هذه الإذاعات ما دورها؟

الذي يستمع إلى بعض الإذاعات العربية، يستولي عليه الذهولُ، وتتملَّكه الدهشة من موقف هذه الإذاعات التي لا تزال سادرةً في إلهاء الجماهير، وصرف أنظارها عن الخطر المحدق بها.

هذه الإذاعات التي تصدم الأسماعَ بالزفير والشهيق، والنحيبِ والتأوهات، والأغاني الخليعة المصحوبة بالتثنيات، وكأن الحياة هي الغرام والهيام، وضربُ المواعيد المشبوهة، واللقاءات المرتابة، وكأن الأخطار لا وجود لها، والأعداء قد زهدوا في مطامعهم، وتنازلوا عن احتلالهم، وكل شيء على ما يرام؛ فليس هناك ما يشغل الأذهان من متطلبات، فانصرف الناس إلى اللهو السادر، والترفيه البريء وغير البريء، وكأن الحياة لهوٌ ولعب، لا جد فيه، ولا حزم يحتاجه، وليس غرضي أن أسمي إذاعات معينة؛ لئلا يقال: إن هذا تحاملٌ على جهة من الجهات، ولا أريد أن أصدر حكمًا على إذاعة من الإذاعات؛ فذلك متروك للسامعين الذين يعرفون ما هي الإذاعة المجيدة، والإذاعة غير المجيدة؟ وما هي الإذاعة الجادة، وما هي الإذاعة الهازلة وقت الجد؟

ربما يقول قائل: ولكن الحياة ليست جِدًّا كلها، ولا بد للمرء من راحة واستجمام.

ونقول: إن هذا الكلام غير مستساغ:

أولاً: لأننا في ظروف عصيبة جادة، والأمر يتطلب منا أن يكون وقتنا كله جِدًّا لا أثر فيه للهزل والخمول؛ فالعدو قد احتل المسجد الأقصى، وألحق هزيمةً شنيعة بالعرب، يمالئه أعداء الإسلام ويؤازرونه، فنحن إذًا أمام عدو محتلٍّ، يجب بذْلُ كل جهد، وتعبئة كل طاقة، وإنارة كل فكر للسعي لإزالة عدوانه، وطرد احتلاله.

ثم إن العدو لا يكتفي بما حصل عليه؛ بل يريد أن يوسع دائرته، وأن يحتل كلَّ بلاد عربية وإسلامية؛ بل هو يأمل السيطرة على العالم، وما احتلالُه الحاضر في زعمه وآماله إلا نواةٌ لاحتلال واسع جدًّا يفوق كل تصور.

فالعرب إذًا في حالة تستدعي الوقوف صفًّا واحدًا مع كل المسلمين في أنحاء الأرض؛ لطرد العدو وكبح جماحه، وإلحاق الهزيمة به، واستعادة الأمة الإسلامية كرامتَها، أما من يدَّعي أن التسلية مهمة، ويشغل الأذهانَ، ويملأ الإذاعات برخيص القول، ومبتذل الغناء، وترديد المائع مما يسمونه طربًا، فذلك منطق معكوس، وإساءةٌ بالغة إلى الأمة، وتثبيط لعزيمتها، وصرفٌ لها عن أهدافها وطموحها؛ فالمسلمون في حاجة إلى التوعية، وإلى التنبيه على الأخطار المحدقة بهم، وإلى أخذ الحذر واليقظة التامة؛ حتى لا يفاجَؤوا بهجوم العدو وهم عنه غافلون، ولا يركنوا للاستكانة والغفلة؛ لئلا يندموا حيث لا ينفع الندم.

وليس الدافع لهذا الكلام التشاؤم، أو النظر للأشياء بمنظارٍ أسود كما يقولون؛ ولكنه الواقع الذي يفرض نفسه، ومن يتغافل عنه فهو كمن ينكر الشمس في رابعة النهار.

أرأيت لو أن إنسانًا أبصر شخصًا يكاد يهوي في حفرة؛ بسبب ضعف بصره - مثلاً - فهل من اللائق أن يحدِّثه عن الطقس الجميل؟ أم أن يصرخ فيه: احذر من السقوط في الحفرة؟!

وهل لو رأى امرؤ رجلاً قد أقبلتْ نحوه أفعى - وبالمناسبة فقد جاء في الإنجيل وصف اليهود بأولاد الأفاعي - فهل من المعقول أن يدْعوَه إلى حفلةٍ مليئة بما لذَّ وطاب؟ أم يصيح فيه: الأفعى وصلتْك؛ انتبه؟!

وماذا يقال لو أنه ناداه: على رسْلك، كن مطمئنًا، هيا إلى اللعب؟!

هذه حال تشابه الوضع الذي تسير عليه بعضُ الإذاعات العربية، وإشغالها السامعين بالتوافه، والابتعاد بهم عن روح الجدية والحزم.

فعسى أن تستيقظ تلك الإذاعات من غفوتها، وتغيِّر من نهجها؛ لكي تكون على مستوى الأحداث، ولتكون أداة إصلاح ونهوض.