مفترق الطرق: قرارات مصيرية في عمر الشباب

مفترق الطرق: قرارات مصيرية في عمر الشباب

تمرُّ مرحلة الشباب بسمات خاصة تجعلها أكثر فترات العمر حيوية وقلقًا في آنٍ واحدٍ، إنها مرحلة الامتلاء بالطموحات، والسعي لإثبات الذات، والرغبة في شقِّ طريقٍ مستقلٍّ في الحياة، لكن في وسط هذا الزخم، يقف الشاب في كثير من الأحيان عند مفترق طرق حاسم، يُطلب منه فيه اتخاذ قرارات مصيرية تُرسم على أساسها معالم مستقبله، سواء تعَلَّق الأمر باختيار مجال الدراسة، أو المهنة، أو شريك الحياة، فإن كل خيار من هذه الخيارات قد يفتح بابًا ويغلق آخر، ولا رجعة في بعضها.

الخطورة لا تكمن فقط في أهمية هذه القرارات، بل في صعوبة اتخاذها في وقتٍ لا يملك فيه الشاب من الخبرة ما يُعينه، ولا من النضج الكامل ما يُرشده، فضلًا عن التداخل الكبير بين ما يريده الشاب فعلًا، وما يُفرض عليه من ضغوط المجتمع أو الأسرة أو الظروف.

مسببات الحيرة والتردُّد:

1- نقص الخبرة وضعف التوجيه:

الكثير من الشباب يفتقدون للخبرات العملية الحقيقية التي تساعدهم على اتخاذ قرارات صائبة، فالمدرسة أو الجامعة لا توفِّر عادة فرصًا كافية للتجربة، كما أن بعض الأسر تفرض وصايتها على أبنائها دون أن تمنحهم فرصة الاختيار أو الخطأ.

2- الضغوط الاجتماعية والأسرية:

أحيانًا يُجبر الشاب على اتخاذ قرار وفقًا لرغبة الأسرة أو توقعات المجتمع، وليس عن قناعة شخصية، مثل شاب يُرْغَم على دراسة الطب احترامًا "لسمعة العائلة"، أو آخر يجبر على السفر للخارج؛ فقط لأنه "الفرصة لا تعوَّض".

3- الخوف من الفشل:

الخوف هو أحد أكبر معوقات اتخاذ القرار لدى الشباب، يخاف البعض من أن يندم لاحقًا، أو أن يُلام من المجتمع إن أخطأ، فيؤثر السلامة ويمشي مع التيار دون تفكير مستقل.

4- التشوش الناتج عن كثرة الخيارات:

في العصر الحديث، كثرت البدائل والانفتاح على العالم، وهذا أضاف عبئًا نفسيًّا على الشباب؛ إذ أصبح عليهم الاختيار من بين عشرات المجالات والمسارات، في وقت كان فيه الأجيال السابقة محصورة في مسارات محددة.

5- ضعف الثقة بالنفس:

قد يمتلك الشاب قدرًا جيدًا من المعرفة أو الموهبة، لكنه أحيانًا لا يثق بقراراته، ويتردد باستمرار؛ لأنه لم يُشجَّع يومًا على تحَمُّل المسؤولية منذ الصغر.

6- فوضى المحتوى الإعلامي والرقمي:

وسائل الإعلام والسوشيال ميديا تُقدِّم للشباب عشرات القصص والآراء المتناقضة يوميًّا؛ مما يُسبِّب تشوشًا فكريًّا، ويؤثر في قراراتهم دون وعي.

الحلول والإرشادات:

بعد أن استعرضنا تعقيدات الموقف الذي يواجهه الشباب عند مفترق الطرق، وتعرّفنا على الأسباب المتعددة التي تؤدي إلى تردُّدهم أو وقوعهم في اختيارات غير موفقة، تبرز الحاجة الملحَّة إلى تقديم حلول واقعية وإرشادات عملية يمكن أن تضيء الطريق أمامهم.

إن مواجهة المشكلة لا تكون بالتشخيص وحده، بل بتقديم أدوات تساعد الشباب على تجاوز الارتباك، واستعادة الثقة بالنفس، والقدرة على اتخاذ قرارات ناضجة ومبنية على الوعي، لا على الانفعال أو الضغوط.

وفيما يلي مجموعة من المقترحات التي يمكن أن تُحدث فرقًا حقيقيًّا في مسيرة الشباب نحو مستقبل أكثر وعيًا واستقرارًا:

فتح مجالات التجربة العملية المبكرة:

إتاحة الفرصة أمام الشباب لتجربة مجالات مختلفة في سن مبكرة يساعدهم على اكتشاف ذواتهم، يمكن للمدارس أن تنظِّم زيارات ميدانية للمؤسسات المهنية، أو أن تُوفِّر فرص تدريب عملي قبل التخرُّج.

تعزيز التوعية والتدريب على اتخاذ القرار:

من الضروري أن تتبَنَّى المدارس والجامعات برامج تفاعلية لتدريب الطلاب على كيفية اتخاذ القرار، مثل: ورش العمل، والتدريبات النفسية، ولعب الأدوار التي تحاكي الواقع.

تشجيع الأسرة على الحوار لا السيطرة:

على الأسرة أن تُغيِّر من نمط تعاملها مع الشاب، من "أنا أعرف عنك أكثر منك" إلى "دعنا نفكر معًا"، الحوار الحقيقي، والاستماع، وعدم التسرع في الحكم، يمكن أن يُحدث فرقًا كبيرًا في حياة الشاب.

بناء الثقة بالنفس والقدرة على التحمُّل:

لا يمكن لشاب أن يختار وهو خائف أو يشعر بالضعف؛ لذا من المهم تعزيز ثقته بنفسه، وإقناعه بأن الفشل ليس نهاية العالم، بل تجربة مفيدة تقوده لقرارات أنضج.

الاستفادة من تجارب شبابية ملهمة:

رؤية شاب في عمر مقارب قد تجاوز تحديات الحياة بنجاح يُلهم الآخرين،؛ لذا من المهم تنظيم لقاءات دورية بين الشباب ونماذج حقيقية من محيطهم تكون قدوة إيجابية.

وفي النهاية: إن قرارات الشباب ليست قرارات فردية فقط، بل هي استثمار مجتمعي طويل الأمد، إذا ساعدناهم على اتخاذ خيارات ناضجة، ساعدنا على بناء أجيال أكثر وعيًا وإنتاجًا واستقرارًا، أما إذا تركناهم وحدهم أمام مفترق الطرق دون ضوء أو بوصلة، فقد نخسر طاقاتهم، وربما نخسرهم تمامًا.