• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    منهج شياطين الإنس في الشرك
    أ. د. فؤاد محمد موسى
  •  
    سيناء الأرض المباركة
    د. حسام العيسوي سنيد
  •  
    استراتيجيات المغرب في الماء والطاقة والفلاحة ...
    بدر شاشا
  •  
    طب الأمراض التنفسية في السنة النبوية
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    الاستشراق والمعتزلة
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    زبدة البيان بتلخيص وتشجير أركان الإيمان لأحمد ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    مفهوم الصداقة في العصر الرقمي بين القرب الافتراضي ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / عالم الكتب
علامة باركود

عرض كتاب (المقامة لشوقي ضيف)

عرض كتاب (المقامة لشوقي ضيف)
محمود ثروت أبو الفضل

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 7/3/2020 ميلادي - 12/7/1441 هجري

الزيارات: 33418

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

عرض كتاب: المقامة

 

♦ اسم الكتاب: المقامة.

♦ المؤلف: د. شوقي ضيف.

♦ سنة النشر: 1973.

♦ دار النشر: دار المعارف - مصر.

♦ الطبعة: الثالثة.

♦ صفحات الكتاب: 104.

 

المقامة من أمتع الفنون في أدبنا العربي، وأكثرها تفردًا بما ارتبط بها من غايات تعليمية، ومقابلات لفظية، ومحسنات بديعية، وتتلاقى مع كثير من الفنون الأدبية الأخرى؛ وإن امتازت عنها في كونها فن عربي خالص أبدع فيه كثير من رواده كـ"الهمذاني" و"الحريري" ومن جاء بعدهم ونهج على منهاجهم في فن إنشاء المقامة وتطويعها لأغراض بيانية شتى، ويضع لنا د. "شوقي ضيف" في مؤلفه "المقامة"، دراسة مستعرضة لنشأة فن المقامة في الأدب العربي، وتطورها الفني على يد كل من بديع الزمان الهمذاني والحريري، ومن جاء بعدهما، مع بيان أغراض فن المقامة، وما تميَّزت به عن غيرها من الفنون الأدبية الأخرى، وتأثرها بغيرها من ثقافات وآداب مختلفة، وتأثيرها في الآداب الأوروبية الحديثة، مع استقصاء للأسس التي تطور على هداها فن المقامة في الأدب العربي.

 

يقول د. "شوقي ضيف": «حاولت أن أصور فن المقامة وأفسره بادئًا من الخطوات الأولى لصنع المقامة، ومنتهيًا بالخطوات الأخيرة، وفي أثناء هذه المحاولة رجعت إلى ما كتبه الباحثون المختلفون من عرب ومستشرقين عن المقامة وأصحابها.. ».

 

ويقول أيضًا: «فن المقامة من أهم فنون الأدب العربي، وخاصة من حيث الغاية التي ارتبطت به، وهي غاية التعليم وتلقين الناشئة صيغ التعبير، وهي صيغ حُلِّيت بألوان البديع، وزُينت بزخارف السجع، وعُنيَ أشد العناية بنسبها ومعادلاتها اللفظية، وأبعادها ومقابلاتها الصوتية"؛ صـ5.

 

وهذا الكتاب صدرَ ضمن سلسلة "فنون الأدب العربي" التي كانت تصدرها "دار المعارف"، والتي تهتم بدراسة أقسام متخصصة من أدبنا وتراثنا العربي، واستقصاء نماذج منها تبعًا للتطور التاريخي والفني في أسلوبها وطابعها، وهذه السلسلة لا تعالج الأدب العربي بطريقة السنين أو طريقة التقسيم إلى عصور كما ألفنا في كتب التاريخ الأدبي، ولكنها تعالج الأدب العربي على مدى ما اتسع فيه من فنون.

 

وواضع تلك الدراسة د. "شوقي ضيف" أديب وعالم لغوي مصري، والرئيس السابق لمجمع اللغة العربية المصري.

 

ولد شوقي ضيف في يوم 13 يناير 1910م بمحافظة دمياط شماليّ مصر، ويُعدُّ علامة من علامات الثقافة العربية، كان الدكتور "شوقي ضيف" عضوًا في مجمع اللغة العربية في سوريا، وعضو شرف في مجمع الأردن والمجمع العراقي. ونال أكثر من جائزة، منها جائزة مبارك للآداب عام 2003، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1979، وجائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي عام 1983. كذلك مُنحَ دروعًا من عدة جامعات كالقاهرة والأردن وصنعاء.

 

وقد ألَّفَ الدكتور شوقي ضيف حوالي 50 مؤلفًا في مجالات الأدب العربي، وناقش قضاياها بشكل موضوعي، من أبرزها: سلسلة "تاريخ الأدب العربي"، وكتاب "تجديد النحو"، وكتاب "تيسيرات لغوية"، وكتاب "الفصحى المعاصر"، و"من النقد والأدب"، و"من بلاغة القرآن"، و"أسس النقد الأدبي عند العرب"، و"شعر الثورة في الميزان".. وغيرها.

 

وصف الكتاب:

وضع الكاتب رسالته في مقدمة وثلاثة فصول، ركز فيهم الكاتب على تناول فن المقامة من خلال علميها الأبرزين في تطور المقامة وهما: "بديع الزمان الهمذاني" و"الحريري"، وأسلوب كتابة المقامة عند كل منهما، وموضوعاتها، وجاء الفصل الأخير ليتناول مقامات "ناصيف اليازجي" من المحدثين، وجاءت عناوين الفصول على النحو التالي:

الفصل الأول: معنى المقامة.

الفصل الثاني: نشأة المقامة عند بديع الزمان.

الفصل الثالث: مقامة الحريري.

الفصل الرابع: مقامات مختلفة.

 

وضَّح الكاتب في مقدمته تعريفًا بكلمة المقامة لغويًّا واصطلاحيًّا، حيث بين الكاتب أن الكلمة كانت تُستعمل منذ العصر الجاهلي بمعنى المجلس أو من يكونون فيه، ونتقدَّم في العصر الإسلامي فنجد الكلمة تستعمل بمعنى المجلس يقوم فيه شخص بين يدي خليفة أو غيره ويتحدث واعظًا، وبذلك يدخل في معناها "الحديث الذي يصاحبها"، ثم اُستعملت بمعنى المحاضرة.

 

أما اصطلاحيًّا فبديع الزمان هو أول من أَعطى كلمة مقامة معناها الاصطلاحي إذ عبَّرَ بها عن مقاماته المعروفة وهي جميعُها تصوِّر أحاديث تلقى في جماعات، وبهذا المعنى استعملها في المقامة الوعظية، إذ نرى أبو الفتح السكندري يخطب في الناس واعظًا وعظًا بديعًا، وراعَ ذلك عيسى بن هشام فقال «.. لِبَعْضِ الحَاضِرِينَ: مَنْ هَذا؟ قَالَ: غَرِيبٌ قَدْ طَرَأَ لاَ أَعْرِفُ شَخْصَهُ، فَاصْبِرْ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِ مَقَامَتِهِ» [مقامات بديع الزمان الهمذاني (ص: 172)].

 

وتلك المقامات التي وضعها بديع الزمان الهمذاني صاغها في شكل أحاديث قصيرة لها جميعًا راويًا واحدًا هو "عيسى بن هشام"، وبطل واحد هو "أبو الفتح السكندري" والذي يظهر في شكل أديب شحَّاذ لا يزال يروع الناس بمواقفه بينهم وما يجري على لسانه من فصاحة، ثم نهاية الأمر يكشف شخصيته للراوي "عيسى بن هشام".

 

ورغم الجانب القصصي في مقامات الهمذاني إلا أن المقصد لم يكن تأليف قصصٍ بقدر ما كان الغرض تعليم الناشئة أساليبَ اللغة العربية وتعريفهم بألفاظها وتراكيبها اللغوية، «فليس في القصة عقدة ولا حبكة، وأكبر الظن أن بديع الزمان لم يُعْنَ بشيء من ذلك، فالمقامة أريد بها التعليم منذ أول الأمر، ولعله من أجل ذلك سمَّاها - بديع الزمان - "مقامة"، ولم يسمها قصة ولا حكاية، فهي ليست أكثر من حديث قصير، وكل ما في الأمر أن "بديع الزمان" حاول أن يجعله مشوِّقًا فأجراه في شكل قصصي»؛ صـ8.

 

لذا كان أبرز أساليب المقامة هو بلاغة اللفظ والتأنق في عرضه، «فالجوهر فيها ليس أساسًا، وإنما الأساس العرض الخارجي والحلية اللفظية»؛ صـ9.

 

ويرى الكاتب أن تأثير المقامة في الآداب العالمية - رغم محدوديته - قد حاز بكثير من العناية والاستقصاء الأدبي، فقد عُرفَتْ "المقامة" منذ وقت مبكر في الأوساط الفارسية، حيث وضع القاضي "أبو بكر بن عمر البلخي" ثلاثًا وعشرين مقامة سنة 551هـ، وكذلك عرَفت الأوساط اليهودية والمسيحية الشرقية المقامة وترجموها وصاغوا على مثالها باللغتين العبرية والسريانية.

 

أما في الآداب الأوروبية الحديثة فنعرف أن الغربيين شاقهم ما جاء في الأدب العربي في موضوع الرحلات وعجائب المخلوقات، وانتبهوا مبكرًا لفن المقامة، ووجدنا المستشرقين يعنون بها فيترجمون نماذج منها إلى اللاتينية ومنها إلى اللغات الأوروبية الحديثة حيث « يمكن أن نرى أثرها في بعض القصص الإسباني الذي يصف لنا حياة المشردين والشحاذين»؛ صـ11.

 

مقامات الهمذاني:

أما الفصل الأول فخصصه الكاتب لنشأة المقامة عند "بديع الزمان الهمذاني"، حيث نجد أن نشأة بديع الزمان كانت حافزًا له على إنشاء هذا الفن والبراعة فيه، فبديع الزمان: هو أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى، ولد في همذان بإيران، وينتمي لأصول عربية كريمة استوطنت هناك، وقد اعتنى أبوه بإرساله إلى دروس العلماء والأدباء في بلدته ومنهم أحمد بن فارس صاحب كتاب "المُجْمل". وعندما بلغ الثانية وعشرين من عمره فكَّرَ في الرحلة عن بلده فقصد وزير البويهيين "الصاحب بن عباد" في "الرَّيِّ"، وأقام عنده يترجم له عن الآداب الفارسية ثم قصد جرجان ثم خراسان ثم نيسابور، وفي هذا كله تكونت قريحته اللغوية من الممارسة والدُّربة والتجوال، وفي نيسابور ناظر "أبا بكر الخوارزمي" كبير أدباء العصر ومعلميه وانتصر عليه في مناظرته، فطارت شهرته ووضع عندها أولى مقاماته وألقاها على طلبة العلم فأعجبوا بها إعجابًا شديدًا.

 

وقد استمر بديع الزمان في تأليف مقاماته مع كثرة ارتحاله ونزوله عند بلاطات الأمراء ومنهم أمير سجستان "خلف بن أحمد" والذي ألَّف فيه ستَّ مقاماتٍ أضافها لمقاماته مدحه فيها ونوه بفضله وكرمه، وأخيرًا استقر في "هراة" وتحسنت أحواله بها وكثرت أملاكه واشتهر بمقاماته التي ألفها في رحلات تجواله وطلبه العلم والرزق.

 

ويرى د. "شوقي ضيف" أن مقام الكاتب بنيسابور معلِّمًا للتلاميذ ألهمه كتابة فن المقامة لغرض تعليمي؛ حيث كان من ضمن محاضراته ودروسه عليهم أحاديث "ابن دُرَيْد" الأربعين التي اتجه بها إلى غاية تعليم الناشئة أساليب العرب ولغتهم، مما ألهمه صناعة أحاديث على منوالها لتحبيب الطلاب في اللغة وأساليبها اللغوية، ورغم أن أحاديث ابن دريد لا تقوم على الكُدْية كما مقامات الهمذاني إلا أننا نجد أن الصلة بين العملين واضحة، فأحاديث ابن دريد يقدمها في شكل رواية وسند يتقدمها وهي غالبًا مسجوعةٌ ومليئة بالغريب من الألفاظ وهو شأن المقامات.

 

ويظهر أن بديع الزمان صنع أربعين مقامة في نيسابور متصلة لاتصال الحكي فيها ثم رأى أن يزيد عليها ستًّا في مديح خلف بن أحمد حين نزوله بلاطه، ثم زاد خمسًا أخرى وبذلك أصبحت جملتُها نيفًا وخمسين مقامة.

 

والناظر فيما حفظته لنا "أمالي القالي" من "أحاديث ابن دريد" نجد أن الصلة واضحة تمام الوضوح بين الصنيعين؛ «فالمقامة الأسدية لتعد صيغة نهائية لصفة الأسد في "ذيل الأمالي"، وكذلك الشأن في المقامة الحمدانية وما جاء من صفة الفَرَس؛ فإنها تكميل وتتميم لما جاء في "الأمالي" من وصف الفرس»؛ صـ18.

 

أما عن اتخاذه صفة البطل الشحاذ الذي يعتمد الكُدْية في طلب رزقه وإظهار براعته اللغوية فقد استوحاها من فصل للجاحظ ذكره البيهقي في كتابه "المحاسن والمساوي" يتناول فيه محادثة بين شيخ من أهل الكُدْية وشاب منهم في محاسن صنعة الكُدْية، وحيلها.

 

وقد بين الكاتب تأثره بهؤلاء الأعلام في مقاماته ونوه بهم في كثير من فقراتها ونجد أن من ضمن المقامات مقامة باسم "المقامة الساسانية" وهي نسبة إلى الساسانيين وهي طائفة من أصحاب الكدية في عصر البديع، انتسبوا لساسان، وهو شخص من بيت ملكي قديم يقال إنَّ أباه حرمه الملك، ويقال إنه كان ملكًا فاغتصب منه الملك دارًا، فهام على وجهه محترفًا للكُدْية والشحاذة، وهي من الأساطير.

 

يقول "الهمذاني" في المقامة الساسانية:

«حَدَّثَنَا عِيسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: أَحَلَّتْنِي دِمَشْقَ بَعْضُ أَسْفارِي، فَبَيْنَا أَنَا يَوْمًا عَلى بَابِ دارِي، إِذْ طَلعَ عَلَيَّ مِنْ بَنِي سَاسانَ كَتِيبَةٌ قَدْ لَفُّوا رُؤُوَسَهمْ، وَطَلَوْا بالْمَغْرَةِ لَبُوسَهُمْ، وَتَأَبَّطَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَجَرًا يَدُقُّ بِهِ صدْرَهُ، وَفِيهِمْ زَعِيمٌ لَهُمْ يَقُولُ وَهُمْ يُرَاسِلونَهُ، وَيْدعُو وَيُجَاوبُونَهُ، فَلَمَّا رآني قَالَ:

أُرِيدُ مِنْكَ رَغِيفًا
يَعْلُو خُوانًا نَظِيفًا
أُرِيدُ مِلْحًا جَرِيشًا
أُرِيدُ بَقْلًا قَطِيفًا
أُرِيدُ لَحْمًا غَريضًا
أُرِيدُ خَلًّا ثَقِيفًا
أُرِيدُ جَدْيًا رَضِيعًا
أُرِيدُ سَخْلًا خَرُوفَا
أُريدُ مَاءً بِثَلج
يَغْشَى إِناءً طَرِيفَا
أُرِيدُ دَنَّ مُدَامٍ
أَقُومُ عَنْهُ نَزِيفَا
وَسَاقِيًا مُسْتَهَشًّا
علَى القُلُوبِ خَفِيفَا
أُرِيدُ مِنْكَ قَمِيصًا
وَجُّبةً وَنَصِيَفا
أُرِيدُ نَعْلًا كَثِيفًا
بِها أَزُورُ الكَنِيفَا
أُرِيدُ مُشْطًا وَمُوسَى
أُرِيدُ سَطْلًا وَلِيفَا
يَا حَبَّذَا أَنا ضَيْفًا
لَكُمْ وَأَنْتَ مُضِيفَا
رَضِيتُ مِنَكَ بِهَذا
وَلَمْ أُرِدْ أَنْ أَحِيفَا

 

قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَنُلْتُهُ دِرْهَمًا، وَقُلْتُ لَهُ: قَدْ آذَنْتُ بِالدَّعْوَةِ وَسَنُعِدُّ وَنَسْتَعِدُّ، وَنَجْتَهِدُ وَنَجِدُّ، وَلَكَ عَلَيْنَا الوَعْدُ مِنْ بَعْدُ، وَهَذا الدِّرْهَمُ تَذْكِرةٌ مَعَكَ، فَخُذِ المَنْقُودَ، وانْتَظِرِ المَوْعُودَ.. »[1].

 

أمَّا عن أبطال "مقامات بديع الزمان" فلا يختلف باحث أنها من خيال "بديع الزمان"، وأكثرها يظهر فيها "أبو الفتح السكندري" شيخ يحترف الكدية ويتجر بها مستعرضًا أمام الناس ببيانه العذب، ويحتال بهذا البيان على استخراج الدراهم من جيوبهم، أما راوي المقامة أو الحكاية فاختار له بديع الزمان اسم "عيسى بن هشام" الذي يبدأ به "بديع الزمان" كل مقامة بقوله: «حدثني عيسى بن هشام، قال»، وهي دلالة على التأثر بفن الرواة عند ابن دريد، وغيره من رواة الحديث.

 

ونرى "أبا الفتح" يبدو بهذه الصورة في بلدان مختلفة ولعل هذا ما دفع بديع الزمان أن يسمي المقامات بأسماء البلدان ومعظمها بلدان فارسية وهي التي تنقَّل فيها الهمذاني في رحلاته، وتارةً أخرى يسمي بديع الزمان مقاماته باسم الحيوان الذي يصفه كـ"المقامة الأسدية" أو باسم الأكلة التي يلم بها أبو الفتح كـ"المقامة المَضيرية" وأحيانًا باسم الموضوع الذي يعرض له كـ"المقامة الوعظية" نسبة للوعظ و"القريضية" والتي تدور حول القريض والشعر و"الإبليسية" لأنها تتصل بإبليس.. وهلم جرًّا.

 

«والشكل القصصي ليس هدفها لذا تنوعت موضوعاتها واتخذته خيطًا نَسجَ حوله بديع الزمان العديد من الأساليب المسجوعة»؛ صـ25.

 

وقد وضع الهمذاني في مقاماته مديحًا لبعض أصحاب الفضل عليه في البلاغة ومنهم الجاحظ الذي كان يقدِّر فنَّه غاية التقدير، وخصص له أحد المقامات وسماها "بالمقامة الجاحظية" والتي يقول فيها:

«يَا قَوْمِ لِكُلِّ عَمَلٍ رِجَالٌ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالُ، وَلِكُلِّ دَارٍ سُكَّانٌ، ولِكُلِّ زَمَانٍ جَاحِظٌ، وَلَوِ انْتَقَدْتُمْ، لَبَطَلَ مَا اعْتَقَدْتُمْ، فَكُلٌّ كَشَرَ لَهُ عَنْ نابِ الإِنْكَارِ، وَأَشَمَّ بِأَنْف الإِكْبَارِ، وَضَحِكْتُ لَهُ لأَجلُبَ ما عِنْدَهُ، وَقُلْتُ: أَفِدْنا وَزِدْنا، فقَالَ: إنَّ الجَاحِظَ في أَحَدِ شِقَّيِ البَلاَغَةِ يَقْطِفُ، وفِي الآخَرِ يقَفُ، والبَليغُ مَنْ لَمْ يُقَصِّرْ نَظْمُهُ عَنْ نَثْرِهِ، ولَمْ يُزْرِ كَلامَهُ بشِعْرِهِ، فَهَل تَرْوُونَ للْجاحِظِ شِعْرًا رائِعًا؟ قُلْنَا: لاَ، قَالَ: فَهَلُمُّوا إِلَى كَلاَمِهِ، فَهْوَ بَعِيدُ الإِشارَاتِ، قَلِيلُ الاسْتِعَاراتِ، قَرِيبُ العِبَارَات، مُنْقادٌ لعُرْيَانِ الكَلاَمِ يسْتَعْمِلُهُ، نَفُورٌ مِنْ مُعْتَاصِهِ يُهْمِلُهُ، فَهَلْ سَمِعْتُمْ لَهُ لَفْظَةً مَصْنُوعَةً، أَوْ كَلِمَةً غَيْرَ مَسْمُوعَةٍ؟»[2].

 

ومن أسلوبه في الوعظ ما ذكره في المقامتين "الأهوازية" و"الوعظية"، ويقول في الأخيرة: «أَيُّها النَّاسُ إِنَّكُمْ لَمْ تُتْرَكُوا سُدَى، وَإِنَّ مَعَ اليَوْمِ غَدَا، وَإِنَّكُمْ وَاردُو هُوَّة، فَأَعِدُّوا لهَا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة، وَإِنَّ بَعْدَ المَعَاشِ مَعادَا، فَأَعِدُّوا لهُ زَادَا، أَلا لاَ عُذْرَ فَقَدْ بُيِّنَتْ لَكُمُ المَحَجَّة، وَأُخِذَتْ عَلَيْكُمُ الحُجَّةُ، مِنَ السَّماءِ بِالخَبَرِ، وَمِنَ الأَرْضِ بَالعِبَرِ، أَلا وَإِنَّ الَّذِي بَدَأَ الخَلْقَ عَلِيمَا، يُحْيِ العَظامَ رَمِيمَا، أَلا وَإِنَّ الدُّنْيا دَارُ جَهَازٍ، وَقَنْطَرَةُ جَوَازٍ، مَنْ عَبَرَها سَلِمَ، وَمَنْ عَمَرها نَدِمَ»[3].

 

بل نجد أنه ضمَّنَ مقاماته الوعظية جانبًا دينيًّا في مهاجمة المعتزلة، حيث يحمل أبو الفتح السكندري على "أبي داود العسكري" المتكلم الذي جاء برفقة عيسى بن هشام في إحدى المقامات، ويورد على مسمعه نقدًا شديدًا للمعتزلة وآرائهم وينحاز إلى جانب أهل السنة!

 

وفي "المقامة الأسدية" يلزم جانبًا تعليميًّا فيذكر كل ما استطاع جمعه من أوصاف الأسد، وفي "المقامة الحمدانية" يعرض لنا أوصافًا مختلفة للفَرَس، وكأنه ينشد متنًا لغويًا ببدائعه.

 

ونجد أنه عني بوصف كثير من وجوه الحياة في عصره، على نحو ما نرى في "المقامة البغدادية" وهي تصور لنا الحياة الإسلامية الشعبية في بغداد في تلك الفترة، وأيضًا في "المقامة النيسابورية" نجده يعرض صورة دقيقة لفساد القضاة في زمنه إذ يذكر على لسان عيسى بن هشام أنه صلى الجمعة بنيسابور؛ فلما قضاها مر به شخص، فسأل عنه من يجانبه، إذ رآه يلبس قلنسوة القضاء؛ فقال:

«هَذا سُوسٌ لا يَقَعُ إِلاَّ فِي صُوفِ الأَيْتامِ، وَجَرَادٍ لا يَسْقُطُ إِلاَّ عَلى الزَّرْعِ الحَرَامِ، وَلِصٌّ لا يَنْقُبُ إِلاَّ خِزَانَةَ الأَوْقَافِ، وَكُرْدِيٌّ لاَ يُغِيرُ إِلاَّ عَلى الضِّعَافِ، وَذِئْبٌ لا يَفْتَرِسُ عِبَادَ اللهِ إِلاَّ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَمُحَارِبٌ لا يَنْهَبُ مَالَ اللهِ إِلاَّ بَيْن العُهُودِ وَالشُّهُودِ، وَقَدْ لَبِسَ دَنِّيَّتَهُ، وَخَلَعَ دِينِيَّتَهُ، وَسَوَّى طَيْلَسَانَهُ، وَحَرَّفَ يَدَهُ وَلِسَانَهُ، وَقَصَّرَ سِبَالَهُ، وَأَطَالَ حِبَالَهُ، وَبَيَّضَ لِحْيَتَهُ، وَسَّوَدَ صَحِيفَتَهُ، وَأَظْهَرَ وَرَعَهُ، وَسَتَرَ طَمَعَهُ... »[4].

 

ويرى د. "شوقي ضيف" رأيًا معتبرًا بأن "المقامة الإبليسية" وهي تدور حول لقاء عيسى بن هشام لإبليس في واد من وديان الجن حيث ضلت إبله فذهب يلتمسها فوجد شيخًا سامره الحديث ثم سأله إن كان يحفظُ من الشعر شيئًا، فأنشده من شعره قصيدة لجرير، وعندما استوضحه عيسى بن هشام عن سبب انتحاله شعر "جرير"، عرَّفَهُ إبليس بنفسه وقال له: «مَا أَحَدٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ إِلاَّ وَمَعْهُ مُعِينٌ مِنَّا، وَأَنَا أَمْلَيْتُ عَلَى جَرِيرٍ هذِهِ القَصِيدَةَ، وَأَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُرَّةَ»[5].

 

ويعتقد المؤلف أن هذه المقامة هي التي أوحت "لابن شُهَيْدٍ" في الأندلس أن يكتب رسالته الشهيرة في عالم ما وراء الطبيعة (الجن والشياطين) المعروفة باسم "التوابع والزوابع" والتي كانت ملهمة لكاتب شهير آخر هو أبو العلاء المعري في "رسالة الغفران"، ويبدو أثر العمل واضحًا في رسالة "ابن شهيد" حيث يصرح بلقائه لشيطان "بديع الزمان الهمذاني" ومحاورته إياه!

 

وبذلك نجد أثر بديع الزمان واضحًا نتيجة لتقدمه في هذا الفن وهذه الفكرة، إلى جانب تقدمه زمنيًّا فهو من أبناء القرن الرابع الهجري، وهو أول من استوحى هذه الفكرة عكسَ ابن شهيد والمعري اللذين كانا من أبناء القرن الخامس.

 

وأسلوب مقامات بديع الزمان جاء في شكل حوار قصصي يمتد بين عيسى بن هشام الراوي وأبو الفتح السكندري البطل الأديب المحتال الذي يعرف كيف يلعب بعقول الناس ويستخرج منهم الدراهم عن طريق فصاحته.

 

وسجعه في مقاماته خفيف رشيق ليس فيه تكلف ولا صعوبة ولا جفاء، وهذا يدل على محصول لغوي واسع، وذوق بديع يَعْرف اختيار الكلمة المناسبة السهلة، ويضعها في مواضعها في تناسق وانسجام.

 

وأجمل ما نطالعه في أدب الهمذاني هو الروح الفكهة التي يغلف بها مقاماته، ومن أبرزها المقامة "المَضيرية" وهي آية في الظَّرف والمهارة وحسن انتقاء الألفاظ وعرض ألوان البديع؛ لذا تناقل الجميع مقامات "بديع الزمان" وأذاعوها في مجالسهم من باب ترويح النفوس والتسرية عنهم ورسم الضحكة على شفاههم.

 

مقامات الحريري:

تناول المؤلف في الفصل الثاني سيرة الفارس الثاني من رواد المقامات وهو "أبو محمد القاسم بن علي الحريري"، وظروف كتابته مقاماته الشهيرة، وما تميزت به من أسلوب فني بديع وَائمَ متطلبات عصره.

 

حيث نجد أن الحريري ولد لأسرة عربية سنة 446هـ بالبصرة، وكان فيه ذكاء وفصاحة منذ طفولته فطمحت نفسه إلى وظائف الدولة، وجاءته الفرصة حينما تعهده والي البصرة بالرعاية، ثم سرعان ما التحق بخدمة الخليفة "المسترشد" ثم "المستظهر"، وتعرف على كبار رجال الدولة ومنهم أنوشروان ابن خالد وزير الخليفة المسترشد وابن صدقة من كبار رجال الخليفة، ويبدو أن الخليفة المستظهر هو من أشار عليه بصنع تلك المقامات؛ حيث يقول في مقدمة إحدى مقاماته: «فأشارَ مَنْ إشارتُه حُكْمٌ، وطاعَتُه غُنْمٌ، إلىَّ أنْ أُنْشئَ مَقاماتٍ أتْلو فيها تِلْوَ البَديعِ. وإنْ لمْ يُدْرِكِ الظّالِعُ شأوَ الضّليعِ. فذاكَرْتُهُ بما قيلَ فيمَنْ ألّفَ بينَ كَلِمتَينِ. ونظَم بيْتًا أو بيتَينِ. واسْتقَلْتُ مِنْ هذا المَقامِ الذي فيهِ يَحارُ الفَهْمُ، ويفرُطُ الوهْمُ. ويُسْبَرُ غوْرُ العقْلِ. وتتَبَيّنُ قيمَةُ المَرْء في الفضْلِ. ويُضْطَرّ صاحِبُه الى أن يكونَ كحَاطِبِ لَيْلٍ»[6].

 

أما عن باقي سنيي حياته فقد قضاها بعد رجوعه من بغداد إلى بلدته بعد وفاة الخليفة "المستظهر"، حيث نجده يشغل وظيفة "صاحب الخبر" فيها، واكتفى بهذه الوظيفة وذهب يعني بمقاماته وتجويدها وكانت له حلقة علم يوالي فيها تعليم التلاميذ مقاماته ويتدارسها معهم، ويشرح لهم فيها ما غمض من ألفاظها، ونتيجة لهذه الجلسات فقد ذاعت شهرته بهذه المقامات وهو لا يزال حيًّا وقصده القاصي والداني من أجل رواية مقاماته عنه، ويُروى أنه أعطى إجازة لسبعمائة طالب أن يرووا مقاماته عنه في الناس، وما زال يذيع هذه المقامات ومؤلفاته في اللغة والأدب حتى توفى ببلدته سنة 516هـ في بحبوحة من الرزق وبركة في الولد، فأبناؤه الثلاثة: أولهم عبيدالله كان قاضي البصرة، وأوسطهم عبدالله كان موظفًا في ديوان بغداد، والثالث محمد ورث وظيفة أبيه وكان أشهر أبناءِه في رواية مقاماته وكان مبدأ السلسلة الطويلة من شراحها الذين نهضوا بتفسيرها وحل مشكلاتها من مثل "الشَّريشي" وغيره.

 

ويعتقد أن الحريري بدأ في تأليف مقاماته في البصرة ثم عرضها في بغداد وواصل تأليفها هناك وكانت أربعين مقامة ثم ألحق بها عشرًا، ويتضح من خط الروي المتصل فيها أنها أُلِّفت جميعها جملةً واحدة حيث حاول الحريري منذ بداية الأمر أن يجعلها خمسين مقامة معارضة لمقامات بديع الزمان الخمسين؛ صـ47.

 

وكما مقامات بديع الزمان اختار لها بطلًا هو "أبو زيد السروجي" وراويةً هو "الحارث بن همام"، ويختلف النقاد في شخصية أبي زيد السروجي ويعتقدون أنها شخصية حقيقية وأنه كان شيخًا مستجديًا يلف الجوامع ويستجدي الناس ببلاغته.

 

وقام الحريري بترقيم مقاماته والتعريف في أولها بلقاء راويه "الحارث بن همام" الذي تغرب إلى صنعاء بالبطل "أبي زيد السروجي" وهو يعظ في حلقةٍ ناحل الجسد عليه ثيابُ السفر، وقد نالت خطبته حظًّا من البلاغة والسجع، فأعجب به وحاول التعرف عليه، فتبعه حتى دخل مغارة وهناك رآه مع تلميذ له فسأله عنه فقال: "هذا أبو زيْدٍ السَّروجيُّ سِراجُ الغُرَباء. وتاجُ الأدَباء»[7].

 

وعلى هذا يمضي الراوي مع بطلنا السروجي من بلدة لأخرى من بلاد العالم الإسلامي وفي كل بلدة يقوم السروجي بحيلة على من حوله من الناس أو الحكام والقضاة، وفي كل مرة يعرفه الحارث بعينه، ويكشف أمره وسره، ثم يختفي من أمامه "أبو زيد السروجي" حتى لا يتكشف أمره.

 

ونجد السروجي ماهرًا في التنكر فحينًا يظهر في هيئة شحاذ في أثمال مزرية، وتارة في هيئة حسنة، وتارة مع ابنه أو تابعه أو زوجته، وأحيانًا وحده.

 

وفي نهاية المقامات نجد أبا زيد السروجي في "المقامة الساسانية" وقد بلغ من الكبر عتيًا يوصي ولده بأن يقوم بحرفة الكُدْية من بعده، حيث يقول له:

"يا بُنيّ إنَّهُ قد دنَا ارتِحالي منَ الفِناء. واكتِحالي بمِروَدِ الفَناء. وأنتَ بحمْدِ اللهِ وليُّ عهْدي. وكبْشُ الكَتيبَةِ السّاسانيّة منْ بعْدي. ومثلُكَ لا تُقرَعُ لهُ العَصا. ولا يُنَبَّهُ بطَرْقِ الحصَى. ولكِنْ قد نُدِبَ إلى الإذْكارِ. وجُعِلَ صيْقَلًا للأفكارِ. فاحفَظْ وصيّتي. وجانِبْ معْصِيتي. واحْذُ مِثالي. وافْقَهْ أمْثالي. فإنّكَ إنِ استَرشدْتَ بنُصْحي. واستَصْبَحْتَ بصُبْحي. أمْرَعَ خانُكَ. وارتفَعَ دُخانُكَ. يا بُنيّ إني جرّبْتُ حقائِقَ الأمورِ. وبلَوْتُ تصاريفَ الدّهورِ. فرأيْتُ المرْءَ بنَشَبِهِ. لا بنَسَبِهِ. والفحْصَ عن مكسَبِهِ. لا عنْ حسَبِهِ. وكُنتُ سمِعْتُ أنّ المَعايِشَ: إمارَةٌ، وتجارَةٌ، وزِراعَةٌ، وصناعَةٌ، فمارَسْتُ هذِهِ الأرْبَعَ. لأنظُرَ أيّها أوفقُ وأنفَعُ. فما أحْمَدْتُ منها معيشَةً. ولا استرْغَدْتُ فيها عِيشَةً»[8].

 

واستمرَّ يتحدث عن عيوب كل مهنة حتى ينتهي به بمهنة الشحاذة حيث يوصيه باحترافها ويبين له جانبًا من حيلها ويسرد لابنه كيف يقتطف ثمارها ويعيش من طريقها!!

 

وفي المقامة الخمسين نجد أبا زيدٍ السروجي يتوب إلى الله من صنعته، ويندم على ما تقدَّمَ من ذنوبه فيها، وينشد:

أستغْفِرُ اللهَ منْ ذُنوبٍ
أفرَطْتُ فيهِنّ واعْتَدَيْتُ
كمْ خُضْتُ بحْرَ الضّلالِ جهْلًا
ورُحتُ في الغَيّ واغْتَدَيْتُ
وكمْ أطَعْتُ الهَوى اغْتِرارًا
واختَلْتُ واغْتَلْتُ وافْترَيْتُ
وكمْ خلَعْتُ العِذارَ ركْضًا
إلى المَعاصي وما ونَيْتُ
وكمْ تَناهَيْتُ في التّخطّي
إلى الخَطايا وما انتهيْتُ
فلَيتَني كُنتُ قبل هذا
نَسْيًا ولمْ أجْنِ ما جنَيْتُ
فالمَوتُ للمُجْرِمين خيرٌ
من المَساعي التي سعَيْتُ
يا رَبِّ عفْوًا فأنْتَ أهلٌ
للعَفْوِ عنّي وإنْ عصَيْتُ

 

قال الرّاوي: فطفِقَتِ الجَماعَةُ تُمِدّهُ بالدّعاء. وهوَ يقلّبُ وجْهَهُ في السّماء. إلى أن دمَعَتْ أجفانُهُ. وبَدا رَجفانُهُ. فصاحَ: اللهُ أكبرُ بانَتْ أمارَةُ الاستِجابَةِ. وانْجابَتْ غِشاوَةُ الاستِرابَةِ. فجُزيتُمْ يا أهلَ البُصَيْرَةِ. جَزاءَ منْ هدَى منَ الحَيرَةِ. فلمْ يبْقَ منَ القوْمِ إلا منْ سُرّ لسُرورِهِ. ورضخَ لهُ بمَيْسورِهِ»[9].

 

وبذلك يتضح لنا من مقامات الحريري أنه «صنع مقاماته بشكل بناءٍ متكامل، له أوَّلٌ واضح، وله آخر واضح»؛ صـ53.

 

ويتواضع الحريري في تقديمه لهذه المقامات - على ما أبدع فيها - فيذكر أنها "منْ سقَطِ المَتاعِ. وممّا يستَوجِبُ أنْ يُباعَ ولا يُبْتاعَ. ولوْ غشِيَني نورُ التّوفيقِ. ونظرْتُ لنفْسي نظرَ الشّفيقِ. لسَترْتُ عَواري الذي لمْ يزَلْ مسْتورًا. ولكِنْ كانَ ذلِكَ في الكِتابِ مسْطورًا. وأنا أسَغْفِرُ اللهَ تعالَى ممّا أودَعْتُها منْ أباطيلِ اللّغْوِ. وأضاليلِ اللهْوِ. وأسترْشِدُهُ الى ما يعْصِمُ منَ السّهْوِ. ويُحْظي بالعَفْوِ. إنهُ هوَ أهلُ التّقْوى وأهلُ المَغفِرَةِ. ووليُّ الخيْراتِ في الدُنْيا والآخِرَةِ»[10].

 

أما عن موضوعات هذه المقامات فنجد أنه قام بالتنويع في أغراضها كما فعل بديع الزمان، ففي مقام الوعظ نجد أنه جعل للوعظ عشر مقامات بدلًا من اثنتين عند بديع الزمان، ومنذ المقامة الأولى نجد أنه ملأ مقاماته بالأسلوب التربوي الوعظي من أجل تهذيب تلاميذه فيقول: «أيّها السّادِرُ في غُلَوائِهِ. السّادِلُ ثوْبَ خُيَلائِهِ. الجامِحُ في جَهالاتِهِ. الجانِحُ إلى خُزَعْبِلاتِه. إلامَ تسْتَمرُّ على غَيّكَ. وتَستَمْرئُ مرْعَى بغْيِكَ؟ وحَتّامَ تتَناهَى في زهوِكَ. ولا تَنْتَهي عن لَهوِكَ؟ تُبارِزُ بمَعصِيَتِكَ. مالِكَ ناصِيَتِكَ! وتجْتَرِئُ بقُبْحِ سيرَتِك. على عالِمِ سَريرَتِكَ! وتَتَوارَى عَن قَريبِكَ. وأنتَ بمَرْأى رَقيبِكَ! وتَستَخْفي مِن ممْلوكِكَ وما تَخْفى خافِيَةٌ على مَليكِكَ! أتَظُنُّ أنْ ستَنْفَعُكَ حالُكَ. إذا آنَ ارتِحالُكَ؟ أو يُنْقِذُكَ مالُكَ. حينَ توبِقُكَ أعمالُكَ؟ أو يُغْني عنْكَ ندَمُكَ. إذا زلّتْ قدَمُكَ؟ أو يعْطِفُ عليْكَ معشَرُكَ. يومَ يضُمّكَ مَحْشَرُكَ؟»[11].

 

وعني الحريري في مقاماته بموضوع آخر شغل الناس في عصره وهو "العُقَد البلاغية"، فليست البلاغة هي تنميق الألفاظ والمجئ بالسجع وألوان البديع كما فعل الهمذاني، بل البلاغة في عصر الحريري هي الإتيان بغرائب الألفاظ وما يشذ عن الطريق الطبيعية في فن البيان والمعاني، ونجد نموذجًا لذلك في بدايات مقاماته بالمقامة السادسة؛ حيث حضرَ أبو زيد ديوان المكاتبات ببلدة المراغة، واجتمع بأرباب البلاغة، وأراد أن يخلب ألبابهم فأتى برسالة منمَّقة التزم فيها أن تكون إحدى حروف كلمتيها منقوطة والأخرى غير منقوطة على هذه الشاكلة: «الكرَمُ ثبّتَ اللهُ جيْشَ سُعودِكَ يَزينُ. واللّؤمُ غَضّ الدّهرُ جَفْنَ حَسودِكَ يَشينُ. والأرْوَعُ يُثيبُ. والمُعْوِرُ يَخيبُ. والحُلاحِلُ يُضيفُ. والماحِلُ يُخيفُ. والسّمْحُ يُغْذي. والمَحْكُ يُقذي. والعطاء ينجي والمطال يشجي، والدعاء يفي والمدح ينقي والحُرُّ يَجْزي. والإلْطاطُ يُخْزي. واطّراحُ ذي الحُرْمَةِ غَيٌ. ومَحْرَمَةُ بَني الآمالِ بغْيٌ. وما ضنّ إلا غَبينٌ. ولا غُبِنَ إلا ضَنينٌ. ولا خزَنَ إلا شَقيٌ. ولا قبَضَ راحَهُ تقيٌ. وما فتئ وعدُك يَفي. وآراؤكَ تَشْفي. وهِلالُكَ يُضي. وحِلْمُك يُغْضي. وآلاؤكَ تُغْني. وأعداؤكَ تُثْني. وحُسامُك يُفْني. وسؤدَدُكَ يُقْني. ومُواصِلُكَ يجْتَني. ومادِحُك يقْتَني. وسماحُكَ يُغيثُ. وسماؤكَ تَغيثُ. ودرُّكَ يَفيضُ. وردُّكَ يَغيضُ»[12].

 

وفي "المقامة المغربية" وهي المقامة السادسة عشر يعرض لعبة جديدة وهي لعبة "ما لا يستحيل بالانعكاس"، كقولك: "ساكبٌ كاس" فإنه يمكن أن تقرأ طردًا وعكسًا فلا تتغير حروفها، وعرض لنا أمثلة نثرية من هذا النوع مثل:

«... لُمْ أخًا ملّ. وقال مُيامِنُهُ: كبّرْ رَجاءَ أجْرِ ربّكَ. وقال الذي يليهِ: منْ يَرُبّ إذا برّ ينْمُ. وقال الآخرُ: سكّتْ كلَّ منْ نمّ لك تكِسْ. وأفضَتِ النّوبَةُ إليّ. وقد تعيّنَ نظْمُ السّمْطِ السُباعيّ عليّ. فلمْ يزَلْ فِكري يصوغُ ويكْسِرُ. ويُثْري ويُعسِرُ. وفي ضِمْنِ ذلِك أستَطْعِمُ. فلا أجدُ منْ يُطعِمُ".

 

ثم لم يلبث أن نسجها في أبيات من الشعر تُقرأ حروف أبياتها من اليمين لليسار ومن اليسار لليمين:

أُسْ أرْمَلًا إذا عَرا
وارْعَ إذا المرءُ أسا
أسْنِدْ أخا نَباهَةٍ
أبِنْ إخاءً دَنسا
أُسْلُ جَنابَ غاشِمٍ
مُشاغِبٍ إنْ جلَسا
أُسْرُ إذا هبّ مِرًا
وارْمِ بهِ إذا رَسا
أُسْكُنْ تقَوَّ فعَسى
يُسعِفُ وقْتٌ نكَسا [13]

وفي المقامة السابعة عشر المعنونة "بالقهقرية" يؤلف رسالة تقرأ كلماتها من آخرها إلى أولها كما تٌقرَأ من أولها إلى آخرها فهي ذات وجهين وتنسج على منوالين وهي مائة حكمة أخرجها في مائة كلمة على هذا النحو "الإنسان صنيعة الإحسان" فيمكن أن تقرأها "الإحسان صنيعة الإنسان" وهكذا بقية الرسالة ومنها:

"شيمَةُ الحُرّ ذخيرَةُ الحمْدِ. وكسْبُ الشُكْرِ استِثْمارُ السّعادةِ. وعُنوانُ الكرَمِ تباشيرُ البِشْرِ. واستِعْمالُ المُداراةِ يوجِبُ المُصافاةَ. وعقْدُ المحبّةِ يقتَضي النُصْحَ. وصِدْقُ الحديثِ حِليةُ اللّسانِ. وفصاحَةُ المنطِقِ سحرُ الألْبابِ»[14].

 

وفي "المقامة الرقطاء" نجده يعمد إلى كلمات راعى فيها أن تتوالى حروفها بين الإعجام والإبدال أو بين النقط وغير النقط وهي تجري على هذا النمط: «أخلاقُ سيّدِنا تُحَبُّ وبعَقْوَتِهِ يُلَبُّ. وقُربُهُ تُحَفٌ ونأيُهُ تلَفٌ. وخُلّتُهُ نسَبٌ وقَطيعَتُهُ نصَبٌ. وغَرْبُهُ ذَلِقٌ وشُهْبُهُ تأتَلِقُ. وظَلْفُهُ زانَ وقَويمُ نهجِهِ بانَ. وذهنُهُ قلّبَ وجرّبَ ونعْتُهُ شرّقَ وغرّبَ:

سيّدٌ قُلَّبٌ سَبوقٌ مُبِرٌّ
فطِنٌ مُغرِبٌ عَزوفٌ عَيوفُ
مُخلِفٌ مُتلِفٌ أغَرُّ فَريدٌ
نابِهٌ فاضِلٌ ذكيٌّ أَنوفُ[15]

 

وفي "المقامة السمرقندية" نجد أبا زيد يرتقي المنبر ليخطب في الناس خطبة كل كلماتها غير منقوطة من مثل قولِه: «اعْمَلوا رَحِمَكُمُ اللهُ عمَلَ الصُلَحاء. واكْدَحوا لمَعادِكُمْ كدْحَ الأصِحّاء. وارْدَعوا أهْواءكُمْ ردْعَ الأعْداء. وأعِدّوا للرّحلَةِ إعدادَ السُعَداء. وادّرِعوا حُلَلَ الورَعِ. وداوُوا عِلَلَ الطّمَعِ. وسوّوا أوَدَ العمَلِ. وعاصُوا وساوِسَ الأمَلِ. وصوّروا لأوْهامِكُمْ حُؤولَ الأحْوالِ. وحُلولَ الأهْوال. ومُسوَرَةَ الأعْلالِ. ومُصارَمَةَ المالِ والآلِ. وادّكِروا الحِمامَ وسَكْرَةَ مصْرَعِهِ. والرّمْسَ وهوْلَ مُطّلَعِهِ. واللّحْدَ ووحْدَةَ مودَعِهِ. والمَلَكَ وروْعَةَ سؤالِهِ ومَطْلَعِهِ. والمَحوا الدّهْرَ ولؤمَ كَرّهِ. وسوءَ مِحالِهِ ومَكْرِهِ. كمْ طمَسَ مَعلَمًا. وأمرّ مطْعَمًا. وطحْطَحَ عرَمْرَمًا. ودمّرَ ملِكًا مُكَرَّمًا. همُّهُ سكُّ المسامِعِ. وسحُّ المَدامِعِ. وإكْداءُ المطامعِ. وإرْداءُ المُسمِعِ والسّامِعِ. عمّ حُكمُهُ المُلوكَ والرَّعاعَ. والمَسودَ والمُطاعَ. والمحْسودَ والحُسّادَ»[16].

 

ونتيجة لهذه الدربة الكبيرة في تطويع الألفاظ يعمد في "المقامة الواسطية" لصنع خطبة مهملة الحروف ولكن في مجال ضيق، في خطبة الزواج لكي يظهر فيها براعته الفنية وحسن انتقائه للألفاظ مع تحقيق مأربه حيث يقول:

«اعْمَلوا رعاكُمُ اللهُ أصلَحَ الأعْمالِ. واسْلُكوا مسالِكَ الحلالِ. واطّرِحوا الحَرامَ ودعوهُ. واسْمَعوا أمرَ اللهِ وعُوهُ. وصِلوا الأرْحامَ وراعوها. وعاصوا الأهْواءَ وارْدَعوها. وصاهِروا لُحَمَ الصّلاحِ والوَرَعِ. وصارِموا رهْطَ اللهْوِ والطّمَعِ. ومُصاهِرُكُمْ أطْهَرُ الأحْرارِ مولِدًا. وأسْراهُمْ سودَدًا. وأحْلاهُمْ مَوْرِدًا. وأصحّهم موْعِدًا. وها هُوَ أَمّكُمْ. وحلّ حرَمكُمْ. مُمْلِكًا عَروسَكُمُ المُكرّمةَ. وماهِرًا لها كما مهَرَ الرّسولُ أمَّ سلمَةَ. وهوَ أكْرَمُ صِهْرٍ أودِعَ الأوْلادَ. ومُلّكَ مَنْ أرادَ. وما سَها مُمْلِكُهُ ولا وَهِمَ. ولا وَكِسَ مُلاصِمُهُ ولا وُصِمَ. أسْألُ اللهَ لكُمْ إحْمادَ وِصالِهِ»[17].

 

يقول د. "شوقي ضيف": «والحريري في هذا كله كأنه حاو من الحواة، فهو يعرض ألعابًا وتمارين هندسية غريبة، أو قل أنه يعرض أفاعي البلاغة بأديمها الملون بالنقط والجناس الخطي وغيرهما، غير أن من الحق أن نقول إن الحريري لم يسمج في ذلك كله فقد كان يحميه طبع حاد وإحساس دقيق باللغة، فميز دائمًا الخبيث من الطيب والجيد من الردئ، فمهما لعب، ومهما أشكل بتمارين في مقاماته فإنه لا يثقل»؛ صـ61.

 

ولعل هذا اللعب اللفظي في مقاماته كان يوائم متطلبات عصره ويحاول أن يثبت أنه لا يقل مهارة عن غيره، بل إنه يتقدم كل معاصريه لو شاء أن يستخدم هذه الألعاب السحرية، كما أنه كان يهدف من هذا الأسلوب تعليم النشء أيضًا صنوف البلاغة في أسلوب متأنق شائق يأخذ بالألباب ويستهوي الأسماع ويأسر النفوس.

 

يقول الكاتب: «والحريري لا يُبارَى في انتخاب ألفاظه واختيار كلماته، ولذلك كانت مقاماته في رأي السابقين أبدع ما أنتجته العصور الوسطى، وقد ظلت لها مكانتها السامية، وظلت الأعناق تمتد إليها فلا تطولها، إذ انتهى صاحبها إلى ذروة سامقة من ذُرى الفن العربي»؛ صـ74.

 

مقامات اليازجي وآخرون:

أما الفصل الثالث والأخير فتناول فيه المؤلف محاولات الأدباء الأخرى في إنشاء المقامات ومنها:

♦ مقامات أبو نصر عبد العزيز بن عمر السعدي المتوفى سنة 405هـ، ومقاماته تسبق مقامات الحريري.

 

♦ مقامات أبو القاسم عبدالله بن محمد بن ناقيا المتوفى سنة 485هـ، ومقاماته تسبق مقامات الحريري، وطُبعَت له تسع مقامات.

 

♦ مقامات أبو الطاهر محمد بن يوسف السرقسطي المتوفى سنة 538 هـ، في خمسين مقامة.

 

♦ مقامات الزمخشري المتوفى سنة 538هـ، وكلها تدور على الوعظ.

 

♦ مقامات الحسن بن صافي المصري الملقب بملك النحاة.

 

♦ مقامات أبو العباس يحيى بن سعيد بن ماري النصراني الطبيب، واشتهرت مقاماته باسم المقامات المسيحية.

 

♦ مقامات ابن الجوزي في نهاية القرن السادس، في خمسين مقالة في موضوعات أدبية يغلب عليها الوعظ.

 

♦ مقامات أبي العلاء أحمد بن أبي بكر بن أحمد الرازي الحنفي بنهايات القرن السادس، في ثلاثين مقالة.

 

♦ مقامات ابن الصيقل الجزري المتوفى سنة 701 هـ، وعدتها خمسون.

 

♦ مقامات السيوطي المتوفى سنة 911 هـ، أقرب ما تكون لأبحاث مسجوعة.

 

♦ مقامات حسن العطار في مصر، والألوسي في العراق، وفارس الشدياق وناصيف اليازجي في الشام في القرن قبل الماضي.

 

ويخصص الكاتب هذا الفصل لبيان مقامات "اليازجي" حيث يرى أنَّه من بين كل من جاءوا بعد الحريري «عرفَ كيف يقلده، وكيف يحكم هذا التقليد، ويضبطه ضبطًا دقيقًا»؛ صـ79.

 

ويشير الكاتب إلى ترجمة "ناصيف اليازجي" والتي تبين تضلعه بكل المعارف العربية، حيث ألف على طريقة القدماء مختصرات وأراجيز وشروحًا في علوم النحو والصرف والعروض والبلاغة؛ وقد انعكسَ ذلك على مقاماته والتي ملأها بجملة من الخصائص والصفات الحريرية ففي المقامة المعرِّية يقول: «واعلموا أن الله قد أرسلني إليكم نذيرًا، وأقامني بينكم سراجًا منيرًا لأذكركم يومًا عبوسًا قمطريرًا. فلا تغفلوا عن ذكر شرب تلك الكاس، وهو ذلك اليوم المجموع له الناس. واتعظوا بمن تقدمكم من القرون والأقران، ومن درج أمامكم من العيون والأعيان. وتوبوا إلى بارئكم واندموا على ما فات، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات»[18].

 

وفي ألاعيب الحريري؛ نسج على نفس منواله مجموعة من المقامات بها قصائد كل أبياتها عاطلة من النقط، وثانية كل أبياتها منقوطة، وفي ثالثة أنشد قصيدة الشطر الأول منها خال من النقط والثاني منقوط من مثل:

أسْمرُ كالرُّمحِ له عاملٌ
يُغضِي فيقْضِي نَخِبٌ شَيِّقُ
مِسْكُ لماهُ عاطرٌ ساطعٌ
في جنَّة تشْفِي شج يَنْشَقُ
أكْحلُ ما مَارَسَ كحلًا له
جفْنٌ غَضِيضٌ غَنِجٌ ضَيِّقُ
درُّ دموعٍ حولَه كاسدٌ
في جنْبِ زَيْفٍ بَيْنٍ يَنْفُقُ
لا لعُهودِ الوُدِّ راعٍ ولا
في شَجَنٍ ذي فِتْنةٍ يُشْفقُ
ما مَالَ إلَّا راعَ أحلامَه
خِفِّةٌ شَنْفٍ خَنِثٍ يخْفِقُ
ولاحَ سَطْرُ الآسِ أكمامُهُ
بين شَقيقٍ غُضَّةٌ تُفْتَقُ

 

وذهب ينظم أبياتًا تتألف على الترتيب من كلمة معجمة وأخرى مهملة من مثل:

لا تَفِي العَهْدَ فتَشْفيني ولَا *** تُنْجزُ الوَعْدَ فتَشْفِي العِلَلَا

 

ثم ذهب يستعرض قدراته في تلك الألعاب الحريرية حيث اشترط على نفسه في ابتكار نوع سماه "عاطل العاطل" بحيث لا تكون الحروف التي يتكون منها البيت مهملة فقط، بل يكون مسمى الحرف حين ننطقه خاليًا من النقط أيضًا؛ كحرف "الدال" على سبيل المثال وعلى هذا القيد نظم قطعةً من هذا النمط في مقاماته تقول:

وله صولٌ وطولٌ
وله صدٌّ ورَدُّ
دَهرُه حر صدورٍ
هل له لله حدُّ

 

وفي المقامة العشرين نجده يودعها لعبة ما لا يستحيل بالانعكاس، وهي تجري على هذا المثال:

قمَرٌ يُفرِطُ عمْدًا مُشْرِقُ
رَشَّ ماء دمْعُ طرفٍ يَرْمُقُ
قُرْطُةُ يَنْدِي جَلَاه أيمنٌ
مِنْ مياهِ الجيدِ فيه طُرُقُ
قَبَسٌ يدْعو سَناه إنْ جَفَا
فجَناه أُنْسُ وعْدٍ يَسْبقُ
قد حلا كاذبُ وعدٍ تابعٌ
لعبًا تدعو بذاك الحَدَقُ
قرَّحتْ ذا عبراتٍ أربعٍ
عبراتٌ أربعٌ إذْ تُحرِقُ
قَلِقٌ يلْثِم نادِي عبلةٍ
لبعيدٍ، إنَّ مثْلِي قَلِقُ
قفْرةُ الرَّبعِ أهالتْ فِتيةً
فتلاها عِبرٌ لا تَرفُقُ
قدْ حماها ركْبُ ليلٍ حافظٌ
فاحَ ليلٌ بِكراها مُحْدِقُ
قرَّ في إلْفِ نداها قلبُهُ
بلقاها دَنِفٌ لا يَفْرَقُ[19]

 

بل يوغل في ذلك وينشأ بيتين إذا قرأتهما مستقيمين كانا مدحًا على هذا النحو:

باهِي المراحمِ لابسٌ
كرمًا قديرٌ مُسْندُ
بابٌ لكُلِّ مُؤمَّلٍ
غُنْمٌ لَعَمْركَ مُرْفِدُ

 

وإذا عكستهما وقرأتهما من آخرهما إلى أولهما كانا شينًا وذمًّا:

دَنِسٌ مَريدٌ قامرٌ
كسْبَ المحارمِ لا يَهاب
دَفِرٌ مُكِرٌ مُعْلمٌ
نَغِلٌ مُؤملُ كُلِّ باب

 

ويبدع اليازجي في علم اللغة إذ خصَّ به اثنتا عشرة مقامة تعليمية يعرض فيها مسميات العرب في كثير من الموضوعات، كسؤاله عن ساعات الليل فينشد في المقامة السادسة:

أوَّلُ ساعةٍ من الليلِ الشَّفَقْ
وبعدَها العَشْوةُ يتلوها الغَسَقْ
فهَدْأةٌ ثُمَّتَ شَرْعٌ ثم قُلْ
جِنحٌ وزُلْفةٌ هزيعٌ يا رَجُلْ
وبعد ذاك غَبَشٌ وسَحَرْ
والفَجْرُ والصُّبْحُ الذي يَنْفَجِرْ

 

وعند سؤاله عن الرياح وأسمائها عند العرب يقول:

ما هَبَّ من شَرقٍ فذلك الصَّبَا
ثم الجنُوبِ عن يمينٍ ذهَبا
ثم الشَّمالُ والدَّبورُ، وجرَتْ
نكباءُ بين كلِّ ريحينِ سَرَتْ
فذلك الأزْيَبُ ثمَّ الصَّابيه
فالهَيْفُ ثم الجِرْبياء آتِية

 

وعند سؤاله عن أسماء خيل السباق يجيب:

أوَّلُ سابقٍ هو المجلَّي
ثم المُصَلِّي بعده المسَلِّي
تالِ ومرتاحٌ عليه يُقبلُ
والعاطفُ الحَظِيُّ والمؤملُ
كذلك اللَّطيمُ والسُّكَّيتُ
فاحْفَظْ فما أُعْطيتُ قد أُعْطِيت[20]

ولا يهدف اليازجي أن يعلم التلميذ بمقاماته "الأسلوب الأدبي حسب، بل هو يقصد قصدًا إلى تعليمه اللغة وعويصها وما لا يعرفه إلا خاصة الخاصة»؛ صـ90.

 

وعلى هذا النحو تتحول المقامة عنده إلى ما يشبه متنًا من متون اللغة، وهو متن على الطريقة المعروفة عند العرب إذ حولوا معارفهم إلى أراجيز، وقد برع اليازجي في هذا الأسلوب الإنشائي التعليمي.

 

ويرى د. "شوقي ضيف" أن اليازجي ربما اندفع في ذلك بحكم حبِّه للعرب، إذ كان يتعصب لهم تعصُّبًا شديدًا، وقد مدحهم وأشاد بهم في غير مقامة، وأبى أن يتعلَّم لغة أجنبية، وأن يتثقف بالآداب الأوروبية، واكتفى كما هو واضح في مقاماته بالثقافة والآداب العربية الخالصة، ثم انطلق يحتذي على أمثلة القوم؛ صـ94.

 

وفي نهاية تلك الدراسة يهيب د. شوقي ضيف بإعادة الاهتمام بهذا الفن الجميل من فنون أدبنا العربي، فيقول "وإنَّنا لنأمل أن يجدَ هذا الفن من الشباب من يعيدُ إليه الحياة، ومن يهب له حيوية خصبة، لا في إطاره السابق، بل في إطارٍ جديد، لا يرتبط بالموضوع البسيط القديم ولا بأبطاله الشحاذين، وإنما يرتبط بحياتنا الاجتماعية الحديثة وما بها من لواذع السخرية في الكَلِمِ والمواقف»؛ صـ102.



[1] "مقامات بديع الزمان"، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، (ص 100 - 101).

[2] "مقامات بديع الزمان الهمذاني" (ص: 82).

[3] مقامات بديع الزمان الهمذاني (ص: 160).

[4] مقامات بديع الزمان الهمذاني (ص: 294).

[5] مقامات بديع الزمان الهمذاني (ص: 261).

[6] مقامات الحريري (ص: 13).

[7] مقامات الحريري (ص: 24).

[8] مقامات الحريري (ص: 534-536).

[9] مقامات الحريري (ص: 554(.

[10] مقامات الحريري (ص: 564).

[11] مقامات الحريري (ص: 19-20).

[12] مقامات الحريري (ص: 63).

[13] مقامات الحريري (ص: 157).

[14] مقامات الحريري (ص: 165).

[15] مقامات الحريري (ص: 261).

[16] مقامات الحريري (ص: 283).

[17] مقامات الحريري (ص: 297).

[18] مجمع البحرين لليازجي = مقامات اليازجي (ص: 189).

[19] مجمع البحرين لليازجي = مقامات اليازجي (ص: 157).

[20] مجمع البحرين لليازجي = مقامات اليازجي (ص: 37).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • عرض كتاب: تأملات فكرية وفلسفية
  • عرض كتاب "رعاية الأسرة المسلمة للأبناء: شواهد تطبيقية من تاريخ الأمة للدكتور عبدالحكيم الأنيس"
  • عرض كتاب: العلماء العرب المعاصرون ومآل مكتباتهم
  • عرض كتاب نزهة النظر في إعراب أسماء سور القرآن
  • عرض كتاب: أخطاؤنا في تربية الأبناء
  • عرض كتاب: السياسات المبنية على البراهين والبحوث الموجهة نحو السياسات
  • عرض كتاب: صناعة الكتاب المدرسي
  • تفسير ابن جريج بتحقيق عبدالرحمن قائد
  • الهشاشة النفسية: لماذا صرنا أضعف وأكثر عرضة للكسر؟ لإسماعيل عرفة
  • شرح "دار المقامة" (في ضوء كلام العرب)
  • المقامة الأبوية (مقامة)
  • عرض كتاب: (قرائن ترجيح التعديل والتجريح)
  • عرض كتاب (النحو الغريب في مغني اللبيب)

مختارات من الشبكة

  • عرض كتاب: الترجمة الشخصية، لشوقي ضيف(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • عرض كتاب: ذاتية السياسة الاقتصادية الإسلامية وأهمية الاقتصاد الإسلامي للدكتور محمد شوقي الفنجري(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الشوق إلى الله (عرض تقديمي)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الشوق إلى الله تعالى (2) شوق الصالحين إلى الله تعالى(مقالة - موقع الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل)
  • الشوق إلى الله تعالى (1) شوق الأنبياء إلى الله تعالى(مقالة - موقع الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل)
  • هل يكفر السلفيون شوقي؟ أم شوقي هو الذي يكفر العلمانيين؟(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • تلخيص كتاب المدارس النحوية للدكتور شوقي ضيف (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • خطبة المسجد الحرام 22/7/1432هـ - الغيرة على الأعراض(مقالة - آفاق الشريعة)
  • كتاب الزكاة (5/8)(مقالة - موقع الشيخ عبدالله بن حمود الفريح)
  • كتاب: النظرية الجمالية في العروض عند المعري ـــ دراسة حجاجية في كتاب "الصاهل والشاحج" للناقدة نعيمة الواجيدي(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 18/11/1446هـ - الساعة: 8:24
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب