حرر قلمك

الكثيرُ منَّا يَحلُم أن يكونَ له صوتُه المسموع، ورأيه المستقل، ومشاعِره النبيلة التي تتخطَّى حدودَه؛ لتزهرَ في أعماق الآخرين، هذه الخطوط جميعها قد تتزاحمُ في أذهان البعض، ولكن يصدُّها حائطُ الجهل بأصولِ الصحافة، أو الجهل بأصولِ كتابةِ المقال، أو قد يكون السببُ في تراجُعِه هو انتظارَ الوصول لدرجة النُّضْج الفِكري الكافي لتحريكِ الأقلام، وهكذا يَحدُث صدامٌ بين الحُلْم وهذا العائق، فتتحطَّم الآمال، وتفقِد الساحةُ بذلك أقلامًا واعدة، جديرة بالبَوْح، قادرة على التأثيرِ والتغيير، لكنَّها عاجزة؛ لجهلها بالأصْل، وخجلها مِن الوقوع في الفشَل.

ولا أُخفِي عليكم، فأنا أعتبر نفسي واحدةً مِن هؤلاء، ولقدْ شاء الله - تعالى - أن يتحرَّر القلمُ، ويُفيق من سُباته، وينزع ثوبَ الخجل الذي لا مُبرِّر له - سوى أوهامٍ هيَّأتْ لنفسها فِراشًا وثيرًا داخلَ الأذهان - حين عزمتُ النيةَ، وقرأتُ في فنون الصحافة وألوانِ الكتابة، ووجدتُ الأمرَ جِدَّ يسير، فكان هذا المقال أوَّل ما أُسطِّره دون خوْف؛ لذا قررتُ أن يكون أول ما أبدأ به أن أنهَضَ بغيري، عسى أن أكونَ مُلهِمةً للآخرين، وسببًا في تحريرِ أقلامهم من رُكودها، وذلك بأنْ أتحدَّث هنا عن فنِّ المقال.

والمقال هو أحدُ الفنون النثرية، فيه يَعرِض الكاتبُ أحدَ الموضوعات أو القضايا، بطريقةٍ منظَّمة، تحمل أسلوبًا شائقًا يجذب القارئَ، وهو محدودُ الحجم، وفيه يَقتصر الكاتبُ على عَرْض قضية معينة، أو فكرة محدَّدة، بحيث يَعرِض فيه أيَّ موضوع مِن الموضوعات المتَّصلة بمجالات الحياة المختلفة، سواء كان دِينيًّا أم اجتماعيًّا، أم سياسيًّا أم تاريخيًّا....إلخ.

ومَن يرغب في كتابةِ مقال معيَّن، عليه أن يلتزمَ بالنِّقاط التالية، وهي:

اختيار الموضوع، تحديد الهَدَف مِن كتابته، عنوان المقال، الخطَّة.

وللمقال أنواع:

فمِنه الوصفي: وهو الذي يَصِف فيه الكاتبُ مشهدًا مِن المشاهد الطبيعيَّة، من خلالِ إحساسه ومشاعرِه، مثل حادِث طريق في أوَّل يومٍ دِراسي.

واجتماعي: وهو الذي يتناول فيه الكاتبُ قَضيةً اجتماعيةً، كالبطالة والأمية، وتأنيث التعليم في المرحلة الابتدائيَّة.....إلخ.

أشكال المقال:

للمقال شكلانِ هما: مقال ذاتي، ومقال موضوعي.

وعن المقال الذاتي، فهو الذي تَظْهَر فيه شخصيةُ الكاتب بصورة كبيرة مِن خلالِ عَرْض القضايا ممزوجةً بمشاعرِه، أو عرض قضاياه الشخصية، ويَشيع فيه الأسلوبُ الأدبي، ويُؤثِّر في القارئ بانفعالاتٍ مختلفة، كالحزن والفرَح، ويظهر فيه كثيرًا ضميرُ الأنا؛ لأنَّه يتحدَّث عن تجرِبةٍ ذاتية.

أمَّا المقال الموضوعي، فهو المقال الذي يبعُد فيه الكاتبُ عن عواطفه ومشاعره الخاصَّة، ويُقدِّم الحقائقَ كما هي في تسلسُل منطقي، دون أدْنى تدخُّل لميوله الذاتية، وفيه يتقيَّد بالموضوعِ مع الدِّقَّة، وتسمية الأشياء بمُسمَّياتِها.

وأيًّا كان، فإنَّ المقال - سواء كان ذاتيًّا أم موضوعيًّا - ينقسِم إلى ثلاثةِ أجزاء:

(مقدمة وعرْض وخاتمة).

فالمقدمة:

عبارة عن تمهيدٍ للموضوع الذي سيعرِضه الكاتبُ في مقاله.

والعرض:

ويُمثِّل الجزءَ الأكبرَ من المقال، وهو الأسلوب الذي يُقدِّم به الكاتبُ قضيتَه، أو موضوعَه الذي يتحدَّث عنه، ولا بدَّ أن يكون متسلسلَ الأفكار مترابطًا.

والخاتمة:

يُلخِّص فيها الكاتب موضوعَه، أو أبرز النتائج التي انتهَى إليها، وتكون موجزةً واضحةً سهلة.

أنواع المقال الصحفي:

• المقال الافتتاحي، يكتُبه رئيسُ التحرير، ويتحدَّث فيه عن قضيةٍ بارزة، مُبدِيًا رأيه، محاولاً التأثيرَ في القارئ وإقناعه، ويتناول فيه ما يهمُّ الرأيَ العام من أحداثٍ سياسيَّة أو اجتماعيَّة أو اقتصاديَّة، أو غير ذلك، حسب اتجاهات المؤسَّسة الإعلاميَّة التي يعمل بها، ويُعتبر هذا النَّوْع من المقال معبِّرًا عن رأيِ الصحيفة، ويتكوَّن أيضًا مِن: مقدِّمة، وجِسْم، وخاتمة.

• العمود الصحفي، ويأخذ شكلَ مقالٍ ثابت، وهو مُعبِّر عن رأي كاتبه، مُذيَّل باسمه، وهو خلاصةُ تجرِبة الصحفي ذي الخِبرة، ومثاله: عمود (مواقف) لأنيس منصور في جريدة (الأهرام).

كان هذا ببساطة مُلخَّص لما تعلمتُه من أصولِ كتابة المقال، وفي رأيي أنَّ هذه الكلمات البسيطة - التي قصدتُ وضعَها بين يدي أولئك الذين يحتاجون إليها - قادرةٌ على تحريكِ تلك الأقلام الحائِرة، المكمَّمة الأفواه؛ للتحرُّرِ من قيودها، وشقِّ طريقها بيْن الأقلام الناطقة، مُعبِّرة عن رأيها، وموجِّهة لما يُرْضي الله، وغارِسة للقيِّم والمبادئ والمعاني السامية في النفوس، حينئذٍ فقط تستحقُّ تلك الأقلام - المتحرِّرة من كآبة الصمْت - كلَّ تحية وتقدير.

فهيَّا حرِّروا أقلامكم من قيودها، وفُكُّوا أسْرَها، وسايروا رَكْبًا لن ينتظرَكم، لكنَّه يرغب في تعاونكم، هلَمُّوا، فالعالَم بحاجةٍ إليكم، وإلى الكلمة الصادقة.