الجزية ، وعلى من تجب ؟

الجزية

وعلى من تجب؟

برغم هذه الصحائف المُشرِقة من مبادئ العدالة والسماحة التي جاء بها الإسلام، وبرغم هذا التاريخ الحافل بالتسامح الفذ في شتى صوره ومظاهره، رَأيْنا بعض المستشرقين أثاروا بعض شبهات جمعوها من هنا وهناك، وحسِبوها تشوِّه هذا التاريخَ الرائع، والحقيقةُ أن هذه المسائل التي أثيرت حول الجزية لو فُهِمت على وجهها، ووضِعت في زمنها وإطارها التاريخي، لم تخرج عن حدود العدل الذي حرص عليه الإسلام كل الحرص في علاقاته مع أهل الذمة.

لقد حاول المبشِّرون والمستشرقون أن يُغلِّفوا قضية الجزية بظلال كئيبة، وتفسيرات سوداء جعلت أهل الذمة يَفزعون من مجرد ذِكر اسمها، فهي في نظرهم ضريبة ذُل وهوان، وعقوبة فُرِضت عليهم مقابل الامتناع عن الإسلام[1].

وزيادة في الإيضاح والبيان، ودفعًا لكل شبهة، وردًّا لأية فِرية، يسرني أن أسجِّل هنا هذا المبحث، حول "الجزية" ردًّا على مزاعم المستشرقين، ومُفتريات المبشرين، وتبيانًا للحقيقة للناس أجمعين.

"الجزية": الجزية من جزى يجزي، إذا كافأ عما أُسدي إليه، وهي على وزن فِعلة، وهي مال يدفعه أهل الكتاب، ومَن يلحق بهم إلى المسلمين[2]، وقد فرَضها الله - عز وجل - في السنة الثامنة من الهجرة[3]، بقوله تعالى: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29].

وقد أجمع العلماء في كل زمان ومكان على فرْضها[4]، ويقول أبو يوسف: ولا يَحِل للوالي أن يَدَعَ أحدًا من النصارى واليهود والمجوس والصابئين والسامرة إلا أخذ منه الجزية، ولا يرخَّص لأحد منهم ترك شيء من ذلك، ولا يحل أن يدع واحدًا ويأخذ من واحد، ولا يسعى لذلك[5].

على من تجب الجزية؟ هذا السؤال ينتظم نقطتين، هما:

1- على من تجب بصفة العموم؟ هل تُضرب على أهل الكتاب فقط أم يُلحق بهم عبدة الأوثان والنيران؟ وهل تُفرَض على العرب والعجم من عبدة الأوثان؟

2- فيمن استقرَّ عليهم من أهل الكتاب، ومَن يَلحق بهم: هل يجب على جميع أفرادهم دفع الجزية أم تُضرب على بعضهم دون الآخر؟

أولاً: على من تجب عمومًا؟

تجب الجزية على أهل الكتاب بنص القرآن، وهم اليهود والنصارى، وتجب على المجوس[6] ، بنص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سئل عن المجوس، قال: ما أدري ما أصنع بهم وليسوا بأهل الكتاب؟ فقال عبدالرحمن بن عوف: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب))[7]، وبناء عليه أخذ "عمر" الجزية من مجوس هجر ومن مجوس فارس، وعليه جمهور العلماء[8]، وتؤخذ من الصابئين[9] والسامرة[10]؛ إذ وافَقوا اليهود والنصارى في أصل مُعتقَدهم، وإن خالَفوهم في فروعه[11]، واستثنى "الحنفية" منهم عبدة الكواكب، فتؤخذ منهم الجزية إذا كانوا عجمًا فقط[12].

أما المشركون والكفار، فقد وقع فيهم الخلاف بين الفقهاء كما يلي:

• المالكية: يرون أخْذها من جميع الكفار إذا رَضوا بذلك، وإلا القتال حتى يدفعوا الجزيةَ أو يُسلِموا[13].

• الحنفية: يرون أن تؤخذ من مشركي العجم دون العرب، ووافَقهم أبو عبيد[14].

• الشافعية[15] والحنابلة[16]: لا تؤخذ منهم عربًا أو عجمًا.

ويرجَّح عندي ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة؛ لظاهر النصوص بأخذها من أهل الكتاب ومن ألحق بهم، وللأمر بقتال الكفار والمشركين كافة[17].

ثانيًا: على من تجب من أهل الكتاب ومن يُلحَق بهم؟

تَجِب الجزيةُ على الرجال الأحرار العقلاء الأصحاء، ولا تجب على امرأة ولا صبي ولا مجنون ولا عبد ولا مريض مرضًا غالبًا، ولا راهب؛ وذلك لما جاء في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ باليمن: ((أن على كل حالم دينارًا))[18]، وما كتبه عمر إلى أمراء الأجناد ألا يَفرضوا الجزية على النساء والصبيان، ولا يضربوها إلا على من جرت عليه الموسى[19].

ويعلِّل ابن قدامة المقدسي ذلك بأن الجزية لحقْن الدماء، وهؤلاء - أي: المُعفَون - دمهم محقون بدونها، فلما أُعفيت الذرية - وهم النساء والولدان - من القتل، أُسقطت عنهم الجزية، وثبتت على كل مَن يستحق القتل إن منعها، وهم الرجال، ومضت السُّنة بذلك، وعمِل به المسلمون[20].