• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع ملفات خاصة / رأس السنة الهجرية


علامة باركود

خطبة: التأريخ الهجري شعار أمة

خطبة: التأريخ الهجري شعار أمة
الشيخ عبدالله بن محمد البصري


تاريخ الإضافة: 12/10/2016 ميلادي - 11/1/1438 هجري

الزيارات: 15185

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

خطبة: التأريخ الهجري شعار أمة

 

أَمَّا بَعدُ فَـ ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].

 

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، في بِدَايَةِ كُلِّ عَامٍ هِجرِيٍّ جَدِيدٍ، يَتَذَكَّرُ المُسلِمُ أَوَّلَ يَومٍ وَمَا أَدرَاكُم مَا أَوَّلُ يَومٍ؟! إِنَّهُ اليَومُ المُبَارَكُ الَّذِي وَطِئَت فِيهِ قَدَمُ المُصطَفَى - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - أَرضَ طَيبَةَ مُهَاجِرًا، حَيثُ بَدَأَ بِذَلِكَ اليَومِ العَظِيمِ تَأرِيخٌ عَرِيقٌ، هُوَ لِلمُسلِمِينَ لَيسَ مُجَرَّدَ أَيَّامٍ وَشُهُورٍ وَسَنَوَاتٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلامَةٌ لَهُم بَينَ النَّاسِ فَارِقَةٌ، وَشَامَةٌ في جَبِينِ الزَّمَانِ وَاضِحَةٌ، وَحَضَارَةٌ عَرِيقَةٌ مُمتَدَّةٌ، تَمَيَّزَت بِهَا أُمَّةُ الإِسلامِ عَن سَائِرِ أُمَمِ الأَرضِ الأُخرَى، الَّتي كَانَت وَمَا زَالَت تُؤَرِّخُ لأَنفُسِهَا بِأَحدَاثٍ مَرَّت بِهَا، أَو بِعَظِيمٍ مِن عُظَمَائِهَا المُؤَثِّرِينَ في أَحدَاثِهَا، إِمَّا بِمِيلادِهِ أَو وَفَاتِهِ، وَإِمَّا بِتَوَلِّيهِ المُلكَ أَوِ انتِصَارِهِ عَلَى عَدُوٍّ، أَمَّا التَّأرِيخُ الهِجرِيُّ الإِسلامِيُّ، فَهُوَ حُكمُ اللهِ الكَونيُّ مُنذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ، وَجَعَلَ عِدَّةَ الشُّهُورِ اثنَي عَشَرَ شَهرًا، قَالَ - جَلَّ وَعَلا -: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [التوبة: 36] وَقَد جَعَلَ - تَعَالى - ذَلِكَ التَّأرِيخَ مُقتَرِنًا بِالحَقِّ وَالحِكمَةِ وَالمَصلَحَةِ، قَالَ - جَلَّ وَعَلا -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 5] وَفي جَعلِهِ - سُبحَانَهُ - هَذَا الحِسَابَ القَمَرِيَّ مُرتَبِطًا بِالحَقِّ، بَيَانٌ وَاضِحٌ بِأَنَّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّهُ - تَعَالى - قَد جَعَلَ عَلَيهِ الاعتِمَادَ في مَعرِفَةِ أَزمِنَةِ العِبَادَاتِ وَأَوقَاتِهَا، وَرَبَطَ بِتِلكَ الأَشهُرِ الاثنَي عَشَرَ شَرعَهُ العَظِيمَ الَّذِي أَنزَلَهُ عَلَى عِبَادِهِ، فَكَانَ مِنَ الوَاجِبِ عَلَى أُمَّةِ الإِسلامِ اتِّخَاذُ النِّظَامِ القَمَرِيِّ سَبِيلاً لِقِيَاسِ الزَّمَنِ وَمَعرِفَةِ المَوَاقِيتِ، وَاتِّبَاعُ تَرتِيبِ اللهِ لِهَذِهِ الشُّهُورِ وَالتَّقَيُّدُ بِهِ، وَعَدَمُ تَغيِيرِهِ عَمَّا أَرَادَهُ اللهُ وَخَلَقَهُ، قَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ [البقرة: 189] وَقَد كَانَ العَرَبُ في جَاهِلِيِّتِهِم يَتَلاعَبُونَ بِالتَّأرِيخِ، فَيَنقُلُونَ مَا شَاؤُوا مِنَ الأَشهُرِ الحُرُمِ وَالَّتي مِنهَا ذُو الحَجَّةِ إلى وَقتٍ آخَرَ يُحَدِّدُونَهُ تَمَشِّيًا مَعَ رَغَبَاتِهِمُ وَأَهوَائِهِمُ، فَأَنزَلَ اللهُ - تَعَالى - قَولَهُ: ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [التوبة: 37] وَقَدَّرَ - سُبحَانَهُ - أَن تَكُونَ حَجَّةُ نَبِيِّهِ في وَقتِ الحَجِّ الصَّحِيحِ، ثم أَوحَى إِلَيهِ أَن يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ذَلِكَ، فَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - في تِلكَ الحَجَّةِ: " إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ استَدَارَ كَهَيئَتِهِ يَومَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ، السَّنَةُ اثنَا عَشَرَ شَهرًا مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو القَعدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَينَ جُمَادَى وَشَعبَانَ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ.

 

أَجَل - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - لَقَد خُلِقَتِ الأَهِلَّةُ وَحُدِّدَت بها الأَشهُرُ القَمَرِيَّةُ؛ لِتَكُونَ مَعَالِمَ يُوَقِّتُ النَّاسُ بها عِبَادَاتِهِم بِدِقَّةٍ، فَيَعرِفُونَ شَهرَ صَومِهِم، وَيُحَدِّدُونَ مَوسِمَ زَكَاتِهِم وَحَجِّهِم، وَيَضبِطُونَ عِدَدَ نِسَائِهِم، وَيُقَدِّرُونَ مُدَدَ الحَملِ وَالرَّضَاعِ، وَيُسَيِّرُونَ أُمُورَ مَعَاشِهِمُ الأُخرَى مِنَ الدُّيُونِ وَالقُرُوضِ وَغَيرِهَا كَمَا يَنبَغِي. قَالَ - تَعَالى -: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185] وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " صُومُوا لِرُؤيَتِهِ وَأَفطِرُوا لِرُؤيَتِهِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَقَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ الحَجُّ أَشهُرٌ مَعلُومَاتٌ ﴾ وَقَالَ - تَعَالى -: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234] وَقَالَ - سُبحَانَهُ - ﴿ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ﴾ [الطلاق: 4] وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ [الأحقاف: 15] وَفي اختِصَاصِهِ - تَعَالى - أُمَّةَ الإِسلامِ بِالتَّوقِيتِ بِالأَهِلَّةِ وَأَشهُرِهَا دُونَ الشَّمسِ وَأَشهُرِهَا؛ إِرَادَةٌ لِليُسرِ بِهِم، حَيثُ شَرَعَ لَهُمُ التَّوقِيتَ بِأَشهُرٍ لا تُكَلِّفُهُم مَعرِفَتُهَا في الغَالِبِ كَبِيرَ عَنَاءٍ وَلا طَوِيلَ حِسَابٍ، وَلا يَحتَاجُونَ في تَحدِيدِ بَدئِهَا وَانتِهَائِهَا إِلى استِخدَامِ مَرَاصِدَ مُعَقَّدَةٍ أَو مَنَاظِيرَ مُتَقَدِّمَةٍ، وَلَكِنَّهُم يَعرِفُونَهَا بِرُؤيَةِ الهِلالِ فَحَسبُ، وَذَلِكَ لا يَخفَى في الغَالِبِ عَلَى أَحدٍ.

 

وَقَدِ اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلَى العَمَلِ بِالتَّأرِيخِ الهِجرِيِّ مُنذُ عَهدِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنهُم أَجمَعِينَ -، حَيثُ جَمَعَهُم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ في خِلافَتِهِ، وَاستَشَارَهُم في تَأرِيخٍ يَعرِفُونَ بِهِ عِبَادَاتِهِم، وَيَضبِطُونَ مُعَامَلاتِهِم وَمُكَاتَبَاتِهِم، فَقَالَ بَعضُهُم: أَرِّخُوا كَتَأرِيخِ الفُرسِ بِمُلُوكِهِم، وَقَالَ آخَرُونَ: أَرِّخُوا بِتَأرِيخِ الرُّومِ، وَكَانُوا يُؤَرِّخُونَ بِمُلكِ الإِسكَندَرِ المَقدُونيِّ، وَقَالَ آخَرُونَ: أَرِّخُوا بِمَولِدِ رَسُولِ اللهِ، وَقَالَت طَائِفَةٌ: بَل بِمَبعَثِهِ، وَقَالَت أُخرَى: بَل بِوَفَاتِهِ، وَقَالَ غَيرُهُم: بَل بِهِجرَتِهِ، فَكَرِهَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - مَا ذَكَرُوهُ إِلاَّ الهِجرَةَ، فَإِنَّهُ أَخَذَ بِالتَّأرِيخِ بِهَا لِظُهُورِهِ وَاشتِهَارِهِ، وَقَالَ - رضي الله عنه -: إِنَّ الهِجرَةَ فَرَّقَت بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ. وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنهُم أَجمَعِينَ - مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ وَلم يَخَالِفْ أَحَدٌ مِنهُم، نَعَم - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - لَقَد أَجمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى التَّأرِيخِ بِهِجرَةِ النَّبيِّ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - وَعَلَى ابتِدَاءِ السَّنَةِ الهِجرِيَّةِ بِشَهرِ اللهِ المُحَرَّمِ؛ لأَنَّهُ يَعقُبُ الحَجَّ وَيَأتي بَعدَهُ، وَالحَقُّ أَنَّهُ وَلِعِظَمِ أَمرِ الهِجرَةِ وَأَهمِيَّتِهَا، وَعَظِيمِ مَا فَرَّقَ اللهُ بها بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَلانتِقَالِ الإِسلامِ بها مِن عَهدِ الضَّعفِ وَالإِسرَارِ إِلى عَهدِ القُوَّةِ وَالاشتِهَارِ، فَقَد جَاءَتِ الإِشَارَةُ في القُرآنِ إِلى ابتِدَاءِ التَّأرِيخِ الإِسلامِيِّ بِأَوَّلِ يَومٍ، وَهُوَ يَومُ الهِجرَةِ، في قَولِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ﴾ [التوبة: 108] وَلِهَذَا كَانَ الوَاجِبُ عَلَى المُسلِمِينَ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، أَن يَعتَبِرُوا بِالأَهِلَّةِ وَالأَشهُرِ الهِجرِيَّةِ القَمَرِيَّةِ في عِبَادَاتِهِم وَزَكَوَاتِهِم، وَفي بُيُوعِهِم وَدُيُونِهِم وَسَائِرِ أَحكَامِهِم وَمُعَامَلاتِهِم، وَأَلاَّ يُقَدِّمُوا عَلَى تَأرِيخِهِم أَيَّ تَأرِيخٍ آخَرَ؛ لأَنَّ تَأرِيخَهُم في الحَقِيقَةِ رَمزٌ لَهُم وَشِعَارٌ، ارتَبَطَ بِحَدَثٍ عَظِيمٍ جَلِيلٍ يُهِمُّ كُلَّ مُسلِمٍ وَيَعنِيهِ، وَلأَنَّهُ تَأرِيخٌ سَمَاوِيٌّ مُحكَمٌ، جَعَلَهُ خَالِقُ النَّاسِ وَرَبُّهُم لَهُم، وَأَسمَاءُ شُهُورِهِ أَسمَاءٌ فِطرِيَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ، لا تَرمُزُ لأَوثَانٍ وَلا لِطُغَاةٍ مِنَ الحُكَّامِ، كَمَا هُوَ التَّأرِيخُ المِيلادِيُّ وَشُهُورُهُ، وَالَّذِي هُوَ في حَقِيقَتِهِ نِتَاجُ عَمَلٍ بَشَرِيٍّ صَغِيرٍ قَاصِرٍ، وَأَسمَاءُ شُهُورِهِ مُقتَرِنَةٌ بِأَسمَاءِ آلِهَةِ الرُّومَانِ الأُسطُورِيَّةِ وَأَسمَاءِ طُغَاةِ مُلُوكِهِم.

 

نَعَم - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - إِنَّ التَّمَسُّكَ بِالتَّأرِيخِ الهِجرِيِّ، لَيسَ تَرَفًا وَلا مَسأَلَةً فَرعِيَّةً، بَل هُوَ تَمَسُّكٌ بِخَصِيصَةٍ مُهِمَّةٍ مِن خَصَائِصِ الشَّخصِيَّةِ الإِسلامِيَّةِ، وَحِفظٌ لِحَضَارَةٍ ارتَبَطَت بِها أَمجَادُنَا وَمَآثِرُنَا، إِنَّ التَّأرِيخَ الهِجرِيَّ يُمَثِّلُ لِلمُسلِمِينَ ثَرَاءً ثَقَافِيًّا كَبِيرًا، وَذَاكِرَةً عَظِيمَةً سُجِّلَت فِيهَا كُلُّ حَرَكَةٍ في الإِسلامِ مُنذُ أَنِ انطَلَقَت رِسَالَتُهُ الخَالِدَةُ وَتَحَرَّكَ بِهِ المُسلِمُونَ في مَسِيرَتِهِمُ العُظمَى، في مَعَارِكِهِم وَغَزَوَاتِهِم، وَفُتُوحَاتِهِم وَانتِصَارَاتِهِم، وَدُوَلِهِم وَأَيَّامِهِم، وَقُوَّادِهِم وَعُظَمَائِهِم، وَعُلَمَائِهِم وَعَبَاقِرَتِهِم، وَالمُسلِمُ بِالتَّأرِيخِ الهِجرِيِّ يَستَذكِرُ كُلَّ تَأرِيخِهِ وَلا يَنسَاهُ، وَيَتَمَثَّلُ الشَّخصِيَّةَ الإِسلامِيَّةَ العَظِيمَةَ، وَيَظَلُّ مُستَذكِرًا مَسؤُولِيَّتَهُ عَن صُنعِ تَأرِيخِهِ في المُستَقبَلِ، وَلا يَنقَطِعُ عَن مُعتَقَدَاتِهِ وَحَضَارَتِهِ وَمَصَادِرِ عِزَّتِهِ وَقُوَّتِهِ. وَلَقَد أَدرَكَ أَعدَاءُ الإِسلامِ أَهمِيَّةَ تَمَسُّكِ المُسلِمِينَ بِالتَّأرِيخِ الهِجرِيِّ، وَأَثَرَهُ في رَبطِهِم بِدِينِهِم وَحَضَارَتِهِم وَرِجَالِ أُمَّتِهِم وَسَلَفِهِمُ الصَّالِحِ، فَسَعَوا لإِبعَادِهِم عَنهُ، وَعَمِلُوا بِكُلِّ مَا أُوتُوا مِن دَهَاءٍ وَمَكرٍ لِلعُدُولِ بِالأُمَّةِ عَن تَأرِيخِهَا الهِجرِيِّ السَّمَاوِيِّ، إِلى التَّأرِيخِ المِيلادِيِّ الأَرضِيِّ، وَقَد نَجَحُوا لِشَدِيدِ الأَسَفِ في تَحقِيقِ هَذِهِ المُهِمَّةِ في مُعظَمِ بُلدَانِ المُسلِمِينَ، لِيَعزِلُوا بِذَلِكَ الأُمَّةَ عَن تَأرِيخِهَا، وَيُجَهِّلُوا الشُّعُوبِ الإِسلامِيَّةِ بِهِ، زَاعمِينَ أَنَّ التَّأرِيخَ الهِجرِيَّ إِنَّمَا هُوَ لِلدِّينِ وَالتَّعَبُّدِ، وَالمِيلادِيَّ أَضبَطُ لِلدُّنيَا، مُتَجَاهِلِينَ حَضَارَةً عَظِيمَةً عُمرُهَا أَربَعَةَ عَشَرَ قَرنًا، نَشَأَت فِيهَا لِلمُسلِمِينَ دُوَلٌ قَادَتِ الدُّنيَا بِأَكمَلِهَا، وَلم يَكُنِ المُسلِمُونَ خِلالَهَا يُؤَرِّخُونَ إِلاَّ بِهَذَا التَّأرِيخِ، ابتِدَاءً مِن دُولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ، وَمُرُورًا بِدَولَةِ بَني أُمَيَّةَ وَبَني العَبَّاسِ، وَدُوَلِ المُسلِمِينَ في الأَندَلُسِ وَالدَّولَةِ العَثمَانِيَّةِ الَّتي بَلَغَت حُدُودُهَا أُورُوبَّا، إِلى الدَّولَةِ السُّعُودِيَّةِ في هَذَا الزَّمَانِ، وَالَّتي مَا زَالَت تَعُدُّ التَّأرِيخَ الهِجرِيَّ تَأرِيخًا رَسمِيًّا لَهَا.

 

أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَلنَعتَزَّ بِثَقَافَتِنَا الإِسلامِيَّةِ العَرِيقَةِ، وَلْنَتَمَسَّكْ بِتَأرِيخِنَا الهِجرِيِّ الَّذِي سَنَّهُ لَنَا الفَارُوقُ المُلهَمُ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ -، وَلْنَحذَرِ البِدَعَ وَالمُحدَثَاتِ، فَقَد قَالَ نَبِيُّنَا وَإِمَامُنَا - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " وَإِنَّهُ مَن يَعِشْ مِنكُم فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيكُم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُم وَمُحدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.

♦ ♦ ♦ ♦


أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّكُم في شَهرِ اللهِ المُحَرَّمِ، الَّذِي فِيهِ يَومُ عَاشُورَاءَ، ذَلِكُمُ اليَومُ العَظِيمُ مِن أَيَّامِ اللهِ، الَّذِي نَصَرَ - تَعَالى - فِيهِ كَلِيمَهُ وَنَبِيَّهُ مُوسَى - عَلَيهِ السَّلامُ - وَقَومَهُ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِم وَضَعفِ حِيلَتِهِم، عَلَى عَدُوِّهِ وَعَدُوِّهِم فِرعَونَ وَجُندِهِ، وَإِنَّ في هَذَا الحَدَثِ العَظِيمِ لِذِكرَى لِلمُسلِمِينَ في كُلِّ عَامٍ، تَبعَثُ الأَمَلَ في نُفُوسِهِم، وَتُثَبِّتُ قُلُوبَهُم وَتُقَوِّي عَزَائِمَهُم، وَتُثبِتُ لَهُم أَنَّ نَصرَ اللهِ قَرِيبٌ مَهمَا عَظُمَتِ الجِرَاحُ وَتَجَبَّرَ الأَعدَاءُ وَادلَهَمَّتِ الخُطُوبُ، فَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ النَّاصِرُ لِعِبَادِهِ المُؤَيِّدُ لأَولِيَائِهِ، خَاصَّةً إِذَا صَدَقَ المُسلِمُونَ وَرَاجَعُوا دِينَهُم وَعَظُم الإِيمَانُ في قُلُوبِهِم وَقَوِيَ بِاللهِ يَقِينُهُم، وَتَرَابَطُوا فِيمَا بَينَهُم بِرَابِطَةِ الإِيمَانِ كَمَا هُوَ شَأنُ أَنبِيَائِهِم، حَيثُ قَالَ إِمَامُهُم - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حِينَمَا قَدِمَ المَدِينَةَ فَوَجَدَ اليَهُودَ صِيَامًا يَومَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: " نَحنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنكُم " فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. فَالمُؤمِنُونَ مَهمَا اختَلَفَت أَمصَارُهُم وَأَعصَارُهُم، فَهُم إِخوَةٌ في الدِّينِ، وَيَجِبُ أَن يَتَنَاصَرُوا وَيَتَظَاهَرُوا لِيُنصَرُوا وَيُؤَيَّدُوا.

 

وَقَد عَلِمَ المُسلِمُونَ - وَللهِ الحَمدُ - فَضِيلَةَ يَومِ عَاشُورَاءَ وَكَونَ صِيَامِهِ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ سَنَةٍ قَبَلَهُ، فَحَرِصُوا عَلَى صِيَامِهِ في كُلِّ عَامٍ، أَلا فَصُومُوا هَذَا اليَومَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - كَمَا تَعَوَّدتُم، وَمُرُوا بِذَلِكَ نِسَاءَكُم وَأَبنَاءَكُم وَبَنَاتِكُم، وَاحرِصُوا عَلَى أَن تُخَالِفُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى كَمَا هُوَ هَديُ نَبِيِّكُم، فَقَد رَوَى مُسلِمٌ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا - قَالَ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يَومَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ يَومٌ يُعَظِّمُهُ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَئِن بَقِيتُ إِلى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ ".

 

وَمِمَّا يُذَكَّرُ بِهِ المُسلِمُونَ وَيُحَذَّرُوا مِنَ الاغتِرَارِ بِهِ، وَهُوَ لا يَخفَى عَلَى كِبَارِهِم بِحَمدِ اللهِ، لَكِنَّ الصِّغَارَ وَالجُهَلاءَ قَد يَتَأَثَّرُونَ بِهِ لِكَثرَةِ مَا تَنشُرُهُ قَنَوَاتُ الشَّرِّ وَالبَاطِلِ، ذَلِكُمُ الفِعلُ القَبِيحُ الَّذِي تَعَوَّدَهُ الرَّافِضَةُ في يَومِ عَاشُورَاءَ مِن كُلِّ عَامٍ، حَيثُ جَعَلُوا يَومَ عَاشُورَاءَ مَأتَمًا يَنُوحُونَ فِيهِ بِزَعمِهِم عَلَى مَقتَلِ الحُسَينِ بنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - وَيُمَارِسُونَ فِيهِ عَدَدًا مِنَ الكُفرِيَّاتِ وَالشِّركِيَّاتِ وَالمُحدَثَاتِ، مِنَ الاستِغَاثَةِ بِغَيرِ اللهِ، وَالنِّيَاحَةِ وَالبُكَاءِ، وَشَقِّ الجُيُوبِ وَلَطمِ الخُدُودِ، وَطَعنِ الأَجسَادِ بِالسَّكَاكِينِ وَضَربِهَا بِالسَّلاسِلِ، وَجَرحِ الرُّؤُوسِ بِالفُؤُوسِ، وَكُلُّهَا بِدَعٌ وَمُحدَثَاتٌ مَا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلطَانٍ، وَقَد قَابَلَهَا عَدَدٌ مِن جَهَلَةِ أَهلِ السُّنَّةِ بِبِدعَةٍ أُخرَى، وَهِيَ اتِّخَاذُ يَومِ عَاشُورَاءَ يَومًا لِلفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالتَّوسِعَةِ عَلَى العِيَالِ، وَيَروُونَ في ذَلِكَ أَحَادِيثَ لا تَصِحُّ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ هُوَ مَا هَدَى اللهُ إِلَيهِ نَبِيَّهُ وَمَن سَارَ عَلَى نَهجِهِ مِنَ الصِّيَامِ شُكرًا للهِ عَلَى نَجَاةِ المُؤمِنِينَ وَإِهلاكِ الكَافِرِينَ. فَاتَّقُوا اللهَ وَالزَمُوا السُّنَنَ وَاحذَرُوا البِدَعَ.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • في الاحتفال بأعياد ...
  • ملف الحج
  • العيد سنن وآداب
  • محمد صلى الله عليه ...
  • العطلة وأيام ...
  • المرأة في الإسلام
  • الإنترنت (سلبيات ...
  • الرقية الشرعية
  • في الاحتفال بالمولد ...
  • قضايا التنصير في ...
  • رمضان
  • الكوارث والزلازل ...
  • رأس السنة الهجرية
  • كورونا وفقه الأوبئة
  • شهر شعبان بين ...
  • في يوم عاشوراء
  • زواج المسيار ...
  • التلفاز وخطره
  • مأساة المسلمين في ...
  • مكافحة التدخين ...
  • الإسراء والمعراج
  • العولمة
  • قضية حرق المصحف
  • ملف الصومال
  • نصرة أم المؤمنين ...
  • رأس السنة الميلادية
  • العصبية القبلية
  • كرة القدم في
  • مسلمو بورما ...
  • ملف الاستشراق
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1447هـ / 2025م لموقع الألوكة