بين يدي "الفتح القدسي في آية الكرسي" للبقاعي

بين يدي "الفتح القدسي في آية الكرسي" للبقاعي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأفضلُ صلواته وسلامه على سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمّا بعد:

فهذا كتابٌ جديدٌ للإمام العلامة برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي الشافعي، وفَّق اللهُ لخدمته، والاعتناءِ به، وإخراجه، بعد أنْ ظلَّ مخطوطًا (541) عامًا.

ألَّفه -رحمه الله- في مدينة القاهرة سنة (879هـ) قبيلَ عودته مُهاجِرًا إلى دمشق، فهو مِنْ أواخر مؤلفاته فيها، وكان في الحادية والسبعين مِنْ عمره، وقد سبقتْهُ مؤلفاتٌ كبيرةٌ منها تفسيرُه المشهور "نظم الدُّرر في تناسُب الآيات والسُّور"، وكتابُه "مَصاعد النَّظر للإشراف على مقاصِد السُّور"، وقد انطلقَ في تفسير آية الكرسي منهما، وزادَ عليهما -ولا سيما الأول- زيادات كثيرة.

***

كتَبَ الإمامُ البقاعي كتابَه هذا وهو في ضائقةٍ نفسيةٍ، ومحنةٍ لاحقتْه زمنًا، ومعاناةٍ اجتمعتْ أطرافُها مِنْ جهاتٍ عدةٍ: غربةٍ طويلة، وبُعْدٍ عن الأهل والعشيرة، وذكرياتٍ مؤلمةٍ شديدةٍ، وواقعٍ حزينٍ لفقد الأولاد، وخصوماتٍ دائبةٍ اشتركَ فيها -إضافة إلى العلماء - الأمراءُ والعامّةُ، وطبيعةٍ حادةٍ.

في ظلِّ هذا استروحَ البقاعي إلى آية الكرسي الآية الحامية الكافية الشافية يتفيأُ ظلالَها، ويتنسُّمُ عبيرَها، ويسمو في مدارجها ومعارجها، ولكنه مع هذا لا يستطيعُ التخلُّص من الإصرار على رأيهِ، والمجاهرةِ به، وإنْ سبَّبَ له بلاءً شديدًا، وأذى كبيرًا... ونراهُ هنا يَنالُ من ابن الفارض وابن عربي والحلاج... وهو ما زالَ يصطلي بنار تلك الفتنة التي شبَّتْ سنة (874هـ)! والتي ألَّف فيها مؤلفاتٍ خاصة متعددة!

***

وآية الكرسي آيةٌ نردِّدُها كثيرًا حين نتنفَّسُ مع الصباح ونحن خارجون إلى أعمالنا، منطلقين في فجاج الأرض...

وحين نأوي إلى مضاجعنا بعد نهارٍ مزدحمٍ باﻷعمال واﻷفكار، والآراء والمشاهدات...

ونردِّدُها ونحن في صفوفنا من الصلاة قبل أنْ نبتدرَ السواري والأبواب.

ولقد أتى علينا حينٌ من الدهر كانت الصواريخُ والقذائفُ تغافلُنا وتغتالُ أمنَنا وأرواحَنا في ظلمات الليالي، فإذا غربت الشمسُ أحسَّ الناسُ بهمٍّ ثقيلٍ يمازِجُ القلوب، وخوفٍ مبهمٍ يداخِلُ النفوس، وكنّا لا نجدُ -ونحن نهمُّ بالنوم- إلا أنْ نقرأ آية الكرسي، ونتثبتَ من حروفها وكلماتها، ونتأمَّلَ فيها، ونرجو أنْ يحفظنا الله ببركتها من تلك الشياطين التي تنقضُّ فجأةً فتحيل الديارَ بلاقع، وتنقلُ الأحياء إلى القبور... أو تنثرُهم نثرًا يَصعبُ معه أنْ يضمهم بعد ذلك قبرٌ...

وكم ليلةٍ سمعنا فيها رعدَ تلك الشياطين القاصف وهي تنهالُ مِنْ حولنا، فنقومُ والليل يلقي بثقله، والنجومُ تنظرُ إلينا مشفقةً حزينةً متألمةً لما ينالُ الإنسانَ من أخيه الإنسان... نقومُ ونقرأ آية الكرسي مرة أخرى، ونترحَّمُ على مَنْ قد يكون غادرَ في تلك اللحظات... ونرسلُ نظرةً عميقةً تخترقُ جدرانَ الحياة، ونردِّدُ قولَ الحق سبحانه وتعالى ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ﴾ [الأحزاب: 23]...

وعلى هذا تمرُّ سنين وتنقضي أعمار...

كانت الشياطين تسرقُ تمرًا لتأكل... وهي الآنَ تسرقُ الأرواح، وتمزِّقُ الأشباح... وسبحان الله.

***

واليوم بعد تلك الأعوام أراني أقرأ هذه الآية الصَّديقةَ في الضّرّاء... أقرأها في السَّرّاء، وأشكرُ اللهَ أنْ حفظنا وسلمنا.

أقرأها على نفسي وأهلي وجيراني هنا... وعلى أهلي وجيراني هناك... حيث الحرائق والمضايق...

وأدعو اللهَ أنْ يحفظ هذه الأرض ببركات هذه الآية المباركة... وأن يكشفَ عن تلك الأرض ما هي فيه مِنْ آلامٍ وأسقامٍ، وأكدارٍ وأخطارٍ.

***

وما زلتُ أذكرُ بعضَ شيوخنا - في أول عهدنا بطلب العلم - وهو يقرأ علينا هذه الآية مُقسِّمًا لها إلى عشر جُملٍ، مُفسِّرًا منها ما يُناسِبُ تحصلينا ومداركنا.

فما أحوجنا إلى تفسيرٍ لها يجعلنا نحسُّ بعظمتها، ونستجلي معانيها، ونعلمُ منها ومِنْ مبانيها ما لم نكن نعلم، ونفهمُ منها ومِنْ مراميها ما لم نكن نفهمُ.

لذلك توجهت الهمّة إلى إظهار هذا الكتاب، وهو إنْ غمض في بعض جوانبه على أناسٍ فسيروقُ ﻵخرين، وليس بالضرورة أنْ نستحسنَ كلَّ ما قاله الآخرون، كما لا يجوز أنْ نفرضَ على أحدٍ طريقة التفكير أو التأليف.

وبعدُ:

فهذا حصيلة فكر البقاعي في تفسير هذه الآية، وقد كتبه مُسْترسِلًا فلم يُكثِرْ من المصادر، ولا ذكرِ الأقوال، فهو كتابُ "تأمُّلات"، لا منازعات واختلافات، ولعله طوى ذكرَ أسماء صرَّحَ بالنقلِ عنهم في "تفسيره" لهذا السبب.

***

أمّا عملي في التحقيق فهو:

بعد النَّسخ، وإضافةِ الحواشي، ومقابلةِ الأصلين، قمتُ بما يأتي:

1- قرأتُ الكتاب، وضبطتُه، وفصلتُ جمله، ورقمتُ الأحاديث.

2- قابلتُه بـ "نظم الدُّرر"، و"مصاعد النظر"، وبينتُ مواطنَ الاتفاق والافتراق.

3- عزوتُ الآيات، والأحاديثَ، وخرَّجتُ ما لم يُخرِّجه منها.

4- رجعتُ في النصوص المنقولة إلى مصادرها ما وسعني ذلك، وبينتُ ما عرفتُه منها ممّا أبهمه، وحاولتُ أنْ اكتشفَ ما لم يُصرِّح المؤلفُ بنسبته.

5- علقتُ عليه مستدركًا، وموضحًا، ومضيفًا، ومترجمًا لبعض المذكورين.

6- نبهتُ على بعض التحريفات، والسقط، والأخطاء الواقعة في المصادر.

7- ترجمتُ لمؤلفه ترجمة راعيتُ فيها التسلسل الزمني، وهو أسلوبٌ أحسبهُ يروق للدارس الفاحص، ويكشِفُ كثيرًا مِنْ أسرار حياة المترجم، وقد طالتْ نوعًا ما فمعذرة.

8- قدمتُ بكلمةٍ عن موضوع الكتاب، ومحتواه، ومصادرِه، وأثرهِ فيمَنْ بعده، وبعضِ الملحوظات عليه، والنسختين المُعتمدتين.

9- تتبعتُ المؤلِّفين في تفسير آية الكرسي، وخواصها، وفضائلها الذين أفردوها بالتأليف.

10- وضعتُ "نماذج" من المخطوطتين.

***

وأخيرًا أدعو بدعوة شيخ المُفسِّرين ابن جرير:

"اللهم وفِّقنا ﻹصابة القول في مُحكمه ومُتشابهه، وحلاله وحرامه، وعامِّه وخاصِّه، ومُجمله ومُفسَّره، وظاهره وباطنه، وتأويل آيه وتفسير مُشكله، وألهمنا التمسُّكَ به والاعتصامَ بمُحكمه، والثباتَ والتسليم لمُتشابهه، وأوزعنا الشكرَ على ما أنعمتَ به علينا من حفظهِ والعلمِ بحدوده، إنك سميعُ الدعاء، قريبُ الإجابة.

وصلى اللهُ على مُحمَّد النبي، وآله وسلَّمَ تسليمًا".

ومن الله نستمدُّ العونَ، وهو سبحانه وليُّ التوفيق.

***

دُبي في 1 من ربيع الأول 1420هـ

14/ 6/ 1999م