صفحات منسية من تاريخ الإسلام في جَنَوَة وشمال غرب إيطالية أيام سيطرة العُبَيْدِيِّين على شمال إفريقية (1)

صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (24)

صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في جَنَوَة وشمال غرب إيطالية

أيام سيطرة العُبَيْدِيِّين على شمال إفريقية (1)

لم تتوقف الغزوات على شمال غرب إيطاليا عقب سقوط دولة الأغالبة، بل شهد القرن الرابع الهجري العديد من تلك الغزوات، والتي كانت تحمل في بعض الأحيان طابع الاستقرار، والإقامة.

غَزْو العُبَيْدِيِّين لجَنَوَة:

غَزا العُبَيْدِيِّون جَنَوَة، لكن المؤرخين اضْطَرَبوا في شأن الحاكم العُبَيْدِيِّ الذي أَخْرَج الغَزْوَة، فذهب ابن خُلْدون[1] إلى أن عُبَيْد الله المُلَقَّب بالمَهْدِى - أول حُكَّامهم - بعث سنة ثنتين وعشرين وثلاثمائة جيشًا في البحر مع يعقوب بن إسحق، فعاثَ في نواحى جَنَوَة، ورجعوا، ثم بعث جيشه من قابِل - أي العام الذي يليه وهو عام ثلاث وعشرين - ففتحوا مدينة جَنَوَة، ومَرُّوا بسَرْدانِيَة، فأحرقوا فيها مراكب، وانصرفوا.

ولكن ابن خُلْدون كان قد ذكر قبل ذلك[2] أن أبا القاسم المُلَقَّب بالقائِم بأمر الله - واسمه محمد ويُقال: نزار - ابن عُبَيْد الله المَهْدِى جَهَّز أسطولًا ضخمًا؛ لغَزْو ساحل الإفرنجة، وعَقَد عليه ليعقوب ابن إسحق، فأَثْخَن في بلاد الإفرنجة، وسبى، ونازل بلد جَنَوَة، وافتتحها، وعَظَّم صُنْع الله في شأنها[3]، ومَرُّوا بسَرْدانِيَة من جُزُر الفِرَنْج، فأثخنوا فيها، ثم مروا بقَرْقيْسِا من سواحل الشام، فأحرقوا مَراكبها[4].

كما ذكر قبل هذا النَّص[5] عند حديثه عن السَّيْطرة الإسلامية[6] على مياه البحر المتوسط، أن أبا القاسم - وهو القائم ابن المهدي كما مَرَّ - وأبناءَه كانوا يُغْزُون أَساطيلهم من المَهْدِيَّة جزيرة جَنَوَة - والعرب تُسَمِّي شبه الجزيرة جزيرة كما مر عند الحديث عن كالابريا - فتَنْقَلِب بالظَّفَر والغَنِيْمة، ويُفْهَم من عبارته هنا: أن أساطيلهم قد تَكَرَّر خُروجها؛ لغَزْو جَنَوَة.

والقول الثاني هو الذي عليه أكثر المؤرخين؛ فقد ذكر ابنُ الأثير[7]، والشِّهاب النويري[8]، وابن الوَرْدِيّ[9]، وابنُ كَثير[10]: أن القائم هو الذي أَخْرَج الجيش المذكور في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.

وذكر ابنُ الأثير في موضع آخر من الكامل[11]، وابن عذاري في البيان المُغْرِب[12]، والشِّهاب النويري في موضع آخر من نهاية الأَرَب[13]: أن القائم هو الذي سَيَّر ذلك الجيش، وإن لم يُحَدِّدوا السَّنَة التي سَيَّره فيها، لكن ابنَ الأثير قد ذكر تَسْييرَه للجيش ضمن ذِكْره لجيوش أخرى، جَهَّزَها، وسَيَّرَها عقب وفاة أبيه سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وذكره ابن عذاري من بين أمور أخرى، كانت أول ما بدأ به القائم العُبَيْدِيُّ حُكْمَه عقب وفاة أبيه، وكان قد بدأ بأمر عُمَّاله من سائر البلدان بصُنْع السلاح، والآلات الحربية قبل ذلك.

وقد ذكر الذَّهَبِيُّ في العِبَر[14]، وعنه ابنُ العِماد في شَذَرات الذَّهَب[15]: أن بَنِي عُبَيْد الرَّافِضة قد اسْتَولوا على مدينة جَنَوَة بالسيف في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، دون تحديد للحاكم العُبَيْدِي الذي أخرج الجيش؛ للاستيلاء عليها.

لكن ابن الأثير قد ذكر في مَوْضِع ثالث من الكامل[16]: أن المَنْصور إسماعيل ابن القائم هو الذي أخرج الجيش سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ووافقه الذَّهَبِيُّ في تاريخ الإسلام[17]، وذكره في السِّيَر أيضًا[18]، لكن بصيغة التَّمْرِيض[19]، ولم يُحَدِّد سَنَة إخراج الجيش، ولكنه ذكر[20] أن وفاة القائم كانت في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وأن وفاة المنصور كانت في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة[21]؛ فحُكْمُ المَنْصُور مَحْصور بين هذين العامين، فكيف يُخْرِج الجيش سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة؟[22]

كما أن الذَّهَبِيَّ رحمه الله تعالى ذكر أن الجيش الذي أخرجه المنصور إسماعيل العُبَيْدِي كان بقيادة يعقوب بن إسحاق أيضًا، فالظاهر أن ذِكْر المنصور في هذا التاريخ - سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة - كان وَهْمًا منه رحمه الله تعالى؛ إذ لا يَخْفَى عليه أن المنصور لم يكن حاكمًا في ذلك الوقت، كما أن الجيش الذي خرج بقيادة يعقوب بن إسحاق كان في زمن القائم - أو المهدي وفقًا لإحدى روايتي ابن خُلْدون- لا المَنْصور.

وقد ذكر الذَّهَبِيَّ في الموضع السابق أيضًا أن عُدَّة الأُسطول العُبَيْدِي بَلَغَتْ ثلاثين حَرْبِيًّا، أي ثلاثين سفينة حَرْبِيَّة.

ومن الملاحظ في روايته في تاريخ الإسلام: أنه ذكر عَوْدَتَهم لجَنَوَة بعد المُرور بسَرْدانِيَة، وكورسيكا؛ حيث قال: ففَتَح مدينة جَنَوَة، ومرّوا بمدينة سَرْدانِيَة، فأَوْقَعُوا بأهلها، وسَبَوا، وأحرقوا عِدَّة مراكب، وقتلوا رجالها، وأَسْرَعوا بالخُروج إلى جَنَوَة، وحَرَّقوا مراكب قَرْسَقَة[23]، ونَقَبُوا أسوار جَنَوَة، واستولوا على المدينة، وأَسَرُوا ألف امرأة، وقَدِموا بالغنائِم إلى المَهْدِيَّة.