• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع ملفات خاصة / رمضان / خطب رمضان والصيام


علامة باركود

في ظلال آيات الصيام (1) (خطبة)

في ظلال آيات الصيام (1) (خطبة)
عبدالله بن عبده نعمان العواضي


تاريخ الإضافة: 4/6/2018 ميلادي - 21/9/1439 هجري

الزيارات: 26705

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

في ظلال آيات الصيام

الجزء الأول [1]

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70- 71].


أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.


أيها الناس، لقد فرض الله تعالى علينا صيام شهر رمضان من كل عام، وأنزل في ذلك خمس آيات متصلة في سورة البقرة، تبيّن حُكمه وأحكامه، وشروطه وآدابه، فما أحسن أن نتفيأ في ظلال هذه الآيات ونتدبرها فنأخذ منها العلم والعمل.


يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]. هذه هي الآية الأولى من الآيات الخمس، وقد اشتملت على: نداء ومنادى، وحُكم ومحكوم به، وتاريخِ تشريع، وغايةٍ لهذا التشريع.


فالنداء ﴿ يَا أَيُّهَا ﴾ وهو أسلوب قولي يستدعي انتباهَ السامع؛ حتى يُقبل على المنادي فيسمع ما يقوله.


والمنادى هو ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فأهل الإيمان هم المقصودون بهذا الحكم، وليس غيرهم ممن ليس مسلمًا، ولو كان عامًا يشملهم لقال: يا أيها الناس؛ لأن الكافر لا يُطلب منه الصيام حتى يُسلِم، ويشهد شهادة الحق.


والنداء بوصف الإيمان حاثٌّ على الامتثال والعمل؛ إذ إن الإيمان يدعو صاحبه إلى القيام بأعمال الإيمان: عملاً بالأمر، وتركًا للنهي، وتلقّي ذلك بالسمع والطاعة. وقد جاء بعد هذا النداء الأمر بعمل خير ألا وهو الصيام، وما على المؤمن إلا امتثال هذا الأمر.


وقد أتى رجلٌ عبدَ الله بن مسعود، فقال اعهد إليّ، فقال: "إذا سمعت الله يقول: ﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"[2].


وأما الشيء الثاني في الآية فهو الحكم والمحكوم به؛ فالحكم هو الإيجاب، وقد جاء بلفظ: "كتب" الذي هو صيغة من صيغ الوجوب التي تدل على الفرض والإلزام؛ كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178].


وأما المحكوم بوجوبه فهو الصيام الشرعي الذي هو: " الإِمساكُ عن المفطِّرات، بنيَّة التعبُّد لله تعالى؛ مِن طُلوعِ الفجر إلى غُروبِ الشمس"[3].


وأما التاريخ لهذا التشريع الواجب فهو قوله: ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾[البقرة: 183]، فعُلِم منه أن الصيام شريعة واجبة في الأمم قبل هذه الأمة، وليست عليها وحدها. وهذا يبين أن عبادة الصيام عبادة صالحة لكل زمان، ولكل أمة.


وقد ساق الطبري بسنده إلى السدي فقال: " أما الذين من قبلنا: فالنصارى، كتب عليهم رمضان، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساءَ شهر رمضان. فاشتد على النصارى صيامُ رمَضان، وجعل يُقَلَّبُ عليهم في الشتاء والصيف. فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صيامًا في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا: نزيد عشرين يومًا نكفّر بها ما صنعنا! فجعلوا صيامهم خمسين"[4]. تحريفًا وتبديلاً لشرع الله تعالى.


وأما الغاية من تشريع الصيام فهي في قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]؛ فالصيام عبادة شُرعت لهدف عظيم يجلب للمسلم السعادة في الدنيا والآخرة عبر بوابة التقوى؛ فإن الصيام لما كان تصبيراً للنفس على اجتناب المفطّرات التي حرمها الله تعالى على الصائم وقت صيامه، وتصبيراً للنفس على القيام بما يصح به الصيام من الطاعات، وتصبيراً للنفس على تحمل المكاره الناتجة عن ثقل الصيام من تعب وجوع وظمأ وكبح عن شهوات النفس، مع مراقبة لله تعالى وإخلاص له في ذلك؛ كان هذا كله من التقوى التي تعني: "ترك ما حرَّم الله، وأداء ما افترض"[5].


وذكرُ هذه الغاية للصيام يبين أن للصيام أهدافًا وحِكمًا عظيمة من تشريعه، فكما أن التقوى هي غايته الأصلية فإن هناك غايات فرعية أخرى أيضًا؛ فالصيام يربي المسلم على مراقبة الله تعالى والإخلاص له، ويدعوه إلى الإيثار والرحمة، ويُقيمه على صراط الخُلق الفاضل، والمعاملة الحسنة، ويربيه على ضبط النفس والسيطرة عليها، وكبح جماحها في شهواتها وغضبها وسوء تعاملها.


عباد الله، الآية الثانية من آيات الصيام: قول الله تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184].


وقد احتوت هذه الآية على خمسة أمور: بيان مدة الصيام، وبيان الأعذار المانعة منه، أو التي يشق معها الصيام، وبيان الحكم في حق من كان فيه عذار من هذه الأعذار، والترغيب في الزيادة على الفدية، والحث على أفضلية الصيام على الفدية، أو مع وجود المشقة المحتملة.


فالأمر الأول: أن الصيام الذي فرضه الله تعالى علينا معشر المسلمين إنما هو أيام قليلة، وليس مدة كبيرة؛ ولذلك ذكر المدة ووصْفها بقوله: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 184] على جمع القلة؛ تشويقًا للصيام، وترغيبًا في الحرص عليه، قال بعض المفسرين: "وإنما عبّر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة، ووصف بمعدودات وهي جمع قلة أيضًا؛ تهوينا لأمره على المكلفين، والمعدودات كناية عن القلة؛ لأن الشيء القليل يُعدّ عداً؛ ولذلك يقولون: الكثير لا يُعَد"[6].


والأمر الثاني في الآية: بيان الأعذار المانعة من الصيام، أو التي يشق معها، فقال تعالى عنها: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾، فذكر تعالى المرض والسفر، فأما المرض الذي يمنع من الصيام فهو الذي يؤدي إلى زيادة الداء، أو تأخير الشفاء، أو يوصل إلى تلف النفس. وليس كل مرض عذراً للفطر، فالمرض اليسير الذي يمكن معه الصوم ولا يوصل إلى نتيجة من النتائج السابقة لا يمنع من الصيام.


وأما السفر فإنه عذر للفطر إذا كان إلى مكان عُدّ في عُرف الناس أنه سفر تقصر فيه الصلاة[7].

وإن استطاع المسافر الصيام في سفره خاصة إذا كان سفره مريحًا لا مشقة فيه فنفضل له الصيام على الفطر؛ أداء لحق الله، ومسابقة إلى الخير؛ لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له في المستقبل.


وهناك صنف آخر من أصحاب الأعذار ذُكروا في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ﴾ وهم الذين يتكلفون الصيام ويشق عليهم مشقة غير محتملة؛ كالشيخ الكبير الفاني والعجوز الهرمة، والمريض مرضًا لا يرجى شفاؤه حتى يتمكن من القضاء عند الشفاء. ويلحق بهم المرأة الحامل، أو المرضع، إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما.


والأمر الثالث في الآية: بيان الحكم في حق من كان فيه عذار من هذه الأعذار؛ فأما المريض مرضًا يرجى شفاؤه، والمسافر فإن عليهما القضاء بعد رمضان؛ لقوله تعالى في الآية: ﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]. فمن أفطر في رمضان لسفر أو مرض شُفي بعده فعليه قضاء ما أفطر من شهر رمضان. ولا يشترط التتابع في القضاء، بل يجوز التتابع والتفريق، كما لا يشترط أن يكون ذلك في شوال، بل يجوز تأخيره ولو إلى شعبان، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان يكون عليّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان)[8]. مع أن المبادرة أفضل، خاصة لمن يريد صيام الست من شوال.


ويلحق بالمريض والمسافر في وجوب القضاء: الحامل والمرضع، فإن عليهما القضاء فقط وليس عليهما فدية مع ذلك، على الصحيح[9].


وأما المريض مرضًا لا يُرجى شفاؤه، والإنسان الكبير في السن فهؤلاء عليهم مع الإفطار إطعام مسكين عن كل يوم أفطروه من رمضان؛ لقوله تعالى في الآية: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾. ومقدار الإطعام: نصف صاع عن كل يوم، ويساوي ذلك كيلو ونصفًا، من غالب الطعام.


وفي قضية الإطعام تنبيهات: أولاً: أنه يجب أن تكون الفدية من الطعام ولا تجزئ من غيره، فلا يصح أن يُعطى المسكين نقوداً إلا إذا اشترى بها طعامًا، ولا تجوز الفدية بملابس أو دواء أو نحو ذلك.

 

ثانيًا: يجوز الإطعام في رمضان ويجوز بعده. ثالثًا: يجوز أن يُجمع المساكينُ في آخر رمضان وبعده ويُطعَموا عدد ما أفطر المعذور، وكما يجوز جمعهم في وقت واحد يجوز أيضًا تفريقهم، حسب ما يتيسر للمطعم. رابعًا: ولو دعي المسكين إلى البيت أو إلى مطعم فأطعم وجبة كافية، سواء كان ذلك في رمضان أم غيره لكان أفضل.


وأما الأمر الرابع في الآية فهو: الترغيب في الزيادة على الواجب في الفدية، والحث على أفضلية الصيام على الفدية، أو مع وجود المشقة المحتملة. ففي الزيادة على الفدية يقول تعالى: ﴿ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ﴾ يعني: " فمن زاد في قدر الفدية تبرعًا منه فهو خير له"[10]. أي: لو أطعم المسكين صاعًا بدل نصف ساعة، أو أعطاه أكثر من وجبة فهو خير. وللحث على أفضلية الصيام على الفدية، أو مع وجود المشقة المحتملة يقول تعالى: ﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي: "وصيامكم خير لكم -مع تحمُّل المشقة- من إعطاء الفدية، إن كنتم تعلمون الفضل العظيم للصوم عند الله تعالى"[11].


أيها الأحباب الكرام، تأملوا في هاتين الآيتين الكريمتين كيف رغبنا الله تعالى في الصيام بعدة أمور[12]:

أولاها: أن الصيام لم يُفرض علينا -أمةَ محمد- وحدنا، بل قد فُرض أيضًا على غيرنا من الأمم قبلنا، فيكون لنا بذلك أسوة، وهذا يخفف من ثقل العبادة لوجود القدوة.


ثانيها: أن الصيام عبادة لها غاية حميدة، وفائدة كبيرة، ألا وهي: التقوى، وهذا مما يشجع على القيام بعبادة الصيام.


ثالثها: أنه شُرع أيامًا قليلة، وليس أيامًا كثيرة، وهذا ينشط المسلم على الصيام.


رابعها: أن هذه العبادة الواجبة لا يدخل في حكمها أصحاب الأعذار من مرض أو كبر أو سفر، وإنما تجب على الصحيح القادر المقيم، وهذا مظهر من مظاهر رحمة الله تعالى بعباده، وتيسير العبادة عليهم.


فلله الحمد على نعمة الإسلام، ولله الحمد على نعمة الصيام، ولله الحمد على هذا التشريع الميسر في جميع الأحكام.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،

أما بعد:

أيها المسلمون، والآية الثالثة من آيات الصيام هي قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].


وفي هذه الآية الكريمة مسائل:

المسألة الأولى: قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾، وهذا تحديد للزمن الواجب صيامه، بعد أن أُجمل في قوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾ [البقرة: 183] ولم تبين الآية السابقة شهرَ الصيام، فجاءت هذه الجملة: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾ لتحدد أنه شهر هلالي من شهور السنة القمرية وتخصه من بين شهور السنة الاثني عشر بشهر رمضان. وقد اختار الله تعالى هذا الشهر وشرّفه بالصيام لحكم يعلمها تبارك وتعالى.


وكما اصطفاه سبحانه للصيام فقد اصطفاه أيضًا بمزية أخرى ألا وهي نزول القرآن فيه، وهي المسألة الثانية.


المسألة الثانية: قوله تعالى: ﴿ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾، فقد اجتبى الله تعالى شهر رمضان بنزول القرآن، قال ابن كثير: " يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم... نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ وقال: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ مباركة ثم نزل بعده مفرقاً بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هكذا روي من غير وجه عن ابن عباس"[13].


عباد الله، وأما المسألة الثالثة ففي قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾، ففيها التصريح بفرضية الصيام بشرطه، بعد تحديد شهره، وهذه الجملة من الآية -على قول جمهور العلماء- ناسخة للتخيير المذكور في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، فقد "كان في ابتداء الأمر من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً"[14]، ومما يدل على ذلك حديث سلمة بن الأكواع قال: لما نزلت: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]،كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها[15]. قال ابن كثير: "فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه بقوله: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾، وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام، فله أن يفطر ولا قضاء عليه؛ لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن يجب عليه فدية عن كل يوم، وعليه أكثر العلماء[16].


المسألة الرابعة: قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾، فقد ذكر الله تعالى في هذه الجملة من الآية من شروط وجوب الصيام: الإقامة، والسلامة من الأعذار، فقوله: ﴿ شَهِدَ ﴾ أي: حضر في الشهر، أي: لم يكن مسافراً، وهو المناسب لقوله بعده:﴿ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ الخ."[17].


وقوله: ﴿ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾، فيه شرط السلامة من عذر المرض ووجوب القضاء لمن أفطر لمرض أو سفر.


ووجه إعادة قوله: ﴿ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ مع تقدمه في الآية السابقة: حتى لا يظن ظان أن جميع ما ذُكر في الآية الماضية قد نُسخ كما نُسخ التخييرُ بين الصيام والإطعام مع القدرة، بل الرخصة بالفطر في حق المسافر والمريض باقية، ولكن عليهما وجوب القضاء لا الإطعام[18].


أيها الإخوة الفضلاء، المسألة الخامسة: قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾، فإن المتأمل في شريعتنا الغراء يجد أنها شريعة ميسرة، مبنية على دفع المشقة والعسر عن المكلف، فبعد أن ذكر الله تعالى بعض أحكام الصيام، خصوصًا الرخصة لأصحاب الأعذار في الفطر كالمريض والمسافر والعاجز، علَّل ذلك بأنه يريد بهذه الأحكام التيسير على عباده ودفع العسر عنهم. ومن نظر في عبادة الصيام وجد مظاهر كثيرة لهذا التيسير فيها، فمنها: ما ذُكر في الآية من مشروعية الفطر للمريض والمسافر والشيخ الكبير وما يلحق بهم من الحامل والمرضع، وكصحة صيام من أكل أو شرب ناسيًا، ومن أصبح جنبًا ولم يغتسل بعد، وكعدم وجوب الصيام على الصبي والمجنون، وعدم جواز الصوم من الحائض والنفساء، إلى غير ذلك من رخص الصيام الشرعية التي ذكرها أهل العلم.


المسألة السادسة: ثم ختم الله تعالى الآية الكريمة بتعليل الأحكام التي ذكرت فيها؛ فذكر سبحانه إكمال العدة، والتكبير لأجل الهداية، والشكر، فقال تعالى: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]. فبين سبحانه أنه شرع القضاء بأيام أخر من أجل إكمال عدة رمضان للمريض والمسافر ونحوهما إن أفطرا، ليتم للإنسان أجر رمضان كاملاً.


كما بين تبارك وتعالى أن التكبير الذي معناه: التعظيم والتبجيل جاء لما " أنعم عليكم به من الهداية التي خذل عنها غيركم من أهل الملل الذين كتب عليهم من صوم شهر رمضان مثل الذي كتب عليكم فيه، فضلُّوا عنه بإضلال الله إياهم، وخصَّكم بكرامته فهداكم له، ووفقكم لأداء ما كتبَ الله عليكم من صومه"[19]. " وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأكل والتلطيخ بالدماء، فكان لقول المسلم: الله أكبر، إشارة إلى أن الله يُعبد بالصوم وأنه متنزه عن مشابهة الأصنام"[20]. " ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية"[21]. إضافة لما ورد في السنة من استحباب ذلك. وجاء الشكر بعد ذلك تتويجًا للنعم الكثيرة التي منّ بها سبحانه على هذه الأمة فمن تفكر في الهداية لصيام هذا الشهر وتيسير أحكامه وذهاب المشقة عنه كان ذلك أدعى لشكر الله تعالى. قال بعض المفسرين: " فقوله: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا ﴾ علة الأمر بمراعاة العدة، ﴿ وَلِتُكَبِّرُوا ﴾ علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر،﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ علة الترخيص والتيسير"[22].

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...



[1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني في 2/ رمضان /1439هـ، 18/5/2018م.

[2] تفسير ابن أبي حاتم (1/ 283).

[3] الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/ 5).

[4] تفسير الطبري (3/ 411).

[5] جامع العلوم والحكم (20/8).

[6] التحرير والتنوير (2/ 159).

[7] الشرح الممتع على زاد المستقنع (4/ 351-352).

[8] متفق عليه.

[9] الشرح الممتع على زاد المستقنع (6/ 350).

[10] التفسير الميسر (1/ 198).

[11] المصدر السابق.

[12] بعض ما ذُكر مستفاد من كلام القفال، ينظر في: تفسير الرازي: مفاتيح الغيب (5/ 63).

[13] تفسير ابن كثير (1/ 268).

[14] تفسير ابن كثير (1/ 267).

[15] متفق عليه.

[16] تفسير ابن كثير (1/ 268) بتصرف يسير.

[17] التحرير والتنوير (2/ 171).

[18] ينظر: التحرير والتنوير (2/ 172).

[19]تفسير الطبري (3/ 478).

[20] التحرير والتنوير (2/ 174).

[21] تفسير ابن كثير (1/ 271).

[22] تفسير الكشاف (1/ 254).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • في الاحتفال بأعياد ...
  • ملف الحج
  • العيد سنن وآداب
  • محمد صلى الله عليه ...
  • العطلة وأيام ...
  • المرأة في الإسلام
  • الإنترنت (سلبيات ...
  • الرقية الشرعية
  • في الاحتفال بالمولد ...
  • قضايا التنصير في ...
  • رمضان
  • الكوارث والزلازل ...
  • رأس السنة الهجرية
  • كورونا وفقه الأوبئة
  • شهر شعبان بين ...
  • في يوم عاشوراء
  • زواج المسيار ...
  • التلفاز وخطره
  • مأساة المسلمين في ...
  • مكافحة التدخين ...
  • الإسراء والمعراج
  • العولمة
  • قضية حرق المصحف
  • ملف الصومال
  • نصرة أم المؤمنين ...
  • رأس السنة الميلادية
  • العصبية القبلية
  • كرة القدم في
  • مسلمو بورما ...
  • ملف الاستشراق
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1447هـ / 2025م لموقع الألوكة