حديث اختصمت الجنة والنار

سلسلة الرد المفصل على الطاعنين في أحاديث صحيح البخاري (8)

حديث "اخْتَصَمَتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ"

من الأحاديث التي يطعن فيها أعداء السنة النبوية ما رواه البخاري برقم (6895) قال: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((اخْتَصَمَتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَى رَبّهِمَا فَقَالَتْ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ! مَا لَهَا لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟! وَقَالَتْ النَّارُ: يَعْنِي أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي، أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، قَالَ: فَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَـ((تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)) ثَلَاثًا حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَمْتَلِئُ وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطْ.. قَطْ.. قَطْ.

ووجه الشبهة هنا هي في قوله: ((وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ فَيُلْقَوْنَ فِيهَا))، إذ كيف يكون هذا المعنى من تعذيب الله من لم يأتوا بذنب وربنا سبحانه يقول: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 15]، ويقول: ﴿ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ ﴾ [الملك:8]، وَقَالَ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: ﴿ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ص:85].

وللجواب عن هذه الشبهة نقول: إن أكبر مشكلة لدى كثير من المعترضين على الأحاديث النبوية أنه يأتي إلى صحيح البخاري مثلاً قبل أن يعرف طريقة البخاري ومنهجيته في الرواية، فيقرأ حديثاً من الأحاديث فيطير به فرحاً؛ ظاناً أنه قد أتى بما لم يستطعه الأوائل، ومن ذلك ما وقع لبعضهم عند قراءة هذه الجملة من هذا الحديث، ولو أن من أشكل عليه مثل هذا وقف لينظر ما الذي قاله أهل العلم في هذا قبل أن يَهْرِفَ بما لا يعرف؛ لكان خيراً له، وإليك كلام أهل العلم في ذلك:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: "وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ غَلَطٌ قَالَ فِيهِ: «وَأَمَّا النَّارُ فَيَبْقَى فِيهَا فَضْلٌ»، وَالْبُخَارِيُّ رَوَاهُ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ عَلَى الصَّوَابِ لِيُبَيِّنَ غَلَطَ هَذَا الرَّاوِي، كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ غَلَطٌ فِي لَفْظٍ؛ ذَكَرَ أَلْفَاظَ سَائِرِ الرُّوَاةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الصَّوَابُ، وَمَا عَلِمْتُ وَقَعَ فِيهِ غَلَطٌ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَ فِيهِ الصَّوَابَ". منهاج السنة النبوية لابن تيمية (5/ 101).

وذكر ابن القيم عند كلامه على جملة: (وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ فَيُلْقَوْنَ فِيهَا) أنَّ المراد الجنة وليس النار، وإنما انقلب ذلك على بعض الرواه، قال رحمه الله: "فهذا غير محفوظ وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعا كما انقلب على بعضهم: "إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" فجعلوه "إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال"، وله نظائر من الأحاديث المقلوبة من المتن". أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 1106).

وقال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: "قال أبو الحسن القابسي: المعروف في هذا الموضع أن الله ينشئ للجنة خلقا، وأما النار فيضع فيها قدمه، قال: ولا أعلم في شيء من الأحاديث أنه ينشئ للنار خلقا إلا هذا". فتح الباري لابن حجر (13/ 436).

وهذا الحديث قد رواه البخاري في موضع آخر من صحيحه وليس فيه هذا اللفظ الذي أخطأ فيه بعض الرواة، قال البخاري (4850): حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ((تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار: فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا، وأما الجنة: فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا)).

وروى هذا الحديث أيضاً مسلم (2846) على الصواب فقال: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث منها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين، والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم؟ قال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله، تبارك وتعالى، رجله، تقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا)).

وكذلك رواه الإمام أحمد (10588) على الصواب من طريق يزيد بن هارون عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: ((اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة: أي رب، ما لها يدخلها ضعفاء الناس وسقطهم؟ وقالت النار: يا رب، ما لها يدخلها الجبارون والمتكبرون؟ قال للجنة: أنت رحمتي أصيب بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها. قال: فأما الجنة، فإن الله عز وجل لا يظلم من خلقه أحدا، وإنه ينشئ لها من خلقه ما شاء، وأما النار، فيلقون فيها وتقول: هل من مزيد، ويلقون فيها، وتقول: هل من مزيد، حتى يضع ربنا عز وجل فيها قدمه، فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط)).