نظرات ابن هبيرة في التفسير وفقه الحديث

نظرات ابن هبيرة في التفسير وفقه الحديث

سبق أن عرضنا في مقالة سابقة لمعالم حياة الوزير العادل ابن هبيرة وشيوخه، وأخلاقه، وآثاره العلمية وثناء العلماء عليه وتخصص هذه المقالة لبيان نظرات ابن هبيرة في التفسير وفقه الحديث.

وقد كان ابن هبيرة- رحمه الله- يعقد في داره بعد صلاة العصر من كل يوم مجلساً يجتمع فيه مع الفقهاء والمحدثين والأدباء ويتداول معهم فيما يعترضه من مشكلات علمية وعملية، ويفصح لهم بما يفتح الله عليه في التفسير والحديث والفقه، وقد حفظ لنا ذلك تلميذه الإمام ابن الجوزي في كتاب صنفه بعنوان «المقتبس من الفوائد العونية» ذكر فيه الفوائد التي سمعها من الوزير ابن هبيرة، وأشار فيه إلى مقاماته في العلوم.

ونعرض لبعض نماذج من تفسيراته، فيها دلالة قاطعة على تدبره للقرآن وعمق نظرته فيه:

ففي تفسير قوله تعالى ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 151-153].

يقول ابن هبيرة: هذه الآيات محكمات، وقد اتفقت عليها الشرائع. وإنما قال في الآية الأولى ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ وفي الثانية ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ وفي الثالثة ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، لأن كل  آية  يليق بها ذلك، فإنه قال في الأولى ﴿ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ والعقل يشهد أن الخالق لا شريك له، ويدعو العقل إلى بر الوالدين، ونهى عن قتل الولد، وإتيان الفواحش، لأن الإنسان يغار من الفاحشة على ابنته وأخته، فكذلك هو، ينبغي أن يجتنبها، وكذلك قتل النفس، فلما لاقت هذه الأمور بالعقل، قال﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾.

ولما قال في الآية الثانية ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ ﴾ والمعنى: اذكر لو هلكت فصار ولدك يتيماً، واذكر عند ورثتك، لو كنت الموروث له، واذكر كيف تحب العدل في القول؟ فاعدل في حق غيرك، وكما لا تؤثر أن يخان عهدك فلا تخن، فلاق بهذه الأشياء التذكر فقال﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾.

وقال في الثالثة:﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ﴾ فلاق بذلك اتقاء الزلل، فلذلك قال ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.

• في تفسير قوله تعالى:﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51] يقول ابن هبيرة: لم يقل «الله» ما كتب علينا، لأنه أمر متعلق بالمؤمن، ولا يصيب المؤمن شيء إلا وهو له، إن كان خيراً فهو له في العاجل، وإن كان شراً فهو ثواب له في الآجل.

وفي تفسير قوله جل شأنه ﴿ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [الكهف: 39] يقول ابن هبيرة رأيت لها ثلاثة أوجه:

أحدها: إن قائلها يتبرأ من حوله وقوته، ويسلم الأمر إلى مالكه.

والثاني: أنه يعلم أن لا قوة للمخلوقين إلا بالله، فلا يخاف منهم، إذ قواهم لا تكون إلا بالله، وذلك يوجب الخوف من الله وحده.

والثالث: أنه رد على الفلاسفة والطبائعيين الذين يدعون القوى في الأشياء بطبيعتها، فإن هذه الكلمة بينت أن القوى لا يكون إلا بالله.

وفي تفسير قوله عز وجل: ﴿ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ﴾ [الفرقان: 8].

يقول ابن هبيرة: العجب لجهلهم حين أرادوا أن يلقى إليه كنزاً أو تكون له جنة. ولو فهموا علموا أن كل الكنوز له وجميع الدنيا ملكه أو ليس قد قهر أرباب الكنوز، وحكم في جميع الملوك! وكان من تمام معجزته أن الأموال لم تفتح عليه في زمنه لئلا يقول قائل: قد جرت العادة بأن إقامة الدول، وقهر الأعداء بكثرة الأموال. فتمت المعجزة بالغلبة والقهر من غير مال ولا كثرة أعوان. ثم فتحت الدنيا على أصحابه، ففرقوا ما جمعه الملوك بالشره، فأخرجوه فيما خلق له، ولم يمسكوه إمساك الكافرين، ليعلموا الناس بإخراج ذلك المال إن لنا داراً سوى هذه الدار، ومقراً غير هذا وكان من تمام المعجزات للنبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما جاءهم بالهدى فلم يقبل سل السيف على الجاحد، ليعلمه أن الذي أتبعثني قاهر بالسيف بعد القهر بالحج.

ومما يقوى صدقه أن قيصر وكبار الملوك لم يوفقوا للإيمان به لئلا يقول قائل: إنما ظهر لأن فلاناً الملك تعصب له فتقوى به، فبان أن أمره من السماء لا بنصرة أهل الأرض.

وفي تفسير سورة الضحى يقول ابن هبيرة: توالى فيها قسمان، وجوابان مثبتان، وجوابان نافيان:

فالقسمان: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾ [الضحى: 1-2].

والجوابان النافيان: ﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [الضحى: 3].

والجوابان المثبتان: ﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [الضحى: 4-5].

ثم قرر بنعم ثلاث، وأتبعهن بوصايا ثلاث: كل واحدة من الوصايا شكر النعمة التي قوبلت بها:

فإحداهن: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾ [الضحى: 6] وجوابها ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ [الضحى: 9].

والثانية: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ [الضحى: 7] فقابلها بقوله ﴿ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴾ [الضحى: 10] وهذا لأن السائل ضال يبغى الهدى.

والثالثة: ﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾ [الضحى: 8] فقابلها بقوله:﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11].

وإنما قال:﴿ وَمَا قَلَى ﴾ ولم يقل: وما قلاك لأن القلى بغض بعد حب، وذلك لا يجوز على الله تعالى، والمعنى: ما قلى أحداً قط.

ثم قال ﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾ [الضحى: 4] ولم يقل خير على الإطلاق، وإنما المعنى خير لك ولمن آمن بك.

وقوله (فآوى) ولم يقل فآواك، لأنه أراد:آوى بك إلى يوم القيامة.

ويتبين لنا أثر هذه النظرات التفسيرية فيمن جاء بعده من المفسرين بصفة عامة وبعض المعاصرين بصفة خاصة.

من نظرات ابن هبيرة في الحديث النبوي:

يعد ابن هبيرة أحد العلماء الأجلاء الذين شرحوا الأحاديث المتفق عليها بين الإمام البخاري ومسلم، والأحاديث التي انفرد كل منهما بها، وكتابه «الإفصاح عن المعاني الصحاح» هو شرح لكتاب «الجمع بين الصحيحين» للحميدي (المتوفى 488هـ) الذي يعد أوثق الكتب في هذا المجال.

ولابن هبيرة استنباطات دقيقة وعميقة من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في الإفصاح منها:

• في قول الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا دخل رمضان سلسلت الشياطين) قال ابن هبيرة: إن الشياطين للعاصي في غير رمضان كالعجاز يقول: سول لي، وغرني. فإذا سلسل الشيطان قل عذر العاصي.

• وفي حديث عائشة رضي الله عنها(كان أكثر صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان) قال ابن هبيرة:

ما أرى هذا إلا على وجه الرياضة لأن الإنسان إذا هجم بنفسه على أمر لم يتعوده صعب عليه، فدرج نفسه بالصوم في شعبان. لأجل رمضان.

• وفي قوله صلى الله عليه وسلم:(أعوذ بك من شر ما لم أعمل).

قال ابن هبيرة له معنيان:

أحدهما: أن الإنسان يبلغه أن الرجل قد عمل الشر فيرضى به أو يتمنى أن يعمل مثله، فهذا شر ما لم يعمل.

والثاني: أن الرجل قد لا يشرب الخمر، فيعجب بنفسه كيف لا يشرب، فيكون العجب بترك الذنب شر ما لم يعمل.

• وفي تحديد ليلة القدر قال ابن هبيرة بعض أن عرض وجهات النظر الأخرى الصحيح عندي: أن ليلة القدر تنتقل في أفراد العشر، فإنه حدثني من أثق به أنه رآها في ليلة سبع وعشرين، وحدثني أمير المؤمنين المقتضى لأمر الله: أنه رآها.فأما أنا فكنت في ليلة إحدى وعشرين وكانت ليلة جمعة، فواصلت انتظارها بذكر الله عز وجل، ولم أنم تلك الليلة، فلما كان وقت السحر- وأنا قائم على قدمي- رأيت في السماء باباً مفتوحاً مربعاً عن اليمين القبلة، قدرت أنه على حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبقى على حاله - وأنا أنظر إليه- نحو قراءة مائة آية، ولم يزل حتى التفت عن يساري إلى المشرق لأنظر هل طلع الفجر؟ فرأيت أول الفجر. فالتفت إلى ذلك الباب فرأيته قد ذهب. وكان ذلك مما صدق عندي ما رأيت فالظاهر من ذلك: تنقلها في ليالي الأفراد في العشر فإذا اتفقت ليالي الجمع في الأفراد فأجدر وأخلق بكونها فيها.

واجتهاده في تحديد ليلة القدر انفرد به، وهو صادر عن رصد للواقع واستقرار له، تطمئن نفوسنا إليه، ونقول به تأييداً له.

• وذكر أبو بكر التيمي بن المرستانية (المتوفى 599هـ)، في الكتاب الذي جمعه في مناقب الوزير وفضائله أنه سمع الوزير يقول: وقد قرئ عنده (أن رجلاً قال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أيكم قال ذلك؟ فقال الرجل أنا يا رسول الله، ولم أرد بذلك إلا الخير..فقال صلى الله عليه وسلم رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها) فطفقت والجماعة عندي أفكر في معنى تخصيص هذا العدد من الملائكة، فنظرت فإذا حروف هذه الكلمات بضع وثلاثون حرفاً إذا فكك المشدد، ورأيت أنه من عظم ما قد ازدحمت الملائكة عليها، بلغوا إلى فك المشدد فلم يحصل لكل ملك سوى حرف واحد، فصعد به يتقرب بحمله.

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.