هدايا العمال غلول

هدايا العمال غلول

شهدتُ حادثةً غريبة ومُخِيفة، أريد أن أمحوَ شَبَحَها من ذاكرتي، أريد أن أنفِيَ طَيْفَها من مُخيِّلتي، كلما تذكرتها انتابني شعورٌ بالغضب والخوف معًا، كلما تذكرتها قلت: أيها المجتمع، إلى أين؟!

دخلت يومًا دكانَ بائع موادَّ غذائية عامة، فسَمِعت كلامًا فيه الاحتقار والشتم والتنابز، فانعزلتُ في ناحية الدكان، وجلست خافضَ الرأس أستمع ولا أخوضُ؛ والسبب أنني أعتقد أن في مثل هذه المشاجرات يحسُنُ بك أن تحسنَ استغلالَ فرصةٍ ما للدخول، وإلا تسبَّبْتَ في ضرر أكبر من الضرر الذي أردتَ دفعه!

المهم أن المشهدَ كان سيِّئًا جدًّا، ولم تَحِنْ لي فرصةُ التدخل، كان هناك شابٌّ يشتم امرأةً شتمًا لاذعًا، غسلها ونشَرَها، كواها ولواها، وصاغ لها في قالب غليظ أنواع الشتم التي نعرف، ولا نعرف!

رفعت رأسي مرارًا وخفضت، ودار في رأسي حديثٌ وطرحت أسبابًا، واستغربت، استغربت من شيئين:

الأول: لماذا كانت المرأة صامتةً طَوالَ الوقت، ولم تدافِعْ عن نفسها، ولم تطاوِعْها قدماها بالانصراف؟

والثاني: كلمات السبِّ التي انتقاها الشاب بإحكام تُوحي بأمر ما!

فلما انصرفت "المغسولة المنشورة"؛ أقصد المرأة، تقدمتُ نحو الشابِّ، وحييتُه بلطف، وأمسكت يدَه بحنوٍّ، ثم قلت: سيدي، لو تسمح لي بكلمتين؟ قال: تفضل.

قلت: إنك شاب لطيف طيب، تجمع صفات قلَّ من الشباب من تتوفَّر فيه، وقد تعاملتُ معك كثيرًا، وما شاهدتُ منك إلا الخير، وإن الوظيفة التي تَمْتَهِنُها تحتاج إلى صدر واسع، وقلب أوسعَ، وسيدخل عندك كلُّ أنواع الناس وألوانهم، فإذا لم تُحسِنْ مجاملة الجميع، ومراوغة المشاكل التي يتسبَّبون فيها، ستقعُ في متاهات كثيرة، أنت في غنًى عنها!

قال: بارك الله فيك وفي اهتمامك، ولكنك لو علمتَ السبب لبَطَل عندك العجبُ، إن هذه المرأة التي شاهدتها طبيبة في هذا المستشفى الذي تشاهده أمامك، ولم يَقَعْ معها أيُّ مشكلة من المشاكل التي قد تتصوَّرها، وقد أردت تأديبَها متعمِّدًا التغليظَ.

قال: لقد دخلتِ الدكانَ، وحملت برتقالة بقيمة ستين دينارًا، قيمة لو وجدتُها ملقاةً في الطريق لما حملتُها، وقالت: سآخذ هذه البرتقالة بالمجان، وإذا احتجتَ شيئًا في المستشفى فلن أبخلَ عليك، وسأُقدِّمك على غيرك.

قال: فلم أُمهلْها، وبادرتُها بكلمات لن تُمحَى من ذاكرتها، وقد سمعتَ بعضَها، والذي فاتَك أغلظُ، ثم أردف: كيف يمكنني أن آخذ قريبًا لي مريضًا إلى طبيبة تفكِّرُ بهذا الشكل، هذه مجرمة، أخافُها حتى على نفسها، هذا حال مستشفياتنا، هذا ليس إلا داءَ السرطان!

بلعتُ ريقي، وقلت له: سيدي، أعطِني علبة عصير، وقارورةَ ماء، شكرًا، أحسن الله عونَك.

وسرحت في أفكار هي أشبهُ ما تكون بغابةٍ من أشجارِ مُدًى وسكاكين.