محطات في رحلة البرازيل (27) - رحمك الله يا خليل

محطات في رحلة البرازيل (27)

رحمك الله يا خليل

من أحسن ما يُخلِّده المرء سيرة عطرة يتناقلها الناس، وكذلك كان خليل، فكلُّ مَن يعرفه في البرازيل يمدحه ويروي عنه القصص والمآثر، فاقترح صاحبي على أقاربه أن يُدوِّنوها؛ ليُخلَّد ذكره ويَزيد أجرُه.

توفي عام 2010، يُذكَر عنه كثرة إنفاق ما في يده على الفقراء، فلا يُبقي له شيئًا، عاش متواضعًا، مُهتمًّا بالدعوة، حريصًا على ترابط المسلمين فيما بينهم، ينظر بعين ثاقبة للأمور، عين راقبَت الله فكساها بُعد نظر وسعة إدراك.

ولعلي في هذه المحطة أذكر قصة حكاها لي أحد أحفاده، يقول: أخذتُه معي في سيارتي متوجهًا به لمؤتمر إسلامي يحضره المسلمون وغيرهم، وفي الطريق رميت منديلاً بيدي خارج السيارة دون شعور مني، فما كان من الشيخ إلا أن أوقفني، ثم قال لي: ارجع، فاستدرت بالسيارة ورجعت لنفس الطريق متسائلاً: ماذا يريد؟! فلما وصلنا حيث رميت المنديل لم يرَه.

وقال لي: بُني، لقد رميت المنديل وخشيتُ أن يرى أحد ممن سيحضر المؤتمر هذا المنظر، ثم يرانا بعد ذلك في المؤتمر، فيزهد في الإسلام؛ إذ كيف لدين لم يُهذِّب نفوس أصحابه، ولم يَجعلهم يحترمون الآخرين ويعرفون ما يؤذيهم أن يقتنع به الآخَرون؟! فنكون أنا وأنت ممن صدَدنا هذا الرجل عن الإسلام، فاحذر بُني.

كلمات قالها، وهي مجرد شعور ورؤية ثاقبة لما وراء الأفعال السيئة من ردود أفعال، وإن كانت بسيطة في نظر صاحبها، فكيف بمَن يُمارس المنكرات نهارًا جهارًا! كم يصدُّ غيره عن الدين؟! وكم يشجِّع آخَرين على المعصية؟! لذا صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((كل أمتي مُعافًى إلا المجاهرين))[1].

أخذ حفيده يَسرد القصص في زهده وإنفاقه، فأبحر فكري بين ثنايا القصص لأجد نفسي قد تخطَّيت حدود الزمن؛ فأرى "خليل" هذا حال حياته وأتساءل: كيف حال مَن كان حوله؟

هل كانوا يَمدحون تصرفاته كما هم اليوم؟

هل كانوا راضين عن أفعاله؟

رأيت البعض منهم يوجه له اتهامات بعدم التخطيط للمستقبل، وكأن أحدهم يَهمس له بنصائح ظاهرها الحرص على مستقبله وباطنها الأمر بالبُخل، ويَسرد أمثلة دارجة مشهورة مثل: "احفظ قرشك الأبيض ليومك الأسود"، "مسكين من ضيَّع دفاه"، رأيت كيف تَنهال عليه النصائح يمنة ويسرة بأن يهتمَّ بحياته، ويقتصد في صدقاته، ويحدَّ من مصروفاته، هؤلاء هم الآن مَن يذكرون القصص نفسها، لكنهم يَذكرونها من باب الفخر، ويَتبعونها بمدحه وشمولية نظرته التي لم تغيرها الدنيا، ووضعها حيث تكون له رصيدًا في الآخرة، ثم يترحمون عليه بكلمات تتبعها كلمات التعجب: كم كان مُنفقًا! كم كان محتسبًا! كم كان باذلاً!

نعم، هذه حال كل مَن نشط في عمل دعوي فأصبح يأخذ جل وقته، وارتفعت همته لينظر لحال الأمة من ضياع وضعف، فيُحاول إصلاح ما يستطيع إصلاحه، فتجد أن أقرب المقربين له يَنتقدونه على ضعف خبرته الدنيوية، وضعف قدرته على مُسايَرة عصره ومواكبة جيله، ثم هم أنفسهم من يذكره بأجمل الأوصاف وأعطر السيَر بعد موته.

نعم، عندما ينظر المرء لما أمامه وما يَنتظرِه من نعيم الآخِرة، فإن نظرته للدنيا تتقاصَر، وبغيته من الحياة تتزاهد.

هذه نعمة من الله - عز وجل - يمنُّ بها على عبده بعد موته إذا كان صادقًا مع الله - عز وجل - في عمله، فكما كان قدوة لطلابه ومن عرف همته كان مدحهم له: ((عاجل بُشرى المؤمن))[2]،في دنياه، وها هو بعد موته يُصبح عَلمًا وقدوة ناصعة لمن كان يَنتقدُه ويزهد في تصرفاته.

فأعوذ بالله أن نكون ممن يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ونسأله ألا يُنازع رضاه رضا من سواه.