التأديب بالهجر (1)

ما يحصل به التأديب في الولاية الخاصة

التأديب بالهجر (1)

معنى الهجر:

أولًا: الهجر في اللغة:

"ضد الوصل... وهجر الشيء وأهجره: تركهُ... وهجر الرجلُ هجْرًا إذا تباعد ونأى.

(والهَجْرُ) من الهجران: وهو ترك ما يلزمك تعاهده..."[1].

"وهجره هَجْرًا بالفتح وهِجرانًا بالكسر: حرمه... وهما يهتجران ويتهاجران: يتقاطعان"[2]، "والهاء والجيم والراء أصلان يدل أحدهما: على قطيعة وقطْع، والآخر: على شدِّ شيء وربطه"[3].

"والهُجْر: القبيح من الكلام... وأهجر به إهجارًا: استهزأ به، وقال فيه قولًا قبيحًا.... و(الهُجر): الهذيان.... وهو الإفحاش، وكذاك إذا أكثر الكلام فيما لا ينبغي"[4].

فالهجر في اللغة: لفظ يستجمع معاني التقاطع والتباعد، وعدم التعاهد، والامتناع عن التواصل بين الهاجر والمهجور، مع ظهور شدة في الترك.

ثانيًا: الهجر في الشرع:

لا يختلف معنى الهجر في الشرع عن معناه في اللغة.

قال النووي رحمه الله: "الهجر: الترك والإعراض"[5].ا.هـ.

وقال ابن حجر العسقلاني رحمه الله الهجر: "ترك الشخص مكالمة الآخر إذا تلاقيا، وهو في الأصل الترك فعلًا، أو قولًا"[6].ا.هـ.

وقال بدر الدين العيني[7] رحمه الله الهجر: "مفارقة كلام أخيه المؤمن مع تلاقيهما، وإعراض كل واحدٍ منهما عن صاحبه عند الاجتماع"[8]. ا.هـ.

وعليه، فالهجر في ولاية التأديب الخاصة هو: مقاطعة المؤدَّب وتركه، والامتناع عن الاتصال به، أو معاملته بأي نوع أو طريقة كانت خلال المدة الشرعية.

مشروعية التأديب بالهجر:

دل على مشروعية هذا النوع من التأديب، الكتاب، والسنة، وعمل الصحابة رضي الله عنهم، والمعنى الصحيح:

أولًا: دليل الكتاب على مشروعية التأديب بالهجر: قوله تعالى: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ﴾[9].

وجه الاستدلال من الآية:

أن الله عز وجل ذكر الهجر ضمن العقوبات التأديبية التي تعاقب بها الزوجة الناشز، حيث أباح عز وجل للزوج أن يعاقب زوجته بالهجر إذا لم يفد معها الوعظ، متى أقدمت على مخالفته وعدم طاعته.

وإذا كان الأمر كذلك، كان في الآية دلالة على مشروعية التأديب بالهجر المفيد للاستصلاح والتهذيب.

ثانيًا: دليل السنة على مشروعية التأديب بالهجر:

1- ما ورد في قصة الثلاثة الذين تخلَّفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، حيث هجرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون.

يقول كعب بن مالك رضي الله عنه وهو راوي القصة: "... ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلامنا أيُّها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكَّرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلَدهم، فكنت أخرجُ فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد..."[10].

وجه الاستدلال من هذه القصة على مشروعية التأديب بالهجر:

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم هجروا هؤلاء النفر الثلاثة، وقاطعوهم مدة خمسين ليلة حتى نزلت توبتهم من السماء؛ لأجل أنهم خافوا منهم النفاق[11].

فدل ذلك على جواز هذا النوع من التأديب.

قال ابن عبدالبر[12] رحمه الله: "وفي حديث كعب هذا، دليل على أنه جائز أن يهجر المرء أخاه، إذا بدت منه بدعة أو فاحشة، يرجو أن يكون هجرانه تأديبًا له، وزجرًا عنها"[13].ا.هـ.

والعلة نفسها تتحقق في محل ولاية التأديب الخاصة، فيجوز للأب والزوج والمعلم والسيد، أن يهجروا من يؤدبونهم زجرًا لهم وإصلاحًا كالتعزير في الولاية العامة.

2- عن أنس رضي الله عنه قال: "آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه شهرًا، وقعد في مَشْرَبةٍ[14] له، فنـزل لتسع وعشرين، فقيل: يا رسول الله، إنك آليت شهرًا، قال: إن الشهر تسع وعشرون"[15].

وجه الاستدلال من هذه القصة على جواز الهجر:

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف ألا يدخل على أهله شهرًا، وأعرض عنهم في تلك المدة عقوبة لهم فدل ذلك على مشروعية التأديب بالهجر[16].

3- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال"[17].

وجه الاستدلال من الحديث على مشروعية التأديب بالهجر:

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا حرم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث ليالٍ بالنص، دلَّ ذلك بالمفهوم على إباحتها في الثلاث، "وإنما عفي عنه في ذلك؛ لأن الآدمي مجبول على الغضب، فسومح بذلك القدر ليرجع ويزول ذلك العارض"[18].

4- عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اطلع على أحدٍ من أهل بيته كذب كذبةً، لم يزل مُعْرضًا عنه حتى يحدث لله توبة"[19].

وجه الاستدلال من الحديث:

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤدب أهل بيته من الأزواج والأولاد بالهجر إذا تبين له كذب أحدهم حتى يتوب، فدل ذلك على مشروعية تأديب الزوجة والولد - عند قيام السبب - وفي معناهما تأديب المعلم لتلميذه، والسيد لعبده.

ثالثًا: دليل التأديب بالهجر من عمل الصحابة رضي الله عنهم:

ويدل على ذلك ما وقع لكثير منهم رضي الله عنهم مع بعض العصاة والفسَّاق والمبتدعة؛ ومن ذلك:

1- أن صبيغ[20] العراقي كان يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين، حتى قدم مصر، فبعث به عمرو[21] بن العاص رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما أتاها الرسول بالكتاب، فقرأه، فقال: أين الرجل؟ فقال: في الرحل. قال عمر: أبصر أن يكون ذهب، فتصيبك مني به العقوبة الموجعة، فأتاه به، فقال عمر: تسأل محدثة!! فأرسل عمر إلى رطائب من جريد، فضربه بها حتى ترك ظهره دَبَرة[22] ثم تركه حتى برأ ثم عاد له، ثم تركه، حتى برأ، فدعا به، ليعود له، فقال له: صبيغ: إن كنت تريد قتلي، فاقتلني قتلًا جميلًا، وإن كنت تريد أن تداويني، فقد والله برئتُ.

فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري:

أن لا يجالسه أحدٌ من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل[23].

وجه الاستدلال من هذه القصة:

أن عمر رضي الله عنه أمر بهجر صبيغ زجرًا له، وخوفًا على الناس منه، فكان هجرهم له هجرًا وقائيًا تأديبيًا بغية استصلاحه وتهذيبه.

فكان في هذا الفعل دلالة على مشروعية التأديب بالهجر في الولاية العامة، وكذا الأمر نفسه يتحقق في الولاية الخاصة، فيجوز للولي الخاص أن يؤدب مَن تحت يده بوسيلة الهجر متى لم تتحقق الغاية المنشودة من وسيلتي الوعظ والتوبيخ.

2- ومن ذلك: "أنا أبا سعيد الخدري رضي الله عنه لقي رجلًا، فأخبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، فذكر الرجل خبرًا يخالفه، فقال أبو سعيد: والله لا آواني وإياك سقف بيت أبدًا"[24].

ففي هذا الفعل من أبي سعيد رضي الله عنه دليل على "مجانبة من ابتدع وهجرته، وقطع الكلام معه"[25].

3- وعن سعيد[26] بن جبير رحمه الله أن قريبًا لعبدالله[27] بن مغَفَّل خَذَفَ[28] قال فنهاه، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخَذْف، وقال: إنها لا تصيد صيدًا، ولا تنكأُ عدوًا، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين، قال: فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ثم تخذِف لا أكلمك أبدًا[29].

قال النووي رحمه الله: "فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة مع العلم، وأنه يجوز هجرانه دائمًا..."[30].ا.هـ.

رابعًا: المعنى الصحيح:

كما أن المعنى الصحيح دل على جواز التأديب بالهجر متى استعمل في وجهه الصحيح، وأن له أثرًا ظاهرًا في تهذيب المؤدَّب واستصلاحه[31].

ولا أدلَّ على ثبوت ذلك من تصوير القرآن لحال الثلاثة الذين خلِّفوا: ﴿ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ﴾[32]، أي: "بما اتسعت، يقال: منـزل رَحْب ورحيب ورُحاب... أي: ضاقت عليهم الأرض برَحْبها؛ لأنهم كانوا مهجورين لا يعاملون، ولا يكلمون، وضاقت صدورهم بالهَمِّ والوحشة، و بما لقوه من الصحابة من الجفوة"[33]. والله أعلم.

شروط الهجر:

اشترط الفقهاء لجواز التأديب بالهجر عدة شروط، ومن أهمها:

1- أنه لا يصار إلى مرحلة التأديب بالهجر إلا بعد العلم بعدم جدوى نفع المرحلتين السابقتين - أعني الوعظ والتوبيخ - طردًا للأصل المتقدم في التدرج في استعمال سبل التأديب[34].

2- لا يستعمل المؤدِّب التأديب بالهجر إلا في حالة علمه بصلاحه لزجر وردع المؤدَّب عما أقدم عليه من العصيان وأقوى في نفسية الفاعل[35].

3- أن يكون قصد التأديب بالهجر علاج المؤدَّب وإصلاحه، فإن خرج عن هذا المقصد إلى التشهير أو إذلال المؤدَّب أو إهانة كرامته، ونحو ذلك، فإنه يمنع لمضادة ذلك للمقصود من تشريع التأديب بالهجر[36].

4- أن يكون إيقاع الهجر في المدة المحددة من الشارع - ثلاثة أيام -، فيما إذا تعلق الأمر بسبب حظ النفس.

وأما إذا كان الهجر لحق الله تعالى، فهو غير موقت بوقت، وإنما هو معلَّق على وجود سببه، فمتى زال السبب زال الهجر[37].

كما سيأتي بسطه في المقالة القادمة - بإذن الله.