• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    موقف أبي موسى الأشعري مع جندي من جنوده
    الشيخ عبدالعزيز السلمان
  •  
    النقد العلمي
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت ...
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / سير وتراجم
علامة باركود

الشجاعة الأدبية للفاروق

الشجاعة الأدبية للفاروق
د. هاني الشتلة

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 28/8/2023 ميلادي - 11/2/1445 هجري

الزيارات: 3405

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الشجاعة الأدبية للفاروق


يعجبني دائمًا ما أقرؤه عن الفاروقِ عمرَ؛ لأن القراءة فيه تحلو، تُرقِّق العاطفة، وتبعث المعاني السامية التي تحلِّق في عالم اليقين الثابت، والهمة العالية، والصراحة الغالية، والشجاعة الأدبية النادرة، والبت في الأمور بوضعها في مكانها المناسب عند وقتها الْمُواتي، قلبه جمع بين الشدة التي لا تشوبها القسوةُ، والرفق الذي لا يشوبه الضعف، والحكمة التي لا يُؤتاها إلا مُلْهَم، وحسن البصر والبصيرة، وكأنه يعرف النتيجة قبل المقدمات، والبراهين قبل المعطيات، والنور قبل الظلمات، والوقوف عند الحق ولو خالف رأيه، لا يزدهيه مدح ولا يستثيره نقد، عرَف ما يرفع شأن الإنسان فالتزمه، وما يحط من قدره فاجتنبه، فارتفع بالأولى ونجا بالثانية.

 

إن الحديث عن مثل شجاعة الرجل هي في حد ذاتها هَرْطَقَةٌ كتابية؛ إذ إن الكتابة في حرم الكمال كمال، والسكوت عنه أشد كمالًا وجمالًا، ولا مثل الشجاعة عند عمر، فعمر كله شجاعة؛ بدنية وأدبية؛ لأنه رجل صَدَقَ إيمانُه، لا يثبت عنده إلا بإشهاره على رؤوس الرجال، عساهم يحظَون من هذا الخير بنصيب، رجولة تدفعه إلى إظهار ما آمن به؛ إذ إنه - وهو الفارس المحنَّك، والجريء الجسور - يفزع من الخوف، ويفر من الجبن، لا يأنس إلا بالوضوح، ولا يجد الراحة إلا في الصراحة، ولو عاداه الناس جميعًا بسببها، أليس الناس من خوف الأذى في أذًى؟ ومن الهرب من عواقب حمل الحق وتكاليفه في مَوات؟ ما طال الخوف بقوم واستحكم، إلا طال بهم ليلُ الذُّلِّ واستبهم.

 

رجل من مَعدِنِ الرجولة القليل، عرَفه الرسول في أوديةِ مكَّةَ ودروبها، فأدرك بحسِّه النقي وحكمته النبوية أثرَه في تثبيت دعائم الدين ونصرته، ورؤيته الشاملة للوجود الإسلامي كله، وتصويره التحليلي للشخصية العمرية، وإدراكه لعوالمها الداخلية، والنفسية والروحية، والأخلاقية والفكرية الرحيبة، واستشرافه لمستقبل هذا الدين، ومستقبل الإنسانية في ظلِّه، فتمنَّى أن يشرح الله صدره للإسلام، فدعا له وهو لم يكن بعدُ قد أسلم؛ فقال: ((اللهم أعزَّ الإسلام بأحبِّ الرجلين إليك؛ بعمرَ بنِ الخطاب، أو بأبي جهل عمرو بن هشام))[1].

 

وكانت الدعوة على قِصَرِها وقلة تفاصيلها متمتِّعة بأغلب خصائص وسمات الدعاء، فكانت جمَّة المعاني، قوية النظم والأمانيِّ، فيها من الخير الكثير والتفاني؛ إذ بها قد يُعَزُّ الإسلام بأحب العمرين، فكان هو أحبهما إلى الله تعالى، جاهلي كَسَبَهُ الإسلامُ، فكسبه العالم الإنساني كله، ونفس ضائعة رُدَّت إلى صاحبها، فعرف منها ما كان ينكر، واطلع منها على ما كان يجهل، ونفع بها أمته وأممًا لا تُحصى، وصنع بها الإسلام أعظم ما يصنعه قدر.

 

رجلٌ فاروقٌ فرَّق الله به بين الحق والباطل، شجاع بدنيًّا وأدبيًّا، أرهب الصناديد، وانتصر للمحاميد، خاشع لربه متبتِّل في محرابه، قالت عنه أم أبان عتبة بن ربيعة: "إنه رجل أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه، كأنه ينظر لربه بعينيه"، وذلك عندما عرض عليها الزواج، فاعترضت ورفضت، فهو في الحق أصدقُ وصفٍ لإيمان هذا الرجل المتفرد بإيمانه، كما تفرد بكثير من شؤونه، إنه تجاوز حدَّ الإيمان إلى حدِّ الرؤية والعِيان، وهي قولة عابرة من قائلة أصابت ما لم يُصِبْه قائل، ولعلها لا تدري مدى صوابها، على الرغم من رفضها إياه.

 

درجت طفولته على بِطاح مكة وسُهُولِها، فلوَّنت بشرته القمحية شمسها المحرقة، وجوِّها اللاحف، وبين جبالها الشُّمِّ الرواسي، وقممها العالية تفتح شبابه، وقوِيَت سواعده، رجل قيل عنه: إنه لما صدر من مِنًى (في آخر حجاته) أناخ راحلته بالأبطح، ثم كوم كومة من بطحاء - الحصى الصغير - ثم طرح عليها رداءه، ثم استلقى ومد يديه إلى السماء، وقال: "اللهم كبِرت سني، وضعُفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك، غير مضيِّعٍ ولا مفرط"[2]، واستجاب الله له، فما انسلخ ذو الحِجَّة من ذاك العام حتى طُعِنَ فمات رضي الله عنه.

 

قال عنه عبدالله بن مسعود في أسمى صور الحب النبيلة، عندما مات أخوه عتبة بكاه في لوعة وشوق وحب، فقيل له: أتبكي؟ قال: "نعم، أخي في النسب، وصاحبي مع رسول الله، وأحب الناس إليَّ، إلا ما كان من عمر بن الخطاب"[3].

 

لم يبكِ أخيه من ناحية صلة الدم وحدها، ولكنه يبكي فيه رابطة العقيدة الغالية، والصحبة النبوية الطاهرة، والعمل في سبيل الله، ثم بعد كل هذه الروابط الوثيقة بينه وبين أخيه، نراه أعمق حبًّا لعمرَ؛ لأنه يعلم أنه أكثر نفعًا للإسلام منه ومن أخيه، وأكثر أثرًا فيه، وأبعد أملًا منه، وقال عنه: "ما زِلْنا أعزَّة منذ أسلم عمرُ، كان إسلامه فتحًا، وهجرته نصرًا، وإمارته رحمة، قد رأيتُنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر"، لك الله يا عمر.

 

كان رضي الله عنه يتصاغر في نفسه، على قدر ما يراه من بواعث الكبرياء، لا على قدر ما يراه من بواعث الصِّغر، وكلما اعتزَّ مَن حوله مِن خاصة أهله، وخُلصاء قومه ورعاياه، بما يرَونه فيه من بَسْطَةِ السلطان المبسوط، والكلمة العالية في أمر المضبوط، حطَّ من شأن نفسه، فقال لأصحابه يومًا وقد مرَّ ببعض الشِّعاب: "لقد رأيتُني في هذه الشعاب أرعى إبل الخطاب، وكان غليظًا يُتْعِبني، ثم أصبحت وليس فوقي أحد"، وهو من هو؟ إنه خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين، فضايقت كلمته ولده فقال له: ما حملك على ما قلتَ يا أمير المؤمنين؟ قال: "إن أباك أعجبته نفسه فأحب أن يضعَها"؛ أي: يُقلِّل من شأنها.

 

وانظر هنا إلى كلمة أمير المؤمنين يقولها الابن، ثم انظر إلى كلمة أباك يقولها أمير المؤمنين، هو من هو؟ إذا ذكرت الفاروق، أشار إليه البَنان والبنيان بأنه عمر بن الخطاب، وحسبُ عمرَ ذكرًا وعراقة أنك إذا أطلقتَ اسمه مجردًا فقلت: قال عمر، فلن تذهب المقالة في الأولين والآخرين إلا إليه؛ لأنه أبرز وأجَلُّ من أن يدل عليه نسب، أو تعلو به كُنية، أو يشرِّفه لقب.

 

فقد تروق الفرد ما يكتب عن عمرَ من معالم التربية الصحيحة، ولو كان في قدر الله أن يمُنَّ على الأمة بحظٍّ من بضع عميرات مثله، لانقشع الغيم عنها، وأشرق الأمل ونَصَعَ؛ لأن خشيته لربه كانت لها الأثر العميق في الدولة، ولا أعني الخشية كثرة صلاته وصيامه وزكاته وحجِّه، فما أكثر من يفعل ذلك، ولكنه ليس له وزن وثِقَلٌ عند الله!

 

حقًّا إن هذه الفرائض هي الأسس التي بُنِيَ عليها الإسلام، ولن يكون إسلامٌ بغيرها، إنما القصد بالخشية حالٌ تُلازِم القلب، فتجعله في حضور دائم مع الله، كل خَفْقَةٍ من خَفَقَاتِهِ واعية ذاكرة، كل نفس من أنفاس صدره تفكُّر وتدبُّر، إن أدى فريضة فراحةٌ ورضاء، وإن تقدَّم بالنوافل فخوفٌ ورجاء، إن صحا القلب فمتعة روحانية وإخاء، قلب مُزْهِر فيه سراج وضَّاء، سراج الخشية الذي يجعل الله متجليًا في كل الأشياء، يرى الله بقلبه قبل أن يرى القبلة التي يصلي إليها.

 

كان رجلًا لا يعرف من دنياه إلا مكةَ وما يحيط بها، فكانت دنياه محصورة، ومآله في الدنيا محدودة، فماذا حدث حتى أصبح حديثَ الدنيا بأسرها، كيف دانت الدنيا له ولجنده؟ وكيف أصبحت الدنيا والأرض بأقطارها الأربعة مفتوحة أمام كلمة عمر التي يستمدها من كتاب الله؟ ماذا جرى له حتى أصبح موضعَ دراسة علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع وقادة الجيوش؟ إنه الإسلام؛ دين الله الخالد، تلك كانت مقدمة عن الرجل لنعرف لِمَ نأخذ عنه تلك الشجاعة الأدبية.

 

جاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله، عندنا أرض سَبِخَةٌ ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تُقْطِعناها، فأجابهما أبو بكر وكتب لهما، وأشهد القوم وعمر ليس فيهم، فانطلقا إلى عمرَ ليُشْهِداه فيه، فتناول عمر الكتاب ومحاه، فتذمَّرا له وقالا له قولة سيئة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألَّفكما والإسلام يومئذٍ قليل، وإن الله قد أعزَّ الإسلام، اذهبا فاجْهَدا جَهْدكما، لا رعى الله عليكما إن رَعَيْتُما.

 

فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران فقالا: ما ندري والله أنت الخليفة أم عمر؟! قال: لا، بل هو لو أراد، فجاء عمر وهو مُغضَب حتى وقف على أبي بكر فقال في شجاعته الأدبية: أخبرني عن هذا الذي أقطعتَهما، أرضًا لك خاصة، أم للمسلمين عامة؟ قال أبو بكر وهو من هو؟ خليفة رسول الله وأمير المؤمنين: بل للمسلمين عامة، فقال عمر: فما الذي حملك على أن تخص بها هذين؟ قال أبو بكر: استشرت الذين حولي فأشاروا عليَّ بذلك، وقد قلت لك: إنك أقوى على ذلك مني فغلبتني.

 

قد يُقال: إن تصرف عمر رضي الله عنه لا يتماشى مع ما تواضع عليه الناس من قواعد التعامل في مثل هذه المواقف، ولكنه قول من لم يُؤتَ تقديرًا للعُرف بين الناس في الأزمنة المختلفة، ففي ذك العهد المكي والمدني النظيف لم تكن هناك رُتَبٌ ولا ألقاب، والخليفة بالنسبة لمن حوله كان يُخاطَب كأي فرد من الرعية بلا تفرقة، هذا وإن حب المساواة بين أفراد المجتمع، والحرص على مصالحه وغضبة الحق، والرغبة في إرجاع الأمير عن خطئه، كل ذلك أثار عمر فوقف من أبي بكر ذلك الموقف الشديد، كما أنه أراد أن يعلم الأقرع وعيينة أن العصبية والجاه والزعامة القبلية لا تجر لأصحابها في الإسلام مغانمَ، لا يظفَر بها المجردون من تلك الصفات.

 

هذا الموقف في تقديري يبين لنا رأيَ أبي بكر في عمر رضي الله عنهما، وإنه لَنظر حكيم في تقدير الرجال للرجال في غير غضب ولا اعتداد بمكانة، ولا ينفَسُ أحد على أحد ما أتاه الله من فضله، إنه انصياع كامل للحق، ولو في قالبٍ لا يُرضِي الذين يؤثِرون الْمَظْهَرَ على المخبر، والذين يهتمون بالقشور دون حقائق الأمور.

 

إني أَغْمَط وليَّ الله عمرَ رضي الله عنه حقَّه؛ إذ أنا لم أعرض له في مجال شجاعته الأدبية، وليس بمستنكَر أن يكون هؤلاء الناس من أصحاب تلك الشجاعة، وليس بضائري أن أُشِيدَ به من تلك الناحية، لأبيِّنَ ما يفعل الإيمان وخشية الله وتملُّك الشجاعة الأدبية في نفوس الصالحين، وإني لَمُوقِن بداءة أنني لن أصل إلى مبتغاي مع عمر في هذا المقام الجليل، ومع الإحساس الصـادق، فإنـي مُقْـحِم نفسـي وسأكتب، ودافعي من الكتابة أني أكتب متعبدًا لله أولًا، ومحبًّا لعمر ثانيًا، وطالبًا للأجر ثالثًا.

 

فما مرَّ بالعالم كله على طول تاريخه، ووفرة شجعانه وحُكَّامه، بعد عمر رضي الله عنه مَن ساواه أو دنا منه في أي ناحية من نواحيه، حتى لقد كان بعض من بَهَرَهم عمرُ يزعُمون أنه أسطورة اخترعها بعض أذكياء المسلمين، ولا يمكن لبشر أن يكون على هذا الغرار المذهل العجيب، وإني لأعتذر كل العذر لسيدي عمر رضي الله عنه، وإن كنت أعلم أن ما سأكتبه يرضيه ولا يغضبه.

 

رأى عمرُ معاذَ بن جبل جاء من اليمن وقد أصاب نفعًا كثيرًا استكثره عليه، وأحب أن يرد هذا النفع إلى بيت مال المسلمين، فانظر إلى دقة التصرف وجلاله، وجلال التصرف ودقته وجماله بين من تناولوه، ووجهة نظر كل منهم في تقديره لصاحبه، تعرف كيف كانت النظرات الموضوعية هي أساس التعامل، في ذلك العهد الإسلامي الرفيع النظيف الجميل.

 

ففي عام فتح مكة، بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى طائفة من أهل اليمن ليجبره، وكتب إليه: إني عرَفت بلاءك في الدين، والذي ذهب من مالك حتى ركِبك الدَّين، وقد طِيبت لك الهدية، فإن أُهْدِيَ إليك شيء فاقبل، فمكث معاذ باليمن أميرًا، وكان أول من اتَّجر في مال الله، فمكث حتى ربِح ربحًا كثيرًا، فلما مات رسول الله، قدِم معاذ إلى المدينة، فقال عمر لأبي بكر: أرسل إلى هذا الرجل فَدَعْ له ما يعيشه وخُذْ سائره منه، فقال أبو بكر: إنما بعثه النبي ليجبره، ولست بآخذ منه شيئًا إلا أن يعطيني، ورأى عمر أن أبا بكر لم يأخذ برأيه، ولكن عمر مقتنعٌ بصواب رأيه، فذهب إلى معاذ لعله يرضى، فقال معاذ: إنما بعثني رسول الله ليجبرني ولست بفاعل[4].

 

إن عمر لم يذهب إلى أبي بكر مستعديًا، ولكنه كان يريد الخير لمعاذ وللإسلام والمسلمين، وها هو ذا معاذ يرفض نصيحته، ويعلم عمر أنه ليس بصاحب سلطان عليه فينصرف راضيًا؛ لأنه قام بواجبه من النصيحة، ولكن معاذًا رأى بعد رفضه نصيحة عمر ما جعله يذهب إليه قائلًا: قد أطعتك، وإني لَفاعل ما أمرتني به، فإني رأيت في المنام أني في خوضة ماء قد خَشِيت الغرق، فخلَّصتني منه يا عمر، ثم ذهب معاذ إلى أبي بكر رضي الله عنهما، فذكر ذلك كله له، وحلف أنه لا يكتمه شيئًا، فقال أبو بكر: أنا لا آخذ شيئًا قد وهبته لك، فقال عمر: هذا حين حلَّ وطاب.

 

وهكذا تُحَلُّ المشكلات بين الحاكم وبِطانته ورعيته في رفق ولين وتبيُّن، يُنهي الأمور في مودة وسلام، ناصح ينصح، ومنصوح يترنح، وحاكم يكبح، فتستقيم النصيحة في قلب المنصوح، وفي مقاصدها تنجح، لك الله يا عمر.

 

والعبرة والتربية الجميلة وتحليل الصورة في تقديري من السياق هنا ما يلي:

• خليفة اختص رجلين بشيءٍ ليس له أن يتصرف فيه، أخبرني عن هذا الذي أقطعتهما، أرضًا لك خاصة، أم للمسلمين عامة؟ والسؤال واضح ولا يحتاج إلى إيضاح: بل للمسلمين عامة.

 

• الرجلان من ذوي العصبية والعُنْجُهِيَّة والاستعلاء، وهذا واضح من ردِّهما البذيء على عمر.

 

• قد يظن من لم يتمكن الإسلام من قلبه أن هذه المعاني ما يزال لها بقاء في الإسلام، وذاك الظن في عرف الإسلام الجميل خاطئ.

 

• إقرار أبي بكر خليفة المسلمين لعمر في تصرفه اعترافٌ بصواب شجاعة عمر الأدبية من الناحية الشرعية.

 

• استعداء الرجلين لأبي بكر على عمر بضربهما على وترٍ يظنان أن له في الإسلام رنينًا: ما ندري والله أنت الخليفة أم عمر؟!

 

• احتقار أبي بكر لهذا المعنى، فكان الرد أشد تقريعًا ورنينًا، بردِّه هذا الرد الْمُسْكِت: بل هو لو أراد.

 

• التفاهم التام بين الحاكم والمحكوم، فاقهين كل الفقه لدِينهما الجميل، وكل ديننا سهل وجميل.

 

• فيه جواز إحاطة الحاكم أو ولي الأمر ببطانة سياسية صالحة، توجهه وتنصحه وترشده إلى ما فيه خير البلاد والعباد، وإصلاح أمور القلب والفؤاد.

 

• فيه عدم جواز قبول من تقلَّد منصبًا تابعًا للدولة، أو ارتقى مرتقًى عاليًا فيها لأي نوع من الهدايا تحت أي مسمًّى من المسميات؛ درءًا للشبهات، وبُعدًا عن المفاسد، وتغليبًا للمصالح.

 

• أنه يجوز للحاكم أو ولي الأمر أن يرسل ولاة أمره ليجبرهم، إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك سبيلًا، وإلا فلا؛ لذلك كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ قائلًا: قد طِيبت لك الهدية، فإن أُهْدِيَ إليك شيء فاقبل.

 

• يقدم الفرد نصحه بشجاعة أدبية رصينة لا نظير لها، فيقول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما: أرسل إلى هذا الرجل، فَدَعْ له ما يعيشه وخذ سائره منه، وهذا واجب عليه في الدين.

 

• ينبغي على الحاكم، أيًّا كان هذا الحاكم، أن يقوم بتوفير ما يقوِّم أمر كل فرد من رعيته في الدولة من أساسيات المعيشة، وذلك قوله: فدع له ما يعيشه.

 

• لا يقتنع الحاكم بوجاهة الرأي فيرفضه، قائلًا: إنما بعثه النبي ليجبره، ولست بآخذ منه شيئًا، إلا أن يعطيني، وهذا حقه.

 

• لا يغضب الفاروق صاحب النصيحة الفاروقية، والشجاعة الأدبية، ولا يتعصب لرأيه، فينصرف، وهذا من خُلُق الإسلام.

 

• يذهب الناصح عمر إلى المنصوح صاحب الشأن معاذٍ فينصحه، فيأبى المنصوح فلا يُخاشِنه، ولا يقاطعه، وهذا التزام شرعي وواجب عليه.

 

• يعرف الناصح وضعه كفرد في الدولة، فينصرف دون أن يثير ضجة أو يفتعل مشكلة، وهذا فَهمٌ منه في الدين.

 

• يجد لصاحب الشأن معاذ بن جبل ما يقنعه بصـواب رأي الناصح بعد رفضه له، فيذهب إلى الناصح راضيًا برأيه، ثم يذهب إلى الحاكم ليخبره بما استقر عليه رأيه، والرجوع إلى الحق فضيلة من فضائل الدين، والدين كله حِكَمٌ وفضائل.

 

• يَهَبُ الحاكم أمير المؤمنين المالَ للمنصوح صاحبِ الشأن، فيتغير سبب الحيازة، وهذا أصل في الدين وتشريع.

 

• يرتاح صدر الناصح لتغير سبب الحيازة، فيرضى عن بقاء المال في يد صاحبه، وهذا فقه منه وأدب.

 

• لا يجد واحدًا منهما ناصحًا كان أو منصوحًا، في صدره شيئًا على صاحبه، وهذه فطرة المؤمن الصادق.

 

• جرى كل ذلك وتم في بساطة ووضوح؛ لأن كل أحداثه قامت على قواعد الإسلام الصحيحة، والإسلام كله قواعد صحيحة.



[1] رواه عبدالله بن عمر، المحدث الطبراني، المصدر: المعجم الأوسط، رقم (4752)، خلاصة حكم المحدث: لم يروِ هذا الحديث عن سفيان بن عيينة إلا عبدالعزيز بن يحيى.

[2] رواه عمر بن الخطاب، المحدث النخشبي، المصدر: تخريج الحنائيات، رقم 1292/2، خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح، وقد أدرك سعيد بن المسيب عمر بن الخطاب، فسماعه من عمر لهذه الخطبة صحيح، والحديث صحيح.

[3] رواه عبدالله بن عتبة، المحدث: الطبراني، المصدر: المعجم الأوسط، رقم (5873)، خلاصة حكم المحدث: لم يروِ هذا الحديث عن عون بن عبدالله إلا أبو العميس محمد بن عبدالله بن عبدالرحمن المسروقي.

[4] رواه عبدالله بن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، المحدث ابن حجر العسقلاني، المصدر: المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، رقم 120/ 2، خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح، ولكنه مرسل، ورُويَ موصولًا.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الشجاعة الأدبية عند الأطفال
  • الشجاعة الأدبية في الصدع بالحق
  • الشجاعة الأدبية في الإيمان بالله
  • الشجاعة الأدبية في قول الصدق
  • الشجاعة الأدبية عند العلماء
  • الشجاعة الأدبية عند القضاة
  • الصلابة والشجاعة
  • الشجاعة الأدبية عند معاوية
  • الشجاعة الأدبية عند النساء

مختارات من الشبكة

  • الشجاعة الأدبية فى تطييب النفس الإنسانية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الشجاعة الأدبية في النصيحة الابنية(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • الشجاعة الأدبية في الاحتراز من الوقوع في أعراض المسلمين(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الشجاعة الأدبية في التحدي بإعجاز القرآن(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الشجاعة الأدبية لرسول الإنسانية(مقالة - ملفات خاصة)
  • الشجاعة الأدبية في عفَّة النفس(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • الشجاعة الأدبية في عرض الزواج(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • الشجاعة الأدبية في القرآن والسنة(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • الشجاعة الأدبية في الحفاظ علي اللغة العربية(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الشجاعة(مقالة - مجتمع وإصلاح)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب