• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    موقف أبي موسى الأشعري مع جندي من جنوده
    الشيخ عبدالعزيز السلمان
  •  
    النقد العلمي
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت ...
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / تاريخ
علامة باركود

التحقيق في ملحمة الصديق (6) دلالات وعبر

التحقيق في ملحمة الصديق (6) دلالات وعبر
محمد صادق عبدالعال

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 18/4/2025 ميلادي - 19/10/1446 هجري

الزيارات: 502

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

التحقيق في ملحمة الصديق (6)

دلالات وعبر

التحقيق الثاني والعشرون:

إن حكمة الله في تصريف أمور عباده لا تُرى بعين واحدة أو من زاوية محددة، ولا تقف عند اختلاف درجات اليقين بنصر الله، وإنصافه لمن ظُلِم أو قُهِر بغير ذنبٍ وحسب، لما لها من إدهاشات في النواتج، واتِّحافات في العواقب، تتعدى تصورات العقل البشري، فتُبشر بأن رحمة الله قريب من المحسنين، ولما كانت ماهية الحكمة تتماهى في أقدار مختلفة ورؤًى متباينة، تمامًا كما كان من أمر نبي الله موسى مع الخضر عليهما السلام، في قصة الغلام والسفينة والجدار، فالظاهر لموسى عليه السلام – وهو نبي ورسول – شرٌّ محقق، إذ استنكر قتلَ الغلام بغير وجه حقٍّ: ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ﴾ [الكهف: 74]، وخرق السفينة بغير داعٍ أو سابقة عداء مع أصحابها، فضلًا عن كونها وسيلة إبحار لهما: ﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾ [الكهف: 71]، ثم الاستغراب الثالث وهو رفع الجدار، الذي حدَّ به الله لموسى قدرة استقباله للعلم اللدني الغيبي الذي لم يستطع على استشرافه صبرًا طويلًا، حتى قال له سبحانه وتعالى على لسان الخضر عليه السلام: ﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 78]، ولو صبر موسى، لأراه الله ما لا يخطر على بالٍ، ولا يمر بذي عقلٍ حصيف.

 

وها هم إخوةُ يوسفَ مُشرفون على الخروج من مصر، فرِحون بما آتاهم عزيزها من فضل الله وإكرامه، وحسن وفادته لهم، وقد وفَّوا بوعدهم له بإحضار بنيامين معهم، الذي أخرجه الله من أكنافهم ليكون هو المقصودَ والمرصود لتَقَرَّ عيناه وعين يوسف، وليكون تصبُّرًا له على فراق يعقوب الأب حتى يأتيه الله بهم جميعًا، برًّا بمناجاته لربه له دون قنوط، فالظاهر لهم بعدما أذن المؤذن أنهم سارقون، واستُخرج الصواع من رحل بنيامين: ﴿ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ [يوسف: 70]، أن بنيامين شقي ومحكوم عليه بالعقاب، على الرغم من أنه سوف ينزل منازل الكرام، وأن لطيف العيش يطلبه، وأن رقيق الثياب ينتظره، وأنه أسبق منهم للرفعة والتمكين بأرض مصر، فلم يرقَ لخلَدهم بعدُ أنَّ ذلك من كيد الله ليوسفَ، وبشارات بأن اللقاء قد حان، ولم يبقَ إلا القليل، وعما قريب سيعرف الذين حكموا ظلمًا وجحودًا على يوسف بالإقصاء، وجعلوا من يعقوب الأب عميدًا للأحزان، أنهم سوف ينالون عاقبةَ أمرهم ندامةً، وإن بدت لهم سماوات الغيب صافيةً، ونجوم الهداية متراصَّة في مواقعها، لكن الشمس شاهدة بنهارها الذي وقعت فيه المؤامرة، وأقمارها الليلية التي اختبؤوا من ورائها، يبكون زعمًا بأن الذئب قد أكل يوسف.

 

وقبل الانتقال لتحقيق آخر نقول: لو أن يوسف أو عزيز مصر آنذاك لم يستبقِ بنيامين لتحقيق مراد الله من ذلك، ربما ضنَّ يعقوب الوالد بخروجه مرة أخرى دون حُجة قوية بتنفيذه، فتلك حكمة الله التي تُرى بعيون متفاوتة، وإنه تأديب الله القائم لأسباط يعقوب حتى يُقِرُّوا إقرار التائبين من الذنب العظيم، والله تعالى أعلى وأعلم.

 

التحقيق الثالث والعشرون:

الصواع أم السقاية؟ والمشهد الصادم!

﴿ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾ [يوسف: 70 - 73]، ولك أن تتخيل المشهد الآن وكأنه عيان واقع؛ فإخوة يوسف تتبدل بهم الحالة من السرور والحبور إلى الفزع مع الترقب؛ جاء ذلك موصوفًا في قوله تعالى: ﴿ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ﴾ [يوسف: 71]، استفهام إنشائي فيه استنكار واستبعاد بالقسم المؤكد: ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾ [يوسف: 73]، والإقبال منهم مواجهة يحُوطها الخوفُ، على رغم أنهم لم يسرقوا ولم يأتوا جرمًا قد فرُّوا منه، لكنه الخوف الفطري ممن له اليد الطولى، خاصةً أنهم بفاقةٍ وعوزٍ يستوجب منهم التلطف لأجل أكباد جائعة، وأفواه راغبة، وبطون لم تقتَت مسغبة، وأيام ذات مخمصة.

 

ولقد رد العلماء على مجادلة المشككين باختلاف المسروق؛ حيث قيل وهو يقصدون نبي الله يوسف: ﴿ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ﴾ [يوسف: 70]، بينما قال رجاله: ﴿ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ ﴾ [يوسف: 72]، ذهب تفسير الإمام الطبري إلى أن السقاية هي الإناء الذي يشرب فيه الملك، ويكيل به الطعام، أما الصواع فهو ذات الشيء؛ حيث رُوِيَ عن الحسن أنه قال: "الصواع والسقاية سواء، هو الإناء الذي يشرب فيه"[1]، بينما ذهب آخرون لمنحى غير ذلك، وإن كانوا سواءً في تعريف المادة ذاتها، في أنها إناء مذهَّب مدموغ باسم الملك، يكيل به، ويشرب به، فأهل مصر ورجال القصر يعتبرونه من النفائس؛ لِما له من خصوصية تخص الملك ذاته، بينما يوسف النبي يراها من متاع الدنيا القليل الفاني، الذي تساوى عنده الذهب وتبره بالتراب، فكان نعته لها بالسقاية أيًّا كانت مادتها، أما هم فقالوا "صواع" ونسبوه للملك تفخيمًا لقيمة المسروق، وإعلاءً لقيمة الجرم، والله تعالى أعلى وأعلم.

 

التحقيق الرابع والعشرون:

﴿ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 77].

ولا تزال نفس إخوة يوسف تحتاج لتأديب وتربية ربانية؛ لئلا يعودوا لما قد نُهوا عنه، فالناظر في سياق الآيات يجدهم بعد اليأس من أمر استبدال بنيامين، واستبقائه جبريًّا بتهمة السرقة: ﴿ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 77]، وهم يعلمون أن يوسف ما سرق، وفي تفسير الإمام الطبري: "سرق يوسف صنمًا لجده أبي أمه، كسره وألقاه في الطريق، فكان إخوته يعيبونه بذلك"[2].

 

- ﴿ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا ﴾ [يوسف: 77] قالها نبي الله في نفسه ولم يُبدها لهم، وكأن حاله بهم: أما زلتم على ظلمكم لي، وأنتم أعلم مني أنني لم أسرق من قبل شيئًا، وأن عمتي لم تشأ أن تتركني أرحل عنها، لتعلُّقي بها، وتعلقها أكثر بي؟ ولقد علمتم ذلك قبلي وعاصرتموه، وربما كان ذلك من الأمور التي سنحت للضغائن والإحن أن تسكن قلوبكم، فبكرم ودماثة خلق منه لم يتفوه بها، وهو بمنزلة المكين المطاع، إن شاء زجَّ بهم في السجن جميعًا بما اقترفوا، لكنه آثَرَ مخاطبة النفس ومجايشة المشاعر من الداخل؛ خشية إحراجهم، وما نعتهم غلًّا بأنهم شر مكانًا إلا لما زالوا يذكروه بما ليس فيه، حتى بعد إقصائه منهم، وفيها قولان، والله تعالى أعلى وأعلم:

الأول: أنه يقصد كل ما صدر منهم تجاهه من إبعاد وإقصاء وإيلام للوالد يعقوب بفراقه، وعلمهم أن ذلك سوف يُحزنه، فما رعَوا حق الوالدية في البر، ولا حق الصغير في الرحمة به والعطف عليه.

 

الثاني: أنه لم يشأ أن يصفهم بالظالمين جملة واحدة لكل ما سبق، فاكتفى بهذا الموقف؛ أي: إنه يريد أن يقول لهم: أنتم الآن في شر مكانٍ بالبهتان ليوسف، وأن بنيامين سرق انتهاجًا لسابقة من أخيه؛ فقال في نفسه ذلك القول: ﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا ﴾ [يوسف: 77] كأسلوب غرضه الذم بعد اللوم، وربما كان التعجب، وفيه إخبار صادق عن حال قلوبهم، والله تعالى أعلى وأعلم.

 

يا لحلم الأنبياء وصبرهم على البلاء! يُقذفون بالحجارة ونفوسهم كريمة لا تعرف القسوة، ويُقال فيهم ما ليس فيهم وهم بخلاف ذلك، وما أشبههم بذويهم ممن آذَوا موسى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69]، فهم كالنخيل حين وصفها الشاعر:

كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعًا       يُرمى بصخر فيُلقي أطيب الثمر

 

التحقيق الخامس والعشرون:

استعطاف محكم وشوافع حرجة:

﴿ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 78]، استوقفتني تلك الآية كثيرًا بما فيها من أسلوب استرحام مكتمل الشوافع؛ فلم يدعوا مرجوًّا يستجدون به العزيز إلا وتبتلوا به تبتيلًا، فها هو أول قولهم من باب التوقير والإجلال، وارتفاع شأن المخاطب وعظم المنادى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ﴾ [يوسف: 78]، والثاني: ﴿ إِنَّ لَهُ أَبًا ﴾ [يوسف: 78]، ثم الثالث: ﴿ شَيْخًا كَبِيرًا ﴾ [يوسف: 78]، والرابع: ﴿ فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ﴾ [يوسف: 78]، ثم الخامس: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 78]، فكل واحد من الخمسة كفيل بأن يرقِّق قلب العزيز عليهم، ويرأف بحالهم، فها هم يخبروه ﴿ إِنَّ لَهُ أَبًا ﴾ [يوسف: 78]، وتلك واحدة قوية راسخة في سجايا النفس البشرية، بل هي الفطرة التي أقسم بها الله في قوله تعالى: ﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾ [البلد: 3]، وكم ساق لنا القرآن الكريم نماذجَ لإشفاق الوالد على ولده! حتى إن نوحًا عليه السلام ترجَّى لولده الكافر الهداية من وازع الأبوة الفطرية: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ [هود: 42]، حتى إن علماء اللغة قالوا: لم تدغم الباء في الميم إلا في هذا الموضع الوحيد في القرآن: ﴿ ارْكَبْ مَعَنَا ﴾ [هود: 42]؛ ذلك لهفة من نوح على تخليص ولده وإنجائه من أوحال الشرك، أو أن يكون في عداد الكافرين، فليس لدى نبيِّ الله الوقت، وكم في الميم المدغمة من ألم صريح وأنَّات والد حزين! لكن قدر الله كان أسبقَ، وأمره قدرًا مقدورًا؛ ثم قولهم بالوصف لحالة الوالد: ﴿ شَيْخًا كَبِيرًا ﴾ [يوسف: 78]، إعلام برجاء الموافقة، فالكلمتان من المتلازمات كما ورد على لسان ابنتي شعيب عليهما السلام وهما تبرران السبب القوي لخروجهما وسط الرعاء من الرجال، ثم إنهم قد أعطَوا له البديل الدالَّ على إخلاصهم في المطلب بقولهم: ﴿ فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ﴾ [يوسف: 78]، وانتهاءً بما بدؤوا به من توقير وتبجيل وذكرِ مناقبٍ: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 78]، وما قالوا ذلك القول إلا لما رأوا منه خِلالَ نفسٍ كريمة، قلما تتوفر في ذوي المناصب إلا من رحم ربك.

 

والمدهش أن نبي الله يوسف كان أسبق لمعرفة تلك الشوافع منهم، بل إنه الأكثر لهفة على جبر خاطرٍ، وتكفيف دمع يسحُّ من منبع صدق المشاعر، ومواجدة القلوب، لكنه لا يستطيع أن يفصح إلا بإذن من ربه سبحانه، فسبحان علَّام الغيوب! وانظر لتلك النفس الكريمة كثيرة العفو عن مقدرة، وهي ما جعلتهم ينعتوه دون أن يعرفوه بالمحسن.

 

التحقيق السادس والعشرون:

مواجهة يعقوب الوالد:

صدَّر لنا القرآن الكريم حال الأسباط العشرة بعدما وجدوا أنه لا مناص من تسليم بنيامين لرجال العزيز بثبوت جناية السرقة، وجسَّد ذلك القصص القرآني العظيم؛ في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يوسف: 80]، ذهبت آراء المفسرين بأن كبيرهم هو (يهوذا)، في حين ذهب آخرون بأنه (لاوي)، وذهب البعض إلى أن قوله تعالى: ﴿ قَالَ كَبِيرُهُمْ ﴾ [يوسف: 80] قال قتادة: وهو (روبيل) وكان أكبرهم في السن، وقال مجاهد: هو (شمعون)، كان أكبرهم في الرأي، وقال الكلبي: يهوذا، وكان أعقلهم، وفي تفسير الجلالين: ﴿ قَالَ كَبِيرُهُمْ ﴾ [يوسف: 80] سنًّا (روبيل) أو رأيًا (يهوذا)، وعلى أي حال، لو كان في التصريح باسمه العلَم مطلبًا، لصرح الله به أو أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بما علَّمه ربه، وآتاه من جوامع الكلم.

 

وقوله سبحانه: ﴿ خَلَصُوا نَجِيًّا ﴾ [يوسف: 80] إشارة تصويرية لانفرادهم بالمحاورة وتكوين للمشهد وتصعيد للحالة، وكأنك تراهم الآن على بوابات الخروج من مصر، تقتلهم اللوعة، ويغتالهم القنوط من استبعاد تصديق نبي الله يعقوب لهم، برغم كونهم لم يفتروا هذه المرة ولم يكذبوا، فانظر لتصريف مَن إليه يرجع الأمر كله سبحانه وتعالى.

 

ولو أننا تصورنا مجرد تصور أن إخوة يوسف لم يفعلوا به ما فعلوا، وظل في كنف أبيه ورعايتهم كأخ لهم، ثم حدث ما حدث بشأن "بنيامين" لسرقة الصواع أو السقاية، هل كان الأمر بالنسبة لهم سوف يكون عسيرًا مقلقًا بتلك الدرجة؟ ربما لا، لكنهم مع جرمهم الأول الذي اعتبروه قد اندمل أو أوشك على أن يندمل، سوف ينبشه يعقوب الوالد حين يذكر لهم موثقهم الذي خانوه بشأن يوسف، وها هم يُعيدون الكرَّة مع بنيامين، وبرغم الشواهد التي تقطع بصدق حديثهم؛ ففي المرة الأولى وهم مذنبون: ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17]، ما زادوا عن لوم يعقوب الوالد بأنهم ليسوا محل صدق وثقة عنده؛ حتى بوصفهم الكاذب في قولهم ﴿ فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ﴾ [يوسف: 17]، وفي تلك المفردة (فأكله) ذهب المشككون إلى أن من سمات الفصيلة السبعية كالذئاب الافتراس، فلِمَ استعاض عنها القرآن بالأكل؟ قال المحققون في ذلك: إنهم لما قالوا: فأكله الذئب، كانوا يريدون ألَّا يسألهم يعقوب عن جثمانه، فالافتراس من دك العنق أو القتل للفريسة أو الضحية مع ترك الجسد، فكان الفعل أكلًا للوصف بأن الذئب جاء على الجسم كله أقرب لنفي وجود شيء إلا أشلاءه، والله تعالى أعلم بمراده.

 

لكن ما نريد الخوض فيه بعد هذا الالتفات اللغوي اللطيف، أن إخوة يوسف لما أرادوا أن يصدقهم يعقوب هذه المرة، قالوا وقد جاؤوا بالمعاذير والمعايير التي تثبت وبلا مؤاخذة أنهم مُرغمون صادقون، فتراهم يجمعون الأدلة جمعًا: ﴿ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [يوسف: 81، 82].

 

ولقد تمخَّض هذا الاجتماع المغلق والبيان النهائي لمشاورات الأسباط إلى فعلي أمر (ارجعوا – فقولوا)، ثم إلى نفي بما: ﴿ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾ [يوسف: 81]، ففي الأولى إثبات بأنهم ينقلون له دقيقَ ما حدث دون مزايدة، وفي الثانية ينفون عن أنفسهم خصيصةً ليست ملكًا لهم فهي من الغيبيات، وأيضًا، المجاز القرآني في قولهم بالاستشهاد في: ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾ [يوسف: 82]، فالمقصد لن يسأل يعقوب النبي القرية ودُورها، بل سيسأل سكانها وديارها، ولن يسأل العير المحملة بالبضائع، بل سيسأل أصحابها وأربابها، فهذا مجاز قرآني عالٍ كما في كثير من سور القرآن الكريم، وهو ما وفَّقني الله لتناوله في ثلاثية "العمد الخفية في بنى العربية... المجاز"، وهي من العلاقات التي استزادها الشيخ علي عبدالرازق في كتابه "أمالي علم البيان وتاريخه"، وعلى الرغم من أن تلك العلاقات التسع جامعاتٌ لعلاقات المجاز لكل دارس وسالك، فإن المرحوم الشيخ علي عبدالرازق في كتابه "أمالي علم البيان وتاريخه"، قد زاد عشر علاقات للمجاز: "علاقة استعمال اسم المحل في حاله، وذكر: سال الميزاب؛ يقصد ماءه، ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ [يوسف: 82]؛ أي: أهلها[3].

 

﴿ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ﴾ [يوسف: 81]، ألَا ترون أن في قولهم ﴿ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ﴾ [يوسف: 81] إشراكًا ليعقوب النبي ولو بسهم الأبوة فيما حدث، ليتخففوا من حِدة أو ثقل اللوم الذي ينتظرهم ساعة أن يواجهوا أباهم؟ فبنيامين أخوهم، فلِمَ لَمْ يقولوا (إن أخانا سرق)؟ هم يبتغون الوسيلة لجعل يعقوب في دائرة ما حدث فهو ولده؛ وهم من قالوا قبل: ﴿ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [يوسف: 63]، ثم قولهم: ﴿ هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ﴾ [يوسف: 65]، لكن لما رأوا أن بنيامين قد أُحيط به، وأصبح في معرض العقاب، قالوا: ﴿ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ﴾ [يوسف: 81]، وربما كان ذلك من تدلُّل الولد على أبيه وأمه حتى في أنكى النوائب، هذا، والله تعالى أعلى وأعلم.

 

التحقيق السابع والعشرون:

الأساليب في القصة القرآنية:

ما دام العمل القصصي ممتدًّا وله خيوط مرسلة وأحداث متنقلة، فلا بد من تقلب الكلام بين خبر وإنشاء، وكلاهما بلاغي في الأصل، لكن الخبري هو ما يقع على كفتي التصديق والتكذيب حسب احتمالية الصدق وحجة المحدث من غيره، وأما الإنشائي فهو بخلاف ذلك، ولكنه ينقسم لنوعين: طلبي وغير طلبي، فأما الطلبي الواقع تحت طائلة الأفعال الآمرة والناهية، والأغراض الاستفهامية وأساليب النداء، وغير الطلبي من مدح وذمٍّ، وتعجب ورجاء، وصيغ للعقود والقسم والرجاء، إلى غير ذلك من كل الأغراض البلاغية الإنشائية، تلك هي القاعدة وما علينا غير القياس، ولكننا حين نشرع في تصنيف ذلك قياسًا على أساليب القرآن، نتوخى الحذر، فخطاب الله للناس بخلاف خطاب الناس بعضهم بعضًا، وأن القواعد الأرضية ما ترتقي لنصوص القرآن ومقاصده البلاغية.

 

وقصة نبي الله يوسف الصديق عليه السلام تفيض بتلك الأساليب فيضًا، ولو رجعنا لكافة طرائق الطلب في اللغة العربية من بحث ومحاولة، وجوسٍ وتحرٍّ، ومزاولة واستقصاء، لَما استطعنا أن نصل لمنتهى مراد القرآن الكريم من تلك الأساليب، الخبرية منها أو الإنشائية على تعدد أنواعها، لكننا سوف نقف فقط على جسر من نور، ومحاولة جَسور مذعور يخشى أن يخطئ، فنلتمس بعضًا منها من أول أسلوب خبري من رب العزة سبحانه لسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم في قوله جل شأنه: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3]، والآية إخبار بأن: قصصنا يا محمد هو أحسن القصص وإن كنت قبل ذلك الإخبار لمن الغافلين عنه؛ أسلوب خبري لا جدال ولا مراء فيه، ولا شك ولا ريب، حتى ننتهي جوسًا في معاجم العربية عن ترادفات تقطع باليقين على كل شك مرتقب، فقَصص القرآن ليس كأي قصص، ولا يُقاس على نصوص أرضية، بل إن النصوص الأرضية كافة حتى قيام الساعة هي ما يجب أن تشرئِبَّ بأقلامها وأعلامها تأسِّيًا بذي البيان وهذا القرآن، حتى قال سبحانه في مختتم القصة وعلى أنوار نهاية السورة الكريمة: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].

 

وكذلك بوح يوسف لأبيه يعقوب النبي بما رأى من رؤيا مدهشة مفرحة لكل قلب بشأن الشمس والقمر، وما كانا عليه من حالة سجود؛ تعظيمًا وتكريمًا له، والكواكب، وإخبار عما رأى: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]، ثم يأتي الأسلوب الإنشائي الطلبي الناهي ليوسف أن يقصص على إخوته ما رأى من حيثيات يخشاها يعقوب، لكنه خفف عنه ببعض أساليب متنوعة بين الخبر والإنشاء وضلوع الشيطان في إيقاع العداوة بين ذوي الأرحام، ثم الكثير والعديد من الأساليب المتعددة بين خبر وإنشاء بما يُعزِّز قيمة وسمو اللفظ القرآني، وما لا يَدَعُ مجالًا للشك في اختيار كل مفردة أتت في موضعها المناسب الأشد بلاغة، والله المستعان.

 

والحوار ما بين الأسباط ويعقوب النبي بما اشتمل على التحول بين الخبر والإنشاء، فإخوة يوسف يطلبون ويلتمسون برفق: ﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [يوسف: 12]. ويعقوب يخبرهم ويخشى على يوسف من أن يأكله الذئب، وهم يستنكرون ذلك بكونهم عصبة، حتى يرجعوا بخبر كاذب وافتراء عظيم: ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17].

 

ولو وُضعت قاعدة الأساليب على طاولة الكاتب، واستقصى من سورة يوسف الخبرية منها والإنشائية من طلب وغير طلب، لوجدنا أن عديدًا من آيات السورة وتتابع أحداثها المحكم تشتمل على الخبري والإنشائي معًا في آية واحدة، فلن نستطيع أن نحصرها على اختلاف أغراضها البلاغية من تمنٍّ ورجاء، واستعطاف واستحسان، وذمٍّ ومدح، فضلًا عن صيغ العقود؛ التي وقعت في أول الدخول إلى مصر: ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ [يوسف: 20].

 

﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 1 - 3]، ثلاث آيات خبرية لا احتمال فيها لغير الصدق واليقين بكلام رب العالمين، فضلًا عن اشتمالها على أساليب إنشائية؛ كقوله في شأن قصص القرآن: ﴿ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [يوسف: 3] من مدح وتمجيد.

 

نداء يوسف لأبيه يعقوب: ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]، نداء يعقوب الوالد ليوسف إشفاقًا: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يوسف: 5]، نداء إخوة يوسف لأبيهم رجاء السماح لهم بخروجه معهم: ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾ [يوسف: 11]، وهو أسلوب تعجب، ثم نداؤهم بعدما فعلوا ما لا تُحمد عقباه: ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17]، وإلى آخر القصة ونداءاتهم بشأن بنيامين وخروجهم هو معهم، ثم النداء الأخير الذي فيه الإخلاص أخيرًا قد خرج من قلوبهم واعتذارهم الصريح: ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 97].

 

وأساليب النداء كلما تخففت من مبانيها الحرفية، كانت أكثر قربًا وتحنانًا؛ فنبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا محمد الصلاة والسلام لما أراد أن يتوسل هداية أبيه آزر، واستمالة قلبه للإسلام قال: ﴿ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [مريم: 44 - 46]، نجد أن نبي الله إبراهيم تدرَّج بالتلطف في الإقناع مع ثبوت أداة النداء الأقرب ﴿ يَا أَبَتِ ﴾ [مريم: 44]، رجاءَ أن يرِقَّ قلب آزر، لكن دون جدوى، فأمر الله قد صدر بأنه لا هداية له، والله المستعان.

 

الالتفات في السرد القصصي القرآني لقصة يوسف عليه السلام:

علمنا يقينًا وقديمًا - مذ كنا طلابًا وما زلنا نسأل الله الاستزادة من فضله - أن الالتفات "انتقال مفاجئ أثناء الكلام إلى مخاطبة شخص أو شيء حاضر أو غائب"[4]، وهو ما يحدث الحركة داخل البنيات السردية، ويؤلِّف الشطور على السطور، فلا يحدث الفتور، ولا يستكين العقل عن استيعاب المقاصد، هذا ما يكون في النصوص الأرضية، أما في كلام الله تعالى وقصص القرآن فلا ينبغي لنا إلا أن نلزم غرزنا، ونتأدب في حضرة كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لنتعلم ونرى.

 

وبالنظر في موقع إسلام ويب التقني حول هذا البيان، يُعرِّف أهل اللغة (الالتفات) بأنه "انصراف المتكلم من الإخبار إلى المخاطبة، ومن المخاطبة إلى الإخبار"، ويعرف أيضًا بأنه "إخراج الكلام من أحد طرق التعبير الثلاثة: التكلم، والخطاب، والغيبة، إلى طريق آخر من هذه الطرق الثلاثة"، وبعبارة مختصرة فإن (الالتفات) يُقصد منه نقل الكلام من أسلوب إلى آخر، كما أوضحت الدراسة موقف السلف والمفسرين منه؛ حيث "اعتنى المفسرون، خاصة من كان منهم له اهتمام بالجوانب اللغوية، كأبي حيان، والألوسي، والرازي، وابن عاشور، بإبراز هذا الأسلوب في القرآن، وأبانوا الفوائد واللطائف المبتغاة من وراء هذا الأسلوب، والقارئ لكتب التفسير لا يعجزه أن يقف على قول المفسرين: وهذا على سبيل الالتفات، أو قولهم: وهذا من باب الالتفات، أو قولهم: وهذا على جهة الالتفات"[5].

 

والالتفات في قصص القرآن لا يكتفي بتحول هيئة الخطاب من حاضر لغائب، أو من مفرد لجمع، أو اختلاف الضمائر على اختلاف الوقائع، بل يتعدى بيانه وبلاغته الزمان والمكان، نلحظ ذلك في كثير وعديد من آيات السورة، وهذا على سبيل الذكر لا الحصر؛ فإخوة يوسف لما حدث من أمر بنيامين واحتجازه، وخلص بعضهم لبعض يتحاورون وهم بأرض مصر: ﴿ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 81 - 83]، هم يتحاورون فيما بينهم في أرض مصر، وينظرون كيف سيكون الوقوف بين يدي يعقوب الوالد، ويستجمعون كافة الأدلة الدالة - كما ذكرنا - على صدقهم، ثم تجد القرآن الكريم قد نقلك بنقلة نوعية فريدة إلى أرض كنعان، بل في حجر يعقوب النبي وهو يقول لهم: ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 83]، فهل أحسست بهزة أرضية بسبب تغير المكان، أو ارتباكٍ أو انفصام في آلية التلقي؟ بالطبع لا، وسبحان من هذا كلامه! بل إن القرآن الكريم عزز لهذا الالتفات بوصف حال يعقوب النبي بعدما زفوا له خبر احتجاز بنيامين؛ لظنِّهم أنه معاقب بجريرة السرقة، ذلك الوصف الذي يدمي القلوب قبل العيون؛ بقوله تعالى: ﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 84 - 86].

 

فيا لصبر يعقوب العظيم! فأقسى ما في الأمر أن كفتي الميزان لفلذات أكباده لا يرضى أن يأتي رجحان واحدة منهما على حساب الأخرى، كما لا يرضى لواحدة أن تطيش بالفعل الشائن، وتلك فطرة الله التي فطر الوالدين عليها من محبة للصغير حتى يعود، والمريض حتى يُشفى، والمسافر حتى يؤوب، ويعقوب الوالد ودَّ أن يأتيه الله بهم جميعًا في ظلل من غمام الرحمة، وأكناف الصفح والمغفرة، وهو السميع البصير، وها هو القرآن العظيم يُبكي قلوبنا بهذا الالتفات العظيم في قوله تعالى واصفًا حال يعقوب: ﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 84 - 86].

 

إنه رد الواثق لمن لم يثبت حتى الساعة لديهم حقيقة اليقين، وهم من نعتوه من قبل بأنه على ضلاله القديم؛ أي: ظنه القديم بأن يوسف ما زال على قيد الحياة، ثم نعتهم إياه بنفس الصفة، ولكن بطريقة غير مباشرة في الأسلوب الإنشائي غير الطلبي بالقسم المؤكد: ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ﴾ [يوسف: 85]، ﴿ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 84].

 

وصف بليغ ذو وقع على القلوب قبل استشرافه بالعيون، كأنك تراه رأيَ العين هذا النبي الكريم، وقد حدا به البكاء المستمر ليزول منهما السواد، وتستحيلا إلى البياض الذي ينعته الطب الحديث (بالجلوكوما) أو المياه الزرقاء، ثم وصفه بالكظيم، وفي قاموس المعاني: (كظم السقاء كظمًا: ملأه وسد فاه)، وهي صفة مشبهة تدل على الامتلاء بالحزن الشديد، حتى إن الشاعر العربي أبا إسحاق الصابي قد أحسن وصفًا لذلك وهو يرثي ولده:

سودتَ ما بين الفضاء وناظري        وغسلت من عيني كلَّ سوادِ

 

وقوله: ﴿ بَثِّي وَحُزْنِي ﴾ [يوسف: 86]، فالبث شدة الحزن، وهذا الترادف بالأقوى ثم الأقل دلالة على ثبوت حالة الحزن مع تفاوت درجاتها، والله تعالى أعلى وأعلم، وللمقال جزء أخير بعون الله تعالى.



[1] تفسير الإمام الطبري، سورة يوسف، موقع تقني.

[2] تفسير الإمام الطبري، ص244، سورة يوسف، الآية: 77، موقع تقني.

[3] العمد الخفية في بنى العربية ... المجاز (2)، شبكة الألوكة/ حضارة الكلمة/ اللغة ... والقلم/ الوعي اللغوي/ محمد صادق عبدالعال.

[4] قاموس المعاني - موقع تقني.

[5] إسلام ويب/ أسلوب الالتفات في القرآن/ التصنيف: دراسات قرآنية.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • التحقيق في ملحمة الصديق (1) دلالات وعبر
  • التحقيق في ملحمة الصديق (2) دلالات وعبر
  • التحقيق في ملحمة الصديق (3) دلالات وعبر
  • التحقيق في ملحمة الصديق (4) دلالات وعبر
  • التحقيق في ملحمة الصديق (5) دلالات وعبر
  • التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر

مختارات من الشبكة

  • التحقيق في تبرئة العلامة السيوطي من كتاب (الروض الأنيق في فضائل الصديق)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • حاجة كتاب (غاية النهاية) لابن الجزري للتحقيق ، وحاجة التحقيق للتنسيق(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
  • التحقيقات التي حظي بها كتاب البرهان للإمام الزركشي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • كتاب تحفة الصديق في فضائل أبي بكر الصديق لابن بلبان(مقالة - موقع د. أنور محمود زناتي)
  • مخطوطة الوقوف بالتحقيق على موقف الصديق(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة التحقيق(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • كيف تشتري كتابا محققا؟ وكيف تميز بين تحقيق وآخر إذا تعددت تحقيقات النص؟(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • إسهامات المستشرقين في نشر التراث العربي الإسلامي: دراسة تحليلية ونماذج من التحقيق والنشر والترجمة (PDF)(كتاب - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • إسهامات المستشرقين في نشر التراث العربي الإسلامي: دراسة تحليلية ونماذج من التحقيق والنشر والترجمة (PDF)(كتاب - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • التحقيق في المسائل الخلافية وليس الخلاف حجة(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب