الاستحسان والقياس في منهج الإمام الشافعي

الاستحسانُ والقياسُ في منهج الإمام الشافعي

مقدمة:

الإمام الشافعيُّ هو أحد أعلام الفقه الإسلامي، ومُؤسِّس علم أصول الفقه، الذي يمثِّل حَجَرَ الزاوية في تطوير المنهجية الفقهية الإسلامية، تميَّزَ منهجه بالجمع بين النصوص الشرعية والاجتهاد العقلي المنضبط، مما ساهم في تعزيز ثبات الشريعة الإسلامية، واستجابتها لمستجِدَّات العصر، من أبرز القضايا التي أثارت اهتمامَ الشافعي مسألتا الاستحسان والقياس، وهما أداتان اجتهاديتان استُخْدِمتا بطرق مختلفة في الفقه الإسلامي.

بينما اعتمد بعض الفقهاء الاستحسانَ وسيلةً لإيجاد حلول مَرِنَةٍ للنوازل، رأى الشافعي فيه خطرًا على ثبات الأحكام الشرعية، واعتبره مُفْضيًا إلى التشريع الشخصي غير المنضبط، في المقابل، شدَّد على القياس أداةً اجتهادية ترتكز على النصوص الشرعية، وتلتزم بمنهجية دقيقة لتحقيق مقاصد الشريعة.

يهدُف هذا المقال إلى استعراض موقف الإمام الشافعي من الاستحسان والقياس، مع التركيز على تحليل منهجه في ضوء كتابه "الرسالة"، وما يحمله من رُؤًى فقهية عميقة، تعكِس حرصه على الجمع بين الالتزام بالنصوص والمرونة في الاجتهاد.

مفهوم الاستحسان في السياق الفقهي:

الاستحسان في الفقه الإسلامي هو مفهوم متعدِّد الأوجه، يختلف تعريفه وتطبيقه بحسب المذاهب:

• عند الحنفية، يُعرَّف بأنه تقديم دليلٍ خاصٍّ على دليل عامٍّ عند التعارض لتحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة.

• بينما يرى المالكية أن الاستحسان هو استثناء من قاعدة عامة بناءً على اعتبارات تُحقِّق مصلحة شرعية.

وهذا التنوُّعُ في الفَهم جَعَلَ الاستحسانَ أداةً اجتهادية مَرِنَةً، لكنها في الوقت ذاته أثارت تحفُّظاتٍ من قِبل بعض العلماء، لا سيما الإمام الشافعي.

نقد الإمام الشافعي للاستحسان:

كان الإمام الشافعي من أبرز المنتقدين للاستحسان؛ إذ رأى فيه أداةً قد تُفضي إلى نتائج تعسُّفِيَّة تُهدِّد استقرار الشريعة الإسلامية؛ وعبَّر عن موقفه الصارم بقوله: "من استحسن فقد شرَّع"، وقال أيضًا: "وإنما الاستحسان ‌تلذُّذ"، مشيرًا إلى أن الاعتماد على الاستحسان دون مرجعية نصِيَّة أو قياسية يُعَدُّ تجاوزًا على اختصاص الشارع - في رأيه - يجب أن يكون الاجتهاد مبنيًّا على نصوص واضحة، أو قياس منضبط، يعتمد على عِلَلٍ شرعية مُسْتَنْبَطَةٍ بدِقَّة.

منهج الإمام الشافعي في الاستحسان والقياس:

التمسك بالنصوص الشرعية: كان الشافعي يرى أن النصوص القرآنية والحديث الشريف هي الأساس الراسخ الذي يجب أن يُبنى عليه الاجتهاد، وقد أكَّد أن أيَّ محاولة للخروج عن النصوص تُهدِّد سلامة المنهج الفقهي.

القياس بوصفه أداةً اجتهادية منهجية: اعتمد الإمام الشافعي على القياس بوصفه أداةً أكثر انضباطًا مقارنةً بالاستحسان، وقد عرَّفه بأنه ردُّ فرع إلى أصل في الحكم لاتحاد العلة بينهما، اعتبر الشافعي القياسَ وسيلةً عقلانية، تَضْمَنُ استنباط الأحكام بطريقة متَّسِقة مع النصوص.

الضرورة بوصفها استثناءً مشروعًا: لم يُغلق الشافعي البابَ أمام الاستثناءات، لكنه شدَّد على أن تكون مبرَّرة بدليل شرعي واضح، الضرورات - في نظره - تُقدَّر بقدرها، ولا تُسوِّغ تجاوُزَ النصوص دون مبرِّر مُعْتَبَرٍ.

أثر منهج الإمام الشافعي على الفقه الإسلامي:

تعزيز ثبات الأحكام الشرعية: ساهم منهج الشافعي في تعزيز استقرار الأحكام الشرعية من خلال الاعتماد على النصوص والقياس، ما حافظ على وحدة المنهج الفقهي.

تأسيس علم أصول الفقه: كان الشافعيُّ أولَ مَن وَضَعَ قواعد علم أصول الفقه، ما أرسى الأساس لتطوير منهجية الاجتهاد الإسلامي، ساعدت هذه القواعد في تنظيم الاجتهاد، ومنع التوسع غير المنضبط في استخدام أدوات مثل الاستحسان.

تحقيق التوازن بين النصِّ والاجتهاد: جَمَعَ الشافعي بين التمسُّك بالنصوص، والانفتاح على الاجتهاد العقلي المنضبط؛ ما جعل منهجه قابلًا للتطبيق في مختلِف الأزمنة والبيئات.

نظرة على القياس:

تعريف القياس وأركانه:

القياس هو ردُّ فرعٍ إلى أصل في حكمه لاتحاد علة الحكم بينهما، يشمل أربعة أركان:

الأصل: الحادثة أو الحكم الْمُقرَّر في النصوص الشرعية.

الفرع: المسألة الجديدة المراد قياسها.

العلة: الصفة المشتركة بين الأصل والفرع.

الحكم: النتيجة المستنبطة بناءً على التشابه.

شروط القياس:

أكَّد الشافعيُّ على أهمية توفُّر شروط دقيقة في القياس؛ منها:

• العلم بالنصوص القرآنية والسنة النبوية.

• إدراك دلالات اللغة العربية ومعانيها.

• امتلاك الْمَلَكَةِ الاجتهادية لمعرفة العِلَلِ والأسباب.

أهمية الإنصاف والاجتهاد:

أبرز الشافعيُّ أهميةَ الإنصاف من النفس والخضوع للحقِّ أثناء الاجتهاد، العالم الْمُنْصِف يجتهد في تحقيق العدالة دون تحيُّز، مسترشدًا بمبدأ الإنصاف والتواضع.

القياس في سياق الضرورة:

القياس لا يُلجأ إليه إلا في حال الضرورة؛ حيث يُعتبر وسيلةَ تطبيق النصوص في مواجهة النوازل، مع الأخذ في الاعتبار أن الضرورة تُقدَّر بقدرها.

الخاتمة:

يجسِّد الإمام الشافعيُّ نموذجًا فريدًا في الجمع بين النصوص الشرعية والاجتهاد العقلي؛ حيث وضع أُسُسًا متينة للاجتهاد الشرعي الذي يتسم بالمرونة والشمول، وموقفه من الاستحسان يُبرز أهمية ضبط الاجتهاد بمناهجَ علميةٍ تقوم على النصوص والقياس، مما يقدم نموذجًا عمليًّا لإدارة الاختلاف الفقهي، مع الحفاظ على التوازن بين الثبات والمرونة.

رفضُ الشافعيِّ للاستحسان يعكس التزامه بمنهجية اجتهادية دقيقة تسعى إلى تحقيق مقاصد الشريعة، وضمان اتساق أحكامها، من خلال اعتماده على النصوص والقياس ركيزتين أساسيتين للاجتهاد، أظهر حرصه على حماية الثوابت الشرعية من أي تغييرات غير مبررة، ويمثل منهجه دعوةً دائمة لتوظيف الأدوات الفقهية بوعيٍ ودِقَّةٍ، مما يجعل رؤيته مرجعًا يُحتذى به في الفقه الإسلامي.

في الوقت ذاته، يُشكِّل القياس عند الإمام الشافعي جزءًا جوهريًّا من عملية الاجتهاد؛ حيث يُعزِّز مرونة الشريعة في التعامل مع النوازل والمستجدات، ومن هنا تظهر أهمية دراسة اللغة العربية، والعلوم الشرعية، لفهم النصوص، وتأصيل القياس على أُسُسٍ علمية متينة، يبقى الالتزام بالدقة والإنصاف في الاجتهاد ضروريًّا لتجنُّب الانحرافات التي قد تنشأ عن الهوى أو ضعف التأصيل، وهو ما يؤكد ديمومة أثر الإمام الشافعي في إثراء الفكر الإسلامي، وتعزيز منهجيته في التعامل مع التحديات الفقهية المختلفة.

والله تعالى أعلى وأعلم، ونسبة العلم إليه أسلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله.