وصول الأماني بذكر تعقبات العسقلاني على العلامة الكرماني في شرحه لصحيح البخاري (4)

وصول الأماني

بذكر تعقُّبات الحافظ ابن حجر العسقلاني

على العلامة الكِرماني في شرحه لصحيح البخاري (4)

• كان الحافظ ابن حجر - رحمه الله - يقول: (( لو التقط من "الفتح" بيان ما وقع للكرماني في شرحه، وللزركشي في تنقيحه؛ لكان شرحًا حسنًا. يسر الله ذلك )). "الجواهر والدرر" (2/708).

• وكان حريصًا على الالتقاط المذكور، وإفراده بالتصنيف، فما لبَّى أحد من تلامذته دعوته. "الجواهر" (2/698).

• طريقتي في هذا الكتاب أديرها على ذكر الحديث محل البحث بديئًا من "الجامع الصحيح" برواية أبي ذَرٍّ الهَرَوِي عن مشايخه: المُسْتَمْلِي، وابن حَمُّوَيْه السَّرَخْسِي، والكُشْمَِيْهَنِي، ثلاثتهم عن الفَِرَبْرِي، عن البخاري. ثم إنني أثني بذكر كلام الكِرماني. ثم أختم بذكر تعقب ابن حجر العسقلاني. وربما ذكرت في الحواشي بعضَ فوائدَ مما له تعلق بالسياق.

بسم الله الرحمن الرحيم

عَوْنَك يا لطيف

قال الإمام البخاريُّ – رضي الله عنه –:

(5)- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾[1]، قَالَ: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ )) = فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا، وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ = (( فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾[2]، قَالَ: جَمَعَهُ لَكَ صَدْرُكَ[3] وَتَقْرَأهُ. ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾[4]، قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ. ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾[5]: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَ. انتهى.

قال العلامة الكرماني[6]:

(( قوله: «كَانَ يُعَالِجُ»: أي: يحاول من تنزيل القرآن عليه شدة.

و: «شِدَّةً»: إما مفعول به لـ«يُعَالِج»، وإما مفعول مطلق له، أي: معالجة شديدة...

وقوله: «وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ»: أي: كان العلاج ناشئًا من تحريك الشفتين، أي: مبدأ العلاج منه. أو "ما" بمعنى "من"؛ إذ قد تجيء للعقلاء أيضًا، أي: وكان ممن يحرك )). انتهى.

قال الحافظ ابن حجر[7]:

(( هكذا قرره الكرماني، وفيه نظر؛ لأن الشدة حاصلة له قبل التحرك[8].

والصواب ما قاله ثابتٌ السَّرَقُسْطيُّ[9] أن المراد: كان كثيرًا ما يفعل ذلك، وورودهما[10] في هذا كثير، ومنه حديث الرؤيا: «كان مما يقول لأصحابه: مَن رأى منكم رؤيا؟».

ومنه قول الشاعر[11]:

وإنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الكبشَ ضَربةً على وجههِ تُلْقِي اللسانَ منَ الفمِ

قال الحافظ:

(( ويؤيده أن رواية المصنف في التفسير من طريق جرير عن موسى بن أبي عائشة، ولفظها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالوَحْيِ وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ»، فأتى بهذا اللفظ مجردًا عن تقدم العلاج الذي قدره الكرماني؛ فظهر ما قال ثابتٌ.

ووجه ما قال غيره أن «من» إذا وقع بعدها «ما» كانت بمعنى «رُبَّ»، وهي تطلق على القليل والكثير، وفي كلام سيبويه مواضعُ من هذا، منها قوله: (( اعلم أنهم مما يحذفون كذا )) [12]. والله أعلم.

ومنه حديث البراء: «كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم مما نحب أن نكون عن يمينه ...» الحديثَ. )) انتهى.

---

[1] [القيامة:16].

[2] [القيامة:16-17].

[3] كذا في رواية الأكثر ومنهم أبو ذر: إسناد الجمع إلى الصدر مجازًا، ولبعضهم: (( جَمْعُه له ( لك ) في صدرك )).

[4] [القيامة:18].

[5] [القيامة:19].

[6] "الكواكب الدراري" (ج1/ص46-47).

[7] "فتح الباري" (ج1/ص29).

[8] تعقبه العَيْني (1/72) بقوله: (( في نظره نظر؛ لأن الشدة وإن كانت حاصلة له قبل التحريك ولكنها ما ظهرت إلا بتحريك الشفتين؛ لأن هذا أمر مبطن، ولم يقف عليه الراوي إلا بالتحريك )). ونقله القَسْطَلَّاني في "إرشاد الساري" (1/69).

وأقول: في نظر العيني - رحمه الله - نظر؛ فإن رواية البخاري في كتاب تفسير القرآن = رقْم (4929/عبد الباقي) = (4741/الهروي) = قاضية بأن التحريك لم يك ناشئًا عن المعالجة أصلاً، وإنما كان ذلك مسارعة منه صلى الله عليه وسلم إلى الحفظ لئلا ينسى يعض ما يُلقى إليه حسبما ثبت في رواية الترمذي (3329) وغيره، وكذا محبة منه له على ما قاله الشعبيُّ. وأما رؤية الراوي فلا مدخل لها هنا؛ إذ الكلام متوجه إلى تحقيق ما في نفس الأمر، ولو جاريناه فلا يلزم من كون الأمر باطنًا الجزمُ بنفي اطلاع الراوي على المشقة الحاصلة من طريق أخرى غير التحريك. والله أعلم.

وبعد تسطير ما تقدم وقفت على رد الحافظ على اعتراض العيني، فرأيته يقول في "انتقاض الاعتراض" (1/34): (( قول العيني: (الشدة أمر يظن فلم يقف عليه الراوي إلا بالتحريك): هذا الحصر مردود؛ فجائز أن يكون عرفه بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه، والأحاديث المصرحة بثقل الوحي وشدته شهيرة. ..)) ثم ساق بعضها.

[9] توفي - رحمه الله - في شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وثلاث مئة (313). ترجم له الذهبي في "السير" (14/562-563).

[10] يعني بذلك لفظة: (( مما ))، وقد ذكرها الجافظ مرتين: (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه )). وذِكرها في الموضع الأول لم أر له سندًا فيما وقفت عليه من نسخ البخاري، وما أشار إليها اليونيني. نعم، سبق ابنَ حجر في إثباتها ابنُ خلدون في "مقدمته"، وكنت قد رجحت في "نزهة العيون" أنها مقحمة. والله أعلم.

[11] هو أبو حَيَّةَ النُّمَيْري، والبيت شهير سائر في كتب النحاة، فانظر أعلاها سُورة، "كتاب سيبويه" (3/156) ط/ الخانجي. وفيه: (( على رأسه. .. )). وقال محققه - رحمه الله -: الكبش: رئيس القوم يقارع دونهم ويحميهم. وأبو حية في بيته هذا مسبوق بقول الفرزدق:

وإنا لمما نضرب الكبش ضربة على رأسه والحرب قد لاح نارُها

[12]"الكتاب" (1/24). وقال أبو سعيد السِّيرافي الشارح (1/179) ط/ دار الكتب العلمية: (( قوله: (( مما يحذفون ))، أراد: ربما يحذفون، وهو يستعمل هذه الكلمة كثيرًا في كتابه. والعرب تقول: "أنت مما تفعل كذا"، أي: ربما تفعل ))، ثم ذكر شاهدًا بيتَ النميري.