• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    سيناء الأرض المباركة
    د. حسام العيسوي سنيد
  •  
    استراتيجيات المغرب في الماء والطاقة والفلاحة ...
    بدر شاشا
  •  
    طب الأمراض التنفسية في السنة النبوية
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    الاستشراق والمعتزلة
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    زبدة البيان بتلخيص وتشجير أركان الإيمان لأحمد ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    مفهوم الصداقة في العصر الرقمي بين القرب الافتراضي ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / سير وتراجم / سير وتراجم وأعلام
علامة باركود

عصر ابن تيمية وأثره فيه (2)

د. بليل عبدالكريم

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 6/9/2011 ميلادي - 7/10/1432 هجري

الزيارات: 35293

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

مكانة ابن تيمية بين أهل عصره:

تتجلَّى مكانة ابن تيميَّة العلميَّة في مرتبة مَن تخرَّج عليه، وما أخرَجه من عِلْمٍ في كُتبٍ، ومدى تأثير اختياراته في العلوم، ومَن زكَّاه وأثْنَى على عِلْمه، فجَمْهرة تلاميذه من أساطين العلم وأعلام عصرهم، وجمهور مَن أثنى عليه من أقطاب العصر علمًا وحكمًا، وأهل العلوم أدرى بشِعابها، وبِمَن تشبَّع بها.

 

مِن دلائل عُلو قَدْره في العلم وتأثيره في غيره كثرة الكتب في سيرته، ومنها على التمثيل لا الحصر: الانتصار في ذكر أحوال قامع المبتدعين وآخر المجتهدين أحمد ابن تيميَّة؛ محمد بن أحمد بن عبدالهادي، واشتَهر بالعقود الدريَّة، الردُّ الوافر على مَن زعم أن مَن سَمَّى ابن تيميَّة شيخ الإسلام كافر؛ ناصر الدين محمد بن عبدالله الدمشقي، الأعلام العليَّة في مناقب ابن تيميَّة؛ البَزَّار، الكواكب الدُّريَّة في مناقب شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ مرعي بن يوسف الكرمي، القول الجَلِي في ترجمة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيميَّة الحنبلي؛ لأبي الفضل صفي الدين، محمد بن أحمد البخاري، الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ مجموعة من الباحثين، حياة شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ محمد بهجة البيطار، ابن تيميَّة حياته وعصره وآراؤه؛ محمد أبو زهرة، ابن تيميَّة؛ عبدالعزيز المراغي، ابن تيميَّة؛ محمد يوسف موسى، ابن تيميَّة حياته وعقائده؛ صائب عبدالحميد.

 

قال الذهبي عن مكانة ابن تيمية عند علماء عصره: "كبارهم وأئمَّتهم خاضعون لعلومه وفِقْهه، معترفون بشغوفه وذَكائه، مُقِرُّون بندور خَطئه".

 

وبيَّن الذهبي مكانته العلميَّة، ودوره في نشْر العلم كتابةً وخطابة: و"برع في علوم الآثار والسُّنن، ودَرَّس وأفْتَى وفسَّر وصَنَّف التصانيف البديعة"[1]، ومِن عُلُو شأنه انقسَم الناس - ولا بدَّ - حوله، فما إنْ يَرِد منه ما يُخالف المألوف، حتى يُنال من قَدْره، وابن تيميَّة "انفرَد بمسائل، فنِيلَ من عِرْضه لأجْلها، وهو بَشَرٌ له ذنوب وخطأ، ومع هذا كان إمامًا مُتبحِّرًا في علوم الديانة، صحيحَ الذِّهن، سريعَ الإدراك، سَيَّالَ الفَهْم، كثير المحاسن، موصوفًا بفَرْط الشجاعة والكرَم، فارغًا عن شهوات المأكل والملْبَس والجِماع، لا لذَّة له في غير نَشْر العلم وتدوينه، والعمل بمقُتضاه"[2].

 

ورجل بذي السيمات هو من آيات زمانه، وكلُّ مَن دَرَى السُّنن يوقِن أنه خاضَ معارك شاميَّة ومصريَّة؛ لإعلاء المَحَجَّة النبويَّة، وتطهير العقائد الإسلاميَّة مما لَحِقها من لوث الوثنيَّة، والخُرافات البدعيَّة، والله جعَله حُجَّة في عصره، ومعيارًا للحق والباطل، ومُريدَ الآجل وغير مؤثر العاجل، وهذا أمْرٌ قد اشتَهر وظهَر، وعصر ابن تيميَّة عصرُ تقليدٍ ومسايرة للعامة، وشروح وحواشٍ، نَضَب فيه الاجتهاد، حتى عُدَّ خرقًا للمألوف، وبدعًا من الكلام مكشوفًا، فما إن ورَد منه بيان بُطلان فتاوى ومسائل وأقوال مشهورة بين أهل زمانه، حتى رُمِي في قصْده، وطُعِن في نيَّته، وأعداؤه - قبل أتباعه - مُقِرُّون أنه لا يُورِد ذلك تَشَهِّيًا، ولا يعلم أنه تكلَّم عن جهلٍ أو رَدَّ تَشَفِّيًا، بل هو لها أهل لِمَا قال، وحُجَّة فيما رأى، "فإنه - رضي الله عنه - ليس له مُصَنَّف ولا نصٌّ في مسألة ولا فتوى، إلا وقد اختار فيه ما رجَّحه الدليل النقلي والعقلي على غيره، وتحرَّى قول الحقِّ المحض، فبرهَنَ عليه بالبراهين القاطعة الواضحة الظاهرة، بحيث إذا سَمِع ذلك ذو الفطرة السليمة، يثلج قلبه بها، ويَجزم بأنها الحقُّ المبين"[3].

 

فهو يَنهج حيثما وَلَّى النص، يَعرض كلام المجتهدين على ميزان السُّنة، فما وافَق اتَّبع، وما خالَف ردَّ، ولو قال به جماهير العلم، فكلام الرسول يعلو ولا يُعلى عليه، وأهل العلم يؤخذ المجتهد من كلامهم ويرد.

 

ومَن كانت هذه سيرته، أمِنَه العامة على دينهم، فأهل الحديث وَرَثة لسُنة النبي، والأعلم بكلامه وأفعاله وإقراره، وسيرته وغزواته، ومقاصده من جوامِع كَلِمه، فصاحب الحديث يُلَقَّى العلم من مَعينه، حتى إنَّ أهل البلد البعيد عنه كانوا يُرسلون إليه بالاستفتاء عن وقائعهم، ودليل ذاك فتاويه لأهْل "واسط، وتدمر، وقُبرص، وأهل الثغور"، وتَرْك أهل مصر لغيره، وطَلَبُ فتواه وهو بالسجن، وله رسائل لأمصار وأقاليم بعيدة، أرْسَلوا بدلاً عنهم مَن يَستفتيه، والسائل المسافر لابن تيميَّة قد قطَع قُرًى ومُدنًا وأقاليمَ بها علماء، وبات في ممالك تَعج بالفقهاء، غير أنه لا يبغي لغير ابن تيميَّة وفتواه بديلاً.

 

قال الذهبي: "ومَن أراد تحقيقَ ما ذكرته، فليُمْعِن النظر ببصيرته؛ فإنه حينئذٍ لا يرى عالِمًا من أي أهل بلد شاء؛ موافقًا لهذا الإمام، معترفًا بما منَحه الله تعالى من صنوف الإلهام، مُثنيًا عليه في كل مَحفلٍ ومقام، إلاَّ ورآه مِن أتْبَع علماء بلده للكتاب والسُّنة، وأشْغَلهم بطلب الآخرة، وأرْغَبهم فيها، وأبْلَغهم في الإعراض عنها، وأهملهم لها، ولا يرى عالِمًا مخالفًا له، منحرفًا عنه، ملتبسًا بالشَّحناء له، إلا وهو من أكبرهم نَهمة في جمْع الدنيا، وأوْسَعهم حِيَلاً في تحصيلها، وأكثرهم رِياءً، وأطلبهم سُمعة، وأشهرهم عند ذي اللبِّ أحوالاً رَدِيَّة، وأشدهم على ذوي الحُكم والظلم دهاءً ومَكرًا، وأبْسَطهم في الكذب لسانًا، وإن نظَر إلى مُحَبِّيه ومُبغِضيه من العوام، رآهم كما وصَفت من اختلاف القبيلين الأوَّلين"[4].

 

فهذه شهادة أهل الحق والتُّقى، ممن شُهِد لهم؛ فشَهِدوا له، وأهل الفضل أعلم بالفُضلاء، وأُولُو الصَّنعة أدْرى بحُذَّاقها.

 

وأهل الحسد يسومون أهل الفضل مُرَّ الكلام، وأهل الباطل يقذفون أنصار الحقِّ بالبَغي، فكان من يقين أهل العلم ألاَّ يُرَى طاعنٌ في أهل السُّنة مُترصِّد لعَوَراتهم، إلاَّ عُلِم أنَّ به فسادَ نيَّة ولوثَ سجيَّة، وأن نُفورَه من السُّنة قادَه ليَمْقُت أهلها، وهذا مما تواتَر به كلام الأئمة، وهو دَيْدَن مَن طعَن في دين ابن تيميَّة وعِلمه، وله محبُّون من العلماء والصُّلحاء، ومن الجُند والأُمراء، ومن التجَّار والكُبراء، وسائر العامة تحبُّه؛ لأنه مُنتصب لنَفْعهم ليلاً ونهارًا؛ بقلمه ولسانه، ويده وسِنانه.

 

موقف معاصريه ومَن تلاهم:

شَهِد لابن تيميَّة القاصي والداني، الموافق والمخالف بالملكة العلميَّة، واعترَف له أهل كلِّ فنٍّ بالشأن في فنِّهم، غير أنَّ طائفة عابوا عليه أمورًا وأقوالاً وأفعالاً، ورماه آخرون بالشذوذ في الأقوال، وخَرْق الإجماع، ومنهم مَن كفَّره، فهم بين مَن عدَّه من أهل الباطل، ومَن ادَّعى أنْ لا اجتهاد له، و"مَن يقول له: أنت مُخطئ ولستَ سلفيًّا، زَلَّ لسانك، وأخطأ بيانك في حقِّ ربِّك، وفي حقِّ الأنبياء والمرسلين"[5].

 

وبعضهم رمَاه بالتناقض في الأقوال، والاضطراب في الأحكام، والتلاعب بالنصوص، والانتقائية في عَرْض كلام الخصوم، وتَشَهِّيه بالردِّ والنقد، وسبب ذلك "طبيعته النقديَّة لمعظم الأئمة والعلماء، حتى لكأنَّه يُمارس لذَّةً كبيرة في ذلك، وهذا التحليل لهذا الاضطراب المتناقض في موقف ابن تيمية، هو أقرب ما يَنسجم مع الدفاع عن عقيدته الإسلاميَّة"[6].

 

وآخرون عرَّضوا بمكانته في الحديث، وزعموا أنَّ "لابن تيميَّة مع الحديث النبوي مجازفات جريئة، لَم يَجرؤ أحدٌ قبله على مثلها، وله طريقة في إيهام القارئ؛ لَم يَسبقه إليها أحد"[7].

 

غير أنَّ أساطين أهل العلم تَدين له بالتبحُّر في العلوم والرسوخ في الفنون، وإن كانوا يردون بعض اجتهاداته، إلا أنَّهم لا يُنكرون مَلَكته ومكانته، و"قد يَنْقِمون عليه أخلاقًا وأفعالاً؛ منصفُهم فيها مأجور، ومُقتصدهم فيها معذور، وظالِمُهم فيها مأزور، وغاليهم مغرور، وإلى الله تُرجع الأمور، وكلُّ واحدٍ يؤخَذ من قوله ويُتْرك، والكمال للرُّسل، والحُجة في الإجماع.

 

فرَحِم الله امرأً تكلَّم في العلماء بعلمٍ، أو صمَت بحلمٍ، وأمْعَن في مضايق أقاويلهم بتُؤَدَة وفَهْم، ثمَّ استغفَر لهم، ووسَّع نطاق المعذرة، وإلاَّ فهو لا يدري، ولا يدري أنَّه لا يدري".

 

فما من إمام علمٍ إلاَّ وقد دُرِي له زَلَّة، ولا جَوَاد إلا وعُلِم له كَبْوة، "وإن أنت عَذَرت كبار الأئمة في مُعضلاتهم، ولا تَعذر ابن تيميَّة في مفرداته، فقد أقْرَرت على نفسك بالهوى، وعدم الإنصاف! وإن قلت: لا أعذره؛ لأنَّه كافر، عدو لله تعالى ورسوله، قال لك خلقٌ من أهل العلم والدين: ما عَلِمناه والله إلاَّ مؤمنًا محافظًا على الصلاة، والوضوء، وصوم رمضان، مُعَظِّمًا للشريعة ظاهرًا وباطنًا، لا يؤتَى من سوء فَهْم، بل له الذكاء المُفرط، ولا من قلة علمٍ، فإنه بَحْرٌ زخَّار، بصير بالكتاب والسُّنة، عديم النظير في ذلك، ولا هو بمتلاعب بالدِّين؛ فلو كان كذلك، لكان أسرعَ شيء إلى مُداهنة خصومه، وموافقتهم، ومنافقتهم".

 

فمَن أنكَر على ابن تيمية خلافه للأئمة في الاجتهاد، مثله كمثل الذي نَقَم على الشافعي خلافه لشيخه مالك بن أنس، وأنْكَر على ابن حنبل خلافه لأبي حنيفة ومالك والشافعي، فكلام الأئمة مرجع مُستأنس، لا مَصْدر مُقَدَّس، وأهل العلم لا يُخالفون الأئمة ومشايخهم للتسلِّي، وبيان مَزيد فضلٍ، بل يتبعون عن علمٍ، ويخالفون بعلمٍ، ولَم يُعْلَم عن ابن تيميَّة أنه اسْتَنَقص الأئمة والسلف الصالح، بل يُقَدِّم كلامهم على غيرهم، ويقدِّم كلام الوحي عليهم، وأقْرَب أقوالهم عنده ما قارَب منها السُّنة، فلا "يتفرَّد بمسائل بالتشهِّي، ولا يُفتي بما اتَّفق، بل مسائله المفردة يحتجُّ لها بالقرآن، أو بالحديث، أو بالقياس، ويُبرهنها، ويُناظر عليها، ويَنقل فيها الخلاف، ويُطيل البحث؛ أُسوة بمَن تقدَّمه من الأئمة، فإن كان قد أخطأ فيها، فله أجْرُ المجتهد من العلماء، وإن كان قد أصاب، فله أجران"، وذي سيرة الأئمة مع كلام مَن هم أعلى منهم كعبًا، وأرْسَخ قدمًا في العلم، وأقرب لعصْر النبوَّة من صحابة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورَبَّوا تلامذتهم على ذلك، بالوزن القسط، والردِّ لله ورسوله حال التنازع، ولَم يَذمَّهم غير جاهل، "وإنَّما الذمُّ والمَقت لأحد رجلين: رجل أفتَى في مسألة بالهوى، ولَم يُبْد حُجَّة، ورجل تكلَّم في مسألة بلا خميرة من علمٍ، ولا توسُّع في نقلٍ؛ فنعوذ بالله من الهوى والجهل".

 

فأهل الاجتهاد أدْرَى بما هو حقٌّ، وحُقَّ لهم طلَبُ الحق، وحقيق بهم نصْرُ السُّنة، لا نصْر مذاهبهم، فدعواهم لله لا شيء غيره، وإنِ اجتمَع عليهم الملأ، وسَخِط العامة، "ولا ريبَ أنه لا اعتبار بذمِّ أعداء العالم؛ فإن الهوى والغضب يَحملهم على عدم الإنصاف والقيام عليه، ولا اعتبار بمدْح خواصِّه والغُلاة فيه؛ فإن الحبَّ يَحملهم على تغطية هَنَاته، بل قد يَعدُّوها محاسنَ، وإنما العِبرة بأهل الوَرَع والتقوى من الطرَفين، الذين يتكلمون بالقِسط، ويقومون لله، ولو على أنفسهم وآبائهم"[8].

 

فأهل القسط يُثنون على أهل العلم، ويُلَقِّبونهم بما امتازوا به، ويُنزلون الرجال منازلهم، ويضعون الأكابر في مقاماتهم، فسَموا ابن تيميَّة بشيخ الإسلام، وجعلوه حُجَّة لأهل ذانك الزمان، وتصدَّر وَسْمه باللقب عُلماء وحُفاظ، وأئمة علمٍ ودين، وقُضاة وأهل فضْلٍ؛ قال ابن حجر[9](ت 852): "وتلقيبه بشيخ الإسلام باقٍ إلى الآن على الألسنة الزكيَّة، وسيستمرُّ غدًا ما كان بالأمس، ولا يُنكر ذلك إلا مَن جَهِل مقداره، وتَجنَّب الإنصاف"[10].

 

ومَن لقَّبه إنما راع عِلْمه ومكانته، ودرَى فضْلَه ومِنَّته، وقارَن وقارَب، فما رأى مَن يُزاحمه، ولا درَى مَن يُناهضه، فهو مع خصومه كأعراف الموج تلاطم فُلكًا، فلا هم عَلَوْا عليه، ولا هو استقرَّ بقاعها، ما ناظَره أهل باطل إلا دَعوا الله لأنْ أنْجَيتنا من مجلسنا هذا، لنكوننَّ من الشاكرين، فلمَّا نجَّاهم إلى البرِّ، إذا هم على ابن تيميَّة يفترون، ولو كانت لهم بضاعة أو أثارة من عِلْم، لأخرجوها له في مَجلسها، ولو راعوا للعلم حُرمته، لتبيَّنوا أهله من دُخلائه، غير أنهم هانوا، فأهانوا أهلَ العلم.

 

قال الواسطي (ت711)[11]: "فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبعمائة من الهجرة مَن بيَّن لكم أعلامَ دينكم، وهداكم الله به وإيَّانا إلى نَهْج شريعته، وبيَّن لكم بهذا النور المحمدي ضلالات العباد وانحرافاتهم، فصِرْتم تعرفون الزائغ من المستقيم، والصحيح من السقيم، وأرجو أن تكونوا أنتم الطائفة المنصورة، الذين لا يضرُّهم مَن خذَلهم ولا مَن خالَفهم"[12].

 

وقال أحمد بن طرخان الملكاوي[13] (ت 803): "فوالله، إنَّ الشيخ تقي الدين شيخ الإسلام، لو دَرَوا ما يقول، لرَجعوا إلى مَحبَّته وولائه، وكلُّ صاحب بدعة ومَن يَنتصر له لو ظهروا، لا بدَّ من خمودهم وتلاشي أمرهم، وهذا الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة، كلَّما تقدَّمت أيَّامه، تظهر كراماته، ويَكثر مُحبُّوه وأصحابه"[14].

 

وذي نبذة مُنتقاة من ثناء بعض عدول أئمة العلم على ابن تيميَّة، وأهل الاختصاص أدْرى بخاصَّتهم، وأمكن في أن يُميِّزوا الدخيل بزُمرتهم عن الأصيل:

• بهاء الدين بن السُّبكي (ت763)[15]: قال لبعض مَن ذَكَر له الكلام في ابن تيميَّة: والله يا فلان، ما يُبغض ابن تيميَّة إلا جاهلٌ أو صاحب هوًى، فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصدُّه هواه عن الحقِّ بعد معرفته به[16].

 

• محمود بن أحمد العيني (ت855): إمام الحنفيَّة في زمنه، قال فيمَن ذَمَّ ابن تيميَّة: "وليس هو إلا كالجُعَل[17] باشتمام الورد يموت حَتْف أنفه، أو كالخُفَّاش يتأذَّى ببُهور سَنا الضوء؛ لسوء بصَره وضَعْفه، وليس لهم سجيَّة نقَّادة، ولا رَوِيَّة وقَّادة، ومِن الشائع المستفيض أنَّ الشيخ الإمام العالم العلاَّمة تقي الدين ابن تيميَّة من شُمِّ العَرانين[18] الأفاضل، ومن جَمِّ براهين الأماثل"[19].

 

• ابن سيِّد الناس (ت734)[20]: قال في ابن تيميَّة: "ألفيتُه ممن أدْرَك من العلوم حظًّا، وكاد أن يستوعِبَ السُّنن والآثار حفظًا، إن تكلَّم في التفسير، فهو حامل رايته، أو أفْتَى في الفقه، فهو مُدْرك غايته، أو ذاكِر في الحديث، فهو صاحب عِلْمه وذُو روايته، أو حاضَر بالمِلل والنِّحل، لَم يُرَ أوْسَع مِن نِحْلته، ولا أرفع من دِرَايته، برَز في كلِّ فنٍّ على أبناء جِنسه، ولَم تَرَ عينُ مَن رآه مثله، ولا رأتْ عينه مثلَ نفسه"[21].

 

• تقي الدين ابن دقيق العيد (ت702)[22]: "قال له بعد سماع كلامه: ما كنتُ أظنُّ أنَّ الله تعالى بقي بخَلْقٍ مثلك، وقال عنه: رأيتُ رجلاً العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويَدَعُ ما يريد"[23].

 

• ابن الوردي زين الدين عمر (ت749)[24]: "حَضَرتُ مجالس ابن تيمية، فإذا هو بيت القصيدة، وأوَّل الخريدة، علماء زمانه فَلكٌ هو قُطبه، وجِسم هو قلْبُه، يَزيد عليهم زيادة الشمس على البدر، والبحر على القطر".

 

• أبو حيَّان الأندلسي النحوي (ت754): قال ما رأتْ عيناي مثلَ ابن تيميَّة، ثم مدَحه على البديهة في المجلس، فقال:

لَمَّا أَتَيْنَا تَقِيَّ الدِّينِ لاَحَ لَنَا
دَاعٍ إِلَى اللهِ فَرْدٌ مَا لَهُ وَزَرُ
عَلَى مُحَيَّاهُ مِنْ سِيمَا الأُلَى صَحِبُوا
خَيْرَ البَرِيَّةِ نُورٌ دُونَهُ الْقَمَرُ
حَبْرٌ تَسَرْبَلَ مِنْهُ دَهْرُهُ حِبَرًا
بَحْرٌ تَقَاذَفُ مِنْ أَمْوَاجِهِ الدُّرَرُ
قَامَ ابْنُ تَيْمِيَّةٍ فِي نَصْرِ شِرْعَتِنَا
مَقَامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إِذْ عَصَتْ مُضَرُ
فَأَظْهَرَ الْحَقَّ إِذْ آثَارُهُ دَرَسَتْ
وَأَخْمَدَ الشَّرَّ إِذْ طَارَتْ لَهُ الشَّرَرُ
كُنَّا نَحُدِّثُ عَنْ حَبْرٍ يَجِيءُ فَهَا
أَنْتَ الإِمَامُ الَّذِي قَدْ كَانَ يُنْتَظَرُ[25]


• البرزالي (ت739)[26]: كتَب البرزالي بخطِّه: "شيخنا وسيدنا، الإمام العالِم العلاَّمة الأوْحد القدوة، الزاهد العابد الوَرِع، الحافظ تقي الدين شيخ الإسلام والمسلمين، سيِّد العلماء في العالمين، حَبْر الأُمَّة مقتدي الأئمة، حُجَّة المذاهب، مُفتي الفِرَق، أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيميَّة، أدام الله برَكته، ورَفَع درجته"[27].

 

• ابن رجب (ت795)[28]: قال في ترجمة ابن تيمية: "الإمام الفقيه المجتهد المحدِّث، الحافظ المفسِّر، الأصولي الزاهد، تقي الدين أبو العباس، شيخ الإسلام، وعَلَم الأعلام، وشُهرته تُغني عن الإطناب في ذِكره والإسهاب في أمره"[29].

 

• ابن حجر العسقلاني (ت852): قال في تقريظه لكتاب لابن تيميَّة: "وقفتُ على هذا التأليف النافع، والمجموع الذي هو للمقاصد التي جُمِعَ لأجْلها جامع، فتحقَّقت سَعة اطلاع الإمام الذي صنَّفه، وتضلُّعه من العلوم النافعة، بما عظَّمه من العلماء وشرَّفه، وشُهرة إمامة الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة أشهر من الشمس، وتلقيبه بشيخ الإسلام في عصره باقٍ إلى الآن على الألسنة الزكيَّة، ويستمرُّ غدًا كما كان بالأمس، ولا يُنكر ذلك إلا مَن جَهِل مقداره، وتجنَّب الإنصاف، فما أعظم غلَطَ مَن تعاطى ذلك، وأكثر عِثاره"[30].

 

أثره في عصره ومَن تلاه:

كانت الدعوة الإصلاحيَّة لابن تيميَّة باعثةً للهِمم على العوْد للمَعين الصافي، وبداية لتَهَلْهُل أسوار التقليد، وبُروز أهل الاجتهاد من تلاميذه وأصحابه وغيرهم، فقد أزالَ أفكارًا بالية، بشجاعته على عَرْض الحقِّ الذي يَصبو إليه، وإن عارَض الجمهور أو خالَف المشهور، فأسْقَط الهالة المُقامة حول مقام الاجتهاد، وحرَّك نفوس علماء كانوا بَلغوا درجة الاجتهاد، غير أنهم رضوا مسايرة الجماهير وفُقهاء التقليد؛ خوفًا من التشهير، ممن لهم حُظوة عند ذَوِي السلطان، والنفوذ ذانك الزمان، فقامَت حركة علميَّة نَشِطة.

 

وشمل النقد للفِرَق تحريرَ العقول من الخُرافات والبِدع، وأدَّى هدْمُ ابن تيميَّة لجُدران الباطل؛ إلى عودة أهل الفِرَق؛ كيْمَا يُقيموا منهجًا يُمكِّنهم من الصمود للأعاصير التيميَّة، وهو قد ملأ الدنيا بفتاويه ومُصنَّفاته، وشغَل الدُّنا بتلامذة كلُّ واحدٍ منهم كالطَّوْد يُهاب جَنابه، وذا كله قاد إلى مراجعة لكثيرٍ من العلوم، وتأصيل جُملة من القواعد والأصول، واستدراكات على أقوال، واجتهادات في نوازل ذلك الزمان.

 

ومن المذاهب العقديَّة ما نسَفه ابن تيمية في حياته، فلم يَدْرِ لها ولا أتباعه قيامًا بعدها، وأُخَر توارَت تَجرُّ أذيال الهزيمة، وأُخَر انْعَزَلت تُراجِع مناهجها؛ لعلَّ وعسى.

 

وأجْدَر مثال لأثر ابن تيميَّة في عصره، كَثرة تنقيح الأقوال وعَرْضها على السُّنن، وتصنيف كُتُب الحديث والمصطلح، وتأصيل أصول الدين، وقواعد الردِّ على المبتدعة، فقد ألَّف تلامذته وأتْباع منهجه كتبًا لا تُحصى في الردِّ على الفلاسفة وأهل الكلام والصوفيَّة.

 

وابن تيميَّة سلك طريقةَ أهل الحديث ومذهب الإمام أحمد بن حنبل في الفقه والحديث؛ لأنه يرى أنَّ أهل الحديث هم أعلم الأُمَّة بسُنة نبيِّها، ومذهب الإمام ابن حنبل أكثر المذاهب استنادًا على السُّنة، لعُلوِّ كعب الإمام في الحديث، ودعوة ابن تيميَّة الإصلاحية لَم تَقتصر على جانب منفرد، بل شَمَلت شؤون الناس كلَّها، وعَرْضَ الإسلام بشموليَّة متكاملة بين العلمي والعملي، نلخِّصها في نقاط:

أ- تصحيح العقائد: وذا هَمٌّ شغَل كثيرًا تفكيره وجُلَّ تصنيفه، واستحوَذ على أكثر كلامه؛ لِمَا له من أهميَّة قُصوى، وتَرْكه فيه خطورة بالغة؛ لِمَا قلَّ مِن تِبيان العقيدة الصحيحة، وماجَت الساحة بالأفكار الخُرافية، والمقالات الكلاميَّة، والمُهاترات الفلسفيَّة؛ حتى حارَ الناس في دينهم؛ إذ ركَّز المتكلمون على قضايا إثبات وجود الله، وهي مسائل لَم تَفُت كفَّار قريش، فكيف بِمَن وُلِدوا في الإسلام، فكان نصيبهم من العلم لا يتعدَّى الربوبيَّة، فكَتَبوا ونظَّروا وناظَروا، وقرَّروا وأصَّلوا، وألَّفوا مصنَّفات وموسوعات ورسائل، وجَعلوا غاية المرام، ومَبلغ الكلام، ومرامي البرهان، إثبات أنَّ الله موجودٌ.


وذا أبان عدَمَ تفريقهم بين الربوبيَّة والألوهيَّة، وتقصيرهم في بيان الألوهيَّة أدَّى إلى الضمور الرُّوحي، وتفشِّي الجهل العَقَدي، وتحويل العقيدة إلى نظرٍ لا عمل يَنبني تحته، كما عمَّ لذلك الإرجاءُ، ورِقَّة الدِّين، وقلَّة التوجُّه للعبادات، وكَثُرت القُربى من البشر الأحياء والموتى.

 

لأجْل ذاك خاضَ ابن تيميَّة في الردِّ على أصولهم، وتقرَّر عنده أن يأتي على أُسِّها، وهو "التأويل الفاسد"، ورَأْسه "المجاز"، ثم قولهم بالتعارُض بين العقل والنقل، وأيُّهما يُقَدَّم حال ذاك.

 

ب – فتح باب الاجتهاد: بعد أن أُشيع غَلْقه، فحطَّم جِدار قُدسيَّة التقليد بفتْح باب البحث والتأصيل والتنظير على قواعد أهل الحديث.

 

ج – إصلاح السلوك: فالسلوك الفردي يَضبطه الكتاب والسُّنة، فيكون الظاهر بالاتِّباع، والباطن بالإخلاص.

 

د - السياسة الشرعيَّة: قوام صلاح الدولة ركيزتان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة العدل، فمتى انهارَت أو ضَعُفت إحداهما، سَقَطت مكانة الدولة الإسلامية، وتسلَّط عليها غيرها.

 

وأقرب نموذج لتأثير ابن تيميَّة في عصره والعصور اللاحقة له، ظهور دعوة محمد بن عبدالوهَّاب التي نشَرَت العقيدة السلفية على منهج ابن تيميَّة، وأعادَت إحياء السُّنن وتبليغَ التوحيد، وهَدْم البِدَع والخُرافات التي عمَّت الجزيرة العربية قبلها، ومحمد بن عبدالوهاب "حاوَل السَّيْر على نهجه في الإصلاح، وذلك بالردِّ إلى الأمر الأوَّل، والتشبُّث بما كان عليه السلف الصالح من الدعوة إلى التمسُّك بالكتاب والسُّنة، ودخَل فيما دخَل فيه شيخ الإسلام ابن تيميَّة من صراعات مع الاتجاه الرسمي العثماني، والمؤسَّسات المذهبيَّة والصوفيَّة المحيطة بالرسميين الأتراك، وسَلَّطت السلطنة العثمانية كلَّ أجهزتها لمقاومة هذه الدعوة وإجهاضها، بما في ذلك استخدام القوَّة العسكرية، وأشاعَت الدولة العثمانية لقب "الوهَّابيَّة، والوهَّابيين"؛ لتنفير الناس من تبنِّي هذا المذهب، أو التأثُّر بدعوته، وقد نجَحَت الدولة العثمانيَّة في إيجاد أجواءٍ من الخوف من دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهَّاب في الأوساط الصوفيَّة، وأوساط علماء المذاهب الإسلاميَّة المختلفة، وتنفير هؤلاء والجماهير المسلمة من حولهم، وساعَدت عواملُ كثيرة على تهيئة الأجواء لمحاصرة هذه الدعوة التوحيديَّة، التي مثَّلت نوعًا من الإحياء والتجديد لفِكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة، ودعوته إلى التوحيد الخالص، ورَفْض انحرافات الأفكار الجَبرية والحُلوليَّة والاتِّحادية، والشِّركية بأنواعها، والتأكيد على كرامة الإنسان، ومسؤوليَّته عن أفعاله وتصرُّفاته"[31].

 

كما يتجلَّى مقام ابن تيمية في الدراسات والكُتب التي أُجْرِيَت حوله، من تراجِم إلى بحث في منهجه، وتأصيل لقواعده، إلى ردودٍ عليه، فقد أُجْرِيَت ما يُقارب 176 رسالة جامعيَّة حول ابن تيمية في جميع فنونه من العقيدة إلى الفقه، إلى السياسة والدعوة، ومسائل عِدَّة[32].

 

أمَّا الكُتب عنه، فلا أدري مَن أحصاها وهي كثيرة تزيد عن 80 مؤلَّفًا مما رأيت؛ يقول أبو زهرة: "شَغَل ابن تيميَّة عصره بشخْصِه وفِكره وقوله، وحيث حلَّ كان حركة فكريَّة، دائمة دائبة، ولَم يَمُت إلاَّ وكان لاسْمه دَوِيٌّ في شرق البلاد الإسلامية وغربها، وكان له تلاميذ تخرَّجوا على رسائله، كما كان له تلاميذ تخرَّجوا على دَرْسه، وقد ترَك وديعة فكريَّة للأجيال من بعده، هي مجموع ما وصَل إليه من آراء على مُقتضى الهَدْي السلفي في اعتقاده، ثم أوْدَعها المجادلات والمساجلات التي قامَت بينه وبين خصومه الكثيرين؛ من فقهاء ومتكلِّمين، ومُتَصوِّفين وفِرَق، ولَم يَترك طائفة من هذه الطوائف، إلا ولقوله الحادِّ ندوبٌ في مذهبها، وقام على هذه الكتب والرسائل تلاميذُ قد آمنوا بكلِّ آراء شيخهم، وفيهم نشاطٌ، ولهم مَدارك، ثم وُجِد في الأجيال مَن اعتنَق هذه الآراء واتَّخذها مذهبًا له"[33].

 

أحدَث ابن تيميَّة دَوِيًّا في عصره، وتردَّد صداه في الأجيال اللاحقة، وما سُمِع عن طائفة أو صاحب مقالة إلا وبه ندوبٌ من كَلِم ابن تيميَّة، فبين كاسرٍ لعَظْمه، وفاتِك به وبِمَن معه، وجريح يئنُّ من كلام الردِّ، ومكلوم من ردَّات النقد، ومتوارٍ سارب بالليل، مُستخفٍ بالنهار؛ حتى لأنك تجد فِرَقًا وطوائفَ ومقالات يقال عنها: يُحكى أنَّ، وبعد: لَم يُدْرَ ما جرى لأصحابها، ومقالاتهم.

 

وآخر الدواء الكَيُّ، ومن النفوس مَن تؤوب لربِّها بعد الصدمات، فكان من أهل البدع مَن رجَع وصار صاحبَ سُنة بعد أن كان قرينَ بدعة، ومن الناس مَن فتَكَت بصدره الوساوس، ونَخَرت قلبه الظنون وشُبَه الخَنَّاس، فشُفِي بردود ونقد ابن تيميَّة لأُناسٍ، فأصبَح مُبجِّلاً له بعد أن نابَذه.

 

فانقسَم الناس حوله بين مُكْبِر مُعْظِم، وبين مُنتقص ناقمٍ، "وتوارَث الناس جميعًا علومَه، وتَفَهَّموه فقيهًا مُستقلَّ المدارك، وباحثًا منقِّبًا مُحييًا للسُّنة، عاملاً على نُصرة الدين، والموافق والمخالف قد اتَّفَقا على أنه جديرٌ بالتقدير، وأنه احتسَب النيَّة في طلب الحقيقة والدفاع عن الدِّين"[34].

 

أمَّا مَن يُجافيه ويَرمي استنقاصه، واستصغار مَلَكته، فما للأكابر وصَخَب الأصاغر، ولو حَمَل الذَّرُّ الجبالَ، لَمَا علا بالعلم رجالٌ، ومثل أولئك لا يُؤْلُون في مخالفهم حُرمةً، ولا يَرون فَرقًا بين الخلاف ومكانة المخالف العلميَّة، وجَهْلهم لا يقضي العدم، وسوء بواطنهم لا يقضي هدْمَ فضْل الرجال.



[1] الأعلام العليَّة: البزَّار، ص 79.

[2] المرجع السابق، ص 79.

[3] المرجع نفسه، ص80.

[4] الأعلام العلية؛ البزَّار، ص (79 -81).

[5] ابن تيميَّة ليس سلفيًّا؛ منصور محمد محمد عويس، دار النهضة العربية: القاهرة، ط 1، 1970، ص 263.

[6] السلفيَّة مرحلة زمنيَّة مباركة لا مذهب إسلامي؛ محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر: دمشق، ط 1، 1990، ص (172 - 173).

[7] ابن تيميَّة وعقائده؛ صائب عبدالحميد، ص 73.

[8] تذكرة الحُفَّاظ؛ الذهبي، ج 4، ص 1496.

[9] هو: أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل، شهاب الدين، ابن حجر (852 - 773): من أئمة العلم والتاريخ، أصله من عسقلان، ومولده ووفاته بالقاهرة، أُولِعَ بالأدب والشعر، ثم أقبل على الحديث، ورحَل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ، وعَلَت له شُهرة، فقصَده الناس للأخْذ عنه، وأصبَح حافظَ الإسلام في عصره؛ قال السخاوي: انتشَرت مُصنَّفاته في حياته، وتهادَتْها الملوك، وكتَبها الأكابر، وكان فصيحَ اللسان، راويةً للشعر، عارفًا بأيام المتقدِّمين وأخبار المتأخِّرين، صبيحَ الوجه، ووَلِيَ قضاء مصر مرَّات ثم اعتزَل، أمَّا تصانيفه، فكثيرة جليلة؛ البدر الطالع؛ الشوكاني، ج 1، ص 87.

[10] الرد الوافر؛ ابن ناصر الدين الدمشقي، ج 1، ص 12.

[11] محمد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن مسعود، عماد الدين الواسطي البغدادي ثم الدمشقي (657- 711هـ): فقيه شافعي، أقام بالقاهرة مدة خالَط بها طوائفَ من المتصوفة، فتصوَّف، وقَدِم دمشق فتتلْمَذ لابن تيمية، وانتقَل إلى مذهب ابن حنبل، وردَّ على المبتدعة الذين خالَطهم، توفي بدمشق؛ الدُّرر الكامنة؛ ابن حجر، ج 1، ص 91.

[12] التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار في الثناء على شيخ الإسلام والوصاية به؛ الواسطي، ص 24.

[13] هو: أحمد بن راشد بن طرخان، الشيخ الإمام العلاَّمة مُفتي المسلمين، شهاب الدين أبو العباس الملكاوي الدمشقي، أحد الأئمة العلماء المعتبرين، وأعيان الفقهاء الشافعيين، كان مقصودًا بالفتاوى من سائر الأقطار، وكان يَميل إلى ابن تيميَّة كثيرًا، ويَعتقد رُجحان كثيرٍ من مسائله؛ طبقات الشافعية؛ أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر بن قاضي شهبة؛ تح: الحافظ عبدالعليم خان، دار عالم الكتب: بيروت، ط 1، 1407، ج 4، ص 14.

[14] الرد الوافر؛ ابن ناصر الدين الدمشقي، ج 1، ص 141.

[15] هو: أحمد بن علي بن عبد الكافي، أبو حامد، بهاء الدين السُّبكي وُلِد سنة 727هـ؛ كما قال الطناحي في مقدمة تحقيقه لكتابه طبقات الشافعيَّة، وقال أيضًا: إنَّ ابن حجر قال: إنَّ مولده كان في سنة 728هـ ووافَقَه ابن تغري بردي في المنهل الصافي، والذهبي في المعجم المختص، ولكنَّ الزبيدي في تاج العروس قال: إنَّ مولده كان في سنة 729هـ، ورُبَّما نقَل الزبيدي هذا عن السيوطي في كتابه حُسن المحاضرة، كان فاضلاً، وَلِي قضاء الشام سنة 763 هـ فأقام عامًا، ثم وَلِي قضاء العسكر، وكَثُرت رَحَلاته، مات مجاورًا بمكة؛ الدُّرر الكامنة؛ ابن حجر، ج 1، ص 210.

[16] الشهادة الزكيَّة في ثناء الأئمة على ابن تيميَّة؛ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي؛ تح: نجم عبدالرحمن خلف، مؤسسة الرسالة: بيروت، ط 1، 1404، ص 26.

[17] وهي دابَّة كالخُنفساء مُحَدَّدة الذَنَب، تَفْسُو إذا مَشَت، فالجُعَل العَريض الأسْوَد الذي يُدَهْدِي الخُرُوءَ، والجمع جِعْلان.

- المخصص: أبي الحسن علي بن إسماعيل النحوي اللغوي الأندلسي؛ ابن سيده؛ تح: خليل إبراهم جفال. دار إحياء التراث العربي: بيروت. ط(1)، 1996. ج2، ص316.

[18] عِرْنينُ كلِّ شيء: أوَّله، وعَرانينُ القوم: سادَتُهم، وعرنينُ الأنف: تحت مجتمع الحاجِبين، وهو أوَّل الأنف؛ حيث يكون فيه الشَّمَم، يُقال: هم شُمُّ العَرانين؛ تاج اللغة وصِحاح العربية؛ إسماعيل بن حمَّاد الجوهري؛ تح: أحمد عبدالغفور عطار، دار العلم للملايين: بيروت، ط 4، 1987، ج 8، ص 17.

[19] الشهادة الزكيَّة؛ مرعي الكرمي، ص 26.

[20] هو: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، ابن سيِّد الناس، اليعمري الربعي، أبو الفتح، فتح الدين (734 - 671): الإمام الحافظ الفقيه العالم الأديب المؤرخ، عالم بالأدب، من حُفَّاظ الحديث، أصله من إشبيلية، مولده ووفاته في القاهرة، من تصانيفه "عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير"؛ الوافي بالوَفَيات؛ الصفدي، ج 1، ص 289.

[21] الشهادة الزكيَّة؛ مرعي الكرمي، ص 27.

[22] الوَفَيات؛ ابن قنفذ، ص (328 - 329).

[23] الشهادة الزكيَّة؛ مرعي الكرمي، ص 30.

[24] الأعلام؛ الزركلي، ج 5، ص 67.

[25] الشهادة الزكيَّة؛ مرعي الكرمي الحنبلي، ص 32.

[26] هو: القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد ابن أبي يداس البرزالي الإشبيلي ثم الدمشقي، أبو محمد، علم الدين (665 - 739 ): الشيخ الامام الحافظ العمدة، مُحدِّث الشام ومؤرِّخه ومفيده، عَلَم الدين، مَوْلده بدمشق، وتوفي مُحرمًا في خليص (بين الحَرَمين)، ونسبته إلى "برزالة " من بطون البربر؛ تذكرة الحُفَّاظ؛ الذهبي، ص 18.

[27] الشهادة الزكية؛ مرعي الكرمي، ص 49.

[28] هو: عبدالرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي، أبو الفرج، زين الدين (736 - 795)، حافظ للحديث، من العلماء، وَلِد في بغداد ونشأ وتوفِّي في دمشق؛ شذرات الذهب؛ ابن العماد، ج 6، ص 339.

[29] الشهادة الزكيَّة؛ مرعي الكرمي، ص 51.

[30] الرد الوافر؛ ابن ناصر الدين الدمشقي، ج 1، ص 12.

[31] ابن تيميَّة وإسلامية المعرفة؛ طه جابر علواني، ص 11.

[32] شَمَلت: 4 رسائل بالجامعة الأردنيَّة، و12 رسالة بجامعة الأزهر، و7 رسائل بجامعة الإسكندرية، و16 رسالة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبويَّة، ورسالتين بالجامعة الإسلاميَّة العالَمية بماليزيا، و 56 رسالة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، و4 رسائل بجامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلاميَّة بقسنطينة، ورسالتين بجامعة الجزائر، ورسالة بجامعة علي كره بالهند، ورسالة بجامعة القاضي عِياض بمراكش، و15 رسالة بجامعة القاهرة، ورسالة بجامعة القديس يوسف بلبنان، ورسالة بالجامعة المستنصريَّة بالعراق، و5 رسائل بجامعة الملك سعود بالرياض، ورسالة بجامعة اليرموك بالأردن، و30 رسالة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، ورسالة بجامعة بترسبرغ بروسيا، و3 رسائل بجامعة بغداد، ورسالة بجامعة فيلادلفيا بأمريكا، ورسالة بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، و7 رسائل بجامعة محمد الخامس بالمغرب، ورسالة بالرئاسة العامة لتعليم البنات بالرياض، ورسالة بالمعهد الوطني العالي لأصول الدين بالجزائر، ورسالة بجامعة هارفارد بأمريكا؛ دليل الرسائل الجامعية في علوم شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ عثمان بن محمد الأخضر شوشان، مؤسسة الوقف الإسلامي: الرياض، ط 1، 1424، ص (244 - 245).

[33] ابن تيميَّة: حياته وعصره وآراؤه؛ لمحمد أبي زهرة، ص 424.

[34] المرجع السابق، ص 440.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • عن ابن تيمية أتحدث..
  • خصائص كلام ابن تيمية
  • معاني العقل عند الإمام ابن تيمية
  • تقييم ابن تيمية لآراء الغزالي ومؤلفاته
  • مواقف مؤثرة من سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية
  • أهمية العقيدة الواسطية لابن تيمية
  • بين الإمام ابن تيمية والرحالة ابن بطوطة

مختارات من الشبكة

  • ابن تيمية والمنطق الحجاجي قراءة في كتاب: "الخطاب الحجاجي عند ابن تيمية: مقاربة تداولية"(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • المنثور من أخبار شيخ الإسلام ابن تيمية: سلالات تاريخية عن الإمام ابن تيمية (PDF)(كتاب - ثقافة ومعرفة)
  • التعريف بالإمام ابن تيمية وحياته وعصره(مقالة - موقع أ. د. مصطفى حلمي)
  • إعلام أهل العصر بسنية الركعتين بعد العصر (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • نجاة أهل العصر في سورة العصر (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • وقفات مع سورة العصر: في رحاب سورة العصر (1) (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الرسائل الشعرية في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي - دراسة موضوعية فنية(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • ذهب عصر الأمانة وظهر عصر الخيانة (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • قائمة المفردات الشائعة في اللغة العربية من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث للدكتور فتحي علي يونس(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الأدب الشعبي لعصر الاحتجاج: دراسة أدبية لغوية في إنشاءات العامة من فصحاء عصر الاحتجاج (WORD) (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 


تعليقات الزوار
1- إشادة
احمد - موريتانيا 20-04-2014 02:04 AM

بارك الله فيكم ونفع بكم ، ابن تيمية قطب زمانه وعالم من علماء الأمة الذين قل نظيرهم في التاريخ

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 17/11/1446هـ - الساعة: 9:44
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب