مكانة تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم

مكانة تفسير أبي السعود

المسمى بـ: (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القُرْآن الكريم)

تفسير (إرشاد العقل السليم) من أجلِّ التفاسير وأكملها، وأحسنها، وأكثرها تحقيقًا وتدقيقًا، ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل، يدل على سعة معرفة واطلاع العلامة أبي السعود، ومدى إلمامه وإحاطته بما خلفه من قبله في التأليف والتصنيف، ولا سيما في تفسير كتاب الله؛ إذ يجده الباحث مشتملًا على مسائل اللغة وأصولها، والنحو، والتصريف والاشتقاق، والبلاغة بفنونها، والقراءات، والفقه وأصوله، وأصول الدين والعقيدة، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وأصول التفسير، والجرح والتعديل، والحكم والوصايا، والأمثال العربية، والشعر العربي، والوقائع والسير والمغازي والتواريخ... فمؤلفه العلامة أبو السعود لم يكتبه إلا بعد مطالعته ومدارسته لأغلب ما كتب قبله من تفاسير، فأعجب بتفسير جار الله محمود بن عمر الزمخشري ت (538هـ) المسمى (الكشاف عن حقائق التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل)، وتفسير قاضي القضاة أبي الخير عبدالله بن عمر البيضاوي ت (691هـ) المسمى (أنوار التنزيل، وأسرار التأويل)، فقام بتأليف تفسيره منهما، وأضاف عليه ما طالعه من التفاسير الأخرى، وضمنه لطائف ونكات، وفوائد وإشارات، وتحقيقات رصينة، وتدقيقات متينة، تزيل خطرات الأوهام.

فيقول: (ولقد تصدى لتفسير غوامض مشكلاته أساطين أئمة التفسير في كل عصر من الأعصار، وتولى لتيسير عويصات معضلاته سلاطين أسرة التقرير والتحرير في كل قطر من الأقطار، فغاصوا في لججه، وخاضوا في ثبجه[1]، فنظموا فرائده في سلك التحرير، وأبرزوا فوائده في معرض التقرير، وصنفوا كتبًا جليلة الأقدار، وألفوا زبرًا جميلة الآثار، أما المتقدمون المحققون فاقتصروا على تمهيد المعاني، وتشييد المباني، وتبيين المرام وترتيب الأحكام، حسبما بلغهم من سيد الأنام، عليه شرائف التحية والسلام، وأما المتأخرون المدققون فراموا مع ذلك إظهار مزاياه الرائقة، وإبداء خباياه الفائقة؛ ليعاين الناس دلائل إعجازه، ويشاهدوا شواهد فضله وامتيازه، عن سائر الكتب الكريمة الربانية، والزبر العظيمة السبحانية، فدونوا أسفارًا بارعة، جامعة لفنون المحاسن الرائعة، يتضمن كل منها فوائد شريفة تقر بها عيون الأعيان، وعوائد لطيفة يتشنف بها آذان الأذهان، لا سيما (الكشاف) و(أنوار التنزيل)، المتفردان بالشأن الجليل والنعت الجميل؛ فإن كلًّا منهما قد أحرز قصب السبق أي إحراز، كأنه مرآة لاجتلاء وجه الإعجاز، صحائفهما مرايا المزايا الحسان، وسطورهما عقود الجمان وقلائد العقبان، ولقد كان في سوابق الأيام وسوالف الدهور والأعوام أوان اشتغالي بمطالعتهما وممارستهما وزمان انتصابي لمفاوضتهما ومدارستهما يدور في خلدي على استمرار آناء الليل وأطراف النهار أن أنظم درر فوائدهما في سمط دقيق، وأرتب غرر فرائدهما على ترتيب أنيق، وأضيف إليها ما ألفيته في تضاعيف الكتب الفاخرة من جواهر الحقائق، وصادفته في أصداف العيالم الزاخرة من زواهر الدقائق، وأسلك خلالها بطريق الترصيع على نسق أنيق وأسلوب بديع حسبما يقتضية جلالة شأن التنزيل، ويستدعيه جزالة نظمه الجليل ما سنح الفكر العليل بالعناية الربانية وسمح به النظر الكليل بالهداية السبحانية من عوارف معارف يمتد إليها أعناق الهمم من كل ماهر لبيب وغرائب رغائب ترنو إليها أحداق الأمم من كل نحرير أريب وتحقيقات رصينة تقيل عثرات الأفهام في مداحض الإقدام وتدقيقات متينة تزيل خطرات الأوهام من خواطر الأنام في معارك أفكار يشتبه فيها الشؤون ومدارك أنظار يختلط فيها الظنون وأبرز من وراء أستار الكمون من دقائق السر المخزون في خزائن الكتاب المكنون ما تطمئن إليه النفوس وتقر به العيون من خفايا الرموز وخبايا الكنوز)[2]؛ اهـ.

قلت: بالرغم من اعتماد أبي السعود على (الكشاف) و(أنوار التنزيل)، فإنه كان مستقل الشخصية العلمية عن صاحبيهما، خالفهما في كثير من المواضع والتحقيقات، كما سيتضح في ثنايا هذا البحث إن شاء الله، كما أنه لم يغترَّ بما جاء في (الكشاف) من مسائل المعتزلة؛ ولهذا لم يذكرها إلا على جهة التحذير منها، مع جريانه على مذهب أهل السنة والجماعة في تفسيره.

إن شيوع هذا التفسير بأيدي الباحثين والدارسين وكثرة طبعاته لأكبر دليل على قيمته العظمى بين التفاسير الأخرى، ويعد مرجعًا مهمًّا يعول عليه دارسو تفسير القُرْآن الكريم وإعجازه؛ ولذا كثر ثناء العلماء عليه كثرة لا نجدها على تفسير آخر.

يقول ابن لالي بالي: (قد أتى بما لم تسمح به الأذهان، ولم تقرع به الآذان، فصدق المثل السائر: كم ترك الأول للآخر، وسماه بـ: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم)[3]؛ اهـ.

ويقول الشوكاني: (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم وهو من أجل التفاسير وأحسنها وأكثرها تحقيقًا وتدقيقًا)[4]؛ اهـ.

ويقول اللكنوي: (وقد طالعت تفسيره، وانتفعت به، وهو تفسير حسن، ليس بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل، متضمن لطائف ونكات، ومشتمل على فوائد وإشارات)[5]؛ اهـ.

قلت: وستأتي نقول أخرى في ثناء العلماء على هذا التفسير في المطلب القادم إن شاء الله..