رمز الحقائق شرح كنز الدقائق للبدر العيني (لم يحقق بعد)

"رمز الحقائق شرح كنز الدقائق" للبدر العيني

(لم يحقق بعد)

حياةُ العلماء لا تخلو من مُنغِّصاتٍ ومُكدِّرات وتحاسد، وقد نال الإمام "البدر العيني" من الحسد وضغينة الأقران الكثيرَ حالَ إقامته وتدريسه بمصرَ؛ فمنذُ وطِئت قدماه القاهرةَ في صحبة أستاذه الشيخ "علاء الدين السيرامي" في عهد السلطان المملوكي "الظاهر برقوق" خلال القرن التاسع الهجري، وترشيحِ أستاذه له لتولِّي التدريس بالمدرسة الظاهرية، نجد سعيَ علماء وقته تجاهه بالوشاية والنِّكاية وتأليبِ الولاة عليه.

ونرى في ترجمة الإمام "البدر العيني" أنه ولِيَ الحِسبةَ والقضاء ونظارة الأحباس؛ أي: الأوقاف، يُولَّى ويُعزَل، مرة تلو مرة، بل بلغ من ضيق صدر "البدر العيني" بهذا التنافس والتكالب على المناصب - أنه عزل نفسه أكثر من مرة، وانقطع للتدريس بالمدارس العلمية الكثيرة في ذلك الوقت في القاهرة في العهد المملوكي، فدرَّسَ الحديث بالمدرسة المؤيدية أول ما افتُتحت سنة (818هـ = 1415م)، ودرَّسَ الفقه بالمدرسة المحمودية، ودرَّسَ إلى جانب ذلك التاريخ والنحو والأدب... وغير ذلك في مجالسه التي كان يعقِدها للتدريس، وقد تتلمذ على يديه عددٌ من التلاميذ النابهين صاروا أعلامًا بعد ذلك؛ مثل: الكمال بن الهمام، وابن تغري بردي، والسخاوي، وأبي الفضل العسقلاني.

وقد كانت هذه الفترات التي ينقطع فيها "البدر العيني" عن غَبْنِ المناصب ودَخَنِها فاتحةَ خيرٍ عليه؛ حيث كان يواصل ما انقطع عنه من إملاء مؤلَّفاته وشروحاته المفيدة في الحديث والفقه، وعلوم العربية والتاريخ، ولعلَّ شرحَه على صحيح البخاري المسمَّى بـ"عمدة القاري في شرح الجامع الصحيح للبخاري"، من أكبر مؤلفاته، وأجلِّ شروح البخاري؛ حيث استغرق العيني في تأليفه مدةً تزيد عن عشرين عامًا.

ومقدمة شرحه الموسوم بـ"رمز الحقائق شرح كنز الدقائق" للإمام أبي البركات عبدالله بن أحمد بن محمود النسفي، وما جاء في سببِ تأليفه هذا الكتابَ يخبرنا عن أتون المعارك العلمية والسياسية المُستعرة في القاهرة التي عانى منها البدر العيني الأمرَّينِ، فيروِي "البدر العيني" سببَ عُكُوفه على شرح كتاب النسفي (كنز الدقائق): أن همًّا اعتراه وغلب على نفسه؛ من حسد أقرانه له وتكالبهم عليه، حيث يقول "البدر العيني" أنه تفرَّغ لشرح الكتاب وإملائه: "... لما امتُحنت بما امتحن به مَن هو محسود؛ إما لعلمه وفضله، وإما لسبقِ خيرٍ منه أو من أجله، ولَعَمْري غير عجب ذلك؛ فإن المحسود مُعدٌّ لذلك، كيف وقد امتُحن أئمَّةُ الدين وأكابر علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن سائر العلماء المتقين".

ثم يُورِد البدر العيني أمثلةً لابتلاء العلماء السادة؛ كابتلاء أبي حنيفة بالحبس والضرب، وابتلاء الإمام مالك حتى خُلع كتِفُه، وابتلاء الشافعي بحمله من اليمن إلى بغداد في قيوده، وكذلك أحمد بن حنبل بحمله من بغداد إلى حران في مِحنةِ خلْقِ القرآن.

ثم يشكو "البدر العيني" همَّه ومحنتَه بتكالب أقرانه عليه بالتَّحاسُد والوشاية: "حتى صار أعزُّ أصحابي كأكبر أعدائي، وصار أكثرُ الهمْزِ والطَّعن من أجلَّاء أخلائي، بحيث أظلمت عليَّ الدنيا، فصِرتُ كأني عينٌ بلا إنسانٍ أو إنسان بلا عين".

وفي هذا معارضةٌ لطيفة لقول "النسفي" نفسِه في بداية كتابه (كنز الدقائق) عن سبب تأليفه الكتاب بعد طلْبِ أصحابه منه وضعَ شرحٍ له في مسائل الفقه على المذهب الحنفي؛ حيث يقول "النسفي": "فشرعتُ فيه بعد التماس طائفةٍ من أعيان الأفاضل وأفاضل الأعيان، الذين هم بمنزلة الإنسان للعين والعين للإنسان؛ مع ما بي من العوائق، وسمَّيتُه بـ(كَنْز الدَّقائق)".

وكأن "البدر العيني" يقارن بين موقف أصدقائه منه وهمز أقرانه وتكالبهم عليه، وبين أبي البركات النسفي وصفاء أقرانه معه، الذين وضع من أجلهم ولسؤالهم هذا الكتاب!

وقد وضَّح "البدر العيني" أنه أراد أن يدفنَ تلك الهموم والمحن في سلوتِه العظمى بالتأليف: "أردتُ أن أُزيل هذه الكُدرات بإشغال البال في شرح كتاب من المُصنَّفات، فاخترت لذلك كتاب كنز الدقائق...".

وشرحُ "البدر العيني" من أوسط الشروح "بحيث إنه عَدْلٌ ووسط مُجنَّب عن الإفراط والفَرْط، موفٍ حقَّ حلِّ المتن والتركيب، كافٍ ذكرَ الدلائل بالترتيب"، وراعى في شرح (كنز الدقائق) الاختصارَ وعدم الإطناب بحيث "يذلِّل صعابَه، ويسرح عن قشره لُبابَه، ويكشف عن وجوه مخدراته النِّقاب، ويوضِّح ما فيه من المسائل الصعاب".

ورغم انتصاره لرأي أبي حنيفة خلال شرحه على (كنز الدقائق) فإنه لم يُغفِلْ إيرادَ آراء مالك والشافعي وأحمدَ بنِ حنبل في استدلاله على أغلب المسائل.

وللكتاب نسخ خطِّيَّةٌ عدة، قرنتْ تاريخَ تأليف "البدر العيني" شرحه بعام 855هـ، وقد طُبع الكتابُ في مصر قبل 150 عامًا، وفي الهند قبل 100 عام، ولم يُحقَّقْ تحقيقًا علميًّا منذ وقتِها، وهو بحاجة ماسَّةٍ للتحقيق، وخدمة نصِّه.