• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    موقف أبي موسى الأشعري مع جندي من جنوده
    الشيخ عبدالعزيز السلمان
  •  
    النقد العلمي
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت ...
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

المنهج التربوي والمؤسسات العلمية

المنهج التربوي والمؤسسات العلمية
د. سمير مثنى علي الأبارة

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 28/1/2017 ميلادي - 29/4/1438 هجري

الزيارات: 4663

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أسس المنهج التربوي الفكري

الواجب على المؤسسات العلمية تبنيه في نشر الفكر

 

المنهج التربوي هو الطريق الذي سلكه القرآن بالمسلم إلى اتباع مبادئه والتمسك بأحكامه، وأما المبادئ التربوية في تلك الأحكام والنظم والقيم التي أرساها ودعا إليها، مما يقوم على تهذيب الفرد وترقيته في الخلق والسلوك، كأحكام الحلال الحرام والقيم الأخلاقية المختلفة التي دعا إليها القرآن.

فعندما نقول: " المنهج التربوي الفكري " إنما نعني الأسلوب والطريقة ومظاهر الافتتان فيهما، ولا نعني شيئاً من هذه القيم أو الأحكام بحال.

ثم إنا نقصد المنهج التربوي الفكري الذي تمتاز به صياغة القرآن خاصة، لا الذي يتسم به الإسلام عموماً. إذ الإسلام من حيث هو دين يعتبر في مجموعة منهاجاً تربوياً فكريا للذات الإنسانية، المتمثلة في كل من النفس والجسد والعقل، لتصعيدها إلى مستواها الفطر الأصيل.

ثم إن "المنهج القرآني" يتفرع إلى شُعب وفروع وأقسام جزئية كثيرة، يطول بنا الشرح لو دخلنا في تفصيلها وتحليل كل منها، وإنما نأخذ بالاعتبار أسسه ودعائمه الكلية الكبرى، وندرس كلا منها دراسة وافية، تكشف عن مدى أهميتها في نطاق التربية العامة، وعن مدى حاجة المربين في شتى ميادين التربية للاهتداء بها والاعتماد عليها.

 

وسيقودنا التنبه إلى هذه الأسس الهامة، إلى متابعة الدراسة والبحث، ثم إلى استخلاص قيم منهجية جديدة رائعة فيه، كان ينبغي لعلماء التربية أن يتنبهوا إليها، منذ أن نالت ما نالته من الأهمية على صعيد التربية والتعليم بشتى أنواعهما ومراحلهما.

فهذا هو الذي نقصده بدراسة " المنهج التربوي في القرآن " في هذه العجالة الصغيرة.

وبناء على ذلك، فإن الأسس التي يقوم عليها المنهج القرآني في التربية لا يتجاوز الأسس الثلاثة التالية:

1) المحاكمة العقلية.

2) العبرة والتاريخ.

3) الإثارة الوجدانية.

 

وحيث أن المهم في بحثنا هذا هو الفكر والعقل فإننا سنقتصر في الحديث على المحاكمات العقلية دون التعرض للأساسين الآخرين في المنهج التربوي القرآني.

فجميع ما قد نراه في القرآن من الأساليب التربوية على اختلافها إنما ينبثق عن واحد من هذه الأسس الثلاثة، ويدور على محوره، ويسير وفق مقتضياته، وهي أسس منفصلة عن بعضها، ولكنها تشكل في مجموعها السلم الذي لا بد منه لترقية النفس والعقل صعداً إلى المستوى العلوي الكريم الذي تظل الفطر الإنسانية الأصيلة نزاعة إليه.

فالعقل وحده لا يكتسب ثقة النفس ما لم يدعمه شاهد من الواقع الذي يصدقه وذلك هو التاريخ بأحداثه وعبره. وهو حتى بعد أن ينال من النفس هذه الثقة لا يستحوذ عليها بالقيادة والتوجيه، ما لم يجند له جيش من العواطف والأشواق، وتلك هي الإثارة الوجدانية.

 

فإذا تضافرت هذه العوامل الثلاثة في ذات الإنسان، واتجهت بة إلى سبيل ما، لم يقم أمامها أي عائق، ولم يحجزها عن الوصول إلى الغاية أي حاجز.

وما تخلف إنسان عن الاصطباغ بحقيقة ما وحيل دون التشبث التام بها، إلا لأن بعض هذه العوامل لم يعمل عمله المطلوب في خدمة هذه الحقيقة والكشف عنها وتيسير السبيل إليها.

فلننظر إذا، كيف يسخر القرآن كلا من هذه الأسس أو العوامل الثلاثة في سبيل تربية الإنسان وسوقه في طريق السعادة والرشاد.

 

المحاكمة العقلية:

تتألف بنية " المحاكمة العقلية " في القرآن، من ثلاثة جوانب:

الأول: تعريف الإنسان بذاته.

الثاني: اختيار أسلوب صالح لمدارك جميع الناس.

الثالث: الاعتماد على المناقشة والحوار.

فلنحلل كلا من هذه الجوانب الثلاثة على حدة.

 

الجانب الأول: تعريف الإنسان بذاته قبل كل شيء. فقد بدأ القرآن خطابه إلى الناس بتوجيههم إلى النظر والتأمل نشأته وتكاثره.

تجد ذلك واضحاً في أول الآيات القرآنية نزولاً، كما تجده في أولى صفحات القرآن كتابة وترتيباً. فقد كانت أولى الآيات القرآنية نزولاً، تعريفاً بالإنسان وجوهره، وهي قوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5] [1] [2] فأنت ترى أن الله عز وجل لم ينبه الإنسان إلى ربوبية الله وحدانيته إلا من حيث أرشده إلى ذاته وأصل تكوينه ونشأته.

وكانت الصفحات الأولى من سورة البقرة وهي أول القرآن ترتيباً في بعض المصاحف تعريفاً بأصناف الإنسان في هذه الحياة الدنيا، من مؤمنين وجاحدين ومنافقين، ثم تنبيهاً إلى قصة نشأته، وتكاثره، ومصيره، ثم أنه يكرر التنبيه إلى هذه القصة، كلما دعت الحاجة، أي كلما اقتضى الأمر تنبيهه إلى شيء من دلائل الكون أو وقائع الأمم، برهاناً على وجود الخالق عز وجل، وعلى وحدانيته، وعلى اليوم الآخر وما يتعلق به من أمور وأحداث.

ولهذه البداءة التمهيدية أهمية تربوية كبرى. ذلك لأن جميع المعارف التي يكتسبها الإنسان إنما هي فرع لمعرفة سابقة، هي معرفته لذاته، وبدون أن تتوفر هذه المعرفة الأولى لا يمكن أن يحرز الإنسان أي ميزان سليم للمعارف الفرعية الأخرى، فلولا إيمانك بالقلب ووظيفته، ما آمنت بشيء من مقولاته وأحكامه، ولولا معرفتك لتركيبك النفسي والجسمي، لما عرفت شيئاً من حقائق الكون التي تطرف من حولك، ولما أدركت أي علاقة مما بينك وبينها. وهكذا... فبمقدار ما تكون معرفتك لذاتك دقيقة وسليمة، فان معرفتك لحقائق الكون ووظائفه تكون دقيقة وسليمة.

 

وبالمقابل، فان الذي لم يتوفر بعد على معرفة دقيقة لذاته وحدود إمكاناته، لا يمكنه أن يتوفر على معرفة ألوهية الله له، ولا على عقيدة صحيحة عن قصة هذا الكون ومجراه ونهايته، ذلك لأن ثقة الباحث بنفسه وذاته تعتبر ينبوع ثقته وإيمانه بما تقدم له هذه الذات من نظريات وأحكام. فإذا فقد الباحث هذه الثقة بنفسه وعقله، أو كانت على وجه خادع غير سليم، فقد الثقة أيضاً بكل ما قد توحي إليه به نفسه من معارف ومعلومات، أو تقبلها مغلوظة خادعة لا تعتمد على أساس صادق وسليم.

وانظر!! فانه ما جحد الجاحدون بالله، ولا أقاموا لأنفسهم عروش الربوبية الزائفة في الأرض، إلا لأن أعينهم ظلت تزيغ فيما حولهم، دون أن تصحو ساعة واحدة للتأمل والنظر بصدق في أنفسهم.

فمن أجل هذه الحقيقة ومدى أهميتها، يبدأ القرآن في محاكمته العقلية للمنكرين بلفت أنظارهم إلى أنفسهم والى قصة وجودهم، حتى إذا استرعى أذهانهم ذلك، أخذ يحدثهم عن وجود الله ووحدانيته وعبودية الإنسان له.

 

تأمل هذه الظاهرة في الآيات التالية:

﴿ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾ [الطارق: 4 - 7][3]تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خلق منه، وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد؛ لأن من قدر على البداءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى، ﴿ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ﴾ المني؛ يخرج دفقا من الرجل ومن المرأة، فيتولد منهما الولد بإذن الله، عز وجل؛ ولهذا قال: ﴿ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾ يعني: صلب الرجل وترائب المرأة، وهو صدرها. إنه على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماء دافق، أي: إعادته وبعثه إلى الدار الآخرة لقادر؛ لأن من قدر على البدء قدر على الإعادة[4].

 

وقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5] [5] يا أيها الناس إن كنتم في شك من أن الله يُحيي الموتى فإنَّا خلقنا أباكم آدم من تراب، ثم تناسلت ذريته من نطفة، هي المنيُّ يقذفه الرجل في رحم المرأة، فيتحول بقدرة الله إلى علقة، وهي الدم الأحمر الغليظ، ثم إلى مضغة، وهي قطعة لحم صغيرة قَدْر ما يُمْضَغ، فتكون تارة مخلَّقة، أي تامة الخلق تنتهي إلى خروح الجنين حيًا، وغير تامة الخلق تارة أخرى، فتسقط لغير تمام؛ لنبيِّن لكم تمام قدرتنا بتصريف أطوار الخلق، ونبقي في الأرحام ما نشاء، وهو المخلَّق إلى وقت ولادته، وتكتمل الأطوار بولادة الأجنَّة أطفالا صغارًا تكبَرُ حتى تبلغ الأشد، وهو وقت الشباب والقوة واكتمال العقل، وبعض الأطفال قد يموت قبل ذلك، وبعضهم يكبَرُ حتى يبلغ سن الهرم وضَعْف العقل؛ فلا يعلم هذا المعمَّر شيئًا مما كان يعلمه قبل ذلك. وترى الأرض يابسةً ميتة لا نبات فيها، فإذا أنزلنا عليها الماء تحركت بالنبات تتفتح عنه، وارتفعت وزادت لارتوائها، وأنبتت من كل نوع من أنواع النبات الحسن الذي يَسر الناظرين[6].

فأنت إذا تأملت هذه الآيات وأمثالها، وجدتها تأتي في معرض التنبيه إلى حقيقة هذا الكون، وانسياقه في خضوع ونظام لتدبير آله واحد يعنو له العام كله بالدينونة والخضوع. فهي تأتي تمهيداً بين يدي كشف هذه الحقيقة أمام العقل الإنساني.

وأنت إذا تأملت، وجدت أن القرآن لا يحفل بتحليل شيء من مظاهر الكون بتفصيل ودقة واهتمام، ولا يتحدث بأساليب مختلفة عن نشأته وكيفية تطوره كما يفعل ذلك عند حديثه عن الإنسان.

وحكمة ذلك أن تعريف الإنسان بحقيقته وأصل نشأته، هو السبيل التربوي الذي لا بديل عنه، لإقناع عقله بالحقيقة التي ترتكز عليها نشأة هذا الوجود من حيث هو.

 

الجانب الثاني: اختيار أسلوب صالح لجميع الناس على اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأزمانهم. فليس من سبيل لشد الناس إلى المبدأ المطلوب، إذا كان أسلوب الدعوة والتعليم صالحاً لفئة منهم دون أخرى.

وانه لأشق شرط من شرائط المنهج التربوي الذي يراد سلوكه مع جمهرة مختلطة من الناس، وما يخفق أكثر الدعاة من ناحية المنهج والأسلوب إلا لعدم سيطرتهم على طريقة من القول والبيان تأتي على قدر إفهام جميع السامعين أو المتعلمين.

ولذلك فقد تمثل في هذا الجانب أعظم مظهر من مظاهر القرن!.. اذ جاءت صياغة هذا الكتاب العجيب على قدر الطاقة الإدراكية، لدى كل طائفة منهم، دون أن يتسبب عن ذلك أي خلل في الإفهام ولا أي تضارب بين المفاهيم.

 

ولسنا نعني بهذا أنهم جميعا يستطيعون إذا أرادوا فهمه بدون تبصير ولا تعليم، بل القدر المشترك من معرفة القواعد اللغوية والأساليب العربية شيء لا بد منه، ولكن الناس جميعا يتساوون في فهم ما يفيدهم من القرآن على اختلاف ثقافتهم، بعد اجتياز هذا القدر المشترك الذي لا بد منه من المعرفة والتعلم، انظر إلى قوله تعالى، وهو يلفت أنظار الناس إلى روع الإبداع الآلهي في خلق الكون وتنظيمه: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ﴾ [المرسلات: 25 - 27][7] أي تك فت الناس أحياء على ظهرها، وأمواتاً في بطنها. والكفت: الجمع والضم، ﴿ رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ﴾ جبالاً ثوابت، طوالاً شواهق ﴿ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ﴾ عذباً. يقال: فرت الماء؛ إذا عذب[8].

وتأمل في بكلمة ﴿ كِفَاتًا ﴾ التي هي بمعنى الجذب والضم، وعليه قول الشاعر:

كرام حين تنكفت الأفاعي ♦♦♦ إلى أحجارهن من الصقيع

لقد جاء وصف الأرض بهذه الكلمة على قدر ما يمكن أن يفهمه الأعرابي في البادية. فقد أدرك منها أن الأرض له كالوعاء تحفظ ما فيها وتحميها وتحرسها، وهو إدراك صحيح، فان الأرض كذلك، ثم جاء هذا الوصف ذاته على قد فهم المختصين المتعمقين في دراسات الأرض والأفلاك، حتى فهم من ذلك ثابت بن قرة (221 228) أن الإنسان إنما يستقر على الأرض بقوة خفية تجذبه إليها وإلا لما أمكنه الاستقرار من فوقها، وهو نفس القوة التي تسمى اليوم بالجاذبية. وليس من كلمة تستوعب سلم هذه المعاني التي تبدأ بفهم الإعرابي في البادية، وتنتهي بما يفهمه علماء هذا العصر، كما تستوعبه كلمة " كفأتا"!!..

 

وانظر إلى قوله تعالى وهو يلفت النظر إلى جانب آخر من صفة الأرض أيضاً: ﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾ [النازعات: 31] [9] بسطها وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو ﴿ أَخْرَجَ ﴾ حال بإضمار قد أي مخرجا ﴿ مَاءَهَا ﴾ بتفجير عيونها ﴿ وَمَرْعَاهَا ﴾ ما ترعاه النعم من الشجر والعشب وما يأكله الناس من الأقوات والثمار وإطلاق المرعى عليه استعارة[10].

فان كلمة " دحاها " تأتي في العربية بمعنى بسط، وبمعنى عظم، وبمعنى دور أو كور، كما نص على ذلك في شرح القاموس المحيط. وكلها معان صادقة منطبقة على الأرض، فهي منبسطة وعظيمة ومكورة، فأما الإعرابي الذي يعيش في البادية فيفهم منها الأول والثاني، وأما الفلكي المتعمق فيفهم منها المعاني الثلاثة، وليس بينها أي تضارب كما هو واضح.

 

وانظر إلى قوله عز وجل وهو يصف الشمس والقمر بأبرز يختص بة كل منهما: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ﴾ [الفرقان: 61] [11]وهي الشمس المنيرة، التي هي كالسراج في الوجود ﴿ وَقَمَرًا مُنِيرًا ﴾ أي: مضيئا مشرقا بنور آخر ونوع وفن آخر، غير نور الشمس[12].

 

والى قوله أيضاً فيهما: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 5][13] يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته، وعظيم سلطانه، وأنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء وشعاع القمر نورا، هذا فن وهذا فن آخر، ففاوت بينهما لئلا يشتبها، وجعل سلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل، وقدر القمر منازل، فأول ما يبدو صغيرا، ثم يتزايد نوره وجرمه، حتى يستوسق ويكمل إبداره، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حاله الأول في تمام شهر[14].

 

والى قوله أيضاً في الموضوع نفسه: ﴿ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾ [نوح: 15، 16][15] أي: فاوت بينهما في الاستنارة فجعل كلا منهما أنموذجا على حدة، ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدر القمر منازل وبروجا، وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستسر، ليدل على مضي الشهور والأعوام[16].

فأنت ترى أنه وصف الشمس في الآيات الثلاث بكونها سراجاً أو ضياءً، والقمر بكونه نوراً أو منيراً وهو وصف دقيق ينطوي على معان مختلفة تتوزع على أصناف الناس حسب ثقافاتهم، ومدى إمكان الفهم لديهم، وهي جميعها معان ثابتة لكل منهما.

فأما الأعراب من الناس فيفهمون من هذين الوصفين أوسع قدر مشترك بينهما وهو الضياء المطلق. اذ السراج والنور يلتقيان على هذا المعنى المشترك العام.

وأما عامة المثقفين من الناس فيدركون من هذين الوصفين بالإضافة المعنى المشترك بينهما أن الشمس تنفث مع الضياء حرارة أيضاً، وأن القمر يعطي ضياء لا حرارة فيه. اذ الشيء لا يطلق عليه اسم السراج إلا إذا كان بشع بالحرارة.

وأما علماء الفلك أو عامة المدركين لطبيعة كل من الشمس والقمر، فيفهمون من هدين الوصفين إذا كانوا على علم باللغة العربية وفقهها أن الآية ناطقة بأن ضياء الشمس يسطع من داخلها وضياء القمر ينعكس إليه من جرم آخر مقابل له. لأن ذلك هو الفرق اللغوي الدقيق بين الكلمتين. فأنت تصف الغرفة بأنها منيرة أو مضيئة ولا تصفها بأنها سراج، اذ أن ضياء الغرفة إنما ينعكس إليها من المصباح المضيء في داخلها، والسراج إنما ينبثق ضياؤه من داخله.

 

وقد قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾ بعد أن بين وصف كل من الشمس والقمر: وقد نبه سبحانه وتعالى بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها والقمر نيراً بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها).

والشواهد على هذا الجانب التربوي العجيب في كتاب الله تعالى كثيرة جداً، ومن المفيد أن نسوق عليه مزيداً من الأمثلة، لو لا أنه يخرجنا عن نطاق الموضوع الذي التزمنا الانضباط به وعلى كل فحسبك أن تعلم بأن القرآن إذ يحاكم العقول إلى حقائق الكون أو وقائع الأمور فإنما يختار أسلوباً وصياغة وألفاظاً تتفق مع قدرات هذه العقول وإمكاناتها في الإحاطة والفهم، دون أن ينشأ عن ذلك أي تضارب في المفهوم أو المعاني المختلفة.

ومن مقتضيات هذه الحكمة التربوية، أن الصياغة القرآنية جاءت فيما يتعلق بالمعلومات الكونية بعيدة عن التعبيرات العلمية الضيقة، إذ لولا ذلك لكان خطاب القرآن غير صالح إلا لفئة قليلة من الناس.

ومن مقتضياتها أيضاً أن الصياغة القرآنية جاءت في هذه الأبحاث ذاتها مثيرة للنظر والبحث، أكثر من أن تلزم الناس بالإيمان بها بمجرد اخباراته الغيبية عنها، إذ لو قامت صياغتها على هذا الإلزام، لكان مقتضاه وجوب التصديق بهذه القضايا العلمية، طبقاً لما أخبر بة القرآن، أي دون الاعتماد في شيء من ذلك على وسائل التجربة والمشاهدة التي هي الوسائل الطبيعية الأصلية للوصول إلى حقائق علمية عن الكون، وقد كرم الله لعقل البشري عن ذلك.

 

ولذلك تراه يقول: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101] [17] يدعو تعالى عباده إلى النظر لما في السماوات والأرض، والمراد بذلك: نظر الفكر والاعتبار والتأمل، لما فيها، وما تحتوي عليه، والاستبصار، فإن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون، وعبرًا لقوم يوقنون، تدل على أن الله وحده، المعبود المحمود، ذو الجلال والإكرام، والأسماء والصفات العظام[18].

وقال تعالى: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21] [19] أي أفلا تنظرون نظر من يعتبر فى اختلاف الألسنة والألوان، والتفاوت فى العقول والأفهام، واختلاف الأعضاء، وتعدد وظائف كل منها على وجه يحار فيه اللّبّ، ويدهش منه العقل[20].

وعندما تزداد الآيات القرآنية قرباً إلى البحث في حقائق العلوم ودقائق الكون، لا تزيد على أن تقرر مبدأ التناسق ودقة النظام والتدبير في أجزائه وتكوينها، أو أن تصف منها المظاهر السطحية البارزة التي تخضع لإحدى حواس النظر أو السمع أو اللمس، أو أن تربط بينها وبين أسباب حياة الإنسان وتوضح مدى أهميتها لاستجابة حاجاته ومدى تطابقها لطبيعة حياته.

فهو يقول مثلا: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21] [21] أي: جميع الأرزاق وأصناف الأقدار لا يملكها أحد إلا الله، فخزائنها بيده يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، بحسب حكمته ورحمته الواسعة، ﴿ وَمَا نُنَزِّلُهُ ﴾ أي: المقدر من كل شيء من مطر وغيره، ﴿ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ فلا يزيد على ما قدره الله ولا ينقص منه[22].

أما أن تتجاوز الآيات ذلك كله إلى التحليل العلمي للأشياء وبيان كيفية تركيبها وتآلف أجزائها، فذلك ما لا تعثر عليه في كتاب الله تعالى، إلا أن يأتي شيء من ذلك في سياق بحث تاريخي يراد بة بيان أحداث وقعت وبين كيفية وقوعها.

والحكمة التربوية من ذلك ألا يحمل العقل حملا على أن يستيقن حقائق علمية تتعلق بأمور حسية، عن طريق إخبارات غيبية، ودون الاعتماد على منهاج النظر والحس أو التجربة والمشاهدة. إذ هو جل جلاله لو شرح لك معنى قوله (مد الأرض) أو (يغشي الليل والنهار) شرحا علمياً دقيقاً، لألزمك الاعتقاد بمضمون ذلك الشرح، غيباً، قبل أن تكشفه بوسائل بحثك ونظرك. وقد كرم الله جل جلاله العقل الإنساني كما قلنا عن مثل هذه الإلزامات الغيبية، في أمور تتوافر إليها سبل النظر والحس.

وأنت تعلم أن من أعظم الأخطاء التربوية، أن يكون أمام تلميذك سبيل طبيعي مباشر إلى لمس الحقيقة العلمية بجهده الحسي، ثم تثنيه عنها بما تفرض عليه من الفهم من مركز السيطرة والإجبار.

وليس لك أن تقول: فلماذا أخبرنا الله بدقة عن كثير من الغيبيات التي لم نرها ولم نحس بها كالملائكة الجان وصفاتهم والجنة والنار وأحوالهما، حتى اقتضانا ذلك أن نؤمن بذلك كله طبقاً لما أخبر، ودون الاعتماد في شيء منه على مداركنا وإحساساتنا؟ أجل.. ليس ذلك أن تقول هذا، لأن هذه الأمور التي أخبر عنها ووصفها على وجه الدقة، لا دخل لها بالقضايا المحسوسة الواقعة تحت مجهر التجربة والمشاهدة. فليس لك من سبيل إلى العلم بها إلا سبيل الإخبار القطعي ممن لا خلف ولا كذب في إخباره. ولو أنه جل جلاله لفت نظرك إلى البحث في الملائكة ودفعك إلى إدراك حقيقتهم، لما أوصلك النظر والفكر إلى شيء مهما طال بك النظر البحث، لأنك لا تملك من وسائل إحساسك ومشاهدتك ما يوصلك إلى أي علم عنهم، فكان لا بد من الاعتماد فيه على الخبر الصادق المجرد.

 

الجانب الثالث: الاعتماد على المناقشة والحوار، وللقرآن في ذلك أسلوب رائع عجيب، فهو إذ يناقش ويحاور، يثير النظر إلى الأدلة ويعرض لها ويدع ثمارها ونتائجها مكشوفة في تضاعيف الكلام، دون أي نص على هذه النتائج، بل يترك الربط والاستنتاج للسامع المتأمل!.. وتلك هي فائدة الأسلوب الحواري القائم على السؤال والنقاش، فالغرض منه سوق التلميذ في الطريق العلمي المطلوب بالسرعة ذاتها التي يسير بها المربي أو المعلم. إذ أن من أخطر آفات السرد والإلقاء المجرد، أن يسير المعلم في إلقائه وسرده أشواطاً إلى النتيجة العلمية المطلوبة بينما لا يزال السامع واقفاً حيث هو، أو يسير متخلفاً عنه في متاهات متعثرة لا تفيد علماً ولا تكسب فهما، وعندما يكون النقاش والحار قائمين على هذا الغرض، فان تصريح المناقش المربي بنتائج الأدلة وثمراتها (أثناء النقاش) يذهب يجدوا عمله التربوي كله.

وربما جاء الأسلوب الحواري لتحقيق فائدة أخرى، هي الكشف عن عناد المعاند، ومعرفته للحق الذي يتظاهر بجهله. فان المناقشة تحركه وتلجئه إلجاءً إلى الكشف عن خبيئة أمره وباطن ما في نفسه، ولا يتحقق هذا الغرض أيضاً إلا بإثارة النظر في الأدلة واعتصارها عن طريق النقاش والحوار، حتى تتبدى من خلالها النتائج دون أي نص عليها من المربي المناقش.

 

انظر إلى هذه الآيات التي جاءت في أواخر سورة النمل: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [النمل: 59 - 64][23].

إنه أسلوب حواري كما ترى، يقوم على إثارة الأسئلة المنبهة للعقل والمحركة للفكر، ولا تجد أي جواب صريح على سؤال منها، وإنما تجد بدلاً من الجواب لفت النظر إلى حيث يتسنى للفكر أن يدرك الجواب الصحيح ويتنبه له.

انه يسأل، ويلح في السؤال وطلب الجواب.. ولكنه سرعان ما يضرب عن السؤال وطلب الجواب معاً ليلفت النظر إلى أساس المشكلة في الأمر: أنهم يعدلون بالله غيره سلفاً، وإنهم لا يريدون أن يعلموا شيئاً عن حقائق الكون وما فيه من طوايا الأدلة الرهيبة على وجود الله ووحدانيته، وإنهم لا يريدون أن يتذكروا نشأتهم الأولى وتدرجهم في الخلق. ولو أنهم تذكروا..

وعلموا.. وأنصفوا.. لعلموا الجواب على كل هذه الأسئلة، ولأقروا مؤمنين صاغرين.

ويأتي قوله تعالى: ﴿ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ﴾، بدلاً عن الجواب الذي كان منتظراً منهم، فالعذر في سكوتهم عن الإجابة على السؤال الأول المتعلق بخالق السماوات والأرض ومنزل المطر من السحاب أنهم يعدلون بالله عز وجل غيره من المخلوقات، والعذر في سكوتهم عن الإجابة على السؤال المتعلق بجاعل الأرض قراراً وخالق الجبار رواسي في أنحائها أنهم لا يحاولون أن يعلموا شيئاً من دقائق الكون وخفاياه. والعذر في سكوتهم عن الإجابة على السؤال المتعلق بمن يجيب المضطر عندما يتجه إليه مخلصاً في الضراعة والدعاء أنهم قلما يتذكرون مثل هذه الساعات التي تمر في حياتهم... وهكذا.

 

إن هذا الأسلوب الحواري يكشف عن عناد المشركين، ثم يزحزحهم عن مواقفهم العنا دية هذه، ويضعف فيهم طاقة التشكيك والتجاهل!.. وبذلك يكونون مادة تربية لغيرهم إن أصروا على كفرهم مع ذلك، أو يكون هذا الحار مادة تربية لهم أنفسهم إذا تنبهوا إلى دلائل الإيمان وضرورة الإنصاف.

وانظر أيضاً إلى قوله تعالى وهو يناقش الكافرين في مكان آخر: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ [الطور: 33 - 38][24].

 

لقد عرض في هذه الآيات وما يليها إلى الاحتمالات المتصورة في سبب جحود الكافرين، فرد كل منها بأسلوب فريد!..لم ينف الاحتمالات بعبارات سلبية جازمة، فمثل هذا النفي لا يفيد المخاصم أكثر من أن يزيده صلابة وعناداً، ولكنه ناقشها بما يكشف عن زيفها، وترك التصريح بالزيف لعقل السامع وفكره. وضمن مناقشة كل احتمال من هذه الاحتمالات، قاعدة من القواعد المنطقية التي يهتدي بها العقل إلى الحقيقة ويميزها عن ملابساتها، ولكنه لم يقم دعائم النقاش على القاعدة بصياغتها القانونية كما هي العادة، وإنما أقامها على روحها وعلى ذويها الفكري الذي تتفهمه سائر العقول.

أن الاحتمال الأول هو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تقول على الله هذا القرآن، وإذاً فمن اليسير عليهم أن يفعلوا مثله، فليتقولوا هم أيضاً على الله قرآناً في مثل بلاغته وأسلوبه فان هم فعلوا ذلك أمكن لدعواهم أن تكون صحيحة.

 

والاحتمال الثاني أن يكونوا عند أنفسهم مخلوقين بغير خالق، فهم ظهروا في الوجود هكذا بدون شيء!.. وإثارة هذا الاحتمال بهذا الأسلوب القرآني تلفت النظر بطريقة مشفقة ساخرة إلى ما يوجد في تضاعيفه من دعوى رجحان الشيء بدون مرجح، وهي من أبرز صور المحالات التي يجمع كاف العقلاء على امتناعها ز إذا لا يمكن لأمر ما أن يطرأ عليه الوجود بعد انعدام إلا لسبب رجح فيه هذا الطروء، وبدون هذا السبب لا يتحول المعدوم عن حاله إطلاقا، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان عليه.

 

والاحتمال الثالث أن يكونوا في وهم أنفسهم هم الذين تولوا إيجاد أنفسهم، وإثارة هذا احتمال، بالأسلوب الذين تراه، تلفت النظر بطريقة ساخرة أيضاً، إلى ما يوجد في تضاعيفه من دعوى صحة الدور الذي هو أيضاً من أبرز صور الحالات عند جميع العقلاء. والدور هو أن يتوقف الشيء في وجوده على نفسه بحيث يكون هو العلة والمعلول بآن واحد!.. وهو كما ترى أمر ظاهر البطلان.

فانظر كيف حاكم الأسلوب الحواري في القرآن جماعة الكافرين، إلى قانون بطلان الدور وبطلان الرجحان بدون مرجح، ليسقط بذلك دعواهم!.. فعل ذلك كله بدون أن يسلك بهم أي مسلك تعليمي أو أن يلقنهم علم أي مجهول أو يلزمهم بأي نتيجة أو قرار. وإنما أثار أفكارهم إلى موازين المنطق والعلم، وتركهم بين ذلك كله، وقد لبسوا زي الجهل أو التجاهل والتعامي.

 

وأبرز ما يلفت النظر في ذلك أنه اعتمد في نقاشه على محور القواعد المنطقية والفكرية، دون أن يتقيد بصياغاتها واصطلاحاتها المعروفة، حتى لا تفوت فائدة المعرفة والفهم على أي فئة من الناس مهما كانت ثقافاتهم وعلومهم، ما داموا ينزعون إلى قدر مشترك من التأمل وحرية النظر والفكر.

وهذا المعنى الذي يقرره الأسلوب الحواري ببساطة يدركها كما رأيت كل عاقل متدبر، هو نفس المعنى الذي يطيل فيه علماء العقيدة والفلسفة تحت عنوان الاصطلاحات العلمية الخاصة، كالعلة الغائية، ونظام الحكمة والتدبير. إلا أنه هناك معنى مغلق لا يكاد يفهمه إلا علماء ذلك الشأن وحده، وهو هنا معنى مفتوح واضح لا يقف دونه أي إدراك أو فهم، وإنما سهل واتضح بها بهذا الشكل، بفضل الأسلوب الحواري الذي جاء تعبيراً عنه.

والحديث في تطبيقات هذا الأسلوب التربوي كما جاء في القرآن، حديث طويل. وانه لحديث شائق مفيد. ولكن ليس هنا مجال بسطه وتفصيله.

غير أني الفت نظر المهتمين بالتربية ومذاهبها إلى هذا الجانب، وأدعوهم إلى دراسته دراسة مسهبة واعية، فلسوف يعثرون على ما هم بأمس الحاجة إلى معرفته والتبصر به من الطرائق التربوية الفكرية الحديثة المفيدة.



[1] سورة العلق:1-5.

[2] سبق تفسيرها..

[3] سورة الطارق:4-7.

[4] تفسير القرآن العظيم (ج 8 - ص 376)..

[5] سورة الحج:5.

[6] التفسير الميسر (ج 1 - ص 332)..

[7] سورة المرسلات:25-27.

[8] أوضح التفاسير (ج 1 - ص 727)..

[9] سورة النازعات:31.

[10] تفسير الجلالين (ج 1 - ص 790)..

[11] سورة الفرقان:61.

[12] تفسير القرآن العظيم (ج 6 - ص 121)..

[13] سورة يونس:5.

[14] تفسير القرآن العظيم (ج 4 - ص 248)..

[15] سورة نوح:15-16.

[16] تفسير القرآن العظيم (ج 8 - ص 233)..

[17] سورة يونس:101.

[18] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ج 1 - ص 374)..

[19] سورة الذاريات:21.

[20] تفسير المراغي (ج 26 - ص 180)..

[21] سورة الحجر:21.

[22] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ج 1 - ص 430)..

[23] سورة النمل:59-64.

[24] سورة الطور:33-38.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • مصادر المنهج التربوي الفكري الإسلامي
  • المنهج التربوي القلبي الصحيح وأثره (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • مدلول المنهج والتواصل والحوار اللغوي والاصطلاحي(مقالة - آفاق الشريعة)
  • اتجاهات الإشراف التربوي الحديثة(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • النقد التربوي في المنهج الإسلامي(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • المنهج التربوي للأسرة في اليوم والليلة(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • المنهج النبوي في التعامل التربوي (PDF)(كتاب - ملفات خاصة)
  • قراءة لنظرية المنهج التربوي في ضوء النظرية الإسلامية (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • المنهج التربوي السلوكي في ضوء أحكام الصيام(مقالة - ملفات خاصة)
  • شرح كتاب المنهج التأصيلي لدراسة التفسير التحليلي (المحاضرة العاشرة: أضواء على المنهج العقدي في وصايا لقمان)(مادة مرئية - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • المنهج التاريخي: نشأته وتقاطعاته مع المنهج الوصفي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • المنهج التاريخي عند المؤرخين العراقيين في القرن الثالث الهجري: المنهج الحولي والموضوعي نموذجا (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب