مشروع مطالعة للمتميزين

مشروع مطالعة للمتميزين

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فإن الناظر في سِيَر العلماء يَخْلُص إلى حقائقَ مهمةٍ ونتائج واضحة، هي: معرفتهم بقيمة هذه الثروة الهائلة، والكنوز العظيمة؛ لذا فقد أوْلَوها عنايةً فائقةً وجهودًا ضخمةً، ظهرت في صورٍ عديدة، وإن من واجبات أهلِ العلم اليوم تبصير النشء بأهمية هذا التراث الذي خلَّفه الأجداد، فهو عُصارة عقولهم لقرونٍ عديدة، وثمرة جمعهم وسهرهم لآماد مديدة.

وقد أحببت في هذه الأسطر القليلة أن أُبيِّن أهمية المطالعة التي صنعت الجبال، وربَّت الرجال، وأدعو إلى النظر في التراث الذي خلَّفه علماؤنا، لعل أسطُري تُسهم في إيقاظ ما فتَر، وتُشعل ما خبا واندثَر.

• ذكر ابن رجب الحنبلي في ترجمة ابنِ عقيل الحنبلي، عن ابنِ الجوزي أنه قال عنه: (كان دائم التشاغُل بالعلم، حتى إني رأيتُ بخَطِّه: إني لا يحلُّ لي أن أُضيع ساعةً من عمري، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مُطالعة، أعملتُ فِكري في حالةِ راحتي وأنا مُسْتَطرِحٌ، فلا أنهَض إلا وقد خطر لي ما أُسطِّره، وإني لأجد من حِرصي على العلم وأنا في عَشْر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة).

• قال ابن الجوزي عن نفسه في صيد الخاطر: (وإني أُخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيتُ كتابًا لم أرَه، فكأني وقعتُ على كنز، ولقد نظرتُ في ثَبَتِ الكتب الموقوفة في المدرسة النِّظامية، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلَّد، وفي ثبَت كتب أبي حنيفة، وكتب الحُمَيدي، وكتب شيخنا عبدالوهاب بن ناصر، وكتب أبي محمد بن الخشَّاب - وكانت أحمالًا - وغير ذلك من كلِّ كتاب أقدر عليه، ولو قلت: إني طالعتُ عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعدُ في الطَّلب).

• وقال الحافظ ابن عبدالهادي عن شيخه ابن تيمية: (لا تكاد نفسُه تشبَع من العلم، ولا تُروَى من المطالعة، ولا تَملُّ من الاشتغال، ولا تَكلُّ من البحث، وقَلَّ أن يدخل في علمٍ من العلوم في بابٍ من أبوابه، إلا ويُفتَح له من ذلك الباب أبوابٌ، ويَستدرك أشياء في ذلك العلم على حُذَّاق أهله).

أهم كتب المطالعة لطلبة العلم:

قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في سِير أعلام النبلاء: (قال الشيخ عز الدين بن عبدالسلام - وكان أحد المجتهدين -: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل المُحلَّى لابن حزم، وكتاب المغني للشيخ الموفق، قلت - أي الذهبي-: لقد صدق الشيخ عز الدين، وثالثهما: السنن الكبرى للبيهقي، ورابعها: التمهيد لابن عبدالبر، فمن حصَّل هذه الدواوين، وكان من أذكياء المفتين، وأدمَن المطالعة فيها - فهو العالِم حقًّا).

فهذان كتابان ذكرهما العزُّ بن عبدالسلام، وكتابان ذكرهما الذهبي، واشترط الذكاء وإدمان المطالعة فيها للعالم.

أقول وبالله التوفيق: إن ما قاله الإمام الذهبي قد يصلح لزمانه، ولو كان حيًّا في زماننا، لاختار غيرها والله أعلم، وسأضع بين أيديكم أربعةً من الكتب فيها شيءٌ من التنوُّع على هذا الترتيب:

• المغني لابن قدامة: "المغني، فغيره عنه لا يُغني"، فقد نُقل عن العز بن عبدالسلام أنه قال: "لم تطِب نفسي بالإفتاء حتى صارت عندي نسخة من المغني"، وقال بكر أبو زيد: "المغني في شرح الخرقي، وفيه ‏الدليل، والخلاف العالي، والخلاف ‏في المذهب، وعلل الأحكام، ومآخذ ‏الخلاف، وثمرته؛ ليفتح للمتفقه باب ‏الاجتهاد في الفقهيات".

• مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذه الفتاوى من أضخم الموسوعات الشرعية التي تُغني عن اقتناء الكثير من أُمَّات الكتب؛ لشمولها وتنوُّعها وعُمقِها، وسلاسةِ أسلوبها، ووَحدة منهجها، وقد تناولت العقائد وعلم الكلام، والمنطق والفلسفة والمناظرات، واشتملت على الفقه وأصوله، والتفسير وعلومه، والحديث وفنونه، والتصوُّف ومناهجه، وغير ذلك، وهذه الفتاوى لا تُمثل رأي المذهب الحنبلي فقط، بل قد تُدلِّل مواضعُ منها على أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان مجتهدًا مطلقًا، ولم يكن مقلدًا للمذهب الحنبلي.

• تفسير ابن كثير: وهو من أهم التفاسير الأثرية، مع وجازة لفظه وشمول معانيه، وقد جعل الله له قبولًا عظيمًا بين الناس، ومن أهمِّ مميزاته:

• اختياره أحسن الطرق في تفسير القرآن؛ مثل: تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين، وإن كان وُجِدتْ فيه بعضُ الروايات الإسرائيلية، فهي قليلة بالنسبة إلى غيره، وهذا لا يقلِّل من أهميته؛ لأنه دائمًا يسند ما روى، ومن أسند فقد بَرِئ من العُهدة.

• واهتمامه باللغة وعلومها.

• واهتمامه بالأسانيد ونقدها.

• واهتمامه بذكر القراءات وأسباب النزول.

قال السيوطي: "وله - أي ابن كثير - التفسير الذي لم يؤلَّف على نمطه مثله"، وقال الشوكاني: "وله التفسير المشهور وهو في مجلدات، وقد جمع فيه فأوعى، ونقل المذاهب والأخبار..".

وبهذا فإن تفسير ابن كثير تبقى له الأولوية؛ لأنه العمدة، وقد قيل عنه: إنه من أحسن التفاسير وأجودها وأدقِّها بعد تفسير إمام المفسِّرين أبي جعفر الطبري.

• فتح الباري لابن حجر، فهو من أنفع شروح صحيح البخاري وأغناها، فهو من أجَلِّ كتب ابن حجر قدْرًا، وأعمقها علومًا، فهو - كما قيل - يُعد بحقٍّ أحدَ دواوين الإسلام المعتبرة، ومصادره العلمية المهمَّة، فلا يستغني عنه طالبُ علم ولا فقيه، ولا مُفتٍ ولا مجتهد، فجاء الشرح سفرًا ضخمًا جليلًا، جمع فيه ابن حجر شروح مَن قَبله على صحيح البخاري، باسطًا فيه إيضاح الصحيح وبيان مشكلاته، وحكاية مسائل الإجماع، وبسط الخلاف في الفقه والتصحيح والتضعيف واللغة والقراءات، مع العناية الواضحة بضبط الصحيح ورواياته، والتنويه على الفروق فيها، مع فوائدَ كثيرةٍ وفرائد نادرة، واستطرادات نافعة ... إلخ، حتى زادت موارد الحافظ فيه على (1200) كتابٍ من مؤلفات السابقين له.

ولا بأس بمطالعة بعضِ الموسوعات المعاصرة كالموسوعة الفقهية الكويتية؛ فهي غنيَّة ونافعة مع سهولة عباراتها، وشمولها لأكثر مسائل الفقه القديمة والمستجدَّة.

وفي الختام فإني أدعو نفسي وإخوتي - طلبةَ العلم - إلى اغتنام أوقاتهم بمطالعاتٍ مبرمجة وجادَّة في هذه المؤلَّفات، والغوص فيها، واستخراج الكنوز منها؛ لتكون سُلَّمًا نرتقي به إلى مرضاة ربِّنا، وإصلاح مجتمعاتنا، وتقديم الحلول والبدائل الشرعية لمشاكلنا ومآسينا، واللهَ تعالى أسأل التوفيقَ والسداد.