• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات   بحوث ودراسات   إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم   الدر الثمين   سلسلة 10 أحكام مختصرة   فوائد شرح الأربعين   كتب   صوتيات   مواد مترجمة  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    10 مسائل مهمة ومختصرة في: شهر الله المحرم
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    10 مسائل مهمة ومختصرة في الأضحية (PDF)
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    10 مسائل مهمة ومختصرة في 10 ذي الحجة (PDF)
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    الدعاء لمن أتى بصدقة
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    حديث: صدقة لم يأكل منها
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    حديث: هو لها صدقة، ولنا هدية
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    باب: (ترك استعمال آل النبي على الصدقة)
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    حديث: «كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل ...
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    شرح حديث: سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان ...
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    التعريف بالخوارج وصفاتهم
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    حديث: ألا تأمنوني؟ وأنا أمين من في السماء
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي ...
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي ...
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    باب: (إعطاء من سأل بفحش وغلظة) (2)
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    باب: (إعطاء من سأل بفحش وغلظة) (1)
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري / تفسير القرآن العظيم
علامة باركود

تفسير سورة البقرة ( آية الدين 282 )

تفسير سورة البقرة ( آية الدين 282 )
الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 16/7/2014 ميلادي - 18/9/1435 هجري

الزيارات: 523166

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير سورة البقرة

( آية الدين 282 )


قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [282].


معنى تداينتم: داين بعضكم بعضاً، والمراد بالدين هو المال الذي يكون في الذمة من قرض أو سلم أو ثمن مبيع مؤجل، سواء من عروض المال أو العقارات والمجوهرات وغير ذلك. وهذا إرشاد عظيم كريم من الله لعباده بحفظ أموالهم وضبطها بالكتابة أو الاستيثاق بالرهن، وهو من معجزات القرآن ومعجزات من أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم حيث ظهرت فائدة هذا الإرشاد بهذه الآية في أحدث عصر يزعم أهله التقدم والوعي العقلي والتفوق في الفنون الاقتصادية، ومع ذلك لم يأتوا بجديد، ولم يستطيعوا أن يشرعوا لكتابة العقود المالية أكثر مما جاء به القرآن في هذه الآية، بل بعضهم سلك تعقيداً باعتبار الكتابة في التجارة الحاضرة التي هي كالمعاطاة بين المتبايعين، حتى اضطره الواقع إلى إلغائها، فأخذ يتبجح بأنه اهتدى إلى فتح جديد في عالم الاقتصاد، ولم يعلم أن القرآن سبقه إلى ذلك بأربعة عشر قرناً حيث قال: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ﴾.


وقد جاء الله بآية حفظ الدين بعد الأمر بالصدقات والنهي الشديد عن الربا لعدة أمور:

أحدها: أن الكلام في الأموال بدأه الله بالترغيب في الصدقات والإنفاق في سبيل الله، وذلك محض الرحمة للفقير، ومنتهى الجود في البذل للعقيدة، ثم ثنى الله ذلك بالنهي الشديد عن الربا الذي هو محض القساوة بظلم المحتاج، ثم ثلث بذكر ضبط الدين والتجارة بالكتابة أو الرهن، وهذا محض العدالة في ميدان الاقتصاد، فقد أمر الله عباده ببذل المال حيث ينبغي بذله في سبيله الصحيح، وأمر بإطراحه حيث ينبغي طرحه، وذلك إذا كان من طريق الربا، وأمر بتأخيره حيث ينبغي التأخير بإمهال المعسر وعدم إرهاقه إلى إيساره، ثم أمر بحفظه حيث ينبغي الحفظ، وذلك بكتابة الدين والإشهاد عليه وعلى غيره من جميع العقود والمعاوضات والاستيثاق بالرهن إذا لم يحصل الإشهاد والكتابة لأن من يضيع ماله بالإهمال يكون مذموماً عند الناس وغير مأجور عند الله، كما قال الحسن رضي الله عنه في المغبون بالبيع.


ثانيها: أن الله لما أنزل سلطة صاحب الربا بتحريمه وإبطال أرباحه ولم يبق له سوى رأس ماله، وقد أمره الله بإمهال المعسر، وقد يضيع حقه بالنسيان أو الإنكار، فكان من الضروري ضبطه بالكتابة والشهود، أرشد الله عباده إلى ذلك.


ثالثها: أن في آية الدين احترازاً أو استدراكاً مما ينشأ من الفهم الفاسد أن المال مذموم أو أنه ليس شيئاً وذلك للمبالغة بالأمر في إنفاقه وتحريم الربا الذي ينميه، فيتوهم متوهم أن جمع المال وحفظه مذموم على الإطلاق كما هو ظاهر نصوص بعض الكتب المحرفة عند بعض الطوائف، فكأن الله يقول: إنا لا نأمركم بإهمال المال والزهد فيه وإضاعته ولا نأمركم بترك استثماره واستغلاله وإنما نأمركم بمواصلة التكسب وطلب المال من طرقه المشروعة وأن تنشطوا في اكتسابه، وتقوموا بحفظه، ليتسنى لكم إنفاقه في الطرق المشروعة والمندوب إليها.


ويؤيد هذا المعنى قوله في الآية الخامسة من سورة النساء: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [النساء: 5].


يعني تقوم بها منافعكم ومصالحكم، وما ورد في الحديث النبوي: ((نعم المال الصالح للرجل الصالح))[1].


رواه الإمام أحمد والطبراني في معجميه الأوسط والكبير عن عمرو بن العاص رضي الله عنه بسند قوي.


فاكتساب المال من الوجوه الحلال شعبة من شعب الإيمان، كما قدمنا ذلك، ولكن بشرط أن يجعل وسيلة، فأما الذي يعكس الأمر ويجعله غاية فهو مذموم الذي دعا عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم بالدعوات المتقبلات حيث قال: ((تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم...))[2]. إلى آخر الحديث المشهور والذي أسلفنا ذكره وشرحه.


فطلب المال مشروع وممدوح خلافاً لما يتوهمه بعض المتوهمين جهلاً منه أو محاولة للطعن في الإسلام، ولولا أن إزالة هذا الوهم مقصودة لما جاءت آية الدين مرادفة لآيات الربا ومشتملة على المبالغة والتأكيد في كتابة الدين والإشهاد عليه بأسلوب مسهب مخالف لأسلوب القرآن في الإيجاز.


وقوله تعالى: ﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾. فيه توكيد ثان لحفظ الدين وسائر الحقوق والعهود بطريق أولى، لأن مرور الزمن مدعاة للنسيان، وموت الشهود أو أحد الطرفين ذوي العلاقة بدون توثيق للحق مدعاة للإنكار وأكل أموال الناس بالباطل، فضبط الحق بالوثيقة المستقلة فيه احتراز من ذلك، كما فيه احتراز أيضاً من الوقوع في الخلافات المستغلة، وبضبط الديون وسائر الحقوق العقود يعلم كل من الطرفين المتعاقدين ما له وما عليه في الحاضر والمستقبل، كما يعلم ورثتهما ومن له علاقة بهما ذلك.


وفي قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ احتراز من تهمة الدائن في مباشرته الكتابة بينه وبين المدين وخشية من أن يلحن في الكتابة أو يكتب شرطاً أو أجلاً لم يوافق عليه أحدهما ولا يرضاه، فجعل الله بينهما واسطة للتوثيق، وهو كاتب أجنبي ليس له علاقة بما يكتب بينهما بالعدل، يعني عادل في كتابته يساوي بين الطرفين، لا يميل إلى أحدهما فيجعل له من الحق والنفوذ ما ليس له، ولا يميل عن الآخر فيبخسه من حقه شيئاً، ولكن يلتزم الإبانة التامة، فتخصيص الكاتب بالعدل يكتب بين المتعاقدين لهذه الأسباب ولسبب آخر هو أن الأمر بالكتابة وضبط الحقوق أمر عام لجميع المسلمين، وفيهم الجاهل بأساليب الكتابة، وفيهم الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، فكان من الضروري إقامة كاتب بالعدل، واشتراط العدل فيه يستلزم علمه بشروط المعاملات التي تحفظ الحقوق وهي صحيحة لا تكون مخلة بالعقد، لأن الكاتب الجاهل قد يترك بعض الشروط أو يزيد فيها أو يكتب أجلاً باطلاً في الشرع ونحو ذلك، بل قد يكتب ما يحصل فيه الالتباس، فيقع الخلاف والخصومة، فلا بد أن يكون عند الكاتب شيء من الفقه أو البصيرة، ولو بمجالسة العلماء أو أهل الخبرة في المعاملات، لأن الله سبحانه أقامه طرفاً ثالثاً مستقلاً بين المتعاقدين للاحتياط في ضبط الحق، فلابد أن يكون على الأقل أرفع مستوى من أحدهما، فإن كانا أعلم منه ولم يجدا غيره جاء دور الإملاء عليه، كما جاء في التأكيد الخامس.


وقد جاء في التأكيد الرابع قوله سبحانه: ﴿ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ﴾. وهذا التأكيد فيه ملحظان:

أحدهما: أن تعليم الله له ليس خاصاً بصنعه رسم الكتابة، بل يعم ما وفقه الله لمعرفته من فقه الأحكام، فالكاتب ينبغي عليه أن يكون عالماً بالإملاء الحرفي، وعنده إلمام بفقه المعاملات والمصطلحات العرفية.


وقد قدم الله صفة العدالة على صفة العلم، لأن من كان عدلاً سهل عليه أن يتعلم ما ينبغي لكتابة الوثائق، لأن العدالة تؤدي إلى ذلك وتهدي صاحبها إلى ما ينتفع به وينفع غيره بخلاف العلم بدون عدالة، فإن مجرد العلم لا يهدي إليها وأكثر الفساد يجري من العالم الفاقد العدالة، لا يجري من عدل جاهل أبداً، ولا يعجب القارئ أو السامع لربطنا العلم بالكتابة، فإن الذي يتصدر لكتابة عقود الناس ووثائقهم ويعتمد عليه الناس في ذلك هو بمنزلة فيصل بين الناس كحاكم حر متبرع بقلمه وفكره، فلا بد أن يكون له علم بمعنى ما يكتب وما يملى عليه حتى لا ينقلب خيره إلى شر.


ثانيهما: ذلك التذكير اللطيف من الله بنعمته عليه حيث قال سبحانه: ﴿ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ﴾ ففي هذا دليل على أنه يجب عليه القيام بشكر هذه النعمة بإجابة الدعوة إلى الكتابة دون رفض ولا تلكؤ، ولذلك لم يكتف الله بالنهي عن الإباء عن الكتابة، بل صرح بالأمر بها تصريحاً واضحاً بقوله: ﴿ فَلْيَكْتُبْ ﴾.


ويأتي من الله سبحانه التأكيد الخامس بقوله: ﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾ يعني يلقي عليه ويصرح له بما يريد أن يكتب عليه ليكون إقراره حجة عليه تثبته الكتابة حسب إملائه على الكاتب. والإملاء والإملال بمعنى واحد، والأصل فيه اللام.


ثم يأتي التأكيد السادس مربوطاً بالوجدان الديني، وهو قوله سبحانه: ﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾. يعني يجب عليه أن يلتزم تقوى الله وخشيته ومراقبته فيما يمليه، فلا ينقص منه شيئاً، ولا يملي ما فيه تلبس أو تدليس، فالله سبحانه يذكره بالتقوى حتى لا يبخس من الحق شيئاً، وإن قل ليلتزم تقوى الله الذي رباه بنعمته وسخر له قلب الدائن، فبذل له ماله الغالي عليه، فإن هذا في لطف الله وتعطيفه.


ففي هذا الأمر بالتقوى تذكير بجلال الذات الإلهية، وهو من قبيل الترهيب، كما أن فيه ترغيباً بجمال نعم الربوية على شكر الله شكراً عملياً بالاستقامة على ما يحبه الله ويرضاه من التزام الصدق وحسن المعاملة، كما أن فيه الأمر بشكر الدائن باذل المال، وذلك بالاعتراف بحقه كاملاً بإملاء جميع الواجب ليكتبه الكاتب، لأنه لا يشكر الله من لم يشكر الناس، كما ورد في الحديث، وبخس شيء من الحق مخالف للشكر، فإن تذكير الله لمن عليه الحق بتقواه، لأن الإنسان من طبيعته الطمع والشح، فربما يستخفه الطمع ويغلب عليه الشح فينقص شيئاً من الحق الذي عليه، ولكن إذا غلبت عليه تقوى الله اعتدلت طبيعته وحسن توازنه.


ثم يؤكد الله التأكيد السابع لضبط الحقوق بقوله: ﴿ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ﴾.


وقد أظهر الله الذي عليه الحق في موضع الإضمار لزيادة الكشف والبيان، كما قال أهل المعاني. والسفيه هو الذي لا يحسن التصرف لصغره أو ضعف رأيه وعقله، وقيل هو العاجز الأحمق، وعند الشافعي أنه المبذر لماله، المفسد لدينه.


وقد ذكر الله سبحانه في هذه الجملة من الآية ثلاثة أصناف لا يصلح إملاؤهم ولا تصح الكتابة عليهم إلا بواسطة أوليائهم، وأولهم السفيه الذي لا يحسن التصرف بالمال لضعف عقله أو تبذيره، والثاني الضعيف لصغره أو هرمه، والثالث الجاهل الذي لا يستطيع الإملاء، ويلحق به الأخرس والألكن، فهؤلاء الأصناف لابد لهم ممن يتولى أمورهم إما بتعيين حاكم أو رجال محتسبين.


وقد اكتفى الله في أمر الولي بوصفه بالعدالة فقط ولم يأمره وينهاه بمثل ما أمر من عليه الحق أو نهاه في التأكيد السادس، لأن من يبيع دينه بدنيا غيره قليل بالنسبة إلى من يبيع دينه بدنيا نفسه، والله أعلم.


أما التأكيد الثامن فهو قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ يعني استحصلوا على شهادة رجلين من رجالكم المسلمين، سواء ممن حضر العقد أو سمع الإقرار، فقوله سبحانه: ﴿ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ حصر للمسلمين في قبول الشهادة دون غيرهم من الكفار على اختلاف مللهم. ويدل سياق الآية على أن وصف الكمال معتبر في الشهود لقوله تعالى: ﴿ ذَوَيْ عَدْلٍ ﴾ [الطلاق: 2] كما هو معتبر في الكاتب والولي.


وقد فصل العلماء معنى العدالة بما هو معروف لائق جامع للدين والفضيلة والعفة والمروءة والنزاهة من كل ما يعاب أو يشان.


وقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾. يعني فإن لم يحصل رجلين استشهد رجل وامرأتان ممن يرضى دينهم وأمانتهم ويطمئن إلى عدالتهم، وإنما وصف الله الرجل بعدل امرأتين لضعف أدمغة النساء عن الرجال كما قرره الطب وعلم النفس في العصر الحديث، ولضعف شهادة النساء أيضاً وقلة ثقة الناس بها، ولذلك وكل الله الأمر فيه إلى رضا المستشهدين، حيث قال سبحانه وتعالى: ﴿ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾.


ثم أبان علة دقيقة لجعل المرأتين بمنزلة رجل واحد بقوله سبحانه: ﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ أي حذراً من أن تخطئ في أداء الشهادة أو تنسى لعدم ضبطها وقلة عنايتها وانشفاف قلبها بما خلقت له وانشغالها بتدبير المنزل وتربية الأولاد الذين يذهلونها.


فلهذه الأسباب كانت كل واحدة منهما عرضة للخطأ والنسيان، فاحتيج إلى إشهاد الثنتين في مقابلة الرجل، حتى إذا ضلت إحداهما الشهادة ذكرتها الأخرى. ولهذا أعاد الله لفظ ﴿ إِحْدَاهُمَا ﴾ مظهراً واختلفوا في قوله: ﴿ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ﴾ هل الضلال بمعنى النسيان أو الإضاعة، فالأكثرون حملوه على النسيان، وبعضهم حمله على الإضاعة وتفسير الضلال بالنسيان مشهور عن سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما من أئمة التفسير، وقرره ابن الأثير لغة، وقد قال الحسين المغربي: معناه أن تضل إحدى الشهادتين عن إحدى المرأتين، فتذكرها بها المرأة الأخرى. وتبعه (الطبري) على شذوذه استناداً على معنى الضلال، وما دام متقرراً في اللغة أنه النسيان وسياق الآية يقتضي أنه هو المقصود فلا عبرة بكلامهما.


وذكر الألوسي جواباً شعرياً على سؤال في وجه العدول عن قوله تعالى (فتذكرها) إلى قوله: ﴿ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾، وعن ما قاله ابن المغربي والطبري جوابه تفنيد قولهما وبيان سر تكرار (إحداهما) أنه لو اقتصر على ضمير واحد لها لاقتضى تعيين واحدة بالحكم، وهناك السؤال والجواب فنبثه لحلاوته ونفاسته، وهو من الخفاجي إلى الغزنوي:

ما سر تكرار إحدى دون تذكرها
في آية لذوي الإشهاد في البقرة
وظاهر الحال إيجاز الضمير على
تكرار إحداهما لو أنه ذكره
وحمل الإحدى على نفس الشهادة في
أولاهما ليس مرضياً لدى المهرة

 

فأجاب الغزنوي رحمه الله:

يا من تفرد في كشف العلوم
لقد وافى سؤالك والأسرار مستتره
تضل إحداهما فالقول محتمل
كليهما فهي للإظهار مفتقره
ولو أتي بضمير كان مقتضياً
تعيين إحداهما للحكم معتبره
ومن رددتم عليه الحل فهو كما
أشرتموا ليس مرضياً لمن سبره

 

هذا وينبغي للقاضي أن يسأل إحدى النساء عن الشهادة بحضور الأخرى، وأن يعتد بجزء الشهادة من إحداهما وبباقيها من الأخرى، فإن هذا هو الواجب وإن كان القضاة لا يعملونه لغفلتهم عن فحوى الآية وعلى ضرورة الواقع، وأما الرجال فلا يجوز للقاضي أن يعاملهم كذلك، بل يجب عليه أن يفرقهم، يعني يفرق بينهم، فإذا اختلفت شهادتهم لم يعتد بها، بل يعاملهم معاملة المزورين للشهادة، فيعزرهم التعزير الرادع القامع، ويدور بهم في الأسواق وينادي عليهم أنهم شهود زور، ليخزيهم بين الأمة حتى لا ينطلي أمرهم على أحد من القضاة والعامة، وليس له الحق أن يسمح لأحدهم بتذكير الآخر كالنساء.


هذا، وإن البينة في الشرع أعم من الشهادة كما حققه الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، فكل ما يتبين به الحق كالقرائن القطعية، ويمكن أن يدل تدخل شهادة غير المسلم في البينة بهذا المعنى الذي استدلا عليه.


التاسع: من التأكيدات الإلهية في هذه الآية الكريمة قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ﴾. وهذا أمر من الله سبحانه بتحمل الشهادة وأدائها اقتضاه ذلك النهي عن الامتناع عن تحملها وأدائها، لأن في الامتناع عن ذلك إضاعة للحقوق وعدم مبالاة بمهمات المسلمين، فهو من أعمال الجاهلية التي لا يرتضيها الإسلام، ولكن هل الوجوب فرض عين على كل أحد أو هو فرض كفاية. فالظاهر أنه من فروض الكفاية ويتعين إذا لم يوجد غيره يقوم به، فيكون تحمل الشهادة فرضاً معيناً عليه وكذلك أداؤها، لكن للعلماء كلاماً في كلفة أداء الشهادة إذا احتاجت إلى الأجرة، إما لبعد المكان الذي يجب أداؤها فيه، وإما لطول مكث الانتظار الذي يتضرر به الشاهد في تعطيل مصالحه أو توقيف عمله أو معيشة عياله، فأجازوا له أخذ مكافأة على أداء ما تحمله من الشهادة في هذه الأحوال كما فصله المحققون، ومنهم ابن تيميه في رسالته (السياسة الشرعية) وغيرها، وكأنهم نور الله قبورهم كما نور بصائرهم شاهدوا تضخم العواصم، وبعد المواصلات في هذا الزمان، ومواعيد المحاكم الجائرة التي تطلب حضور الشخص من أول المداومة، وقد لا يأتي دور خصمه إلا بعد الظهر، فانتظار الشاهد هذه المدة الطويلة وإهانته على أي حساب؟ فلولا أن الله حتم تحمل الشهادة وأدائها لضاعت الحقوق بهذه الحال، وليعلم أن فريضة الشهادة من الله على المسلمين تقتضي عدم منتهم على المشهود له أو المشهود عليه.


العاشر: من التأكيدات الإلهية في هذه الآية فيه زيادة تأكيد لضرورة الكتابة بكل حال، سواء قل الدين أو كثر، صغر العقد أو كبر، ففيه معالجة ما يخطر للنفس من تكلف الكتابة واستثقالها بحجة قلة الدين.


وفي هذا تربية من الله لعباده، لأن من لا يضبط القليل لا يضبط الكثير، ومن لا يولي القليل اهتمامه قد يؤدي به التهاون إلى عدم الاهتمام بالكثير، ولهذا يقول الله سبحانه في هذا التأكيد: ﴿ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾ فقد علل تشديده في أمر الكتابة تعليلاً وجدانياً وتعليلاً عملياً، ومعنى ﴿ وَلَا تَسْأَمُوا ﴾ لا تملوا ولا تكسلوا ولا تضجروا، فإن السآمة تحتوي على هذه المعاني.


وفي هذا النهي معالجة لانفعالات النفس الإنسانية حين ترى أن تكليف الكتابة أعظم من قيمة المكتوب، فالله العليم الحكيم يوحي إليها إيحاء وجدانياً بأن الله يحب ضبطه بالكتابة ويفضله وإن كان قليلاً، فلهذا قال سبحانه: ﴿ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾. ثم يبين أنه أقوم للشهادة، يعني أقوم وأعون على إقامتها على وجهها، لأن الشهادة المكتوبة أقوم من الشهادة الشفوية لحصول النسيان أو بعضه.


وفي هذا دليل على أن للشاهد أن يطلب الكتابة ليتذكر ما شهد به، فعدم التساهل بالكتابة أقسط عند الله، يعني أعدل في حكمه وأحرى ثم أضبط للشهادة، ثم هو أبعد عن الريبة في صحة محتويات العقد، ولذا قال تعالى: ﴿ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾ يعني وأقرب إلى انتفاء ارتياب بعضكم من بعض، فإن سلوك الاحتياط بالكتابة للحقوق على وجه عادل مع إشهاد من ترضونه من الشهداء والتزام تقوى الله بالعدل في المعاملة وكتابتها هو أحرى بإقامة العدل ويمنع كل ريبة، كما يمنع ما يترتب على الريبة من الطمع والجنوح إلى الخصومة، وغير ذلك من أنواع المماطلة.


فما أعظم إرشادات الله لعباده في هذه الآية الكريمة، تلك الإرشادات التي لو جاء بها بعض فلاسفة (أوروبا) لأقام قومه الدنيا وأقعدوها ولكن الكبر الذي في صدورهم أعماهم عن إرشادات القرآن العظيمة.


الحادي عشر: من أحكام هذه الآية الكريمة وتوكيداتها هو استثناء التجارة الحاضرة من قيد الكتابة والاكتفاء فيها بشهادة الشهود أو الثقة المتبادلة بين الناس، وذلك تيسيراً للمعاملات التجارية التي يعرقلها التعقيد والتي من ضروراتها أن تتم بسرعة وتتكرر في أوقات قصيرة، فلذا قال سبحانه: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ ﴾. يعني تدار بين المتعاملين بالمعاطاة بأن يأخذ البائع الثمن ويقبض المشتري المبيع أو يجري استلام السلعة ودفع الثمن بالحساب حسب ثقة الأسواق وكسب العملاء، فإن مثل هذا لا تلزم فيه كتابة العقد لمواصلة دفع الثمن بالجملة أو التقسيط، فإن دين الله الإسلام هو دين الحضارة والحياة يراعي في تشريعاته جميع ملابسات الحياة ليريحها من كل تعقيد يعوق سيرها، فليست تشريعاته كالتحكمات القانونية التي لا تراعي المصلحة المستقبلة ولا تحمل هدفاً للمستقبل. وشتان بين وضع البشر ووضع خالق البشر جل وعلا.


وقد أشرت إلى غلط التقنين البشري وتعقيده في أول الكلام على الآية، وأن أكبر دولة من دول الحضارة والمدنية والقانون عقدت التجارة حتى اضطرت إلى الرجوع لمثل هذا الحكم الحادي عشر من هذه الآية الكريمة، وهي دولة (فرنسا) فالله سبحانه رفع الحرج في التجارة الحاضرة المدارة بين المتعاقدين والمتكررة تكراراً هائلاً، لأنه لا يترتب على ترك كتابة الوثيقة شيء من الارتياب الداعي إلى التخاصم، ولكن نفي الجناح في ذلك لا يمنع الاحتياط بكتابة المبيع وسعره والتوقيع على قبضه خوفاً من النسيان والغلط الموجب للشقاق والخصومة، وها نحن نراهم يفعلونه لأن المادة غلبت على الروح في هذا الزمان.


والحكم الثاني عشر: التوكيدي في هذه الآية قوله تعالى: ﴿ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾. والمقصود به في ظاهر الآية البيع الحاضر لا بيع الدين، لأن بيع الدين هو المقصود بلزوم الكتابة من أول الآية، فكان الإشهاد هذا على بيع الحاضر، وقد جرت السنة بعدم لزومه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى فرساً من أعرابي ولم يشهد عليه، وقصته مشهورة، فكان هذا الأمر للندب أو الإرشاد لا للوجوب، مع أن الأكثرين يقولون بذلك في جميع الآية، ولكن المستمر على الترك يعتبر عاصياً لتفريطه، ولورود النص بالنهي عن إضاعة المال.


والحكم الثالث عشر: التوكيدي يتضمن حماية الكاتب والشهود ورعايتهما بعدما قرر واجبهما، ليجري التوازن بين ما يجب عليهما وما يجب لهما من الحياطة والإكرام، إذ يقول سبحانه: ﴿ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ﴾ يعني لا يرهقان ولا يلزمان بترك أعمالهما الخاصة من أجل كتابة الدين أو تحمل الشهادة أو أدائها في زمان أو مكان يصعب عليهما ذلك. وفي هذا دليل على إباحة طلبهما العوض على ما يتحملانه من ذلك، وأن لا يجبرا بدون عوض يرضيهما ليس فيه عناد ولا إجحاف.


ومقتضى مذهب الشافعية جواز استعمال اللفظ المشترك في معنييه وفي حقيقته ومجازه.


فعلى هذا كلمة ﴿ يُضَارَّ ﴾ تستعمل لبناء الفاعل والمفعول، فتكون عامة تقتضي نهي الكتّاب والشهود أن يسلكوا مسلك الإضرار بالمتعاملين كما تقتضي بطريق الأولى نهي المتعاملين عن الإضرار بالكتاب والشهود بأي نوع من أنواع الإضرار، كما يعم هذا النهي كل سلطة تنفيذية في دولة الإسلام أن لا تنزل بهما أي ضرر أو إرهاق، وأن تراعي مصلحتهما الخاصة على كل شيء وأن لا تهدر كرامتهما بأي وجه من الوجوه، فلا تدخلهما في القفص المعدود في المحاكم العرفية لاستجواب المجرمين، لأن بكتابة الكاتب وشهادة الشهود يتضح الحق من الباطل، فكان إكرامهما من الواجبات وإهانتهما من المحرمات.


ولذا قال سبحانه وتعالى في (الحكم الرابع عشر) من أحكام هذه الآية الكريمة: ﴿ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ يعني خروج عن طاعة الله إلى معصيته، وفي قول الله سبحانه ﴿ وَإِنْ ﴾ إشارة إلى أن مثل هذا الفعل الذي يتحقق به الفسق لا يكاد يقع من المخاطبين في هذه الآية، وهم الذين آمنوا، لأن الإيمان يمنع من موجبات الفسق، وكذلك الله سبحانه بكلمة ﴿ يُضَارَّ ﴾ الدالة على المشاركة فيها الإشارة إلى أن ضر الإنسان لغيره ضر لنفسه.


(والتوكيد الخامس عشر) في هذه الآية هو قوله سبحانه: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾. يختم الله هذه التوصيات الاقتصادية والاجتماعية بالوصية الكبرى التي توقظ ضمائر المؤمنين وتستجيش شعورهم، ليتقبلوا ما ورد عن الله برحابة صدر وانشراح خاطر، ويقوموا يتنفيذه باطمئنان وتشرف ألا وهي تقوى الله التي تجعل من ضمير المسلم المؤمن رقيباً باطنياً يراقبه في كل عمل ويخوفه من عقوبات الله العاجلة والآجلة كما أوضحنا ذلك في أول هذه السورة المباركة.


فقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ يعني راقبوا عظمته وإحاطته في تنفيذ جميع ما أمركم به ونهاكم عنه، وقوله سبحانه: ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ يعني يعلمكم ما فيه قيام جميع مصالحكم في حياتكم ما المصلحة في فعله وما المصلحة في تركه من حفظ أموالكم وتقوية روابطكم وصيانة مجتمعكم من التصدع والشقاق، فهو المحيط علمه بذلك، ولسعة إحاطته شرع لكم ما يجلب المصالح ويدفع المفاسد ويبعدها، فالله بكل شيء عليم.


قال البيضاوي في سبب تكرير لفظ الجلالة ثلاث مرات:

أنه لاستقلالها فإن الأولى حث على التقوى، والثانية وعد بإنعامه، والثالثة تعظيم لشأنه، ولأنه أدخل في التعظيم من الكتابة، وقال غيره ما معناه: إن في هذا التكرار كمال التذكير وقوة التأثير.


واعلم أنه لا يلتفت إلى قول الصوفية وأشياعهم رحمهم الله من أن التقوى تكون سبباً للعلم، بل إن التقوى جالبة للعمل وحسن المراقبة لله وقوة الاستجابة لنداءاته في القرآن. أما العلم فلا يحصل إلا بالتعلم وبذل الجهد في الحفظ والبحث، ولكن مع حسن النية يسهل الله طريقه ويبارك في معلومات صاحبه. أما زعم الصوفية على العلم الإلهي بترويض النفس على العبادة السنية والمبتدعة وقراءة الأوراد والأحزاب، فهذا فيه فتح باب للدجل والشعوذة، والقول على الله بغير علم، وهو أشر من الشرك، ويستدلون على زعمهم بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29] والفرقان هنا ليس ما يريدونه وإنما النجاة والمخرج والتبصر كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2] وكما سمي يوم بدر يوم الفرقان ويتضمن نور البصيرة أيضاً.


وعلى كل حال لا يصح تفسير الآية بما زعمه الصوفية ومقلدوهم لا من جهة اللغة ولا من جهة المعنى.


أما اللغة فإن عطف ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ ﴾ على قوله: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ ينافي أن يكون جزاء له ومرتباً عليه، لأن العطف يقتضي المغايرة، ولو أراد الله هذا لجعل العطف بالفاء أو وصل الفعل بلام التعليل ولقال: (واتقوا الله ليعلمكم الله).


وأما المعنى فلا يصح قولهم بتاتاً، لأن قولهم عبارة عن جعل المسبب سبباً، والفرع أصلاً، والنتيجة مقدمة، وهذا قلب للأصول والمقدمات، فإن المعقول المعروف بالحس والوجدان أن العلم الصحيح الخالص لوجه الله هو الذي يثمر التقوى، فلا تقوى بلا علم ديني، فالعلم هو الأصل الأول وعليه المعول، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]. وكما قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ [محمد: 19].


فتأثير العلم في الإرادة بتوجيهها إلى العمل الصالح وصرفها عن القبيح ناشئ من خشية الله التي هي التقوى، فأما إذا انحرف العالم لغلبة المادة على نفسه وضعف الروحانية فيه كان مذموماً هو وعلمه. ولذا شبه الله العالم الذي لم ينتفع بوحي الله بالحمار الذي يحمل الكتب. وشبه المتصرف عن وحي الله ودينه طمعاً في المادة ورغبة في أرض الوطن بالكلب ﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ [الأعراف: 176].


فالعلم الذي هو أصل التقوى لا يكون إلا بالتعلم والتلقي، كما ورد في الحديث: ((العلم بالتعلم))[3]. جزم به البخاري تعليقاً. وروي عن غير واحد من الصحابة، ورواه الدارقطني والخطيب في التاريخ من حديث أبي هريرة، والعسكري من حديث أنس، والطبراني في المعجم الكبير من حديث معاوية والبيهقي في المدخل ابن مسعود، والدارقطني من حديث أبي الدرداء، وحسنه الحافظ ابن حجر من حديث معاوية معضداً له بغيره.


هذا وإن ثمرة العلم العمل، فكلما ازداد عمل العالم بعلمه ازداد رشده وفهمه حتى يرسخ العلم في قلبه رسوخاً تتبين به الدقائق والخفايا، كما ورد في الحديث الذي رواه أبو الشيخ عن ابن عباس مرفوعاً: ((من تعلم فعمل علمه الله ما لم يعلم))[4]. والحديث الذي رواه أبو نعيم في الحلية عن أنس: ((من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم))[5]. فالعمل بالعلم من أسباب المزيد فيه وخروجه من ضيق الإبهام والإجمال إلى فضاء الجلاء والتفصيل.


وبحصول العمل عن إخلاص يزداد العلم وتتنور البصيرة لحصول التقوى في الإخلاص بالعمل، فإن تقوى الله في جميع الأمور تعطي صاحبها نوراً يعرف به بين دقائق الشبهات التي لا يعلمهن كثير من الناس فيستفيد علماً خاصاً لم يكن ليهتدي إليه لولا التقوى الصحيحة، وهذا هو الفرقان الذي يفرق به صاحبه بين الحق والباطل، فإن الفرقان في اللغة هو الصبح الذي يفرق به بين الليل والنهار، وبهذا تعلم أن أدعياء التصوف الجهلة ليس لهم حظ من ذلك العلم الأول الذي يزدرونه ويرفضونه، وليس لهم حظ من هذه التقوى التي هي أثره وثمرته، ولا من هذا العلم الأخير الذي هو أثر العلم والتقوى جميعاً فبينهم وبين العلم اللدني مرحلتان بعيدتان.


إحداهما: العلم الذي يؤخذ بالتلقي.


ثانيهما: تحقيق العمل به المثمر للتقوى، وليس عندهم سوى شطحات ومخرفات شيطانية، فإن العلم اللدني لا يحصل بالجهل ولا بالعبادة مع الجهل فكم من جاهل لاحت له أنوار العبادة فظنها أنوار الله، فاستغلت الشياطين جهله لتغويه وتغوي به، ولله در ابن القيم إذ يقول:

احذر تزل فتحت رجلك هوة
كم قد هوى فيها مدى الأزمانِ
من عابد بالجهل زلت رجله
فهوى إلى قعر الحضيض الداني
لاحت له آثار أنوار العبا
دة ظنها الأنوار للرحمنِ
فأتى بكل مصيبة وبلية
ما شئت من شطح ومن هذيانِ


[1] تقدم قريباً.

[2] تقدم قريباً.

[3] أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به كتاب: العلم، باب العلم قبل القول، والعمل، وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه: [5/284]، [26123]، والبزار بمسنده: [2055]. وانظر مجمع الزوائد للهيثمي: [1/129].

[4] انظر فيض القدير: [4/388]، جامع العلوم والحكم: [342]، وكشف الخفا: [2/ 387].

[5] انظر ما سبق.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير سورة البقرة .. الآيات (275 - 276)
  • تفسير سورة البقرة .. الآية (277)
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات (278 - 281)
  • {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى}

مختارات من الشبكة

  • تفسير سور المفصل 212 - سورة الأعلى ج 1 - مقدمة لتفسير السورة(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصَّل ( 10 ) تفسير الآيتين من سورة الفاتحة ﴿ مالك يوم الدين - إياك نعبد وإياك نستعين ﴾(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • مخطوطة تفسير بعض من سورة البقرة ثم تفسير سورة يس(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (135 - 152) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (102 - 134) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (65 - 101) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (1 - 40) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (40 - 64) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين تفسير سورة يونس (الحلقة السادسة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سور المفصل (34) تفسير سورة قريش (لإيلاف قريش)(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب