حجية السنة النبوية وبعض أدلتها من القرآن الكريم والسنة المطهرة

حُجِّيَّة السُّنَّة النبوية وبعض أدلتها من القرآن الكريم والسنة المطهَّرة

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فإن السنة النبوية المطهَّرة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، وهي الشارحة والموضِّحة له والْمُبيِّنة لأحكامه، وقد أجمع المسلمون على أن السنة النبوية وحيٌ من الله تعالى، وأنها حُجَّة يجب اتباعها والعمل بها، ويتناول هذا البحث مكانة السنة النبوية وأهميتها في حياة المسلمين، وأدلتها من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، مع الرد على بعض الشُّبُهات التي أُثيرت حولها.

أدلة قرآنية على أن السنة وحي من الله:

يؤكِّد القرآن الكريم في آيات كثيرة أن السنة النبوية وحي من الله تعالى، وأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم؛ من هذه الآيات:

•قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].

• قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 64].

• قوله تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ [النساء: 65].

• قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].

• قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [الكهف: 110].

هذه الآيات وغيرها تُبيِّن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإنما هو يتلقى الوحي من الله تعالى، وأنه يجب على المسلمين طاعته فيما أمر به ونهى عنه.

أدلة من السنة على أن السنة وحي من الله:

تؤكد السنة النبوية المطهرة أيضًا أنها وحي من الله تعالى، وأنها مُكمِّلة للقرآن الكريم وموضِّحة له؛ من هذه الأحاديث:

• قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألَا إني أُوتيتُ الكتاب ومثله معه))؛ [أخرجه أبو داود (4604)، والترمذي (2664)].

• الأحاديث التي تصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن المسألة، فلا يجيب حتى ينزل إليه الوحي بالجواب؛ منه ما أخرج البخاري في صحيحه، كتاب: الاعتصام بالسنة، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل مما لم ينزل عليه الوحي فيقول: لا أدري، أو لم يُجِب، حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا بقياس؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 105]، وقال ابن مسعود: ((سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح، فسكتَ، حتى نزلت)).

هذه الأحاديث وغيرها تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلقَّى الوحي من الله تعالى في كل ما يتعلق بأمور الدين، وأنه كان يبلِّغ هذا الوحي إلى أُمَّتِهِ بأمانة وصدق، وما كتم منه شيئًا.

جهود الصحابة والتابعين في تدوين السنة:

حرَص الصحابة والتابعون على حفظ السنة النبوية، ونقلها للأجيال اللاحقة، وقد بذلوا في ذلك جهودًا عظيمة؛ من هذه الجهود:

• الكتابة: كتب بعض الصحابة الأحاديثَ النبوية التي سمِعوها من النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسلوها إلى غيرهم من الصحابة أو التابعين؛ منهم:

• أُسَيد بن حُضَير الأنصاري، الذي كتب بعض الأحاديث النبوية، وقضاء أبي بكر وعمر وعثمان، وأرسله إلى مروان بن الحكم؛ [أخرجه أحمد في مسنده (17988)، والطبراني في المعجم الكبير (555)، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (1460)].

• جابر بن سَمُرة، الذي كتب بعض أحاديث رسول الله، وبعث بها إلى عامر بن سعد بن أبي وقاص؛ [أخرجه أحمد في مسنده (20830)، ومسلم في صحيحه (1822)].

• زيد بن أرقم، الذي كتب بعض الأحاديث النبوية، وأرسل بها إلى أنس بن مالك؛ [الأحاديث المنتخبة من مغازي موسى بن عقبة (ص 78) (10)].

• الحفظ: حفِظ كثيرٌ من الصحابة والتابعين الأحاديثَ النبوية عن ظهر قلب، ورَوَوها لمن بعدهم.

• التعليم: قام الصحابة والتابعون بتعليم الأحاديث النبوية لتلاميذهم، وحثُّوهم على حفظها ونقلها.

حثَّ الصحابة تلاميذهم على كتابة الحديث وتقييده؛ منهم:

• أنس بن مالك؛ الذي كان يقول: "يا بُنيَّ قيِّدوا العلم بالكتاب"؛ [حديث محمد بن عبدالله الأنصاري (ص 59) (60)، زهير بن حرب في العلم (ص 29)، (120)].

• عبدالله بن عباس؛ الذي كان يقول: "قيِّدوا ‌العلم ‌بالكتاب، من يشتري مني علمًا بدرهم؟"؛ [زهير بن حرب (ص 34) (148)].

تدوين الحديث في الصحف وتناقلها بين الشيوخ والتلاميذ؛ منها:

• صحيفة أبي بكر الصديق التي فيها فرائض الصدقة؛ [أخرجه البخاري في صحيحه (1454)].

• صحيفة علي بن أبي طالب؛ [أخرجه البخاري في صحيحه باب: كتابة العلم، حديث رقم: 111].

• صحيفة عبدالله بن عمرو بن العاص، المعروفة بالصحيفة الصادقة؛ [أخرجه أبو داود في سننه باب: كتابة العلم، حديث رقم: 3646].

وضع المصنَّفات في الحديث في القرن الثاني الهجري؛ منهم:

• ابن جريج بمكة.

• محمد بن إسحاق بالمدينة.

• معمر بن راشد باليمن.

• سعيد بن أبي عروبة بالبصرة.

عرض الأئمة كتبهم ومصنفاتهم على علماء زمانهم؛ منهم:

• الإمام مالك الذي عرض موطَّأَهُ على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، فكلهم واطأه عليه، فسمَّاه الموطأ؛ [شرح الزرقاني على الموطأ (1/62)].

• الإمام البخاري الذي عرض صحيحه على أئمة؛ منهم أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين؛ [أبو جعفر العقيلي، ذكره ابن حجر في مقدمة فتح الباري].

• الإمام مسلم الذي عرض صحيحه على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركه، وكل ما قال: إنه صحيح وليس له علة أخرجه؛ [صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط، وحمايته من الإسقاط والسقط لابن الصلاح (1/67)].

الرد على الشبهات حول تدوين السنة:

أُثِيرت بعض الشبهات حول تدوين السنة النبوية؛ منها:

• النهي عن كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: هذا النهي كان في بداية الأمر؛ خوفًا من اختلاط القرآن بالحديث، ثم نُسِخ بالأمر بالكتابة، وقد ثبت الأمر بالكتابة في أحاديث صحيحة.

• اختلاف الروايات في بعض الأحاديث: هذا الاختلاف يرجع إلى أسباب مختلفة؛ مثل: اختلاف فهم الرواة، أو اختلاف سماعهم، أو اختلاف حفظهم، وقد وضع العلماء قواعد دقيقة لتمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، وقواعد دقيقة في الترجيح، والجمع بين الروايات، وتمييز الألفاظ المحفوظة من الشاذة.

• عدم وجود تدوين رسمي للسنة في القرن الأول الهجري: كان الصحابة والتابعون يعتمدون على الحفظ والرواية الشفهية في نقل السنة، وكان ذلك كافيًا في عصره، وهذا فيه الخلط بين الكتابة والتدوين والتصنيف، فأما الكتابة والتدوين بدأتا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أما التصنيف فظهر لاحقًا، والصحف التي دُوِّنت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت النواة الأولى لِما صُنِّف في القرنين الثاني والثالث.

خاتمة:

إن السنة النبوية وحي من الله، وهي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام بعد القرآن الكريم، كما أنها وحي من الله يجب على كل مسلم أن يعتقد ذلك وأن يعمل به، وأن يلتزم باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع شؤون حياته؛ فقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، وقد بذل الصحابة والتابعون جهودًا عظيمة في حفظها ونقلها للأجيال اللاحقة، ويجب على كل مسلم أن يعتقد في حُجِّيَّة السنة النبوية وأن يعمل بها، وأن يلتزم باتباعها في جميع شؤون حياته.

نسأل الله أن يوفقنا للتمسك بالسنة النبوية، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله رب العالمين.