانهم، فالعذاب يُحيط بهم من كلِّ جانب، بل ويتهدَّدهم ويتهدَّد كلَّ مَن ركَن إليهم، أو سارَع في مودَّتِهم؛ ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ﴾ [هود: 113].

 

المؤمن الذي يتعامَل مع الصراع القائم بين الحق والباطل، وَفْق سُنن الله التي بيَّنها في كتابه وعَلَّمها لأَوْليائه، لَهُو أجدر الناس بالتفكير السديد وبوَضْع الأمور في نِصابها الصحيح، وإعطاء الضرورات قَدْرها، فالسُّنن الإلهيَّة تَحكم الناموس الإنساني كلَّه، وتجري بها مشيئة الله النافذة في الكون والحياة، فمَهْمَا مَلَك الإنسان من أسباب السيطرة وظواهر الملك، فهو لا يستطيع إيقاف سُنَّة كونيَّة أو تحويل مشيئة ربَّانيَّة، ويتجلَّى ذلك في نظرة سريعة لحياة الإنسان التي يَحُدُّها الموت، ويقطع طريقها حين انتهاء الأجَل الذي وقَّته الله لها، وهذا الموت الذي هو حقُّ اليقين الذي لا يُمكن لأحد أبدًا دَفْعه ولا إنكاره، بل ولا يستطيع هو - كائنًا مَن كان - أن يُخفي عجزه أمام هذه الحقيقة الكونيَّة الثابتة، وهكذا تعمل حقائقُ الكون وتَجري سُنن الله في الكون والحياة، دون تبديلٍ ولا تحويل، فَهِمها مَن فَهِمها، وغَفَل عنها مَن غَفَل، لكنَّ الفارق الحقيقي بين أهل الفقه والبصيرة من أهل الإيمان، وبين غيرهم ممن لَم يَنالوا هذا الشرف من الفقه والبصيرة؛ هو أنهم يتعاطون مع هذه السُّنن ويتعاملون معها، موقنين بها، منتظرين عملها عند تحقُّق أسبابها على الحقيقة، حتى وإن كانت الظواهر كلها تُكَذِّب ذلك وتَنفيه، وحينما تجيء السُّنن وتعمل عملها، لا يَفطن لها ولا يقرأ ملامحها إلاَّ أولئك؛ بما أنْعَم الله عليهم من التفقُّه والتبصُّر، في حين يُكَذِّب ذلك غيرُهم، ممن لَم يَنظر هذه النظرة الفاحصة الشاملة، حتى إنهم قد يُعْمِلون نصوصًا في غير مواضعها؛ من شِدَّة غَفْلتهم عن شهود هذه الحقائق.

 

مسيرة الدعوة:

الدُّعاة إلى الله أكثر الناس حرصًا على الخير، وأحوجهم إلى مُدارسة ومعرفة سُنن الله في النصر والتمكين، والإنجاء والإهلاك، والمداولة بين الناس، وتبديل المُنتكسين المتخاذلين بآخرين ممن لا يخافون في الله لومةَ لائمٍ، وغير ذلك من السُّنن الجارية التي لا تَنفكُّ عن مسيرة الدعوة وواقع الدُّعاة.

 

وإنَّ من مجاراة سُنن الله أن يقومَ الدُّعاة بواجبهم في تحقيق التدافُع بين الحق والباطل؛ حتى يظهر الحق، ويُولِّي الباطل زاهقًا منهزمًا، وهذا الدور والواجب يَستلزم أفكارًا وخُططًا، ووسائلَ وأهدافًا ومراحلَ، وأيضًا يَستلزم الوعي الكامل لطبيعة الصراع بين الحق والباطل، وطبيعة الطريق الذي تَسلكه الدعوةُ؛ لتخليص العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، وأيضًا يقتضي ذلك الحذر من مكايد أعداء الدعوة، والانتباه لها، والعمل على إحباط مُخَطَّطاتهم للقضاء عليها.

 

والحركة الإسلاميَّة المعاصرة قد مرَّت بتجاربَ عديدة، وخاضَت حلقات من الصراع بين الحق والباطل، ومع كلِّ ما عانَته من غربة واضطهاد، وعالَجته من مَكرٍ وآلامٍ، عبر أحداث جِسام، وظروف عصيبة، فإن الله كتَب لها البقاء والمُضي، حتى وإن تعثَّرت خُطواتها في ثنيَّات الطريق ومُعتركاته، إلاَّ أنها قائمة موجودة بالفعل، والسؤال الذي يَطرح نفسه الآن وبقوَّة، هل استفادَت الحركةُ الإسلاميَّة من تجاربها السابقة المؤلِمة؟ وهل اكتَسَبتْ مهارات التوقُّع عبر رصيد التجارب ومُعطيات الواقع؟ بل هل أثَّر ذلك على خُططها المستقبليَّة واستشرافها للمستقبل؟ وهل كان ذلك بالسَّلب أم بالإيجاب؟

 

قال ابن سعد في طبقاته: "فلمَّا كان شهر ربيع الأوَّل سنة سبع من هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، كتَب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام، وبَعَث به مع عمرو بن أُمَيَّة الضَّمري، فلمَّا قُرِئ عليه الكتاب، أسْلَم، وقال: لو قَدَرت أن آتيه، لأَتَيْته، وكَتَب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُزَوِّجه أُمَّ حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت فيمَن هاجَر إلى أرض الحبشة مع زوجها عبيدالله بن جحش، فتنصَّر هناك ومات، فزوَّجه النجاشي إيَّاها وأصْدَق عنه أربعمائة دينار، وكان الذي وَلِي تزويجها خالد بن سعيد بن العاص، وكتَب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعثَ إليه مَن بَقِي عنده من أصحابه ويحملهم، ففعَل وحَمَلهم في سفينتين مع عمرو بن أُميَّة الضَّمري، فأَرْسلوا بهم إلى ساحل "بولا"، ثم تَكاروا الظهر، حتى قَدِموا المدينة، فيجدون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخَيْبر فشَخصوا إليه، فوجَدوه قد فتَح خيبر، فكلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن يُدْخِلوهم في سُهمانهم، ففَعلوا"[2].

 

فالناظرُ في قصة الهجرة إلى الحبشة بشيء من التأمُّل، يُدرك هذا التخطيط البعيد والتفكير العميق في المنهج النبوي؛ حيث أَذِن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لبعض أصحابه بالهجرة، وظلُّوا في الحبشة حتى قَدِموا عليه بعد صُلح الحديبية، وطول هذه الفترة لَم يكن لهم من المناسب أن يرجعوا إلى المدينة، ويتركوا هذا البلد التي من الممكن أن تكونَ ملاذًا للمؤمنين إذا اشتدَّت بهم الخُطوب، وتبدَّلت بهم الأحوال.

 

إنه لموقف يدلُّ على بُعدِ النظر والاحتياط الواجب في توفير بدائل مُتطلبات الدعوة، وإن تحمَّل المسلمون نصيبَهم من المشاقِّ في سبيل تأمين ذلك، فهو أمرٌ ليس بالسهل على أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يَجلسوا في الحبشة ولا يشهدوا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المشاهد والغزوات في أخطر مُنعطفٍ تَمرُّ به دولة الإسلام الناشئة، ولكنَّ الضرورة اقتَضَت ذلك.

 

أهل الباطل والصراع المُستميت:

العجيب أنَّك ترى أهل الباطل قد استفادوا من جولات الصراع، وأصبَح لديهم مخزونٌ متراكمٌ من الخبرات والمعلومات، التي يستطيع من خلالها المتربِّصون أن يُطَوِّروا أساليبهم، وأن يَحبُكوا مكايدهم وحِيَلهم؛ لتقويض مسيرة الدعوة وتعويقها؛ ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].

 

فإنَّ أنصار الباطل وأولياءَه لَم يَأْلُوا جُهدًا في الكَيْد لحقائق الدِّين، وفَكِّ رموز التوجُّه الدعوي، فعَمِلوا على الاستفادة من تجارب السنين وأخطاء الممارسات، وقاموا بالتدوين والتسجيل والمقارنة، والفهرسة للمعلومات والنتائج؛ حتى أصبَح لديهم مخزونٌ من الحُنكة والمهارة في النظر وإدارة الصراع، واستطاعوا - على حين غفلة من أنصار الحق - تحقيقَ الظَّفر في بعض جَولات مواجهة الحق ومُجابهته؛ مما ترَك آثاره المُضنية على مسيرة الدعوة ونموِّها، ومما اسْتَقَوْه من هذه الخبرة التراكُمية، والقدرة على فَهْم الخصوم، هو معرفة أهميَّة التخطيط البعيد والعمل الدَّؤوب المتكرِّر، دون استعجال للنتائج؛ فإنه يؤتي أُكُلَه ولو بعد حين.

 

فالمُدقِّق في مكايد الأعداء ومكاسبهم، يجد أنها تجاوَزت حدود المستحيل، عن طريق طول النَّفَس، والعمل البطيء المستديم، والترقُّب الطويل لأخطاء الدُّعاة وعَثرات الممارسات، واستغلال هذه الأخطاء - ما أمكَن ذلك - في محاربة الدعوة والقضاء عليها، فعلى سبيل المثال عندما لَم يحلم أعداء الدعوة بقَبول الإسلاميين لمجرَّد فكرة التفاوض مع الدعاة والنَّشطين، والجلوس منهم مجلس الحوار، ظهَر بعد سنين وأعوام خلوفٌ ممن يَنتسبون للدعوة مَن يَقبل ذلك وأكثر منه، ويُرَحِّب به، ويَضَع يده في أيدي أذناب الطُّغاة، ويُبَرهن على ذلك، ويُجادل عنه؛ إمَّا افتتانًا بالمُغريات المادية، أو رغبة في تحقيق شهرة ونجوميَّة، أو رَهبة من بَطْش أعداء الدعوة، وإيثارًا للسلامة، أو انحرافًا في التصوُّر وضبابية في الاعتقاد، أوْرَثَت سذاجة وسطحيَّة في التفكير، تَمَّ توظيفها لخدمة أعداء الدعوة، وسواء عزَونا ذلك للمكر والكيْد المُحكم، أو لضَعف هذه النفوس التي زَلَّت وتَدَنَّت، ولَم تَكْترث برصيد الماضي، فإن اللافت للانتباه بشدَّة هو تقلُّب الصراع عبر الزمن، وأنَّ عجَلة الوقت الدائرة لا تُوقفها عثرةُ فريق، أو انشغالٌ بِلَمْلَمة جراحٍ، بل وَضَح أهميَّة طول النَّفَس والنظر البعيد في تحقيق المكاسب وإحراز الأهداف.

 

أيضًا فمن أمثلة المكايد الطويلة الأمد البعيدة المرامي، التي دبَّرها الأعداء للكَيْد لمسيرة الدعوة الإسلاميَّة، ومحاولة التصدِّي لها على المستوى الفكري، ولو على المدى البعيد:

• ملف الاستشراق، ومحاولة الدراسة من الداخل، وبَثُّ السُّمِّ في العسل: فهو ملف طويل، وجُهد مُضْنٍ، لا يقوم به إلاَّ مَن أيْقَن أنَّ الصراع تاريخي ومُمتدٌّ، ومِن ثَمَّ تَمَّ تكريس جميع الآليَّات وتوفير السُّبل؛ لخَوْض هذه المعركة الفكرية الطويلة التي ترنو لتبديل الحقائق، وتزييف التاريخ من داخل المراجع والمصنَّفات الإسلاميَّة.

 

• مُخطَّطات التعليم في معظم البلدان، من حيث المناهجُ وأساليب التعليم، ودِقة هذه المُخططات في حَذْف الكلمات والعبارات العدائيَّة لليهود، وحَذْف مواقف السيرة ومآثر التاريخ التي تَحكي معاني البطولة والعبقريَّة والفِداء.

 

• إدارة المعارك الفكريَّة، عن طريق تسليط العلمانيين واليساريين وتحريضهم؛ لتشويه صورة الدعوة في معارك فكرية طويلة مُمتدَّة.

 

• مُخطط التذويب والانصهار للتيَّارات الإسلاميَّة، ودَمْجهم داخل الحياة الاجتماعيَّة المنحرفة عن مفاهيم الإسلام وتطبيقه؛ كمنهج شامل للحياة الإنسانيَّة، وهو مُخطط طويل تبنَّته الدراسات الحديثة، من أمثال أبحاث مركز "راند الأمريكي".

 

• مهام الكُتَّاب التنويريين من العلمانيين وأذنابهم، الذين بذَلوا أعمارهم وجُهدهم في نَشْر أفكارهم المُنحَلَّة، وزُبالة أذهانهم، والترويج لها في مقابلة الفكرة الإسلامية الناصعة الصافية.

 

• استخدام التنويريين ممن لهم ميولٌ إسلاميَّة، ونتاج فكري يهدِف إلى تبنِّي أفكار المقاربة والتوسُّط، وصُنع تيَّار وسطي تلفيقي؛ بهدف إظهار التيَّارات المخالفة لهذا التيار بالتشدُّد والغُلوِّ، والجمود والتطرُّف.

 

• إتقان اللعب بدور الدُّعاة الجُدد الذين ليس لديهم مشروعٌ حضاري إسلامي، فلا الثوابت يَحمونها ويحافظون عليها، ولا إلى الأمام يقودون مسيرة شباب الدعوة، بل التخذيل والتخدير هو أبرز معالمهم، ومنهم السلفيُّون المسالمون، الذي فَقَدوا منهجيَّة التغيير، ومشروع الإسلام الشمولي، وآثروا السلامة أيًّا كان ثمنُها!

 

وهذه المكايد وغيرها قد ترَكت بصماتها واضحة في الأوساط الدعوية، بالرغم من كونها جُهدًا فكريًّا بطيئًا، لا يأتي بنتائجَ بين يوم وليلة، بل هو طويل المدى، وقليل الخَطْو، لكنه بعيدُ المرامي.

 

التأثير الإستراتيجي:

على النقيض مما ذكَرنا، فقد أثَّرَت الدعوة على المدى البعيد في البيئة المحيطة، وترَكت بصماتها واضحة في مجتمعات الناس، ولعلَّ مما يُبَيِّن ذلك بعض المظاهر[3]، التي انتشَرت في المجتمعات التي مُورِسَت فيها الدعوة إلى الله، فمثلاً: الإقبال المتزايد على الحج والعمرة - خصوصًا في أعمار الشباب بدلاً من اقتصار الأمر في السابق على الشيوخ والعجائز - يُعَدُّ أحد ثمار الدعوة وآثارها، أيضًا المحافظة على صلاة التراويح في شهر رمضان، والحرص على الإكثار من تلاوة القرآن والتهجُّد فيه، والاعتكاف في أواخر هذا الشهر، وانتشار الكثير من السُّنن بين عوام الأُمَّة، وانزواء الكثير من البدع التي كانت منتشرة من قبلُ، وأيضًا انزواء التصوُّف الذي كان يُهيمن على الحياة الدينية لعقود طويلة، بالرغم من كلِّ الدعم المادي الذي تَناله الصوفية من أيدي أصحاب النفوذ والقرار في الكثير من البلدان، كلُّ ذلك من الأمور التي انتشَرَت بين الناس بعد مجهود مبذول من العاملين في الدعوة إلى الله، خصوصًا في البلاد التي لَم يكن يُعْرَف عن أهلها المحافظة على هذه الألوان من القُربات التعبُّديَّة.

 

إذًا فالحاجة باتَت واضحة؛ لاستغلال هذا التأثير، وإحداثه بشكلٍ مرتَّب، ومُعَدّ له مُسبقًا، ومُخَطَّط له بدِقة وعناية، عن طريق وَضْع خُطط طويلة المدى، بعيدة المرامي، لكنها واضحة الأهداف، مفهومة المعاني والمقاصد.

 

ولإيضاح ذلك نضرب مثالاً: إذا كان هدف من أهداف الدعوة، مثل: فَك الارتباط الحاصل لَدى الناس بين دعوة الإسلام في سُموِّها وعَليائها، وبين الواقع المُزري الذي يَعيشه المسلمون، والصورة الحياتية المُنَفِّرة لمجتمعاتهم الحاليَّة - إذا كان هذا الهدف وهذه الفكرة تحتاج إلى نقاش وإقناع ومحاولات إيضاحٍ وتبيينٍ على المدى القريب، فإنها على المدى البعيد تحتاج إلى خُطط دعويَّة وأهداف مرحليَّة؛ حتى تبلغ الدعوة هدفَها، وتَصِلَ إلى غايتها.

 

ففي المجتمعات الغربية ينظر الناس إلى بلادنا ومجتمعاتنا الحاليَّة - سواء كان ذلك باختيارهم، أم تحت تأثير أدوات التوجيه والتأثير، والضغط والهَيْمنة - على أنها هي النموذج الحي العملي لنظرية الإسلام، فإذا بهم يَجدونها مجتمعات فوضويَّة عشوائيَّة، لا تُقَدِّس قِيَم العمل، ولا تَعرِف معنى الحرية، بل لا تكاد تَذُوق طعمها، يَحكمهم الاستبداد، ويَقهرهم الجَوْر، وكأنهم لا يعرفون معنى العيش دون القهر، ولا يُجيدون الحياة إلاَّ أذلاَّءَ مقهورين، فضلاً عن الإسراف المادي الذي يصل إلى درجة السَّفه، والمُجون الفاحش الذي يصوِّره الإعلام الغربي على أنه هو الصورة الأساسية للعربي الذي يؤمن بمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وغير ذلك من الصورة السوداء في نظرة الغرب للإسلام والمسلمين.

 

فإن النتيجة من جهة المسلمين سواء، فهذه الصورة المُنَفِّرة من أكبر عوامل صدِّ الناس عن دعوة الإسلام وفَهْم روسواء كانوا مُحقِّين أم مبالغين،سالته، وقَبول تعاليمه.

 

وسواء كانوا مُحقِّين؛ حيث إنَّ مجتمعات المسلمين حقيقةً تبوء بشرٍّ كثير، وتَعُجُّ بالأمراض الاجتماعيَّة وأنماط التخلُّف والفوضى المحقَّقة، التي حَدَثت من جرَّاء الأساليب القمعيَّة والعشوائيَّة التي مُورِسَت في بلدان المسلمين لعقود طويلة، أو كانوا مبالغين؛ حيث إنَّ وسائل الإعلام الغربيَّة لا تألو جهدًا في تشويه صورة الإسلام، وطَمْس معالمه، وإلقاء التُّهم لرموزه ومبادئه.

 

أيًّا كان الأمر، فالذي يهم الداعية هو إزالة تلك الحواجز من طريق الناس؛ لإبلاغهم دعوةَ الله الحقيقية دون تشويه، والإسلام شرَع الجهاد؛ لإزالة تلك الحواجز، وكَسْر هذه الجُدر، وعَبْر تلك السدود؛ حتى تبلغَ حُجة الله إلى خَلْقه، دون تلبيس أو تزييفٍ، وأيضًا فالداعية مأمور بأنْ يَبذل جُهده في هذا الإبلاغ، وعليه أن يعدَّ خُطة واعية، وبرنامجًا عمليًّا؛ لتعريف الناس بربِّهم، وتَجْلِيَة صورة الإسلام الحقيقيَّة للناس أجمعين، دون تشويه أو تضليلٍ.

 

وهذه النظرة الإستراتيجيَّة ليستْ غريبة عن التصوُّر الإيماني والتربية الإيمانيَّة، بل إنَّ الناظر في نصوص الشريعة وحِرْصها على سدِّ الذرائع المُفضية للمُحرَّمات، ودوام النظر في مآلات الأقوال والأفعال والأحكام[4]، وحِرْصها على تقدير ذلك والاحتياط له - يُدرك بداهةً أنَّ هذا المبدأ من الأُسس الأصيلة في البناء التربوي الإسلامي، بحيث يزيد من عُمق النظرة وبُعدها عن اللحظة الحاليَّة، والتعامل مع الاحتمالات المتوقَّعة لمدة من الزمن القريب والبعيد على حدٍّ سواء.

 

بل إنَّ الهدي العملي للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان أُنموذجًا في هذا البناء التربوي التراكمي؛ كما رُوِي عن عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحبُّ الأعمال إلى الله تعالى أدْوَمها وإنْ قلَّ))[5].

 

وإنما ذلك يرجع إلى نفس هذا المنظور البعيد المدى، الذي يراعي الحاصلة النهائيَّة، بَغَضِّ النظر عن التفوق اللحظي الحالي؛ كما يُفسِّر ذلك الإمام النووي: "ينمو القليل الدائم، بحيث يزيد على الكثير المنقطِع أضعافًا كثيرة"[6].

 

وإن كانت الاتجاهات الفكريَّة الحديثة الآن تتسارع إلى إعمال الفكر الإستراتيجي في إدارة شؤون الحياة، وأصَّلوا قواعدَ وأفكارًا في صياغة وتخطيط وتقييم الخُطط الإستراتيجيَّة، فالمسلمون أَوْلى منهم بذلك، وأجدادهم عَمِلوا بهذه الأفكار منذ زمن بعيد.

 

فانظر على سبيل المثال ذلك الموقف الذي قد يُطلق عليه فيما يسمى بالدراسات الإدارية الحديثة بـ"القرار الإستراتيجي"[7]، وهو موقف أولئك الشبيبة الذين آمنوا بدين محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشارَفوا على عقد بيعة بينهم وبينه، تَنص على توفير الحماية له وللدعوة، وأن يَمنعوه مما يمنعوا منه نساءَهم وأموالهم، ما يعني ذلك لدى أفهامهم الثاقبة وعقولهم الراشدة، أنهم مُشرفون على مواجهة العالم بأَسْره، وحروب قد تمتدُّ أطرافها لتشمل القوى العظمى في هذا الوقت - الفرس والروم - ومن أجْل أنَّ قرار البيعة كان قرارًا محوريًّا، وخطوة ينبني عليها ما بعدها، كان لا بد من دراسة وتَجْلِيَة الأمور؛ تَأَهُّبًا لاتخاذ هذا القرار الإستراتيجي، ويتَّضح ذلك من خلال الحوار الذي تَمَّ أثناء البيعة؛ يقول المقريزي: "تكلَّم العباس أولاً يتوثَّق لرسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا معشر الخزرج، إنَّ محمدًا منَّا حيث عَلِمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عزٍّ ومَنَعة في بلده، وإنه قد أبى إلاَّ الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتُم ترون أنَّكم مُسلِموه وخاذِلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدَعُوه، فإنه في عِزٍّ ومَنَعة من قومه وبلده"[8].

 

"لقد قال عبدالله بن رواحة ليلة العقبة: اشترِط لربِّك ولنفسك ما شئتَ، فقال: ((أشترط لربي أن تَعبدوه ولا تُشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تَمنعوني مما تمنعون منه أنفسَكم وأموالكم))، قالوا: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: ((الجنة))، قالوا: رَبِح البيع، ولا نُقيل ولا نستقيل"[9].

 

"أسعد بن زرارة من شباب الخزرج، المتوهِّج المُتَّقد حماسًا وإخلاصًا، المُمتلئ إيمانًا، الفيَّاض باليقين - يريد أن يُحَدِّد الأمر إلى أبعاده البعيدة، فقال: رويدًا يا أهل يثرب! إنا لن نضربَ إليه أكباد المَطِي، إلاَّ ونحن نعلم أنه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنَّ إخراجه اليوم مُفارقة لجميع العرب وقتلُ خياركم، وأن تَعَضَّكم السيوف، فأمَّا أنتم قوم تصبرون عليها إذا مَسَّتكم بقتْلِ خياركم ومفارقة العرب كافة، فخُذوه وأجْركم على الله تعالى، وأمَّا أنتم تخافون من أنفسكم خيفة، فذَرُوه، فهو عُذر لكم عند الله - عزَّ وجلَّ - فقالوا: يا سعد! أمِطْ عنا يدَك، فوالله لا نَذَر هذه البيعة، ولا نَستقيلها، فقُمنا إليه رجلاً رجلاً، فبايَعْناه"[10].

 

"قال أبو الهيثم التيهان: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال - يعني: اليهود - حبالاً؛ أي: عهودًا، وإنَّا قاطِعوها، فهل عسيتَ إن نحن فعَلنا ذلك، ثم أظهَرَك الله أن ترجِعَ إلى قومك وتَدَعنا؟ فتبسَّم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قال: ((بل الدَّمَ الدَّمَ، والهَدْم الهَدْمَ)).

 

فانظر إلى أيِّ مدًى كان المسلمون الأوائل يراعون تقديرات الأمور وآثارها على المدى القريب والبعيد؟ وكيف يتعاملون مع المعلومات والبيانات؛ تمهيدًا لاتخاذ قرار خطير مثل البيعة للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم؟

 

أفكار عملية لخطط مستقبلية:

تراود كثيرًا من الدعاة أفكارٌ دعوية وحلول تربويَّة، لكنها ما تَلبث أن تُصبح طَيَّ النسيان، أو مكانها في الأدراج بين قصاصات الأُمنيات؛ وذلك لأن الحاجات المُلِحَّة التي تتطلَّبها الدعوة كثيرة، وعند تزاحمها يُقَدَّم الشخص الأكثر أهميَّة على ما هو دونه، فمثلاً: الحاجة إلى الإصلاح العَقَدي والتربية القرآنية النبويَّة، وتصحيح الكثير من التصوُّرات والمفاهيم المغلوطة في أوساط المجتمعات، كلُّ ذلك له الأولويَّة القُصوى، ويُقَدَّم على أيِّ شيء آخرَ، لكن إذا قَسَّمنا أهدافنا إلى قريبة المدى وأخرى بعيدة المدى، قد لا نجد حَرَجًا في أن نجمعَ بين هذه الأفكار الإصلاحية مع تلك الأولويَّات المنهجيَّة الأساسية، ومِن ثَمَّ نستطيع أن نَنسجَ الخُطط ونؤلِّف بين الأهداف، ثم نُنشئ الأدوات والبرامج التي تحوِّل هذه المطالب إلى واقع حياتي ملموسٍ، ولو بعد حين طويل.

 

وتوجد مجموعة من الأفكار والأهداف التي تَصلح لتطويرها إلى برامج وخُطط فيما بعدُ؛ منها:

• العمل على إخراج جيل يتربَّى على مبادئ الإسلام الشامل، فَهمًا وممارسة في حياته الاجتماعية والأُسرية، ومعاملاته الماليَّة، وغَرْس قِيَم حبِّ العمل واحترامه، والحِرص عليه حرصًا مستمدًّا من قِيَم الإسلام ورُوحه، التي تَدعَم البشر، وتَدفعهم للحركة والنشاط في الاتجاه النافع، ودَفْع الضار بشكلٍ يَتناسق مع حركة الكون.

 

• التركيز على التحرُّر من سلبيَّات المجتمعات الداخليَّة من حولنا، مثل: الفوضى والعشوائيَّة واللامبالاة، بحيث يترعْرَع جيلٌ قد دأَب على النظام والدقة، وتعوَّد على الإيجابيَّة في ممارساته، ولا تعرف الفوضى له طريقًا.

 

• التربية الإيمانية العلمية الشاملة، التي تعمل على فَهْم أصول الإسلام فَهْمًا عميقًا دقيقًا، واستيعاب مبادئه، ثم الخَوْض في تعلُّم علوم الشريعة، والتمسُّك بأدلَّتها الشرعيَّة، وتعلُّمها؛ دراسةً وتَلقينًا، وتعلُّم أدواتها، بحيث تضيق حدودُ التقليد إلى أقصى درجة، ويكون الرجوع إلى الأدلة هو المردَّ الأَوْلَى، ويخرج جيلٌ لَدَيه قَدْرٌ من هذا الفَهم والاستيعاب، والقدرة على الاستدلال، ويَقِلُّ الجهل والفوضى، ويَصْعُب تسرُّب الشكِّ والرِّيبة إليه.

 

• غَرْس رُوح الاعتزاز بالإسلام لدى النَّشء، وقَتْل رُوح الانهزاميَّة المنتشرة في المجتمعات؛ حتى يستطيع أن يرفعَ رأسًا، ويحمل للإسلام مِشعلاً.

 

• تدبير قيام حركة علمية فقهيَّة، تُخرِّج أجيالاً من العلماء والفقهاء والمجتهدين، يكفون حاجة الأُمَّة في الإفتاء والقضاء، وتكون عُدَّة لقيادة الأمة وَفْق منهج علمي واعٍ.

 

• وَضْع خُطط عمليَّة فيما يخص التربية العقلية السليمة، التي تعترف بالمُسَلَّمات العقلية، ولَدَيها القدرة على التفكُّر والتحليل والنظر، والعمل على تعزيز الوعي، عن طريق الاهتمام بدراسة السُّنن الإلهيَّة والارتباط بها، والإلمام بفَقْه الواقع، وإدراك ما يطْرَأ على ساحة الأحداث ومُجريات الأمور، وإتقان فَكِّ الرموز السياسية، وأيضًا تستطيع تقدير الأمور ووَضْعها في نِصابها، ومِن ثَمَّ تقييم الواقع والتعامل معه بما يَليق به في ضوء تعاليم الشرع وأوامر الإسلام.

 

وهذه الأهداف وغيرها تحتاج لمزيد من الاهتمام والنظر، كما تَفتقر إلى أن تُصاغ هذه الأهداف العامة وتلك الأهداف المرحلية في صورة خُطط وبرامج قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، بحيث تحقِّق الكثير من أغراض الدعوة، وتُحرز له مكاسب عظيمة لا يُمكن حَصْرها إلاَّ في دراسات متأنِّيَة.

 

كثرة المهام والتركيز الجزئي:

هذه الأهداف المذكورة وغيرها لا تتعارض مع الأهداف المَيدانية الأخرى للدعوة، بل تتكامَل معها، ولا يَظنَّنَّ أحدٌ أنَّ ذلك سيشغلُ الدعوة عما هو أهم وأنفع لدعوتهم، فالأصل أنَّ المؤمن يسعى في سُبل الخير كلها في آن واحدٍ إلاَّ عند التعارض، فإنه يقدِّم الأنفع على ما هو دونه.

 

وقد يقول قائل: علينا أن نوجِّه طاقاتنا لخُطط التغيير ومراحل التمكين، وأن نسعى قُدمًا في هذا الاتجاه، فنقول: ما يمنعك عن السعي فيما أردتَ، ولكنَّ التمكين له سُنن، والتعامل معها هو عين السعي للتمكين، كما أنَّ عجلة الزمان لا تتوقَّف، ورَحى الوقت دائرة، ولا بدَّ أن ننظر بعيدًا عن أقدامنا، ونُسهم في إخراج الأُمَّة من مِحنتها، ونعمل على نَشْر الدعوة مع الحفاظ على ريحها، وأيضًا نساعد على تغيير نظرة الناس إلى دعوة الإسلام، فإن هذا من أدعى الأسباب لقَبول دعوتنا وإقبال الناس عليها.

 

إنَّ التربية الشاملة هي التي تُغطي جوانب الإنسان كلَّها، وتوجِّه تحرُّكاته ونشاطه وَفْق منهج قويم، يسعى لصلاح الكائن الإنساني وإخراجه في أزكى صُورةٍ، كما كان من صنيع النبي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو الذي ربَّى هذا الرعيل الأوَّل، وأخرج منهم قادة الأُمم وهُداة البشرية كلها.

 

لقد شعَر الصحابة - رضوان الله عليهم - بالتميُّز الحقيقي على أُمم الكفر ودُوَلها، وشعَروا بعِزَّة الإيمان الحقيقية التي هيَّأَتْهم؛ ليكونوا أَوْلَى الناس بخصال الخير، وصنائع المعروف، فما رأوا من معروف إلاَّ سارعوا إليه، ولا من فضيلة إلاَّ ائْتَزَروا بها.

 

وفي نفس الوقت تربَّوا على النفْرة من أفعال السوء وخصال الخِسَّة، وكانوا أبعدَ الناس عنها، فارْتَقوا في مقامات الكمال ومدارج السُّموِّ، وعرَفوا ما يَليق بهم وما لا يَليق، كما وجَّههم المنهج الإسلامي: قرآنًا وسُنة.

 

هذه هي التربية الإسلامية الشاملة المطلوبة لإخراج جيل مسلم مُتَّزنٍ واعٍ، التربية التي تَليق بطبيعة المهمة المُنوطة بهذا الجيل، والتي تكاد تُكافئ تلك الجهود المبذولة لإيقاف مسيرة الدعوة، والحيلولة دون خروج الأمة إلى حَيويَّتها من جديد، وهذه التربية هي الطريق الصحيح الذي يَسلكه أهل الإسلام؛ لتحقيق نُصرة الدِّين والتمكين له في الأرض، وبالرغم من حدوث التعارض بين الجوانب بعضها ببعض، وما يَنشأ عن ذلك من تركيز الاهتمام على جانبٍ دون آخر، فإن هذا التعارُض الحاصل يُفسِّر ولا يُبرِّر انصباب توجيه جهود الدعاة على بعض المجالات دون المجالات الأخرى، وينشأ عن ذلك التربية الجزئيَّة والإصلاح السطحي الذي ينجح في جانب، ويَخفق في جوانب أخرى، ولكن المنهج الشامل هو الذي يَعتني بهذه المجالات كلها، ويقوم بالتوجيه والتقويم للسلوك كله، ويصبُّ اهتمامه في جميع ذلك دَفْعة واحدة، ثم يحدث التعارض بعد ذلك، فيوازن الإنسان بين هذا وذاك، فيقدِّم المعروف الأكبر على معروفٍ أقلَّ منه، وهكذا.

 

إذًا فالتعارض والتزاحُم ليسا في أصل الاهتمام، ولكن في فروع العمل، وسلوكيَّات الأداء.

 

ولعلَّنا إذا نظَرنا لبعض هذه الأفكار المطروحة، فسنجد أنَّ الدِّقة والنظام من صميم المنهج الإسلامي، والعمل الدؤوب والنشاط فيما يفيد الحياة الإنسانيَّة، لهو من خصائص هذه الأُمَّة، وإن وجَدنا الكفار قد سبقونا إلى كلِّ ذلك، فنقول: نحن أَوْلى به منهم، وإنما نقَله آباؤهم عن أجدادنا.

 

فالإسلام قوة فاعلة في الأرض، دَلَّتْ على ذلك نصوص الشرع وبَيِّناته؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40].

قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251].

قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].

 

وإذا تأمَّلنا في منهج يَعقد للناس اجتماعًا في اليوم والليلة خمس مرات، فيَجتمع الناس، وينصرفون منه في هذه الخمس المتوالية في حركة دَؤوب وسَعْي حثيثٍ.

 

إنَّ المشاهِد المتأمِّل لذلك يرى أنَّ أتباع هذا المنهج هم أُمَّة العمل وأصحاب الحركة والنشاط، وأبعد الناس عن الخمول والكسل، وأمَّا الجمود المُزري الذي تعاني منه مجتمعاتنا الآن، وتعاني منه الدعوة؛ حيث يوجَّه إليها تُهمة الفوضى والهمجيَّة، والسطحية والتخلُّف، التي تلاحق المُنتسبين لهذا الدين، وتَصُدُّ الناس عن دين الله، فهو ليس من طبيعة هذا الدين، ولا سِمة لأَتْباعه، بل هو ناشئ بدافع حياة القهر والاستبداد التي نالَت مجتمعاتنا سنينًا طويلة، وأفْسَدت فيها أيَّما إفسادٍ، فكان هذا النِّتاج الشائِه من المجتمعات المقهورة الفاقدة للهُويَّة والرسالة، وكانت هذه اللَّوْثة التي مَسَّت بعَطَنها بيئة الدعوة، وأجْهَضَت مُهمَّتها، وتسعى الدعوة الآن لاستعادة رِيادتها، وقيادة مسيرة النهضة من جديد، وتَنتفض للقيام من هذه الغَفوة والجمود، والتمسُّك بحقائق الإسلام في التصوُّر والعمل، ولنشرها في الآفاق واضحةً بيضاءَ، نقيَّة من غير تشويه، ولا تحريف، أو تفريطٍ، أو كَدِرٍ.

 

تم الانتهاء من تحريره

7 جماد الآخر 1432هـ



[1] يُعَرَّف مفهوم الإستراتيجية في العلوم الإدارية الحديثة بأنه: عملية اتخاذ القرارات بناءً على معلومات عن مستقبلية القرارات الحاليَّة، ووَضْع الأهداف والإستراتيجيَّات والبرامج الزمنيَّة، والتأكُّد من تنفيذ الخُطط والبرامج المحُدَّدة وَفْق الأهداف بعيدة المدى؛ راجع عايدة سيد خطاب: الإدارة الإستراتيجية المتقدِّمة.

[2] الطبقات الكبرى؛ لابن سعد.

[3] المقصود طبعًا ليس الانشغال بالظواهر، ولكن رصْد لآثار المسيرة، وتحليل وتقييم نتائجها.

[4] يقول الشاطبي في الموافقات: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يَحكم على فعلٍ من الأفعال الصادرة عن المكلَّفين بالإقدام أو بالإحجام، إلاَّ بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل".

[5] متفق عليه، واللفظ لمسلم.

[6] شرح صحيح مسلم؛ للنووي.

[7] يُعَدُّ القرار الإستراتيجي عمومًا: "عملية مفاضَلة دقيقة بين بديلين إستراتيجيين على الأقل، يتمتَّعان بقيمة واحدة أو متشابهة"، وقد يكون القرار الإستراتيجي: "حركة واثقة نحو القضاء على حالة من حالات التوتُّر؛ لتصفية مصادر ذلك التوتر بصورة أو أخرى"، وهو بذلك: "يتضمَّن؛ إمَّا عمل شيء، أو الامتناع من عمل شيء في الأقل، أو التخطيط لفِعل شيء ما في المستقبل"، "ذلك القرار الذي تَمَّ اختياره من مجموعة من البدائل الإستراتيجية، والذي يمثِّل أفضلَ طريقة للوصول إلى أهداف المنظَّمة"؛ مازن إسماعيل الرمضاني؛ في عملية اتخاذ القرار السياسي الخارجي، مجلة العلوم القانونيَّة والسياسية؛ نقلاً عن: علي بشار بكر أغوان؛ خيوط العلاقة ما بين التخطيط الإستراتيجي والقرار الإستراتيجي.

[8] إمتاع الأسماع؛ للمقريزي.

[9] الدعوة الإسلامية في عهدها المكي: مناهجها وغاياتها؛ دكتور: رؤوف شلبي.

[10] الدعوة الإسلامية في عهدها المكي؛ مناهجها وغاياتها.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • التفكير الإستراتيجي

مختارات من الشبكة

  • الجهات الخيرية والتخطيط الإستراتيجي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مئة قاعدة في التخطيط العسكري الإستراتيجي عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • خدمات المتقاعدين وضرورة التخطيط والعمل الإستراتيجي الموحد(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • نموذج الدكتور مساعد للتخطيط الإستراتيجي (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • فوائد التخطيط الإستراتيجي "خطتي2"(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • التخطيط الإستراتيجي "خطتي1"(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • أين المفكِّر الإستراتيجي المسلم؟(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • هل نقود خدمات المتقاعدين على أساس الرؤية المستقبلية؟(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الإدارة الإستراتيجية وتحديات القرن الحادي والعشرين للجنابي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • التصور العام للخطة الاستشرافية للنبي صلى الله عليه وسلم(مقالة - ملفات خاصة)

 


تعليقات الزوار
5- مقالة جادة
راجي نور - مصر 16-11-2011 09:13 PM

قليلة هي المقالات الجادة التي تضيف جديدا للفكر الإسلامي. وأحسب أن هذه المقالة من هذا الصنف الذي يحتاج إلى تدبر وإنعام للنظر.
ثم هي تحتاج إلى فصيل وتفريع من قبل العاملين للإسلام كل في واقعه.
جزى الله كاتبها خيرا.

4- الإسلام منهج فاعل في الأرض
محمود محمد الزاهد - مصر 02-11-2011 02:04 AM

جزاك الله خيرا الأخ أحمد السنيد على كلماتك
والحقيقة أن العمل وإتقانه والتخطيط للأمام من صميم منهج الإسلام في دعوته وعمارته للأرض ومواجهته للخصوم، وهو ما تقره قواعد الإيمان والتوكل الحق على الله سبحانه وتعالى وعدم الاستكانة والاستسلام للعجز والضعف والانطراح بين يدي الوهن .. نسأل الله السلامة والعافية

3- جهد مشكور
عصام أحمد - مصر 23-10-2011 07:21 PM

جهد مشكور وبحث جاد يحتاج إلى التأمل والدراسة

بارك الله فيكم

2- تعليق على النص
احمد - موريتانيا 21-10-2011 10:08 PM

بحث رائع في موضوع مهم جدا، لاشك أن التربية السليمة هي المفتاح لكل خير وهي الوسيلة التي لا غنى عنها من أجل النهوض بجيل مسلم قادر على رفع التحديات

1- شكر
احمد السنيد2 - الأردن 21-10-2011 09:41 PM

إن هزيمة الأمة تأتي من بين ابنائها ومن الاعتقاد بأن النصر لا يكون إلا على يد المهدي المنتظر وترك العمل إلى ذلك الحين ولو اعتقد الصحابة ومن جاء من بعدهم هذا الاعتقاد لما وصل الدين الى ما وصل اليه ولكن لكل زمان دولة ورجال .
جزاك الله خيرا على هذا الموضوع الذي يصب في عمق المشكلة التي نعاني منها .

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب