• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات   بحوث ودراسات   إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم   الدر الثمين   سلسلة 10 أحكام مختصرة   فوائد شرح الأربعين   كتب   صوتيات   مواد مترجمة  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    10 مسائل مهمة ومختصرة في: شهر الله المحرم
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    10 مسائل مهمة ومختصرة في الأضحية (PDF)
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    10 مسائل مهمة ومختصرة في 10 ذي الحجة (PDF)
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    الدعاء لمن أتى بصدقة
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    حديث: صدقة لم يأكل منها
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    حديث: هو لها صدقة، ولنا هدية
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    باب: (ترك استعمال آل النبي على الصدقة)
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    حديث: «كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل ...
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    شرح حديث: سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان ...
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    التعريف بالخوارج وصفاتهم
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    حديث: ألا تأمنوني؟ وأنا أمين من في السماء
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي ...
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي ...
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    باب: (إعطاء من سأل بفحش وغلظة) (2)
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
  •  
    باب: (إعطاء من سأل بفحش وغلظة) (1)
    الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري / تفسير القرآن العظيم
علامة باركود

تفسير سورة البقرة .. الآيات (180 : 182)

تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 180 : 182 )
الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 13/3/2013 ميلادي - 1/5/1434 هجري

الزيارات: 89782

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير سورة البقرة

الآيات [ 180 : 182 ]

 

قال تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 180 - 182].


لما ذكراللَّه وجوب القصاص في الآيتين السابقتين وهو نوع من أنواع الموت، أعقبهما اللَّه سبحانه بهذه الآيات التي فيها ذكر الواجب المفروض على من حضره الموت، يعني ظهرت له أماراته لتكون خاتمته خيرًا، وهذا من التناسب والاتصال بين بعض آيات القرآن الكريم.


والوصية هي الاسم من الإيصاء والتوصية، وتطلق على الموصى به من عين أو عمل، أما الموصى له فهو صاحب الاستحقاق، وأما الوصي فهو المأمور بالتصرف بعد الموت، وأما المناب في الحياة فهو وكيل لا وصي، والخطاب في هذه الآيات لعموم المؤمنين كآية القصاص، فقد أعقبها بقوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ﴾ بكاف الخطاب والضمير الجماعي، يعني: فرض عليكم يا معشر المؤمنين المسلمين إذا حضر أحدكم أسباب الموت وعلاماته إِنْ تَرَكَ خَيْرًا وهو المال الكثير عرفًا، يعني: إن كان عنده مال كثير يتركه للورثة فإني فرضت عليكم الْوَصِيَّةُ فرضًا محتمًا ﴿ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أي بشيء من هذا الخير على الوجه المعروف الذي لا يستنكر قلته بالنسبة إلى هذه الثروة ولا كثرته الضارة بالورثة، وقد حدده النبي صلى الله عليه وسلم كتفسير لهذا المعروف بهذه الآية في قوله لسعد بن أبي وقاص في الحديث المشهور: ((الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر عيالك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس))[1] وقوله تعالى: ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ يعني هذا الذي كتب عليكم من الوصية حقًّا مفروضًا محتمًا وجوبه على المتقين لعذابي، الذين يأخذون لهم وقاية منه بطاعتي وتنفيذ أحكامي جميعها.


وقد أكد الله أمر هذه الوصية تأكيدًا أعظم من تأكيده لفريضة القصاص قبلها وفرضية الصيام بعدها، لأنه ختم آيات القصاص وآية وجوب الصيام بقوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ بصيغة الترجي الذي لا يكون إلا فيما وقعت أسبابه، ولهذا الختام شأن عظيم، ولكنه ختم آية الوصية بما هو أعظم منه، حيث قال: ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾. ثم أكدها الله بما بعدها من إثم التبديل، وهي آية محكمة بلا شك ولا ريب. ومن العجب العجاب أن يجري اختلاف بين علماء المسلمين في فريضة هذه الوصية وحتميتمها مع وضوح نصها، ولكن يهون الخطب إذا ذكرنا كثرة الاختلاف في غيرها، خصوصًا اختلاف الصحابة في الكلالة، مع أنهم أهل اللسان وأعرف بني الانسان بمعناها اللغوي، ومع أنها في نص القرآن من المبين المفسر، لا من المجمل المبهم الذي يحتاج إلى شرح وبيان.


وأظن أن منشأ الخلاف حاصل من توسع بعض العلماء في دعوى النسخ، فقد زعم بعض علماء الناسخ والمنسوخ أن آية واحدة هي آية السيف نسخت مائة وخمسًا وثلاثين آية، والحقيقة أنها خصصت ولم تنسخ، وكذلك آيات وأحاديث غيرها زعموا أنها ناسخة وهي مخصصة، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: إن النسخ يندر في القرآن ولكنه تخصيص، فالآيات المكية الآمرة بالصفح والعفو عن المشركين باق حكمها، فتستعمل في حالة ضعف المسلمين، والآيات المدنية الآمرة بالقتال والغلظة، تستعمل في حالة قوة المسلمين وليس شيء منها منسوخًا، وكلامه رحمه الله واضح معقول تقتضيه السياسة الشرعية.


وهذه الآية التي هي آية الوصية ليست منسوخة، لأن النسخ رفع الحكم بالكلية، وسياق آية المواريث والأحاديث ليس فيها ما يدل على النسخ من الأحوال إلا في عقلية المقلد، وأما الذي يستعمل عقله ويرتفع به عن حضيض التقليد بقدر الإمكان فإنه أولًا يطالب المدعين نسخها بآية المواريث أن يقيموا دليلًا على تأخرها عن آية الوصية أولًا، ثم يطالبهم بإقامة دليل على التنصيص القاطع بنسخها، لأن دعوى النسخ ليست بالأمر الهين.


ثم إنه على فرض تأخر آية المواريث في النزول عن آية الوصية فإنه لا يجوز اعتقادها ناسخة إلا بدليل من معصوم، ولم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم نص ينسخ هذه الآية، وإنما وردت أحاديث تثبتها مع التخصيص كحديث: ((لا وصية لوارث))[2]. وحديث أبي أمامة في مسند أحمد أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يقول: ((إن اللَّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث))[3]. وحديث آخر في معناه. وكلها أحاديث مشهورة لا يجوز رفضها بحجة عدم التواتر، فإن تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد هو أمر حادث من مبتدعات أهل الكلام ولم يعرفه السلف الصالح.


ثم إن في هذه الأحاديث إقامة للعدل تشهد بصحتها، ولكن ليس فيها ما يدل على نسخ آية الوصية القرآنية، بل هي مما يثبتها بطريق المفهوم الصريح، فإنها لم تنف الوصية على الإطلاق حتى يصح دعوى النسخ فيها إن سلمنا لهم نسخ القرآن بالسنة على الطريقة التي وردت بها الأحاديث، ولكنها نفت الوصية للوارث، وأخرجت الوارثين الأقربين من عموم وجوب الوصية بهذه الآية، فكانت هذه الأحاديث مخصصة للآية الكريمة لا ناسخة لها.


وهذا أمر يعرفه كل مسلم أصغى قلبه لمعاني النصوص ولم يتأثر بمفاهيم غيره. أما من أصغى إلى أقاويل الرجال وسلم عقله لهم فإنه يكون في الغالب محرومًا من فهم النصوص.


وما أعدل الشارع الحكيم صلى الله عليه وسلم في قوله: ((لا وصية لوارث)) فإن الوارث قد أغناه اللَّه بما فرض له من نصيب في الميراث فتصبح الوصية له من الحيف والجنف، ولكن القسم الآخر من القرابة الضعفاء المحرومين من الميراث بالحجب ونحوه، كيف يستجيز مسلم له ضمير أن يساويهم بالوارثين في الحرمان من الوصية الواجبة الشرعية؟


حقًا إن القول بعدم نسخ آية الوصية هو الصحيح الواضح الذي تفيده النصوص، وإن القول بتخصيص النصوص لعموم هذه الآية هو الحق الحقيق بالقبول، وهو الذي يجمع بين النصوص بلا جناية عليها بالتأويل المزيل لحكمها أو ادعاء النسخ المسقط لها، فإنه لا يجوز للمسلم أن يضرب نصوص الشارع بعضها بعض. ومن المعلوم أن القول بإسقاط ما فرضه اللّه بدعوى نسخه دون برهان من اللَّه أمر خطير ومزلة أقدام يجب التثبت فيه تعظيمًا لحكم اللَّه واستبقاء لوجوده واحترامه، وكذلك إخضاعها لأهواء النفوس أو آراء المتبوعين، فإن هذه بلية فظيعة ينبغي التحرز من الوقوع فيها خطأ أو تقليدًا.


وينبغي للمسلم أن يستعمل عقله في أسرار الأحكام ليرعاها حق رعايتها خصوصًا عند موارد الخلاف، فإن العليم الحكيم الذي فرض الوصية للأقربين غير الوارثين يعلم دخائل النفوس البشرية وما يجري بين الأقارب من بغض وقطيعة وشح وقسوة وحقد وغيره مما لا يرعاه أكثر الباحثين في خلافيات الأحكام، ولا يمعنون النظر فيه، ولكن كل رجل اجتماعي يرى أن الكثرة من الأغنياء - إن لم يكن كلهم - لهم إخوة وأخوات ضعفاء مساكين ومحرمون من الميراث بحجب أولادهم لهم، فهل يظل هؤلاء محرومين إلى أبد الآبدين من ثروة أخيهم العظيمة، لا ينالهم إلا الفتات الذي يلقى للنسور؟ وأخوهم إذا ترك الأمر إليه على قول الناسخين لوجوب الوصية لهم أوصى قرب موته بثلث ماله العظيم إلى من يخصه من أولاده بمحبته أو محبة أمه؛ ليضحي من هذا الثلث الغزير بكبش يوزع في الثلاجات، أو يؤكل في قيلات البراري (الكشتات) وفي تمرات توضع في بعض المساجد من رمضان إلى رمضان، ويبقى الثلث العظيم محجرًا عند المحبوب المجدود يستغله كما يشاء.


ومن المؤسف إقرار مثل هذه الوصية في هذا الزمان الذي تضخمت فيه الأموال وأصبح ثلث الميت الغني مبالغ طائلة عظيمة لو صرفت إلى أقاربه المحتاجين لانتعشوا أو ساروا في ركاب الأغنياء، وما هذا إلا جمود التقليد من بعض العلماء، وخشية البعض الآخر من تنفيذ الوصية الواجبة عليه، وخروج ثلثه الكثير من بعض أولاده المحبوبين إلى أقاربه المحرومين.


وكذلك يعلم اللّه العليم الحكيم أن بعض الأثرياء أو أكثرهم لهم أجداد محرومون من الميراث بآبائهم ولهم أولاد أبناء محرومون من الميراث بأعمامهم، وقد يكون أبوهم قد خدم أباه ونفعه في جمع المال، فلما مات قبل أبيه كان نسيًا منسيًا، أفيبقى أبناؤه الأيتام بلا وصية وهم محرومون من الميراث؟ وكذلك جده لأبيه أو لأمه، هل يبقى محرومًا من الوصية؟ سبحانك اللَّهم ما أعظم شأنك وأجل حكمتك!! لقد شرعت للمؤمنين ما يصلح أحوالهم، ويسعد مجتمعهم، ويؤلف بين قلوبهم، ويربطهم بأواصر القربى، ويجعلهم على غاية من المحبة، يترحم حيهم على ميتهم ويدعو له بكل شفقة وحنان، ولكن الذين ابتلوا بتتبع الخلاف سعوا إلى عكس هذه الحكمة، سامحهم اللَّه وعاملهم بعفوه.


ولننقل ما قاله كبار الأئمة قديمًا وحديثًا، فنقول:

قال ابن جرير الطبري رحمه الله: يعني بقوله تعالى ذكره: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ﴾ فرض عليكم أيها المؤمنون الوصية ﴿ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ﴾ والخير: المال للوالدين والأقربين الذين لا يرثون، بالمعروف: وهو ما أذن اللَّّه فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث ولم يتعمد الموصي ظلم ورثته ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ يعني بذلك: فرض عليكم هذا وأوجبه. وجعله حقًا واجبًا على من اتقى اللَّه فأطاعه أن يعمل به فإن قال قائل: أو فرض على الرجل ذي المال أن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه؟ قيل: نعم. فإن قال: فإن هو فرط في ذلك فلم يوص لهم أيكون مضيعًا فرضًا يحرج بتضييعه؟ قيل: نعم، فإن قال: وما الدلالة على ذلك؟ قيل: قول اللَّه تعالى ذكره: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾.


فاعلم أنه قد كتبه وفرضه كما قال: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾. ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر مضيع بتركه فرضًا للَّه عليه، فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه وله ما يوصي لهم فيه مضيع فرض الله عز وجل. فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة قالوا: الوصية للوالدين والأقربين منسوخة بآية المواريث، قيل له: وخالفهم جماعة غيرهم فقالوا: هي محكمة غير منسوخة. فإذا كان في ذلك التنازع بين أهل العلم لم يكن لنا القضاء عليه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها، إذ كان غير مستحيل اجتماع حكم هذه الآية وحكم آية المواريث في حال واحدة على صحة بغير مدافعة حكم إحداهما حكم الأخرى، وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة لنفي أحدهما صاحبه، وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين.


وذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا هشيم عن جوبير عن الضحاك أنه كان يقول: "من مات ولم يوص لذوي قرابته ختم عمله بمعصية"[4].


حدثني سلم بن جنادة قال حدثني أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق أنه حضر رجلًا فوصى بأشياء لا تنبغي، فقال له مسروق: "إن اللَّه قد قسم بينكم فأحسن القسم، وأنه من يرغب برأيه عن رأي اللَّه يضله، أوصِ لذي قرابتك ممن لا يرثك، ثم دع المال على ما قسمه اللَّه عليه"[5].


حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال: حدثنا عبيد عن الضحاك، قال: "لا تجوز وصية لوارث ولا يوصي إلا لذي قرابته، فإن أوصى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية، إلا ألا يكون قرابة فيوصي لفقراء المسلمين"[6].


ثم ذكر خمسة آثار تركناها للاختصار. ثم قال: واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية، فقال بعضهم: لم ينسخ اللَّه شيئًا من حكمها وإنما هي آية ظاهرها ظاهر عموم في كل ولد ووالده والغريب والمراد بها في الحكم لبعض منهم دون الجميع وهو من لا يرث منهم الميت دون من يرث. وذلك قول من ذكرت قوله وقول جماعة آخرين غيرهم معهم. ثم ذكرهم، فقال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام: حدثني أبي عن قتادة، عن جابر بن زيد في رجل أوصى لغير ذي قرابته وله قرابة محتاجون قال: "يرد ثلثا الثلث عليهم وثلث الثلث لمن أوصى"[7].


حدثنا ابن بشار قال: حدثنا معاذ قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا في الرجل يوصي لغير قرابته وله قرابة ممن لا يرثه، قال: كانوا يجعلون ثلثي الثلث لذوي القرابة، وثلث الثلث لمن أوصى لهم به[8].


وكذلك روى حديثًا عن الحسن مثل ذلك ثم قال: حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: "من أوصى لقوم وسماهم، وترك ذوي قرابته محتاجين انتزعت منهم وردت إلى ذوي قرابته[9].


وقال آخرون: بل هي آية قد كان الحكم بها واجبًا وعمل به برهة ثم نسخ اللَّه منها بآية المواريث الوصية لوالدي الموصي وقرابته الذين يرثونه، وأقر فرض الوصية لمن كان منهم لا يرثه.


ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ فجعلت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نسخ ذلك بعد ذلك فجعل لهما نصيب مفروض، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون وجعل للوالدين نصيب مفروض ولا تجوز وصية لوارث[10].


حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرازق: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ قال: نسخ الوالدان منها وترك الأقربون ممن لا يرث[11].


حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج عن ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس قوله: ﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ قال: نسخ من يرث ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون[12].


حدثنا يحيى بن نصر قال: حدثنا يحيى بن حسان، قال: حدثنا سفيان عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: "كانت الوصية قبل الميراث للوالدين والأقربين، فلما نزل الميراث نسخ الميراث من يرث وبقي من لا يرث، فمن أوصى لذي قرابته الوارثين لم تجز وصيته".

 

قال المُحَشِّي في حاشيته ما يفيد أنه يحيى بن النضر[13].


حدثنا المثنى قال: حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك عن إسماعيل المكي عن الحسن في قوله: ﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ قال: نسخ الوالدين وأثبت الأقربين الذين لا يرثون.[14]

 

حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن في هذه الآية: ﴿ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ قال: "للوالدين منسوخة، والوصية للقرابة وإن كانوا أغنياء[15].


حدثني المثنى قال: حدثنا عبداللَّه بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ فكان لا يرث مع الوالدين غيرهم إلا وصية إن كانت للأقربين، فأنزل الله بعد هذا: ﴿ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ﴾ [النساء: 11] فبين الله سبحانه ميراث الوالدين وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت[16].


حدثني علي بن داود، قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ فنسخ من الوصية الوالدين، وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون[17].


حدثني عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ قال: "كان هذا من قبل أن تنزل سورة النساء، فلما نزلت آية الميراث نسخ شأن الوالدين فألحقهما بأهل الميراث وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون".

حدثني المثنى قال: حدثنا الحجاج بن المنهال قال: حدثنا حماد بن سلمة قال: أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة قال: سألت مسلم بن يسار والعلاء بن زياد عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ قالا: "في القرابة"[18].


حدثني المثنى قال: حدثنا الحجاج قال: حدثنا حماد، عن إياس بن معاوية قال: "في القرابة".

 

فهذه ثلاثة وعشرون أثرًا ذكرها المفسر الكبير ابن جرير في إثبات الوصية لمن لا يرث عملًا بالآية لأنها محكمة غير منسوخة، وبعضها على أنها مخصصة بآية المواريث، خصص من عمومها الوارث وبقي حكم غير الوارث على وجوبه. ثم ذكر عشرة آثار في نسخها وأربعة آثار مجملة. وقد أسلفنا الذكر في توسع بعض العلماء بمسمى النسخ حتى أصبحوا يطلقون على التخصيص نسخًا، والنسخ معناه: رفع الحكم كله، وأنت خبير بأن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم تنف الوصية على الإطلاق، وإنما نفت الوصية للوارث فقط، وعلى هذا يبقى حكمها ماضيًا للقريب الذي لا يرث لرقه أو حرمانه بالحجب.

 

ثم ذكر ابن جرير الآثار الواردة في معنى الخير وأنه المال، ثم ذكر الآثار المختلفة في تقدير المال وأنه مما قل أو أكثر أو محددًا.

 

ثم قال رحمه الله: أولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ﴾ ما قال الزهري؛ لأن قليل المال وكثيره يقع عليه (خير) ولم يحد الله ذلك بحد ولا خص منه شيئًا، فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن، فكل من حضرته منيته وعنده مال قل ذلك أو كثر فواجب عليه أن يوصي منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثون بمعروف كما قال جل ذكره وأمر به. انتهى[19].

 

وقال البيضاوي: وكان هذا الحكم في بدء الإسلام، فنسخ بآية المواريث وبقوله عليه السلام: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث". وفيه نظر؛ لأن آية المواريث لا تعارضه بل تؤكده من حيث إنها تدل على تقديم الوصية مطلقًا، والحديث من الآحاد، وتلقي الأمة له بالقبول لا يلحقه بالمتواتر. انتهى كلام البيضاوي.


وقد قدمت أن عدم النسخ ليس في الكون الحديث غير متواتر، وأن هذا التقسيم حادث لا يجوز رد النصوص به، وإنما عدم النسخ في كون الحديث لم يرد بنفي الوصية للقريب مطلقًا، وإنما ورد بنفيها للوارث، فهذا تقييد أطلقه الله في الآية الكريمة - آية الوصية - وتخصيص لعمومها أو إجمالها بهذا البيان.


وقد قال صاحب المنار بعد نقله لكلام البيضاوي ما نصه: "أي والظني من الحديث لا ينسخ القطعي منه، فكيف القرآن وكله قطعي؟!!". يعني: أن الحديث الذي في غير الصحيحين مثلًا لا ينسخ الحديث الذي في الصحيحين لقوته، فكيف ينسخ القرآن؟!


ونحن نقول: لو ورد معنى هذا الحديث في القرآن فإنه لا يكون ناسخًا لهذه الآية بهذا النص بتاتًا، بل يكن مخصصًا لعمومها ويبقى حكمها في غير الوارث.


وقال صاحب المنار فيما يرويه عن إمامه محمد عبده رحمهما الله: "وقد زاد الأستاذ الإمام عليه القول بأنه لا دليل على أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا؛ وأن السياق ينافي النسخ، فإن الله تعالى إذا شرع للناس حكمًا وعلم أنه مؤقت وأنه سينسخه بعد زمن قريب، فإنه لا يؤكده ويوثقه بمثل ما أكد به أمر الوصية هنا من كونه حقًا على المتقين ومن وعيد من بدله. وبإمكان الجمع بين الآيتين إذا قلنا: إن الوصية في آية المواريث مخصوصة بغير الوارث بأن يخص القريب هنا الممنوع من الإرث ولو بسبب اختلاف الدين، فإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة وله أبوان كافران فله أن يوصي لهما بما يؤلف قلوبهم به. وقد أوصى الله بحسن معاملة الوالدين ولو كانا كافرين كما في الآية الثامنة من سورة العنكبوت والآية (15) من سورة لقمان، أفلا يحسن أن يختم هذه المصاحبة بالمعروف بالوصية بشيء لهما من ماله الكثير؟!!


قال: وجوز بعض السلف الوصية للوارث نفسه بأن يخص بها من يراه أحوج من الورثة، كأن يكون أحدهم غنيًا والآخر فقيرًا (وذكر أمثلة لذلك).


ثم قال: فنحن نرى أن الحكيم الخبير اللطيف بعباده الذي وضع الشريعة والأحكام لمصلحة خلقه لا يحتم أن يساوي الغني الفقير والقادر على الكسب من يعجز عنه. فإذا كان قد وضع أحكام المواريث العادلة على أساس التساوي بين الطبقات باعتبار أنهم سواسية في الحاجة، كما أنهم سواء في القرابة، فلا غرو أن يجعل أمر الوصية مقدمًا على أمر الإرث، أو يجعل نفاذ هذا مشروطًا بنفاذ ذلك قبله، ويجعل الوالدين والأقربين في آية أخرى أولى بالوصية لهم من غيرهم، لعلمه سبحانه وتعالى بما يكون من التفاوت بينهم في الحاجة أحيانًا، فقد قال في آيات الإرث من سورة النساء: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12] فأطلق أوامر الوصية. وقال في آية الوصية هنا ما هو تفصيل لذلك.


ثم قال: أقول: ورأيت الألوسي نقل عن بعض فقهاء الحنفية أن آية الإرث نزلت بعد آية الوصية بالانفاق، وأن الله تعالى رتب الميراث على وصية منكرة، والوصية الأولى كانت معهودة، فلو كانت تلك الوصية باقية لوجب ترتيبه على المعهود، فلما لم يرتب عليه ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة؛ لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ، كما أن التقييد بعد الإطلاق نسخ له. انتهى.


فأما دعواه الاتفاق بالتقدم والتأخر فلا دليل عليها، وأما تأويله فظاهر البطلان، وقاعدة الإطلاق والتقييد إن سلمت لا تؤخذ على إطلاقها، لأن شرع الوصية على الإطلاق لا ينافي شرع الوصية لصنف مخصوص. ونظير هذا الأمر بمواساة الفقراء مطلقًا، والأمر بمواساة الضعفاء والمرضى منهم لا يعارضان، ولا يصح أن يكون الثاني منهما مبطلًا للأول إلا إذا وجد في العبارة ما ينفي ذلك.


وما في الآيتين ليس من قبيل تعارض المطلق والمقيد وإنما آية الوصية الخاصة وذكر الوصية منكرة في آية الإرث يفيد الإطلاق الذي يشمل ذلك الخاص وغيره. فإن سلمنا لذلك الحنفي أن آية الميراث متأخرة فلا نسلم له أنه كان يجب أن تذكر فيها الوصية بالتعريف لتدل على الوصية المعهودة، إذ لو رتب الإرث على الوصية المعهودة لما جازت الوصية لغير الوالدين والأقربين، ولو كان الأسلوب العربي يقتضي ما قاله لما قال علي وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما من السلف بالوصية للوالدين والأقربين على ما تقدم. وقد نقل الألوسي ذلك نفسه بعد ما تقدم عنه، ولذلك سمي التخصيص نسخًا، فنقل عن ابن عباس أنها خاصة فيمن لا يرث من الوالدين والأقربين، كأن يكون الوالدان كافرين.


قلت: أو يكون الأقارب محجوبين عن الإرث بالبنين ونحوهم.


قال: وروي عن علي رضي الله عنه: من لم يوص عند موته قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية[20]. ثم ذكر أن الأكثرين قالوا بأن هذه الوصية مستحبة لا واجبة، وسمي هذا كغيره نسخًا للوجوب.


لنا أن نقول: إن أكثر علماء الأمة وأئمة السلف يقولون: إن هذه الوصية المذكورة في القرآن المشروعة، ولكن منهم من يقول بعمومها، ومنهم من يقول إنها خاصة بغير الوارث، فحكمها إذًا لم يبطل. فما هذا الحرص على إثبات نسخها مع تأكيد اللَّه تعالى إياها والوعيد على تبديلها؟ إن هذا إلا تأثير التقليد. فقد علم مما تقدم أن آية المواريث لا تعارض آية الوصية، فيقال أنها ناسخة لها إذا علم أنها بعدها.


وأما الحديث فقد أرادوا أن يجعلوا له حكم المتواتر أو يلصقوه به بتلقي الأمة له بالقبول ليصلح ناسخًا، على أنه يصل إلى درجة ثقة الشيخين به ولم يروه أحد منهما سندًا، ورواية أصحاب السنن محصورة في عمرو بن خارجة وإلى أسامة وابن عباس، وفي إسناد الثاني إسماعيل بن عياش، تكلموا فيه، وإنما حسنه الترمذي لأنه يرويه عن الشاميين، وقد قوى بعض الأئمة روايته عنهم خاصة. وحديث ابن عباس معلول، إذ هو من رواية عطاء عنه وقد قيل إنه عطاء الخراساني، وهو لم يسمع من ابن عباس. وقيل عطاء بن أبي رباح، فإن أبا داود أخرجه في مراسيله عنه، وما أخرجه البخاري من طريق عطاء بن أبي رباح موقوف على ابن عباس، وما روي غير ذلك فلا نزاع في ضعفه، فعلم أنه ليس لنا رواية للحديث صحت إلا رواية عمرو بن خارجة، والذي صححه هو الترمذي، وهو من المتساهلين في التصحيح، وقد علمت أن البخاري ومسلم لم يرضياها، فهل يقال إن حديثًا كهذا تلقيه الأمة بالقبول؟!!


وقد توسع الشيخ الإمام في الكلام على النسخ، وملخص ما قاله: إن النسخ في الشرائع جائز موافق للحكمة وواقع، فإن شرع موسى نسخ بعض الأحكام التي كان عليها إبراهيم، وشرع عيسى نسخ بعض أحكام التوراة، وشريعة الإسلام نسخت جميع الشرائع السابقة، لأن الأحكام العملية التي تقبل النسخ إنما تشرع لمصلحة البشر، والمصلحة تختلف باختلاف الزمان.


فالحكيم العليم يشرع لكل زمن ما يناسبه، وكما تنسخ شريعة بشريعة أخرى يجوز أن تنسخ بعض أحكام شريعة بأحكام أخرى في تلك الشريعة. فالمسلمون كانوا يتوجهون إلى بيت المقدس في صلاتهم فنسخ ذلك بالتوجه إلى الكعبة، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين، ولكن هناك خلافًا في نسخ أحكام القرآن ولو بالقرآن، فقد قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني المفسر الشهير: "ليس في القرآن آية منسوخة". وهو يخرج كا ما قالوا إنه منسوخ على وجه صحيح بضرب من التخصيص أو التأويل.


وظاهر أن نسخ القلبة ليس فيها نسخ صحيح للقرآن، وإنما هي نسخ لحكم لا ندري هل فعله النبي صلى الله عليه وسلم باجتهاده أو أمر من الله غير القرآن، فإن الوحي غير محصور في القرآن، ولكن الجمهور على أن القرآن ينسخ بالقرآن، بناء على أنه لا مانع من نسخ حكم آية مع بقائها في الكتاب يعبد الله تعالى بتلاوتها، ويتذكر نعمته بالانتقال من حكم كان موافقًا للمصلحة ولحال المسلمين في أول الإسلام إلى حكم يوافق المصلحة في كل زمان ومكان، فإنه لا ينسخ حكم إلا بأمثل منه، كالتخفيف في تكليف المسلمين قتال عشرة أمثالهم بالاكتفاء بمقابلة الضعف بأن تقابل المائة مائتين.


واتفقوا على أنه لا يقال بالنسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الآيتين من آيات الأحكام العملية وعلم تاريخهما، فعند ذلك يقال: إن الثانية ناسخة للأولى، وأما آيات العقائد والفضائل والأخبار فلا نسخ فيها.


ونسخ السنة بالسنة كنسخ الكتاب بالكتاب، بل هو أولى وأظهر، وكذلك نسخ السنة بالكتاب كما في المسألة القبلة ولا خلاف فيها، ومن قبيل ذلك نسخ الحديث المتواتر لحديث الآحاد.


وأما الخلاف القوي فهو في نسخ القرآن بالحديث ولو متواترًا، أو الحديث المتواتر بأخبار الآحاد، والذي عليه المحققون الأولون أن الظني (وهو خبر الآحاد) لا ينسخ القطعي كالقرآن والحديث المتواتر، والحنفية وكثير من محققي الشافعية صرحوا بجواز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم في تبليغ الأحكام. فمتى أيقنا بالرواية عنه واستوفت شروط النسخ تعتبر ناسخة للكتاب كما إذا نسخت آية آية.


وذهب آخرون ومنهم الإمام الشافعي كما في رسالته المشهورة في الأصول بأنه لا يجوز نسخ حكم من كتاب الله بحديث مهما تكن درجته، لأن للقرآن مزايا لا يشاركه فيها غيره. وقد أورد الشافعي كثيرًا من الأحاديث لأحكام القرآن، بين أنها غير ناسخة لأحكام القرآن، وين أنها غير ناسخة، بل بين أنها مفسرة ومبينة.


وقال الأستاذ: ولا أعرف لأبي حنيفة قولًا في هذه المسائل، والأصوليون المتقدمون من الحنفية والشافعية لا يقولون بنسخ القرآن بغير المتواتر من الحديث وإن اشتهر بنحو رواية الشيخين وأهل السنن له. والدليل ظاهر، فإن القرآن منقول بالتواتر فهو قطعي، وأحاديث الآحاد ظنية يحتمل أن تكون مكذوبة من بعض رجال السنة المتظاهرين بالصلاح لخداع الناس. (انتهى قول الشيخ محمد عبده).


وقال تلميذه محمد رشيد: "أقول: وهناك تمييز آخر وهو أن كل ما في القرآن وحي من الله تعالى قطعًا، فأما الأحاديث فإن منها ما هو من اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وهو دون الوحي، وإن كان تقرر أن النبي إذا أخطأ في الاجتهاد لا يقر على الخطأ كما في قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ﴾ [الأنفال: 67].


وقوله: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 43].


وقال بعضهم بنسخ الكتاب بالسنة ولو خبر آحاد، لأن دلالة الحكم ظنية، فكأن الحديث لم ينسخ إلا حكمًا ظنيًا، وفاتهم أن دلالة الحديث ظنية أيضًا، فكأننا ننسخ حكمًا ظنيًا، إسناده إلى الشارع قطعي، بحكم ظني إسناده إليه غير قطعي، بل يحتمل أنه لم يقل به أو قاله رأيًا لا تشريعًا، ولما كان الخلاف هنا ضعيفًا جدًا احتاج القائلون بنسخ حديث ((لا وصية لوارث)) لآية الوصية إلى زعم تواتره بتلقي الأمة له بالقبول.


وقد علمت أن هذا غير صحيح، وقد صرح الشافعية بأن الخلاف في نسخ الكتاب بالسنة إنما هو الجواز وأنه غير واقع قطعًا، وقالوا أيضًا: إن السنة لا تنسخ الكتاب إلا ومعها كتاب يؤيدها، والظاهر في مثل هذه الحال أن يقال: إن الكتاب نسخ الكتاب لأنه الأصل. وكأنهم أرادوا تصحيح قول من قال بالنسخ تعظيمًا له أن يرد قوله. وتعظيم الله تعالى أولى، ثم تعظيم رسوله يتلو تعظيمه ولا يبلغه وإنما يطاع الرسول ويتبع بإذن الله تعالى.


ومن أغرب مباحث النسخ أن الشافعية الذين يبالغ إمامهم في الاتباع فيمنع نسخ الكتاب بالسنة، ثم هو يبالغ في تعظيم السنة واتباعها ولا يبالي برأي أحد يخالفها، ثم هو يقول: إن القياس لا يصار إليه إلا عند الضرورة كأكل الميتة، كما رواه عنه الإمام أحمد، يقول بعضهم: إن القياس الجلي ينسخ السنة، مع أن البحث في العلة أمر عقلي يجوز أن يخطئ فيه كل أحد، ويجوز أن ما فهمناه من عمم العلة غير مراد الشارع، فإذا جاء الحديث ينافي هذا العموم وصح عندنا فالواجب أن نجعله مخصصًا لعلة عموم الحكم، ولا نقول رجمًا بالغيب أنه منسوخ لمخالفته للعلة التي ظنناها، فإذا كانت المجازفة في القياس قد وصلت إلى هذا الحد، وقد تجرأ الناس على القول بنسخ مئات من الآيات وإلى إبطال اليقين بالظن وترجيح الاجتهاد على النص، فعلينا ألا نحفل بكل ما قيل، وأن نعتصم بكتاب الله قبل كل شيء ثم بسنة رسول التي جرى عليها أصحابه والسلف الصالح، وليس في ذلك شيء يخالف الكتاب العزيز.


وصفوة القول أن الآية غير منسوخة بآية المواريث لأنها لا تعارضها بل تؤيدها، ولا دليل على أنها بعدها ولا منسوخة بالحديث لأنه لا يصلح لنسخ الكتاب، فهي محكمة وحكمها باق، ولك بأن تجعله خاصًا بمن لا يرث من الوالدين والأقربين، كما روي عن بعض الصحابة، وأن تجعله على إطلاقه، ولا تكن من المجازفين الذين يخاطرون بدعوى النسخ، فتنبذ ما كتبه الله عليك بغير عذر، ولا سيما بعدما أكده بقوله: ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 180]. انتهى كلام الشيخين محمد عبده وصاحب المنار في إثبات كون الآية محكمة غير منسوخة ووجوب العمل بها على التخصيص أو التعميم.


وإليك تتميمات وملاحظات على ما كتباه استطرادًا في هذا الموضوع:

الأولى: أنه لا يوجد تعارض بين آية الوصية وآية المواريث، بل إن جميع آيات الميراث الثلاثة تؤكد الوصية وتقدمها على الميراث، وإذا انعدم التعارض فلا موجب للقول بالنسخ قطعًا حتى لو ثبت تأخر آيات الإرث في النزول فكيف مع صعوبة إثبات ذلك؟


الثانية: أن الأحاديث الواردة في نفي الوصية للوارث بعضها لم يصح سنده كحديث عمرو بن شعيب، فقد قال في التلخيص: إسناده واه، وكحديث ابن عباس الذي رواه أبو داود في المراسيل من مرسل عطاء الخراساني ووصله يونس بن راشد عن عكرمة عن ابن عباس كما أخرجه الدارقطني والمعروف المرسل، ومنها ما هو حسن الإسناد وفيه مقال، كحديث أبي أمامة، وقد قال فيه الشافعي: وروى بعض الشاميين حديثًا ليس مما يثبته أهل الحديث فإن بعض رجاله مجهولون، فأعتمدنا على المنقطع مع ما انضم إليه من حديث المغازي، وإجماع العلماء على الأخذ به. وكما أشار إلى الأخذ بحديث أبي امامة ورواه الدارقطني وصوب إرساله من هذا الوجه، ومن حديث علي وإسناده ضعيف. انتهى من حاشية المنتقى.


وكحديث عمرو بن خارجة الذي أخرجه الدارقطني والبيهقي وصححه الترمذي مع تساهله كما تقدم، فهذا الحديث هو أحسن ما اعتمد عليه القائلون بنسخ الآية القرآنية العظيمة التأكيد، وهو لم يبلغ درجة الصحة حيث أعرض عنه البخاري ومسلم وأهل السنن والمسانيد وبعض أهل السنة كأبي داود فلم يقبله، فكيف يعتبر ناسخًا للقرآن؟!!


والملاحظة الثلاثة: أن النص لا ينسخ إلا بنص أقوى منه أو مساو له على الأقل، كما هو المقرر في الأصول، فكيف يستباح أو يستساغ نسخ آية الوصية العظيمة التأكيد بمثل هذه الأحاديث السابقة التي أحسنها قد أعرض عنه كبار الأئمة الحديث؟!


الرابعة: زعمهم شهرة بعضها أو تلقي الأمة له بالقبول، وهذا زعم غير صحيح يكذبه واقع التحديث، فإن الحديث الذي يعرض عنه عمدة علماء الحديث كالبخاري مسلم وأبي داود ونحوهم، لا يكون من المتلقي بالقبول إلا عند المتساهلين أو عند المقلدين، وما أكثر ما يشتهر من الأخبار على الألسنة وتتناقله الكتب عن تقليد، كالطعن بالوليد الذي راج على أكثر المفسرين وشراح الأحاديث، وكتخيل الحطيئة ما لم يقله فيه، وروايات كثيرة لا يسعنا التطويل بذكرها، فدعوى النسخ دعوى عظيمة؛ لأن فيها رفع حكم من أحكام الله ينبغي التثبت وأخذ الحيطة الكافية فيه، خصوصًا فيما له مساس بروابط القرابة والتكافل بينها.


الخامسة: دعوى تخصيص عموم حكم الآية بغير الوارث ونفي الوصية للوارث فقط، لأن الله أغناه عنها بنصيبه في الميراث، وهذا هو القول الصحيح الموافق للصواب إن شاء الله، لأن فيه الجمع بين النصوص؛ ولأنه الظاهر المتبادر من لفظ نص الحديث على فرض صحته صحة يصلح أن يكون فيها مخصصًا لعموم الآية القرآنية، لأن منصوص الحديث على فرض صحته: ((لا وصية للوارث)) يدل بمفهوم التضمن والالتزام أن غير الوارث مفروض له الوصية، بل دلالة الاقتضاء واضحة بذلك. ولهذا أورد الإمام ابن جرير في تفسيره ما رجحه من كونها محكمة ومن تخصيصها كما ذكرناه. وأورد الآثار الكثيرة التي أسلفنا نقلها عنه. وتفسيره من أقدم وأجل التفاسير البعيدة عن الأهواء، وما أنفعه لو لم يتصد لذكر الخلافات الشاذة التي لا طائل تحتها.


السادسة: وجاهة القول بالوصية للوارث المحتاج الذي لا يسد نصيبه حاجته، وذلك لعدم قوة تلك الأحاديث الواردة في منعه من جهة ووجود أحاديث كثيرة عامة وآيات غير آية الوصية توصي بذوي القربى.


وقد ضرب صاحب المنار أمثلة في هذا الشأن ضعيفة، ولكن التمثيل الواقعي المعقول هو أنه إذا كان بعض الورثة عليه غرامة كثيرة ثقيلة أو تحمل حمالة ثقيلة، ومورثه قد حضرته أسباب الوفاة بمرض أو صدم، أو كان في آخر مرض السل أو السرطان. ونصيب هذا الوارث لا يكفي لسداد ما عليه. فإنه يجوز الإيصاء له بما دون الثلث لا ما فوقه إلا بإذن الورثة، وذلك مراعاة لحكمة المنع وعلته، فإن الحديث: ((لا وصية لوارث)) علة المنع فيه هي الحيلولة دون الحيف والمحاباة لبعض الورثة بمجرد العاطفة، مما يحدث النقمة والبغضاء والعداوة بين الأسرة الواحدة، ويفسد قلوبهم على الحي والميت، فإذا كان الإيصاء لسبب صحيح عارض يوجب الرحمة من الأباعد، فضلًا عن الأقارب، زال هذا المحذور، فالعلة تدور مع الحكم وجودًا وعدمًا، كما هو مقرر مشهور، وكذلك من أصابته جائحة لا يجبرها الإرث، فينبغي مراعاة الحكمة الشرعية التي هي العلة الباعثة للحكم وعدم الجمود على ما سطره أهل التغلية، فإنه إذا زال المحذور الذي هو المحاباة واتضح سبب العطف الذي هو الغرامة والجائحة زال المنع بلا إشكال؛ لأنه إذا تحقق حسن النية، ارتفع المحذور، ولا شك أن شريعة الله العليم الحكيم اللطيف الرحيم بعباده الذي وضع الأحكام لمصلحتهم ودفع الأضرار عنهم لا يوجب مساواة الفقير بالغني، ولا الشجي بالخلي، ولا المكنوب البائس بالمعافى المتنعم، بل يوجب مساواة الأخير من هؤلاء بالإيصاء الذي يرفع بؤسه ويزيل فاقته ويفرج كربته التي ضاقت بغرمه ونكبته، وإنما يمنع ما مصدره الحيف والعاطفة المفسدة لقلوب الأسرة كما قدمناه. فينبغي التمعن في أسرار الشريعة وترك الجمود.


السابعة: مناقشة الشيخ لكلام السيد الألوسي في زعمه أن إطلاق الوصية في آية الإرث ناسخة للوصية المقيدة في هذه الآية. وقول الشيخ إن هذه القاعدة لا تؤخذ على إطلاقها؛ لأن شرع الوصية على لا ينافي شرعها لصنف مخصوص... إلخ، فنزيد هنا أمرين:

أحدهما: أن القيد ليس بناسخ للمطلق على الحقيقة، بل هو مخصص للعموم البدلي، كتخصيص النص الخاص للعموم الشمولي، وكذلك الإطلاق بعد التقييد لا ينسخ المقيد؛ لأنه أوى من المطلق، بل يحمل المطلق على المقيد؛ لأنه هو الذي يبين المراد منه. هذا على فرض وقوعه في آيات الميراث.


ثانيهما: أن ذكر الوصية في آيات الميراث وتقديمها عليه جاء لتأكيدها لا لتأسيسها، وأما تنكيرها المقيد للإطلاق فمعناه أنه يشمل ذلك الخاص في آية الوصية وغيره، فإذا سلمنا للسيد الألوسي أن آية الميراث متأخرة عنها فلا نسلم له، وكان يجب ذكر الوصية فيها بالتعريف المفيد للوصية المعهودة؛ لأن الله سبحانه لو أتى بها بصيغة التعريف المفيد للعهد لكان ذلك مانعًا من الوصية لغير الوالدين والأقربين وسدًا حائلًا دون أبواب البر الأخرى، كيلا يوصي بها والعياذ بالله.


فالأسلوب العربي الفصيح الذي جاء به القرآن ليس على ما فهمه الألوسي وأضرابه ممن اختلطت أدمغتهم بالعجمية، ولكن على ما فهمه أمير المؤمنين علي وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهم من السلف.


وقد اضطرب الألوسي رحمه الله في كلامه. فنقل عن ابن عباس أنها خاصة بمن لا يرث، لكنه سمى التخصيص نسخًا كما هي عادة المتأخرين. ثم ذكر أنها مستحبة عند الأكثرين لا واجبة، مع تسميته للجميع نسخًا رحمه الله والأمر بخلاف ذلك كما سنوضحه.


الثامنة: يفهم مما أن آية المواريث ليست ناسخة لآية الوصية، لا بمجرد تأخرها في النزول كما يزعمون لو صح زعمهم، ولا لشبهة الإطلاق فيها كما أوضحنا عدم تأثيره كما أرادوا، بل هي محكمة وحكمها باقٍ فيمن لا يرث من الوالدين والأقربين وفي جميع طرق الخير الأخرى، بل قد يكن إطلاقها مفيدًا لبقاء حكمها في كل نوع، لولا الحديث الذي يمنع الوصية للوارثين على ما فيه من عدم القوة التي تجعله يرفع شيئًا من حكم القرآن بالتخصيص؛ لأن التخصيص يعطي معناه نسخ بعض الحكم، فإذا كان النص المعتمد فيه ليس بالقوي فإننا نرجع إلى تطبيق الحكم الشرعي العام في تحقيق العدالة بين الأقارب وعدم الحيف الجالب للإثم على الموصي، ولإفساد القلوب بين الأسرة والعائلة كما أوضحناه مما يستيقن القارىء والسامع أن الآية محكمة غير منسوخة، وأنها قد تكون مخصوصة بحديث عمرو بن خارجة الذي هو أحسن الأحاديث للاستدلال، ولم يبلغ درجة الصحة، لكن متنه صحيح لموافقته العادلة، والله أعلم.


والتاسعة: قوة الخلاف في نسخ القرآن بمتواتر السنة، فكيف بالحديث الذي لم يبلغ درجة الصحة، فضلًا عن التواتر؟ فقد أبعد النجعة من زعم نسخ آية الوصية بالحديث الآنف الذكر، مع أن نص الحديث لو كان متواترًا على ما شرطوا ليس فيه ما يدل على النسخ بل على التخصيص. والحديث على حالته هذه قد لا يصلح مخصصًا وإن عضده غيره من الحديث الضعيف والمرسل؛ لأن الذي يقوى بنفسه لا يصلح مقويًا لغيره، وإن قال بذلك بعض العلماء، لأننا في حالة نسخ آية قرآنية من دون نسخها (خرط القتاد). وقديمًا قيل: (لعل الفجل يهضم نفسه). فالحديث الضعيف في هذا الشأن لا يصلح معضدًا وإنما يصلح معضدًا في أشياء أخرى.


العاشرة: قد اتضح مما سبق أنه لا يوجد تعارض بين الآيتين: آية الميراث وآية الوصية أبدًا، كما لا يوجد تعارض بين منصوص الحديث أو مفهومه مع آية الوصية، فكيف يصار إلى القول بالنسخ مع عدم وجود التعارض؟ وقد قدمنا أن القول بالنسخ ليس بالأمر الهين.


الحادية عشرة: قال بعضهم عن دعوى النسخ قولًا مضحكًا (سامحه الله) وهو أن الكتاب ينسخ بالسنة ولو غير متواترة، لأن دلالة الآية على الحكم ظنية، فكأن الحديث لم ينسخ إلا حكمًا ظنيًا. وهذا القول مردود من وجهتين:

أحدهما: ما ذكره صاحب المنار من أن أهل هذا القول فاتهم أن دلالة الحديث أيضًا ظنية، فكأنهم ينسخون حكمًا ظنيًا إسناده إلى الشارع قطعي بحكم ظني إسناده غير قطعي، بل يحتمل أن نسبته إليه كاذبة أو أنه قاله على غير قصد التشريع.


ثانيهما: إن الاعتقاد أو القول بأن دلالة القرآن ظنية غير قطعية هو من الخطورة بمكان عظيم. فالقائل به على خطر في دينه، وهذا دب إلى بعض أهل العلم بالتقليد لعلماء الكلام المتأثرين بمصطلحات المنطق اليوناني، والذين لا يعتبرون اليقين إلا بما هو مبني عليها، وهذا من أخطر المحدثات المبتدعة، وقد نجى الله السلف الصالح منه، وإني أناشد بالله أرباب هذا القول: أي شيء يبقى بأيدي المسلمين من الحجة والدليل إذا كانت دلالة الآيات ظنية؟ ما أبعدهم عن اليقين الذي يدحضون به الخصم على حد هذا الزعم الباطل، وأسألهم أيضًا: ما معنى إرسال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين إذا كان الذي تلقاه من الوحي لا يفيد غير الظن ولا يجدي أمته شيئًا من اليقين؟ هل أصبح واضعو المنطق هم الرحمة للعالمين حيث تسرب إلينا منطقهم اليقيني في القرن الثالث؟ بل ما فائدة النطق بالشهادتين إذا كان الوارد عن الله ورسوله لا يفيد اليقين وإنما أحكامه ظنية؟


ما أسعد الأمم الكافرة عامة والماسونية اليهودية خاصة بهذا القول الذي يجعل نصوص أمة الإسلام لا تفيد اليقين، وأحكامها ظنية، وما أسخف عقل كافر يسمع بهذا ثم يسلم، إذ كيف يدخل في دين مبنية أحكامه على الظن ونصوص وحيه من كتاب وسنة لا تفيد اليقين؟


لا حول ولا قوة إلا بالله، كيف سرى هذا القول حتى طفحت به بعض مؤلفات الأصوليين بسبب التقليد وسلامة الصدور؟ إنه يجب على المسلم رد هذا القول ورفضه من الأساس، إذ الذي يجب أن يعتقده المسلم ويقول به هو أن النصوص الشرعية من كتاب الله، وما صح من سنة رسول صلى الله عليه وسلم، قطعي الدلالة مفيد لليقين يجب علينا اعتقاد كفايته والاستغناء به عما سواه بحصر التلقي للهداية عليه والتكيف به دون تكييفه وإخضاعه للأهواء، فلا يجوز إخضاع نصوص الوحي للأهواء ولا لقوانين المنطق ونحوها من أوضاع الرجال وآرائهم، بل ينبغي إدركها بحسن التصور المستمد من ذاتها لا من مصدر آخر يجعله ميزانًا لوحي الله، فإن هذا هو عين الضلال والمشاقة لله ورسوله والتقديم المنهي عنه بين أيديهم، وينبغي الإقبال التام على الكتاب والسنة، وبذل الجهد في معرفتهما، والاهتداء بهما، ودفع كل ما يعارضهما، وأن يكون طالب العلم نقادًا لأقوال العلماء مهما كبر شأنهم، فإنهم غير معصومين، ولكن بدون احتقار ولا إهدار كرامة لهم بإلغاء أقوالهم وعدم شكرهم على ما بذلوه من جهد كبير بأدمغتهم وأقلامهم، كما يفعله بعض المتنطعين في هذا الزمان ممن يتمدح بترك التقليد وهو مقلد لمن لا يساوي قلامة أظفارهم، بل يأخذ من قولهم ما احتوى على الهدى والرشاد المستمد من وحي الله، ويترك ما خالفه مما أخطئوا فيه أو قلدوا، والعجب العجاب ممن يزعم أن دلالة الوحي ظنية، والله يقول في فواتح كتابه: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [البقرة: 2] لا يعتريه الريب ولا يتطرق إليه الشك. ومن المعلوم أنه لا يسمي ظنيًا إلا ما تطرق إليه شيء من ذلك، والله المستعان.


الثانية عشرة: ذهب بعضهم إلى أن الوصية أصبحت مندوبة لا واجبة، وأرباب هذا القول على نوعين، كليهما غير مقبول حسب مدلول الآية:

فأحدهما قال بالندب على نسخ الوجوب، وقد ذكرت عدم تسويغ النسخ فضلًا عن صحته، فإنه لا يجوز القول به. وقد اتضح مما أسلفناه أن القول بنسخ الآية آية الوصية الواضح أحكامها قول على الله بلا علم، فيجب اجتنابه.


والنوع الثاني قوم فهموا المندوبية من قوله تعالى: ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ قائلين مع الأسف أنه لو كان فرضًا لقال الله: (حقا على المسلمين كلهم).


وهذا قول سخيف، ورحم الله الشوكاني إذ يقول: "إن القيل والقال يحصلان من أهل العلم في بعض الأحوال".


وكيف غاب عنهم أن الله قال عن كتابه: ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2] ولم يقال: للمسلمين، فهل لا تكون هدايته للمسلمين؟ وكثيرًا ما يعبر الله بالتقوى في كتابه الكريم، وقد يكون عند بعض الفساق أنواعًا من التقوى يحبها الله لا تكون عند غيره، والتخصيص في مسمى التقوى لا يخرجها عن مخرج المنادى بها عن عموم المسلمين وتحتيمها واضح كما سنبينه إن شاء الله.


هذا وقد جرى ابن كثير رحمه الله مجرى غيره مخالفًا لابن جرير، فزعم نسخ الوجوب العام وبقاء الوجوب الخاص فيمن لا يرث. ثم قال: صارت سنة، ونقل وجوبها فيمن لا يرث عن ابن عباس وطاوس والحسن وقتادة ومسروق والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد وسعيد بن جبير والربيع ومقاتل بن حيان.


وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله بعد ذكر الخلاف:

"والأحسن في هذا أن يقال: إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة ردها الله إلى العرف الجاري. ثم إن الله تعالى قدر للوالدين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث بعد أن كان مجملًا.


وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين في الإرث وغيرهم ممن حجب بشخص أو وصف، وإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهو أحق الناس ببره.


وهذا القول تتفق عليه الأمة ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين، لأن كلًا من القائلين بهما كل لحظ ملحظًا، واختلف المورد. فبهذا الجمع يحصل الاتفاق والجمع بين الآيات، فإنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ الذي لم يدل عليه دليل صحيح". اهـ

 

لله دره ما أنصفه رحمه الله!


وما قاله الشيخ السعدي - رفع الله منازله - هو الحق الذي تطمئن إليه النفوس، فقد وفقه الله لاحترام أقدار المفسرين وللجمع بين النصوص، حيث جعل حكم الآية باقيًا في وجوب الوصية لمن لا يرث من الولدين والأقربين المحجوبين عن الإرث بشخص أو وصف ورفع حكمها فيمن يرث منهم، لورود نص الحديث بذلك، وذلك أن آية الميراث رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصية، فرفع حكم الوارث فقط بما فرض الله له من الميراث بدون منة من قريبه، فلا تجوز الوصية له إلا بالأسباب الماضية.


وقد اعترف ابن كثير رحمه الله بأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه آية الوصية، ولكنه قال بعد ذلك باستحباب الوصية للأقارب الذين لا ميراث لهم، فكيف يقول بالاستحباب وهو معترف بالوجوب في الأصل قائلًا عن الوجوب: "وهو الظاهر من سياق الآية"!؟ ولا يكون الواجب مستحبًا إلا بعد نسخ وجوبه وهو من المعترفين بعدم نسخه.


فالقول بالاستحباب لا يسوغ إلا للوارث الذي كان وجوب الوصية له منسوخًا، لأنه إذا رفع الحكم الوجوب بقي الاستحباب أو الإيجاب لكن ورد النهي في الحديث عن الإيصاء له فكان ممنوعًا بالكلية سوى ما قدمناه بالتعليل السابق، أما غير الوارث فلم ينسخ وجوبه حتى يصار إلى الاستحباب، ووجوب الوصية ظاهرة تحتمية فيمن لم يرفع حكمه كما سبق؛ لأن الله سبحانه أكد الوجوب تاكيدًا منقطع النظير لما يحصل في تنفيذه من التكافل العائلي الذي يشد رابطة الأسرة بأوثق رباط عرفة التاريخ، وهذا من محاسن الدين الإسلامي، فإن الله لم يجعل أمر الوصية المستحقة إلى الموصي وأنانيته ولا إلى رحمته أو منته، بل جعلها حقًا مفروضًا ل أهمله يؤخذ من ثلثه ثلثيه كما قدمنا في الآثار.


ولهذا ابتدأ الله آية الوصية بقوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ﴾ يعني: فرض من الله فرضًا عليكم لا رأي لكم فيه ولا خيار. وإنما عليكم التسليم لله بالمبادرة إلى التنفيذ، فمن ﴿ تَرَكَ خَيْرًا ﴾ وهو المال الكثير عرفًا وجب عليه أن يوصي لمن لا يرث، فيقرر ﴿ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ المحجوبين من الميراث بشخص يحرمهم أو وصف يمنعهم، ويكون إيصاؤه ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ الذي لا يستنكر لقلته العديمة النفع أو كثرته المجحفة بالورثة.


وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم أعلاه بالثلث، ولم يحدد أدناه لاختلاف الثروة وكثرة تضخمها من قلته. وقد مضى بنا حديث سعد بن أبي وقاص وقال بعض العلماء بالخمس لصاحب المال الكثير، ولم تحدد النصوص حدًا لمعنى الكثرة لاختلاف العرف في الأزمنة والأمكنة حتى لا تجمد شريعة الله على حد يكون ضئيلًا تافهًا في بعض الأزمنة والأمكنة، أو يكون كثيرًا في بعضها.


وهذا من عظيم صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان. فالعليم الحكيم سبحانه وتعالى يعلم تطور الثروة في بعض الأزمنة والأمكنة إلى عشرات الملايين أو مئات الملايين، وانخفاضها في بعضها إلى عشرات الألوف أو مئات الألوف، وفي بعضها إلى المئات أو الألوف القليلة، فقيد المال للموصي بالعرف، فكل من ترك ما يسمى بالخير في عرف زمنه وبلده، وجبت عليه الوصية كما فرضها الله.


ثم إنه سبحانه وتعالى أكد فرضية الوصية وتحتيمها بقوله: ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾. والحق هو الثابت الوجود الذي لا يجوز التساهل فيه، فقوله: ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ أي فرضته أو حققته حقًا على المتقين الذين يأخذون لهم وقاية من سخطي وعذابي بالمبادرة لامتثال أوامري تحقيقًا لطاعتي؛ لينالوا مرضاتي ويبتعدوا عن سخطي.


ففي ختام لهذه الآية تأكيد لفرضيتها حتى لا يتساهل العباد بأمرها لأنه سبحانه يعلم أنه يجيء من يتأول هذا الأمر بالندب، فأراد أن يسد عنه منافذ التأويل، ولذلك افتتحها بقوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ﴾ واختتمها بقوله: ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ ليعطي المتبصرين بالنص سلاحًا يغلبون به القائلين بالندب؛ لأن القائلين بالندب شبهتهم ما رسمه الأصوليون من قول بعضهم: الأمر المطلق يقتضي الندب ما لم تدل قرينة على الوجوب.


فقد جاء الله بما هو أقوى من القرينة في هذه الآية حيث جاء بعبارات واضحة تدل على الوجوب بأوضح مدلول.


هذا وإن الراجح من قول الأصوليون أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب ما لم يقم دليل أو قرينة تدل على الندب، ويشهد لهذا أن الله أمر إبليس بالسجود أمرًا مطلقًا بدون تأكيد ولا تهديد، فلما امتنع حلت عليه اللعنة الدائمة، وأما النهي المطلق فيحتاج إلى توكيد ليدل على التحريم لا على الكراهية.


مثال ذلك: لو لم يقل الله للأبوين في النهي عن أكل الشجرة إلا ﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾ [الأعراف: 19] فقط لكان المفهوم من النهي الكراهة، لكن لما جرى تأكيد النهي بقوله: ﴿ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 19] دل النهي على التحريم بصيغة النص الواضح، فختام النهي بسوء العاقبة أدل على التحريم من القرينة، وإلا فقد قال بعضهم: إن التحريم ظاهر من القرينة وهي قوله سبحانه: ﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾ [الأعراف: 19]. فالنهي عن مجرد قربانها يقتضي وجوب الابتعاد عنها، وذلك يستلزم عدم التناول منها، فكان النهي المطلق عنها يقتضي التحريم لوجود القرينة بهذا التعبير، فلو قال: (لا تأكلا من هذه الشجرة) فقط بلا قرينة ولا تأكيد لساغ تأويل النهي بالكراهة، ولكنه سبحانه أتى بالجميع، أتى بالقرينة وبالتأكيد، وكذلك الأمر مهما حاولوا أن يجعلوا إطلاقه يقتضي الندب يردعهم الله عن ذلك من نفس السياق، ليعلم كل من خلصت سليقته وسلم تفكيره أنه يقتضي الوجوب كما في آية الوصية، فقد افتتحها الله بقوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي: فرض عليكم، واختتمها بقوله: ﴿ حقًا على المتقين ﴾ لينفي سبحانه شبهة الندب عن الأذهان أو عن أذهان المتساهلين، كما ينفي دعوى النسخ قوة التعبير والتأكيد في نفس الآية وما بعدها، فإن وعيد المبدل للوصية يؤكد فرضيتها، ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ يعني: من بدل ما أوصى به الموصي بعدما سمعه منه أو علم به علمًا متيقنًا من الكتابة المضبوطة والشهود العدول كان الإثم عليه، سواء كان وليًا أو وصيًا، وكذلك الشاهد إذا بدل ما سمعه من الموصي بما تهواه نفسه هو لغرض أو مصلحة، فالإثم عليه، وتبرأ ذمة الموصي من عهدة الوجوب التي عليه ويثبت أجره على الله لقيامه بواجب الامتثال ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ سميع لما يقوله الموصون، عليم بما في ضمائرهم، وسميع عليم بما يبدله المبدلون، وعليم ببواعث التبديل من أعماق سرائرهم فينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويعاقبهم عليه.


ففي ختام الله سبحانه لهذه الآية عدة فوائد:

أحدهما: إعلام الله للقارئين والسامعين أن السياق ينافي النسخ، لأن الحكم الذي سينسخه الله لا يؤكده ويوثقه بمثل هذا التأكيد والتوثيق الذي أتى به في آيات الوصية من كونه مكتوبًا مفروضًا وأنه حق على المؤمنين ومن الوعيد الشديد على تبديله.


وقد اتضح مما سبق بطلان قول من قال بنسخ آية الوصية بآية المواريث، لأن النسخ بين النصين لا يكون إلا إذا تنافى العمل بموجبهما بالتعارض، ولا تعارض بينهما يقتضي تنافي العمل بموجبهما، بل في آيات الميراث تأكيد الوصية وتقديمها على أنصباء الميراث كما تقدم، فكيف يصح دعوى النسخ بأي وجه من الوجوه. وأبعد من ذلك من زعم نسخ الوصية بالإجماع على عدم فرضيتها، لو حصل الإجماع لما صح أن يكون ناسخًا. فكيف ودعوى الإجماع لا تصح بتاتًا؟! لا دعوى الإجماع على عدم فرضها ولا على نسخها، إذ كل من ذلك لا يجوز زعمه، فضلًا عن صحته.


وكيف يكون الإجماع على شيء قد خالفهم فيه ابن جرير وجماعة من الصحابة والتابعين؟! وكذلك من زعم نسخ الآية بالحديث وادعى الإجماع عليه يعارض بمخالفة ابن جرير وجماعة من أجلاء الصحابة والتابعين، وكبار شيوخ الحديث: كالبخاري ومسلم وأبي داد غيرهم. فإن كان هؤلاء ليسوا من الأمة صح دعوى الإجماع، وإن كانوا من خيار الأمة وطليعتها الفاضلة بطلت مزاعمهم في الإجماع على هذا أو ذاك.


ثانيها: تشجيع المسلم ذي المال على الوصية؛ لأنه قد يمتنع منها لما يتوهمه من التبديل فيها وعدم التنفيذ لها، وتطمينه في ذلك بأن إثم التبديل في تغييرها أو عدم تنفيذها يتحمله المبدل وحده ولا يناله هو شيء من الإثم، بل يحظى بالأجر الكامل على تنفيذ ما أمره الله به ويختص بالإثم فاعله، وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 111].


ثالثها: أن الوصية واجبة مفروضة حتمًا على من خشي الرحمن بالغيب أن يوصي لمن لا يرث من أقاربه، كما أسلفنا الكلام على ذلك، فإن هذا التنصيص بالوعيد على من بدلها من جملة الدلائل على فرضيتها.


رابعها: تحذير الولي الوصي من تبديل الوصية أو الجناية عليها بعدم التنفيذ، ففي قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ إنذار قوي للذين يخشون ربهم بالغيب في تذكيرهم أن الله سميع يسمع جميع الأصوات، ومنها سماعه لمقالة الموصي، فعليه مراقبة الله بعدم الجور في وصيته، وأن يجعل الأولوية في الإيصاء لمن نص الله عليهم من الوالدين والأقربين الذين ليس لهم حق في الميراث ممن انحجبوا عن الإرث بشخص أقرب منهم كالأجداد مع وجود الأب القريب، وكأبناء الابن مع وجود الابن، وكالإخوة على اختلاف جهاتهم مع وجود الأب أو الابن الذي يحجبهم، وكالأخ لأب مع وجود شقيق يحجبه، وكالجدات المحجوبات وغيرهم، ثم القريب من ذوي الأرحام، وكذلك الوالدين أو الأقربين المحجوبين عن الإرث بوصف يمنعهم منه كالرق ونحوه.


فينبغي للمسلم أن يتجرد في وصيته عن أهوائه وأغراضه، وأن يقف عند حدود الله فيها، كما يجب عليه الوقوف عند حدود الله في جميع الأموال والشئون. فإن الله سميع لما يقوله، عليم بما يفعله وما يخفيه في قرارة نفسه، وسميع عليم بما يقوله الوصي أو يفعله مما يخالف به نص الوصية.


فعلى الجميع مراقبة الله وتقواه في ذلك، فيرعى الموصي أمانة الله فيما يوصي به، فلا يقدم ما تهواه نفسه على مراد الله للأقربين على الوجه الصحيح. وعلى الوصي أو الولي مراعاة أمانة الله فيما عهد إليه من الوصية الشرعية التي لا تتنافى مع الله سبحانه من إقامة العدل.


ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ يعني أن من كان قصده صحيحًا في تسيير الوصية على الوجه الشرعي و﴿ خَافَ ﴾ أي خشي من الموصي ﴿ جَنَفًا ﴾ والجنف – بفتح النون - هو الميل بها عن الحق دون تعمد، ﴿ أَوْ إِثْمًا ﴾ وهو الميل بالوصية عن مراد الله تعمدًا بأن يفعل إضرارًا بالورثة، بقصد إذابة المال، أو يفضل الأبعد على الأقرب، أو يوصي لمن لا يرث وصية صورية يقصد بها منفعة أبيه الوارث، كأن يوصي لابن ابنه الموجود أو ابن بنته الموجودة لينفع ابنه الوارث أو بنته الوارثة بشكل فيه التواء، ونحو ذلك من كل ما فيه تهمة الحيف والجور.


ولهذا عبر الله بالخوف بقوله: ﴿ فَمَنْ خَافَ ﴾ والخوف إنما يصح في أمر مرتبط والوصية قد وقعت. فكيف يصح تعليقها بالخوف؟


فإذا بدا للمصلح أن هذا الموصي قد تظهر منه أمارات الحيف والتعدي بزيادة غير مستحق أو نقص مستحق، أو تلجئة أو عدول عن مستحق، أو أي شيء فيه تهمة له بالجور الخفي، فأصلح عند ظهور هذه الأمارات؛ لأنه لم يقطع، والجنف والإثم مناسب أن يعلق بالخوف، لأن الوصية لم تمض بعد ولم تقع، أو لأن الوصايا فيها مظنة التهمة بلا يقين فعبر الله عنها بالخوف.


والحاصل أن الساعي هنا للإصلاح الذي يرتفع به الجنف والإثم فتبرأ به ذمة الموصي، وتسلم قلوب الأقارب من الضغينة يكون الساعي فيه سالمًا من الإثم حائزًا للثواب على قدر نيته وجهده، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. فكيف بمن قلب الباطل حقًا، والمفسدة مصلحة بمجهوده الطيب وضميره الصالح؟ وهذا قد استثناه الله من الآثمين بتبديل الوصية؛ لحسن مقصده وصحة إدراكه، وفي هذا تشجيع على التصدي للإصلاح.


خاتمة: حكى العبادي الإجماع على نسخ آية الوصية، وقد أوضحنا فيما مضى استحالة الإجماع على ذلك؛ لوجود جماعة من أجلاء الصحابة والتابعين كبار المحدثين على الإطلاق، قالوا بأنها محكمة، فلا تصح دعوى الإجماع إلا بإخراج هؤلاء من الأمة، إذ لا يصح مع خلاف هؤلاء غيرهم من العلماء الذين قالوا إنها محكمة. وقد انتصر ابن حزم لهذا القول غاية الانتصار بما لا نحب الإطالة بنقله، فهي من العام مخصوص كما أسلفناه. وعند بعض الأصوليين مما نسخ بعضه وبقي بعضه محكمًا؛ لأنها قد عمل بها قبل المخصصات، فلا تزال جميع أمصار المسلمين عاملة بالوصية الواجبة.


وقد أصدرت لجنة الفتوى بالجامع الأزهر فتاوى متكررة بوجوب العمل بها. ولا شك في أن إيجابها على المتمولين في هذا العصر من الضروريات؛ لوجود ثروات عظيمة هائلة تبلغ عشرات الملايين ومئات الملايين عند أناس لهم أقارب ضعفاء لا يرثون ولا يعرفونهم بخير.


فالحكم بفرضها على ظاهر النصوص إحسان عليهم وعلى أقاربهم جميعًا.


ومن المؤسف أن يجمد بعض العلماء في قلب الجزيرة العربية عن الاجتهاد في هذه القضية، ويتعصبوا لتقليد قوم رأوا في الآية خلاف ما رآه غيرهم مما هو أقرب إلى فهم النصوص من فهمهم، ولعلهم معذورون لأسباب يرونها نصب أعينهم، غفر الله لهم، ولكن لا يجوز الجمود على تقليدهم مع ضرورة إيجابها في هذا الزمان.



[1] أخرجه البخاري كتاب الجنائز باب رثي النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة رقم [1295]، ومسلم في صحيحه رقم [1628] من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

[2] هذه الفقرة رويت من حديث جمع من الصحابة رضي الله عنه وأصحهم طريقًا حديث أبي أمامة رضي الله عنه ورويت أيضًا من حديث عمرو بن خارجة وأنس بن مالك، وابن عباس، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وجابر، وزيد بن أرقم، والبراء، وعلي ابن أبي طالب، وخارجة بن عمرو الجمحي؛ وانظر نصب الراية [4/403].

[3] أخرجه الترمذي [2120]، وابن ماجه [2713] وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ونقل المؤلف هنا رحمه الله قول الحافظ ابن حجر وغيره في أسانيد هذا الحديث مما يغني عن الإعادة فانظره بعد عدة صفحات في تتميمه وملاحظاته على هذا الموضوع ص64.

[4] أخرجه سعيد بن منصور في سننه [1/135] رقم [1/140] رقم [379] من طريق هشيم عن جويبر عن الضحاك به.

[5] أخرجه سعيد بن منصور في سننه [1/136] رقم [360] من طريق الأعمش به.

[6] انظر تفسير الطبري [2/116].

[7] انظر الطبري [2/117].

[8] انظر سنن سعيد بن منصور [2/671]، سنن البيهقي [6/265] ومصنف عبد الرزاق [9/83].

[9] أخرجه عبد الرزاق [9/81] به.

[10] انظر الطبري [2/117].

[11] انظر الطبري [2/117].

[12] أخرجه البيهقي في سننه [6/265].

[13] أخرجه سعيد بن منصور في سننه [2/664]، ومن طريقه البيهقي في السنن [6/265] عن سفيان به. وقالا: سنده صحيح.

[14] انظر السنن لسعيد بن منصور [2/655]، وسنن البيهقي [6/265].

[15] انظر التعليق السابق، السنن لسعيد بن منصور [1/139].

[16] انظر تفسير الطبري [2/118]، وسنن البيهقي [6/265].

[17] انظر التعليق السابق.

[18] اخرجه ابن أبي شيبة [6/214] رقم [30784] من طريق حماد بسنده به.

[19] انظر كلام الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره [2/115].

[20] تقدم تخريجه قريبًا من قول الضحاك رحمه الله ولم أجده من قول علي رضي الله عنه.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير سورة البقرة .. الآيات (174 : 175)
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات (178 : 179)

مختارات من الشبكة

  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (135 - 152) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (102 - 134) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (65 - 101) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (1 - 40) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (40 - 64) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الفتوحات الربانية في تفسير الآيات القرآنية: سورة البقرة الآيات (1-5)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • المصادر الأولية لتفسير كلام رب البرية: المحاضرة الثانية (تفسير الآيات الناسخة للآيات المنسوخة)(مادة مرئية - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • الفتوحات الربانية في تفسير الآيات القرآنية: تفسير الآيتين (6-7) من سورة البقرة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الفتوحات الربانية في تفسير الآيات القرآنية: تفسير سورة الإخلاص(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الفتوحات الربانية في تفسير الآيات القرآنية: تفسير سورة الفاتحة(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب